الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الخالق عزّ وجل هو وحده من يستحق العبادة:
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس العاشر من دروس سورة البقرة، ومع الآية الثانية والعشرين وهي قوله تعالى:
﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)﴾
والآية التي قبلها:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)﴾
من الذي يستحق العبادة؟ الذي خَلَق، الذي خلقك هو وحده يستحق العبادة، والذي أمدَّك بكل ما تحتاجه هو وحده يستحق العبادة، والذي أَمْرُك بيده هو وحده يستحق العبادة، والذي مصيرك إليه هو وحده يستحق العبادة، خلقك، وأمدّك، وجعل أمرك بيده، ومصيرك إليه، هذا الذي ينبغي أن تعبده، لذلك بعض الناس يعبدون ما لا يملك لهم نفعاً، ولا ضراً، ولا رزقاً، ولا حياةً ولا نشوراً، وهذا هو الخطأ الجسيم، وهذا هو الحُمْقُ البالغ، والغباء الشديد أن تتجه إلى جهةٍ لا تملك لها نفعاً ولا ضراً، لا تملك لك، ولا تملك لذاتها نفعاً ولا ضراً، وكأن الطريق مسدود، هناك إحباطٌ شديد يصيب هؤلاء الذين عبدوا من دون الله، لأن كل جهةٍ دون الله عزَّ وجل ليس لها من الأمر شيء، ولا تملك لك نفعاً، ولا ضراً، ولا رزقاً، ولا حياةً، ولا أمناً، ولا توفيقاً، ولا نصراً، ولا تطميناً، ولا تمكيناً، لا تملك لك شيئاً، ومع ذلك فالإنسان يعبد هذه الجهة ويَمْحَضُها حُبَّه وولاءه، وهو بهذا يمشي في طريقٍ مسدود.
يغفر الله ما يشاء إلا الشرك به:
لذلك يقول الله عزَّ وجل:
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)﴾
كنت قد ضربت حول هذه الفكرة مثلاً أنه يمكن أن تتجه إلى مدينة، ولك فيها مبلغٌ كبيرٌ كبير، يُمكن أن ترتكب وأنت في الطريق إليها آلاف الأغلاط، لكنَّك تسير نحوها وستأخذ هذا المبلغ، أما الخطأُ الذي لا يُغْتَفَر أن تتجه في طريقٍ معاكس لا تجد فيه شيئاً، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ﴾ إني والإنس والجن في نبأ عظيم، أخلق ويُعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري إلى العباد نازل، وشرهم إليّ صاعد، أتحبب إليهم بنعمي وأنا الغني عنهم ، ويتبغضون إليّ بالمعاصي وهم أفقر شيء إلي، من أقبل عليّ منهم تلقيته من بعيد، ومن أعرض عني منهم ناديته من قريب، أهل ذكري أهل مودتي، أهل شكري أهل زيادتي، أهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من الذنوب والمعايب، الحسنة عندي بعشرة أمثالها وأزيد، والسيئة بمثلها وأعفو، وأنا أرأف بعبدي من الأم بولدها.
لا يليق بالإنسان أن يعبد غير الله وإلا فإنه يحتقر نفسه:
الذي خلقك، الذي أَمَدَّك، الذي يُسَيِّرُك، الذي أمْرُكَ بيده، الذي إليه يُرْجَعُ الأمر كله، الذي مصيرك إليه، هذا وحده الذي ينبغي أن تعبده، ولا ينبغي أن تعبد سواه، ولا ينبغي أن تتجه إلى سواه، ولا ينبغي أن تُجيّر لغيره، ولا ينبغي أن تكون محسوباً على غيره، يجب أن تكون محسوباً على الله وحده، لا يليق بك أن تكون لغير الله، إنَّك إذاً تحتقر نفسك.
﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)﴾
حينما تحتقر نفسك تتجه إلى غير الله، عبدٌ ضعيفُ مثلك، نقطة دم في دماغه تجعله مشلولاً، ونموٌ عشوائي في بعض أنسجته يجعله مصاباً بمرضٍ خبيث يُسَلِّم الأمر لغيره، الإنسان ضعيف ضعيفٌ جداً، فكيف تتجه إليه؟ وكيف تعلِّق الأمل عليه؟ وهو لا يملك حياته!!
فيا أيها الإخوة الكرام؛ ما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، والدين كله توحيد، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ وأقرب اسمٍ من أسماء الله تعالى إلى العبد اسم الرب، وأقرب شيءٍ إلى الطفل أمُّه، لأنها تربيه، تمدُّه بالحليب، تمده بالـرعاية، تعطف عليه، ترعى شؤونه، تأخذ بيده، ترقى به، أقرب كائنٍ في حياة الطفل أمه، وأقرب اسمٍ مـن أسماء الله الحسنى إلى الإنسان ربُّ العالمين، هو يربيه، إذا أودع الله في قلب الأب رحمةً فمن الله عزَّ وجل، إذا رأيت أباً يرحم ابنه هذه رحمة الله، إذا رأيت أماً تعطف على ابنها هذه رحمة الله.
كلُّ الخلائق يتراحمون بجزءٍ من رحمة الله:
تروى قصةٌ رمزية لها معنى عميق أن أحد الأنبياء رأى امرأةً تَخْبُزُ وابنها إلى جنبها، كلما وضعت رغيفاً في التنور ضَمَّت ابنها وقَبَّلته، فعجب هذا النبي من رحمة هذه الأم بولدها، فقال الله له: هذه رحمتي يا عبدي، وسأنزعها، فلما نزع من قلبها الرحمة ألقته في التنور.
إن رأيت أماً تعطف على ابنها هذه رحمة الله، إن رأيت حيواناً يعطف على أولاده هذه رحمة الله، كلُّ الخلائق يتراحمون بجزءٍ من رحمة الله، بل إن الرحمة التي في قلبك تتناسب مع اتصالك بالله عزَّ وجل بالضبط، فأشدُّ الخلق اتصالاً بالله هو رسول الله، إذاً هو أرحم الخلق بالخلق على الإطلاق، ذهب إلى الطائف، وكذَّبوه، وسخروا منه، وأغْرُوا صبيانهم بإيذائه، فلما جاءه جبريل وقال: يا محمد أَمَرني ربي أن أكون طوع إرادتك، لم ينتقم، مع أنهم بالغوا في الإساءة إليه، قال:
(( عن عائشة رضي الله عنها: هل أتَى عليكَ يومٌ كانَ أشدَّ مِن يومِ أحدٍ؟ فقالَ : لقد لقيتُ مِن قومِكِ، وَكانَ أشدَّ ما لقيتُ منهُم يومَ العقبةِ إذ عرضتُ نفسي على ابنِ عبدِ ياليلَ بنِ عبدِ كلالٍ، فلَم يجبْني إلى ما أردتُ، فانطلقتُ وأَنا مَهْمومٌ علَى وجهي، فلَم أستفِقْ إلَّا وأَنا بقرنِ الثَّعالبِ، فرفعتُ رأسي، فإذا بسحابةٍ قد أظلَّتني ، فنظرتُ فإذا فيها جبريلُ عليهِ السَّلامُ، فَناداني فقالَ: يا محمَّدُ، إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ، قد سمِعَ قولَ قومِكَ لَكَ، وما ردُّوا عليكَ، وقد بعثَ اللَّهُ ملَكَ الجبالِ لتأمرَهُ بما شئتَ فيهِم قالَ: فَناداني ملَكُ الجبالِ: فسلَّمَ عليَّ، ثمَّ قالَ: يا محمَّدُ: إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ قد سمِعَ قولَ قومِكَ لَكَ، وأَنا ملَكُ الجبالِ، وقد بعثَني ربُّكَ إليكَ لتأمرَني أمرَكَ، وبما شئتَ، إن شئتَ أن أُطْبِقَ عليهِمُ الأخشبَينِ فعلتُ، فقالَ لَهُ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: بل أرجو أن يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أصلابِهِم مَن يعبدُ اللَّهَ، لا يشرِكُ بِهِ شيئًا. ))
[ ابن خزيمة المصدر : التوحيد لابن خزيمة . خلاصة حكم المحدث: الإسناد الثابت الصحيح ]
يا أيها الإخوة الكرام؛ إليكم هذا القانون، وهو مستنبط من هذه الآية:
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)﴾
كنت ليِّناً معهم بسبب رحمةٍ استقرَّت في قلبك من خلال اتصالك بنا، فالتفوا حولك، وأحبّوك، وفدوك بأرواحهم وأولادهم ونسائهم، وكانوا معك في كل شيء إلى نهاية الطريق، قال أبو سفيان: "ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحابُ محمدٍ محمداً"، وهذا الذي يفقده المسلمون اليوم.
مظاهر الإسلام صارخة، ولكن الحب معدوم بين المسلمين، ما رأيت أحداً يحبُّ أحداً كحبِّ أصحابِ محمدٍ محمداً.
أيها الإخوة الكرام؛ هـل تصدِّقون أن امرأةً أنصارية تتفقَّد أقرباءها عقب معركة أحد، تذهب إلى ساحة المعركة فإذا زوجها شهيدٌ، ثم ترى أباها شهيداً، ثم ترى أخاها، ثم ترى ابنها، معقول؟! زوجها، وأبوها، وأخوها، وابنها، وتقول: ما فعل رسول الله؟ فلما رأته بأم عينها، واطمأنت على سلامته قالت: يا رسول الله كل مصيبةٍ بعدك جلل، هكذا كان أصحاب النبي، هكذا كان حبُّهم لرسول الله، هكذا كانت تضحياتهم، بهذا وصلوا إلى المَشرِقَين، بهذا مكَّنهم الله في الأرض، بهذا استخلفهم، بهذا بدَّل خوفهم أمناً، بهذا دانت لهم أنحاء الأرض.
جاءت رسالة إلى هارون الرشيد من إمبراطور الروم، تقول هذه الرسالة: إن الإمبراطورة التي سبقتني دفعت لك الجزية، وكان الأولى أن تأخذها منك، فَرُدَّ كل شيءٍ أخذْتَه منها وإلا بيني وبينك القتال، كتب له: من عبد الله هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى كَلب الروم، الجواب ما تراه لا ما تسمعه، فغزاه، وقهره، وجعله يدفع الجزية ضِعْفَاً.
هكذا كان المسلمون يوم كانوا مع الله، كلمتهم هي النافذة، هي العُليا، ولكن حينما تركوا سُنَّة رسول الله اختلف الوضع:
﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)﴾
أيها الإخوة الكرام؛ قضية عبادة الله عزَّ وجل أخطر موضوعٍ في حياة المؤمن، تعبد من؟ العبادة غاية الخضوع، تخضع لمن؟ هل تخضع لغير الله؟ أقول لكم هذه الكلمة: حينما يطيع الإنسان مخلوقاً كائناً من كان ويعصي ربَّه، فهو ما قال: الله أكبر ولا مرة ولو رددها بلسانه ألف مرة، لماذا؟ لأنه تصوَّر أن طاعة هذا المخلوق القوي في نظره أثمن عنده من طاعة الله، إذاً لم يقل: الله أكبر بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، الذي يَغُشُّ المسلمين ما قال: الله أكبر ولا مرة ولو رددها بلسانه ألف مرة، لأنه رأى أن هذا المال الذي يأخذُه من هذا الغش أثمن عنده من طاعة الله.
كلمة المسلمين ليست هي العليا لأنهم اعتزّوا بغير الله:
﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً﴾ والذي لا يقيم الإسلام في بيته إرضاءً لزوجته وأولاده ما قال: الله أكبر ولا مرة ولو رددها بلسانه ألف مرة، لأنَّه رأى إرضاء أهله وأولاده أثمن عنده من إرضاء الله عزَّ وجل، قضيةٌ مصيرية هو الجواب عن سؤالٍ كبير: لماذا نحن كذلك؟ لماذا يُعدّ المسلمون خُمس العالم مليار ومئتي مليون، وليست كلمتهم هي العُليا؟ ترتعد فرائصهم إذا حدث شيءٌ في العالم ونُسب إليهم، لأن الغضب سينصَبُّ عليهم، أهذه حياة؟!! لأنهم اعتزّوا بغير الله، لأنهم أرادوا عزاً لا عن طريق الدين، عن طريق شيءٍ آخر.
أيها الإخوة الكرام؛ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ هو الذي خلق، وهو الذي يربي، يُمِدُّ بما تحتاج، وهو الذي يربِّي نفوسنا، ينقلها من حالٍ إلى حال، من طور ٍإلى طور، هو الذي يراقب أعمالنا، يطَّلع على ما في سرائرنا، يحاسبنا على خواطرنا، هو الذي بيده كل شيء، إليه مصير كل شيء.
الربَّاني هو الذي لا يشغل ساحته إلا الله:
أيها الإخوة؛ ينبغي أن تعبد هذا الإله، ينبغي أن تنتمي إليه، ينبغي أن يكون ولاؤك لـه، حُبُّك له، إخلاصك له، شبابك له، حياتك كلها له، مالك له، ذكاؤك له، طلاقة لسانك له، خبرتك له، علمك له:
﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)﴾
هذا هو الربَّاني.
﴿ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)﴾
الربَّاني الذي لا يشغل ساحتَه إلا اللهُ، لا يعمل إلا لله، لا يُرضي غير الله، لا يخاف إلا من الله، لا يسعى إلا لطاعة الله، لا يهاب أحداً إلا الله، هذا هو التوحيد، ائتني باثْنَي عشر ألف موحّد ولن يُغلبوا في الأرض، ورد في الحديث الصحيح:
(( عن عبد الله بن عباس: خيرُ الصحابةِ أربعةٌ وخيرُ السرايا أربعمائةٍ وخيرُ الجيوشِ أربعةُ آلافٍ ولا يُغْلَبُ اثنا عشرَ ألفًا من قِلَّةٍ. ))
[ أخرجه أبو داود تخريج المسند لشاكر : خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح ]
(لن تغلب) تفيد تأبيد النفي: ((لن تغلب أمتي من اثني عشر ألفاً من قلة)) إن لم يصلح المجتمع كُلُّه فعليك بإصلاح نفسك، إن لم يصطلح الناس مع ربهم اصطلح أنت مع الله، إن لم يُقِم الناس الإسلام في بيوتهم أقم أنت الإسلام في بيتك، أقم الإسلام في عملك، كن مع الله ولا تُبالِ.
أسماء الجلال وأسماء الجمال:
يا أيها الإخوة الكرام؛ هذه الآية الأساسية: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ قضيةٌ ثابتة، من يستطيع أن يدَّعي أنه خلق الناس؟ من يستطيع أن يدَّعي أنه خلق الأرض؟ أنه أنزل الماء من السماء؟ شيءٌ بديهي حتى إن الكُفر يعني الإيمان! كيف؟ كفر: غطَّى، غطَّى شيئاً، ما هذا الذي تغطيه؟ هو الإيمان، الكافر يقول: مصرف مثلاً بنك إسلامي، معنى هذا أن الآخرين غير إسلاميين، كلمة إسلامي تعني وصفاً لغير جهات.
فيا أيها الإخوة الكرام؛ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ لعلكم تتقون أسماء جلاله بأسماء جماله، أسماء جلاله: قَهَّار.
﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)﴾
الله منتقم، هـذه أسماء الجلال، كيف تتقيها؟ بطاعته، فإذا أطعته نِلْتَ أسماء الجمال؛ هو الرحيم، هو الودود، هو اللطيف، هو المعطي، هو المُعِزّ، هو الرافع، هو العَدل، تتقي أسماء جلاله بأسماء جماله.
عناصر الأرض متنوِّعة لحكمةٍ بالغةٍ أرادها الله:
أيها الإخوة الكرام؛ شرِحَت هذه الآية في الدرس الماضي، بعدها:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)﴾
الحقيقة الفِراش مُرِيح، مـا كان الفراش فراشاً إلا لترتاح عليه، ليِّن، مُريح، نظيف، يتناسب مع جسمك، يتفاعل مع خطوط جسمك، ترتاح عليه، قدَّم الله لك نموذجاً لشيءٍ قريبٍ منك، الإنسان وهو نائم أقرب شيءٍ إليه فراشه، ما سُمِّي فراشاً إلا لأنه مريح، جعل الله جلَّ جلاله لك الأرض فراشاً، أي جعلها مستوية، قد تشتري أرضاً في سفح جبل تنفق عليها مئات الألوف لتجعلها مصاطب، شيء متعب، جعل لك الأرض فراشاً، جعلها مستوية، ماذا تفعل بها لو جعلها صخرية؟ جعلها تربة تُنبت لك الزرع، جعلك مستقراً عليها عن طريق الجاذبية، جعلها لك فراشاً، أودع فيها الماء، أودع فيها المعادن، أودع فيها أشباه المعادن.
عناصر الأرض متنوِّعة لحكمةٍ بالغةٍ أرادها الله، جعل كل عنصر له درجة انصهار خاصة، ولو أن كل العناصر لها درجة انصهار واحدة لوجدت الأرض كلها صلبةً، أو سائلةً، أو غازاً،
تجد شيئاً صُلباً، الحديد قاسٍ، الصخر قاسٍ، الرخام قاسٍ، المعادن قاسية، قاسية ومتينة، تجد بالمقابل بعض الأجسام الليِّنة، الكاوتشوك، الفَلِّين، بعض النباتات، الصوف، القطن، هناك أشياء سائلة، وهناك أشياء غازية، هذا التنوُّع بين الصلب، واللَّزج، والمَرن، والسائل، والغاز لتكون الأرض فراشاً، تحتاج إلى هواء تستنشقه؛ غاز، تحتاج إلى ماء تشربه سائل، تحتاج إلى فراش تنام عليه ليِّن، تحتاج إلى معدن قاسٍ تصنع منه مركبتك والمحراث الحديد، جعلها الله فراشاً، جعلها تنبت.
الله تعالى جعل الأرض فراشاً فيها استقرارك واستمرار حياتك:
جعلها فراشاً بمعنى أنه جعل فيها أسباب استقرارك عليها واستمرار حياتك فيها، لو سكنت في بيت لا ماء فيه تخرج منه، لو سكنت في بيت ليس فيه تدفئة في الشتاء تخرج منه، لو سكنت في بيت لا يوجد فيه تكييف في الصيف تخرج منه، لو سكنت في بيت لا يوجد فيه فراش، كيف تنام على الأرض؟
هذا البيت لماذا تستقر فيه؟ فيه ماء، فيه هواء، فيه طعام، هناك ثلاجة، هناك غرفة ضيوف، غرفة جلوس، هناك حمام، هناك مطبخ، فيه غرفة للأولاد، هذه الغرف، وهذه الطنافس، وهذا الفَرْش، وهذه الأدوات كلها وسائل الاستقرار والاستمرار في هذا البيت، وكذلك الأرض جعل الله أسباب استقرارك واستمرارك فيها، إذاً هي كالفراش.
تحتاج إلى معدن تصنع منه طائرة يجب أن يكون خفيفاً جداً ومتيناً جداً؛ الألمنيوم، معدن يتميَّز عن غيره،
لو أن الطائرة من حديد لكانت كُلفة طيرانها عشرة أضعاف، لكن معدن الطائرة متين وخفيف في وقتٍ واحد، تحتاج إلى معدن يَنْصَهِر بدرجة مئة، كيف تُعامل الحديد مع الحجر؟ عندَّك دُكَّان ولها باب، تريد أن تضع القفل على الحجر، ينصهر معدن الرصاص في درجة مئة، هذا المعدن له خاصة ينفرد بها أنه حينما يبرد يزداد حجمه، فيكفي أن تحفر الحجر على شكل إجاصة، وأن تضع الحديد في الحجر، وأن تسكب الرصاص، فحينما يبرد يتمدد، لا يوجد قوة تنزع الحديد من الحجر، من خلق هذا المعدن خصيصاً لهذا الاستعمال؟ الله جلَّ جلاله، تحتاج إلى معدن يكون قِيَماً للأشياء، جعل الذهب والفضة، هذا المعدن مهمته أن يكون قيماً للأشياء يصنع منه النقد، تحتاج إلى معدن ينقل الحرارة ؛ النحاس، أسلاك الكهرباء من النحاس،
أواني المطبخ من النحاس، تحتاج إلى معدن ليِّن؛ القصدير، معدن قاسٍ، معدن متين، معدن مقاوم، معدن لا يصدأ، رأيت صورةً لسبائك ذهبية استُخرجت من البحر، وكانت قد وجدت في البحر قبل مئة عام، غرقت سفينة بين أمريكا وأوروبا وفيها خمسة أطنان من الذهب على شكل سبائك، بُحِث عنها ووجدت، استخرجت والله كأن هذا الذهب سُبْكَ من يومه، مئة عام في أعماق البحر لم يتأثر أبداً، خلق لك هذا المعدن خصيصاً ليكون نقداً لك.
حيوانات خُلِقَت مذللة خصيصاً للإنسان:
الألمنيوم له فائدة، والرصاص له فائدة، والنحاس له فائدة، والمعادن لا تنتهي، والحديث عن المعادن يطول، وكل معدن له خصائص، وإذا دَمَجْتَ معدنين جاءت خصائص جديدة ليست في أحد المعدنين، علم المعادن علمٌ عميقٌ وطويلٌ وفيه أسرار كبيرة جداً، من الذي خلق هذه المعادن؟ المعدن الأساسي الذي هو قوام حياتنا؛ الحديد:
﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)﴾
ما من شيءٍ تراه عينك إلا والحديد أحد أسباب وجوده، كل الأدوات من الحديد، فهذا معنى قول الله عزَّ وجل: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً﴾ هناك أسماك تأكلها، هناك أطيار، هناك حيوانات، هناك حيوانات خُلِقَت مذللة خصيصاً لك.
﴿ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72)﴾
البقرة مذلَّلة، أما إذا جنَّت لا تُبقي ولا تذر، يُضطر صاحبها أن يطلق عليها الرصاص، خُلِقت بالأصل مذللة،
أما إذا أصابها مرض الجنون يطلق عليها صاحبها الرصاص بعد أن دفع ثمنها مئة ألف، لأنها تصبح مجرمةً، من ذللها؟ يوجد خروف ويوجد ضبع، من رَكَّب في الخروف هذه الطباع الليِّنة؟ لا تخاف منه، لا تتهيَّبه أبداً، ينساق لك، حتى إلى الذبح ينساق لك، بينما الضبع تحسب له ألف حسابٍ وحساب.
الحيوان الذي تأكل منه مذلل، والماء الذي تشربه مذلل، من جعل هذا الماء عذباً فراتاً بعد أن كان مِلحاً أجاجاً؟ شيء لا يصدق، من أجل أن يتبخَّر ماء البحر فيصبح سحاباً وينقلب إلى أمطار،
وتكون هذه الأمطار في أعماق الأرض، جُعِلَت هذه المسطَّحات المائية الواسعة جداً، أي أربعة أخماس اليابسة بحر، يتبخَّر هذا البحر ليُشكِّل سحاباً، ليصبح أمطاراً ليستقر في باطن الأرض، من أودع في هذه الأرض الينابيع؟ في بعض البلاد أربعة آلاف جزيرة، وفي كل جزيرةٍ نبعٌ يتناسب مع مساحتها،
وتأخذ كل هذه الجُزُر المياه من جبالٍ في آسيا، إذاً هناك تمديدات من أعماق الجِبال إلى هذه الجزر، هذا صُنْعُ الله عزَّ وجل.
﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً﴾ فيها هواء، والهواء متوازن، لو أن الهواء على شكلٍ آخر، لو أن نِسَب الأوكسجين في الهواء عالية لاحترق كل شيء،
ولو أن نسب غاز الفحم عالية لما اشتعلت النار إطلاقاً، ولو أن النبات يتنفَّس الأوكسجين مثلنا ويعطي غاز الفحم لانتهى الأوكسجين من آلاف السنين، ما هذا التوازن الرائع؟ يأخذ النبات غاز الفحم يعطي الأوكسجين، يأخذ الإنسان الأوكسجين ويعطي غاز الفحم، الهواء.
الماء؛ خصائص الماء: لا لون له، لا رائحة، لا طعم، يتبخَّر بدرجة أربع عشرة درجة، سريع النفوذ، هذا الماء لا يقبل الضغط، لو وضعت متراً مكعباً من الماء وفوقه ثمانمئة طن لا تنضغط ولا ميلي،
أما حينما يتمدد لا يقف أمامه شيء، يُصَدِّع الفولاذ، إذا جَمَّدت الماء في الفولاذ، والماء بعد التجَمد يتمدد، يتصدع الفولاذ من الماء، الماء مصمم، الماء كأي عنصر إذا برَّدته ينكمش، ولكنه يتمدد عند الدرجة الحَرِجة (+4)، الأرض فراش بهوائها، بمائها، بنسب البحار إلى اليابسة.
كل شيءٍ في الأرض خلقه الله تكريماً للإنسان:
اليابسة فيها مناطق خضراء، وفيها صحارى قاحلة، قد يقول قائل: لمَ هذه الصحارى؟ لو أن الأرض كلها خضراء لما عشنا، هذه الصحارى الحارَّة تُشَكِّل حرارة تسَخِّن الهواء الذي فوقها، الهواء إذا سخن تخلخل فقلّ ضغطه، والهواء البارد ينكمش يزداد ضغطه، من وجود ضغطين متفاوتين تمشي الرياح،
أساس الرياح منطقتان ذواتا ضغطين متباينين، أبداً، لأن الهواء في القطب بارد ضغطه مرتفع منكمش، وفي خط الاستواء الهواء مخلخل ضغطه منخفض، تأتي الرياح من الشمال إلى الجنوب، والأرض تدور، تأتي الرياح إذاً من الشمال إلى الجنوب الشرقي، هذا مسير الرياح، ولبحث الرياح بحوثٌ طويلة.
﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً﴾ والله عزّ وجل فضلاً عن أنه هيَّأَ لنا الأساسيَّات أعطانا الأشياء المُحَسِّنة، توجد أزهار، في بعض المُجَلَّدات، ثمانية عشر مجلداً كل صفحةٍ في هذه المجلدات فيها رسم زهرةٍ، وكل هذه الصفحات في ثمانية عشر مجلداً هي أنواع الأزهار التي خلَقها الله لهذا الإنسان، فالأزهار خُلِقَت تكريماً للإنسان، خُلِقت الروائح العطرية تكريماً للإنسان، خُلِقت التوابل تكريماً للإنسان، توجد أطعمة كثيرة، ويوجد نباتات كثيرة، ويوجد روائح كثيرة ليس هدفها أن تقوم حياتك بها، هدفها أن تتنعم بها، وهذا يشير إلى اسم الودود:
﴿ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16)﴾
هذا كلُّه من معنى: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً﴾ .
الليل والنهار من الآيات الدالة على عظمة الخالق:
أيُّها الإخوة؛ الحقيقة الحديث عن أن الأرض فراش لا ينتهي، كل شيءٍ في الأرض مخصَّص للإنسان، بدءاً من حجم الأرض، لو كان حجم الأرض عشرة أضعاف لكان وزنك عشرة أضعاف، لو حجمها العُشر لكان وزنك العُشر،
لو لم يكن هناك جاذبية الحياة لا تُطاق لأن الله عزّ وجل يقول:
﴿ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أإلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)﴾
أنت مستقر عليها بفعل الجاذبية.
هناك شيء آخر؛ لو كان الليل مئة ساعة الحياة لا تطاق، تنام وتستيقظ، وتنام وتستيقظ، طاقتك للنوم ثماني ساعات، والليل مئة ساعة، ناس يعملون في الليل، لا أحد ينام، ضجيج وعمل، أما ربنا عزّ وجل جعل الليل اثنتي عشرة ساعة، والنهار اثنتي عشرة ساعة، ويختلفان من فصلٍ إلى فصل، حتى الليل والنهار مصمم للإنسان،
وزن الإنسان مصمم، هذا التناسب مثلاً هذا الحليب الذي تنتجه البقرة يتناسب تناسباً مذهلاً مع جسم الإنسان، وهو غذاءٌ كامل، فالذي خلقه هو الذي خلق البقرة، وخلق هذا الحليب خصيصاً له لأن وليد البقرة يحتاج إلى اثنين كيلو في اليوم، بينما تعطي البقرة أربعين كيلو.
هذا الخروف تنتفع من كل شيءٍ فيه؛ مـن جلده، إلى صوفه، إلى لحمه، إلى دهنه، إلى شحمه، إلى أمعائه، إلى كل أعضائه، خُلِقَ خصيصاً لك.
الفواكه وتصميمها من الآيات الدالة على عظمة الله تعالى:
الفواكه؛ انظر إلى التفَّاحة؛ شكلها جميل، حجمها معقول، رائحتها عطرة، قشرتها مانعة، طعمها لذيذ، فيها غذاء مفيد، فيها مواد سكرية ومعادن، وفيها حديد، من الذي جعل مقوِّماتها؟ مضمونها؟ عناصرها؟ قِوامها؟ كيف تأكلها لو أنها كالصخر؟ تحتاج إلى مطحنة بحص، لا تؤكل معك، قوامها معقول، قشرتها، حتى قَطْفُها سهل، لو أردت أن تسحب عنقود العنب سحباً لانعصر في يدك ولا ينسحب معك، أما بحركة معاكسة تنزعه من على الشجرة، كل شيء مصمم، هذا البطيخ يجب أن ينضج خلال تسعين يوماً لأنه فاكهة الصيف، لو أنه نضج في يومٍ واحد لا تنتفع منه إطلاقاً، كذلك الخضراوات، أما المحاصيل فيجب أن تنضج في يومٍ واحد تسهيلاً لجنيها، هذه الفواكه مبرمجة، كل فترة من الصيف تنضج فاكهة، تبدأ بهذه الفاكهة ثم هذه الفاكهة، مبرمجة فيما بينها، ومبرمجة في نضجها في ذاتها، والثمار الكبيرة على الأرض،
لو أنها على الشجر لصار هناك حوادث موت كثيرة جداً، لو وقعت بطيخة وزنها حوالي اثني عشر كيلو على إنسان فإنها تُميته، البطيخ على الأرض، والفواكه اللطيفة على الشجر، والشجر قريب، هناك تصميم مذهل في الكون .
هذه الأرض فِراش، بحجمها فِراش، بنسب الماء إلى اليابسة فِراش، بليلها ونهارها فِراش، بشَّمسِها؛ لو أن الشمس أقرب لاحترق كل ما على الأرض، الحرارة إحدى وخمسون درجة كاد الناس يخرجون من جلودهم، من صمم هذه الحرارة بشكل معتدل بين الخامسة والخامسة والثلاثين على مدار السنة؟ هذه فِراش، فحجم الأرض، وشكل الأرض الكُروي، والشمس، والليل والنهار، والجاذبية، والماء والهواء، والمحاصيل والفواكه والخضراوات، والأسماك والأطيار، والمعادن وأشباه المعادن، والفيتامينات، وتصميم الفواكه والخضراوات مع جسمك، هذا كلُّه لأنه شيء مريح جعل لكم الأرض فِراشاً.
حينما تركع وتسجد لا تنسَ أن الله سبحانه وتعالى خلق لك الأرض فِراشاً:
يا أيّها الإخوة الكرام؛ توجد أشياء والله لا تنتهي، والله ما ذكرت إلا القليل، إلا الذي حضرني وأنا ألقي هذا الدرس، أما استقصاء هذه الحقائق فيشمل الأرض كلَّها، فحينما تقول:
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)﴾
حينما تركع، حينما تسجد لا تنسَ أن الله سبحانه وتعالى خلق لك الأرض فِراشاً، أي سمح لك أن تبني بيتاً، أعطاك مواداً أولية للبناء، هذا الإسمنت في الأساس ليس من صنع البشر، من أعطى هذه المواد مواد الإسمنت خصائصها فسَهُل عليك البناء؟ من أعطى الحديد خصائصه فسَهُل عليك البناء؟ من خلق هذا الوقود السائل فسَهُلَت عليك الحركة؟
﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)﴾
عُزي خَلْقُ المركبة، والطائرة، والباخرة إلى الله، ومعنى عُزي إلى الله أي هو الذي خلق موادها الأولية، وهو الذي خلق الوقود السائل الذي أودعه الله في الأرض، هذه الطاقة من خلقها؟
﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)﴾
وأحدث نظرية للبترول أنه في العصور المطيرة انطمرت هذه النباتات العملاقة في باطن الأرض، وهي طاقةٌ مخزونة فأصبحت بترولاً،
وصناعات البترول لا تُعدُّ ولا تُحصى، بل إن استهلاك البترول في الوقود يُعدُّ استهلاكاً له غير معقول، له استعمالات أخرى، الآن كل شيء بالبترول، فهذه الأرض فِراش، كل شيء فيها.
لا تزال الأرض تملك ثروات لا يعلمها إلا الله:
هناك شيء يلفت النظر، في الحرم المكي والمدني رخامٌ أبيض تدوسه عند الظهيرة وأشعة الشمس قد تصل حرارتها تحت الأشعة إلى الثمانين، تدوس على هذا الرخام فإذا هو بارد، شيء لا يُصدَّق، أحد أنواع الرخام النادر بالعالم كأن الله صممه لهذا الحدث،
إنَّ الحُجاج والعُمَّار يطوفون حفاةً والدليل الرخام القديم تحت الأروقة لو جاءته الشمس وسِرْتَ عليه كما لو وضعت يدك على مكواة حارة بالضبط، لا تستطيع أن تسير عليه، من صمم هذا الرخام؟ كل شيء في الأرض جاهز، ولا تزال الأرض تملك ثروات لا يعلمها إلا الله، قال تعالى:
﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6)﴾
المعادن والفلذات التي اكتشُفت والتي لم تُكتشَف، يوجد في البحر وحده مليون نوع من السمك، ليس مليون سمكة، مليون نوع من السمك، بدءاً من الحيتان الزرقاء، مئة وخمسون طناً، شيء لا يُصدَّق مخلوق هائل، مدينة، يخرج منه تسعون برميل زيت،
فيه خمسون طناً من اللحم، وخمسون طناً من الدهن، وهناك أرقام لكبده ولدماغه ولمعدته شيء لا يُصدَّق، وليده يرضع منه ثلاثمئة كيلو في الرضعة الواحدة، وهو يحتاج ثلاث رضعات في اليوم، طن حليب يحتاج وليده، إلى سمكٍ صغير تراه في بعض أحواض السمك، سمك تزييني، سمكة صفراء، سمكة خضراء، سمكة فسفورية، سمكة شفافة، سمكة سوداء هذه للمنظر فقط، سمك تزييني.
النباتات؛ يعيش هذا النخل ستة آلاف عام، هناك نخلٌ نأكل منه التمر كان على عهد النبي عليه الصلاة والسلام، تعيش النخلة ستة آلاف عام وتعطي تمراً فيه ست وأربعون مادة غذائية،
التمرة صيدلية، العسل، أنواع النباتات لا تُعدُّ ولا تُحصى.
سخَّر الله للإنسان كل شيء تكريماً له أمَّا هذا المُسخَّر له فهو غافل عن الله:
ذهبت ذات مرة إلى بلد غربي، دخلت إلى مكان لبيع الخضراوات فرأيت عشرة أنواع لا أعرف اسمها ولا شكلها، شيء غريب، أنواع النباتات لا تُعَدُّ ولا تُحصى، أنواع الأزهار، أنوع الأطيار، أنواع الأسماك، أنواع المعادن، أنواع الفِلزات، هذا كلُّه من أجل الإنسان، سخَّر الله لنا كل شيء تكريماً لنا، أمَّا هذا المُسخَّر غافل عن الله:
﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)﴾
أما الذي سُخِّرَت له كل هذه النعم فهو وحده الغافل، ما موقفه يوم القيامة وقد رأى كل المخلوقات سُخِّرت له وهي تسبِّح الله عزّ وجل؟ والله أيها الإخوة لو عرفنا الحقيقة لما نمنا الليل.
لو تعلمون ما أنتم عليه بعد الموت ما أكلتم طعاماً عن شهوةٍ، ولا دخلتم بيوتكم تستظلون بها، ولذهبتم إلى الصعُدات تبكون على أنفسكم.
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)﴾
والله ما ذكرت شيئاً من هذه الكلمة:
﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً﴾ كالفراش تماماً، أنت الآن يوجد حر تجد وسائل لتخفيف الحر، يوجد برد هناك وقود، هناك مدافئ، تحتاج إلى الماء، الماء موجود تستخرجه من أي مكان، أي مكان إذا حفرت بئراً تصل إلى الماء،
من أودع الماء في الأرض؟ الله جلَّ جلاله، نظام المطر، نظام الرياح، هذا كلُّه يحتاج إلى دراسات.
على المؤمن أن يحمد الله تعالى لأنه هداه إليه:
فيا أيها الإخوة؛ كلمة (فِراش) كلمة دقيقة جداً، يجب أن نذوب شكراً لله عزّ وجل، والإنسان حينما يقف بين يدي الله عزّ وجل ليقول: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ هل حمدت الله على أنَّه أوجدك؟ وهل حمدت الله على أنه أمَدَّك؟ وهل حمدت الله على أنه هداك إليه؟ هناك شعوب؛ تسعمئة مليون في بعض البلاد يعبدون البقر، شعب اليابان يعبد ذكر الرجل، شعوبٌ تعبدُ الجرذان، شعوبٌ تعبد النار، والشعوب المتحضِّرة تعبد أهواءها، تعبد المرأة، تعبد شهوتها.
﴿ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43)﴾
لكن المؤمن وحده يعبد الله، يعبد خالِقَ الكون، يعبد ربَّ العالمين، يعبد المُسَيِّر، يعبد الحكيم، يعبد القدير، يعبد الغَني: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً﴾.
وفي درسٍ آخر إن شاء الله نُتابع هذه الآية.
الملف مدقق