- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده، ونستعين به، ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، وجاهد في الله حقّ الجهاد، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
الإنسان بين التأديب والامتحان والتكريم :
أيها الأخوة الكرام، الدنيا التي نحن فيها لها حقيقة ولها صورة، حقيقتها أنها دار ابتلاء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء ـ لأنه مؤقت ـ ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي.
حينما ندرك يقيناً أن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، دار امتحان، دار ابتلاء، الإمام الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ حينما سُئل: "ندعو الله بالابتلاء أم بالتمكين؟ فقال: لن تمكن قبل أن تُبتلى".
أقدم لكم اجتهاداً شخصياً مني، المؤمن يمر بأطوار ثلاث، إذا كان هناك تقصير، تقصير فيما ينبغي أن يفعله، تأتي بعض المصائب من أجل أن تدفعه إلى الله، وإن كان هناك استقامة تأتي بعض المصائب لتمتحنه، وبعدئذ تستقر حياته على الإكرام، فأنت بين التأديب وبين الامتحان وبين التكريم، هذه المراحل قد تتداخل وقد تتمايز، بين التأديب مرحلة، وبين الابتلاء الثانية، وبين التكريم الثالثة، هذه المراحل الثلاثة قد تتمايز وقد تتداخل، ولكن على كل مؤمن أن يوطن نفسه أنه لابدّ من أن يمتحن، لابدّ من أن يبتلى، وبطولته أن ينجح في الابتلاء، الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين، إذا أحبّ الله عبده ابتلاه، فإن صبر اجتباه، وإن شكر اقتناه.
الدنيا محدودة بزمن معين أما الآخرة فليس لها زمن معين :
أيها الأخوة الكرام، هذا الذي لا يبتلى لعله شرد عن الله شرود البعير، والدليل القرآني:
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾
لذلك الابتلاء في الدنيا، فالدنيا دار الابتلاء، والزمن: العمر الذي تعيشه في الدنيا، والمكان: مكان إقامتك، هناك حقيقة وهناك مكان وهناك زمان، الحقيقة أننا جميعاً في دار ابتلاء، لكن لو قلنا: العمر الذي يعيشه الإنسان في الأرض مهما طال، سمعت عن شيخ الأزهر مخلوف عاش مئة وثلاثين عاماً، العمر مهما طال أمام الأبد صفر، أي ضع واحداً في الأرض وأصفاراً للشمس، وكل ميليمتر صفر، أي: مئة وستة وخمسون مليون كم كلها أصفار، وكل ميليمتر صفر، هذا الرقم إذا نسب إلى اللانهاية فهو صفر، أي رقم ولو كان فلكياً، ولو كان غير متخيل، إذا نسب إلى اللانهاية فهو صفر، فالدنيا محدودة بزمن معين، أما الآخرة فليس لها زمن معين:
﴿ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ﴾
توزيع الحظوظ في الدنيا توزيع ابتلاء :
أيها الأخوة، أولاً نمتحن بالثروات، بالمنتجات، بزينة الحياة الدنيا، بالعمران، كل شيء آتاك الله إياه أنت ممتحن به، مادة الامتحان مادتان، مادة ما أعطاك الله، ومادة ما زوي عنك، لن تنجب أولاً ذكوراً ابتلاء، لم تنجب أولاداً أصلاً ابتلاء، أنجبت أولاداً ذكوراً وإناثاً ابتلاء، كنت غنياً ابتلاء، كنت فقيراً ابتلاء، كنت في مكانة رفيعة ابتلاء، كنت في مكانة في الظل ابتلاء، كل شيء أعطاك الله إياه وكل شيء زوي عنك هو مادة الامتحان، من أروع الأدعية التي نقلت عن النبي عليه الصلاة والسلام:
((اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب، وما زويت عني مما أحب فاجعله فراغاً لي فيما تحب))
رابح في الحالتين، الذي آتاك الله إياه ينبغي أن توظفه للآخرة، والدليل:
﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ﴾
ابتغ؛ آتاك علماً، آتاك طلاقة لسان، آتاك مالاً، آتاك صحة، آتاك جاهاً، آتاك مكانة:
﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ﴾
الآن سلب عنك الذرية ابتلاء، لم تكن غنياً دخلك محدود ابتلاء، لم تكن في مكانة علية ابتلاء، العبرة بالنجاح، العبرة في الدار الآخرة، العبرة من يضحك آخراً، ليست البطولة أن تضحك أولاً لكن البطولة أن تضحك آخراً.
امتحان الإنسان بزينة الحياة الدنيا :
أيها الأخوة، في القرآن الكريم آية هي:
﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا ﴾
الدنيا خضرة نضرة، فيها نساء، فيها بيوت، فيها أموال، فيها مركبات، فيها سفر، فيها رفاه، فيها طعام نفيس، ولائم، مكانة، مناصب، نساء جميلات، الدنيا دار ابتلاء:
﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾
جعلك الله غنياً والغنى يتوافق مع الإيمان، لكن هل يعقل أن يقول من كان حولك من الفقراء: يا رب قد أغنيته بيننا فقصر في حقنا، جعلك قوياً بجرة قلم تحق حقاً وتبطل باطلاً، هل استخدمت هذه القوة لإحقاق الحق وإبطال الباطل؟ جعلك طليق اللسان هل استخدمت طلاقة اللسان لترويج الحق أم لترويج الباطل؟ جعلك ذا مكانة علية هل استخدمت هذه المكانة لنصرة المظلوم أم للتملق للظالم؟ نحن في دار ابتلاء، والله قد لا تمر ساعة على أي منا إلا ويمتحن، نحن في دار ابتلاء، دار امتحان.
أيها الأخوة، نمتحن بالثروات، بالمنتجات، بزينة الحياة الدنيا، ونمتحن بالأنفس، من حيث الصحة والسقم، والقوة والضعف، والسعادة والشقاء، قد تكون صحيحاً أنت مبتلى بهذه الصحة، هل أعانتك على طاعة الله أم لا سمح الله ولا قدر استخدمتها في المعاصي والآثام؟ امتحنك الله بالقوة هل كانت قوتك للحق أم للباطل؟ امتحنك بالضعف هل يئست وتطامنت أم وثقت بنصر الله عز وجل؟ امتحنك بأسباب السعادة هل شكرت الله عليها؟ كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: "الحمد لله الذي ردّ إليّ روحي وعافاني في بدني وأذن لي بذكره".
أيها الأخوة، إذاً تمتحن في زينة الحياة الدنيا، وتمتحن في نفسك، وتمتحن في المال الذي آتاك الله إياه، فقد تكون فقيراً أو غنياً، لذلك قال تعالى:
﴿ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾
الحكمة من وجود أهل الحق مع أهل الباطل :
شاءت حكمة الله أن نعيش مع الطرف الآخر، بل كان من الممكن ـ والله في ذاته العلية واجب الوجود، لكن ما سواه ممكن الوجود ـ أن يجعل كفار أهل الأرض من آدم إلى يوم القيامة على كوكب آخر، الأرض للمؤمنين والمريخ للكفار، لا يوجد حروب، ولا فتن، ولا بدر ولا أحد ولا الخندق، لا يوجد شيء أبداً، لكن شاءت حكمة الله أن نعيش معاً، قال بعضهم: لأن الحق لا يقوى إلا بالتحدي، ولأن أهل الحق لا يستحقون جنة الله إلا بالبذل، والتضحية، والصبر على المكاره، لذلك قال تعالى، دقق قرآن كلام خالق الأكوان:
﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ ﴾
الخوف ابتلاء:
﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ ﴾
قد يموت الصغير:
﴿ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ*الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ* أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ﴾
أنواع الابتلاءات :
1 ـ الابتلاء التكليفي :
أخواننا الكرام، يلحق بامتحان الأموال الجاه والسلطان، والممتلكات العقارية، وما إلى ذلك، يلحق بامتحان الأنفس الأبناء، والأقارب، والأحباب، من صحة، ومرض، وحياة، ونجاح، وفشل، قد يفقد الإنسان أعز أحبابه، ماذا يفعل؟ يصبر، يمتحن.
مرة ثانية: قد تتعرض في الساعة الواحدة إلى عدة ابتلاءات، أنت في دار ابتلاء، أنت في دار امتحان، الآن من أنواع الابتلاءات، الابتلاء التكليفي، كلفك الله أن تعبده، أنت ممتحن بهذا التكليف هل أنت عابد له أم أنت مقصر؟ هل تتقن الصلوات أم لا تتقنها؟ هل تؤدي العبادات فإذا أديتها استرحت منها أم استرحت بها؟ والفرق كبير جداً، لذلك قال تعالى:
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾
الابتلاء الأول ابتلاء تكليفي ، كلفك أن تعبده.
موقف الإنسان من البلاء التكليفي :
ما موقفك من هذا الابتلاء؟ كلفك أن تعبده، بل جعل الله علة وجودك في الأرض أن تعبده، قال تعالى:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾
آية ثانية :
﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾
قال القرطبي: أحسن عمل أي أيكم أورع عن محارم الله؟ وأيكم أسرع إلى طاعة الله؟ أو ليبلوكم أي يعاملكم معاملة المختبر، أي ليبلو العبد بموت من يحبه ليبين صبره، وبالحياة ليبين شكره، خلق الله الموت للبعث والجزاء، وخلق الحياة للابتلاء، مفهوم الابتلاء يجب أن يكون واضحاً جداً في نفس كل مؤمن.
2 ـ الابتلاء الشخصي :
أحياناً هناك بلاء خاص الناس في بحبوحة الوضع جيد، أما هو فمبتلى ابتلاء خاصاً هذا الابتلاء الشخصي:
﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾
هناك بلاء عام؛ كالغلاء العام، القهر العام، الاحتلال، المصيبة العامة، وهناك بلاء خاص:
﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾
لا تنسوا قول الأمام الشافعي: "لن تمكن قبل أن تُبتلى".
آية ثانية:
﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ ﴾
هذه الآية ذكرتها قبل قليل، وآية ثالثة:
﴿ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾
هذا الابتلاء الفردي، هذا مبتلى بالغنى، هذا بالفقر، هذا بالأولاد، هذا بحرمانه من الأولاد، هذا بأولاد كلهم ذكور، هذا بأولاد كلهم إناث، هذا بأولاد بعضهم ذكور وبعضهم إناث، هذا ابتلي بالأولاد مع الفقر، هذا بالأولاد مع الغنى، هذا غني بلا أولاد، وضعك الذي أنت فيه مادة امتحانك مع الله، والبطولة أن تنجح، لكن الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين، لمجرد أن تقول: يا رب لك الحمد أنا راض فقد نجحت بالامتحان، الله عز وجل يقول:
﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ﴾
3 ـ الابتلاء الجماعي :
الآن ابتلاء جماعي، أنت موظف بدائرة وهناك شخص أعلى منك هو مدير دائرة، وهناك مدير عام، ووزير، وقد تجد نفسك أصلح من هؤلاء لكنك مبتلى بهذا الموقع المتوسط، وقد تبتلى بموقع أقل:
﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ ﴾
هذه لام التعليل، جعلك ممرضاً وهناك طبيب، جعلك مجنداً وهناك لواء، جعلك بائعاً متجولاً وهناك رئيس غرفة تجارة، جعلك بأعمال بسيطة جداً ومن حولك بأعمال عالية جداً.
على الإنسان أن يأخذ بالأسباب و كأنها كل شيء ثم يتوكل على الله و كأنها ليست بشيء :
لكن أتمنى من أعماق قلبي ألا تفهموا أن ترضى بوضع لا يليق بك، متى ترضى؟ حينما تبذل قصارى جهدك ولا تستطيع أن تغير وضعك الآن ارضَ، أما يقول لك : أنا لم أنجح ابتلاني الله بالرسوب، هذا كذب، لأنك لم تدرس لم تنجح، هذا الذي يقصر، ويعزو تقصيره إلى القضاء والقدر هذا يسخر من الدين، التوحيد لا يبرر الخطأ، أنا أقول: هذا جزاء التقصير، وضعت دواء ساماً بمكان في أيدي الأطفال، الله ابتلاني، لا هذا تقصير، هذا الدواء السام يوضع في مكان بعيد عن أيدي الأطفال، هناك أشياء كثيرة أيها الأخوة يبتلى بها الإنسان يكون قد أخذ بالأسباب أما إن لم يأخذ بالأسباب، عفواً مأخذ كهربائي مكشوف في الحمام وهناك ماء، والتيار مئتان وعشرون، التيار مع الماء قاتل، دخل الابن وضع يده على المأخذ المكشوف والأرض فيها ماء يموت فوراً، أخي سبحان الله مات بأجله، هذا كلام فيه خطأ كبير، مثلاً: طبيب إسعاف جاءه مريض وهو يجري حواراً مع ممرضة لا يليق به أن يترك هذا الحوار فطلب من المريض أن ينتظر فمات، أنا أرى أن يحاسب كقاتل إذا كان بالإمكان إسعافه، هذا جزاء التقصير، أما حينما تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ويأتي الأمر على خلاف ما تريد هذا اسمه قضاء وقدر، حينما تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ثم تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء ويأتي الأمر على خلاف ما تريد هذا قضاء وقدر، وإلا جزاء التقصير:
(( ولكن عليكَ بالكَيْس، فإِذا غَلَبَك أَمر ، فقل حَسبيَ الله ونعم الوكيل ))
لا تستطيع أن تقول حسبي الله ونعم الوكيل إلا إذا أخذت بالأسباب، وغلبك أمر الله عز وجل هذه حالة وحيدة، أما كل تقصير هكذا يريد الله، ما درست، البضاعة عندما اشتريتها لم تدرس السوق، فلم تربح، الله لم يكتب لي أن أربح، هذا غلط، يجب أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ثم تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، أقسم لكم بالله ما من حقيقة بكلمات يحتاجها المسلمون اليوم كهذه الحقيقة، مقصرون، لا يأخذون بالأسباب، ينتظرون معجزة من الله، لا تأتي هذه المعجزة ما لم نأخذ بالأسباب لا نتوقع من الله شيئاً، يجب أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ثم تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء.
نفي الإيمان عمن يبغي على خليطه بنص الآيات التالية :
أيها الأخوة الكرام، سيدنا داود عليه السلام له قصة تؤكد حقيقة هذا الموضوع، قال تعالى:
﴿ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ(23)قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾
أيها الأخوة الكرام، رجاءً دققوا في هذه الآية:
﴿ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْخُلَطَاءِ ﴾
من هم الشركاء؟ الزوجان، الصديقان، الشريكان، أي علاقة بين اثنين، شركاء:
﴿ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾
استنبط الإمام الشافعي أن الذي يبغي على خليطه ليس مؤمناً بنص الآية:
﴿ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾
إذاً الذي يبغي على شريكه، أو على خليطه، أو على زوجته، هنا نفي عنه إن أردنا أن نخفف كمال الإيمان، أو نفي عنه الإيمان أصلاً:
﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ(24)فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ﴾
امتحان الإنسان من الله عز وجل بكل شيء :
الله عز وجل ولاك مدير دائرة، مدير مستشفى، مدير جامعة، مدير مؤسسة، هذا امتحان، هل تعدل أم تظلم؟ هل تقرب أقربائك أم تقرب الأكفاء فقط؟ امتحان، معلم ابتدائي و لك ابن، هل تضعه عريفاً إن لم يكن كفئاً؟ هل هناك أبسط من ذلك؟ الإنسان حينما يمتحن بمنصب، بعمل، بتجارة، بصناعة، بمؤسسة، ممتحن من الله عز وجل، قال تعالى:
﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾
آية أخرى:
﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ ﴾
الله عز وجل قادر أن يضع الإنسان في موقف صعب يكشف حقيقته :
أيها الأخوة الكرام:
﴿ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ﴾
بالظاهر مؤمن:
﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ(14)اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾
فهذا الذي يقف موقفاً نفاقياً لابدّ من أن يكشفه الله، امتحن فلم ينجح، يأتي أمر الله عز وجل ليكشف حقيقته، الله عز وجل قادر أن يضعك في موقف صعب جداً تكشف على حقيقتك، لذلك قالوا: يمكن أن تخدع بعض الناس لكل الوقت، ويمكن أن تخدع كل الناس لبعض الوقت، أما أن تخدع كل الناس لكل الوقت فهذا مستحيل، أنا أضيف وأقول: أما أن تخدع ربك أو أن تخدع نفسك لثانية واحدة فهذا مستحيل:
﴿ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴾
المؤمن يرى أن العبرة في الحياة الآخرة فيرضى بقضاء الله وقدره :
الآن لنا أعداء ألداء، أقوياء جداً، قد يقول قائل: لمَ لا يدمرهم بزلزال؟ جاء الجواب:
﴿ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ﴾
أراد أن يعطيك أجر الآخرة، أن يعطيك أجراً عظيماً، فهو سمح لك أن تجتهد، وأن تعمل، وكان من الممكن أن يدمر الله أعداء الإسلام جميعاً مرة واحدة، لأن أمره كن فيكون، زل فيزول:
﴿ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ﴾
والابتلاء أيضاً من خصائص الأنبياء، قال تعالى:
﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾
أيها الأخوة الكرام، أحياناً هناك ابتلاء عام، يكون هناك زلازل أحياناً، أو فيضانات، تسمعون في الباكستان وفي بلاد كثيرة، هناك ابتلاءات عامة، المؤمن راض عن الله عز وجل، المؤمن يرى أن يد الله تعمل وحدها، المؤمن يرى أن العبرة في الحياة الآخرة، لذلك يرضى بقضاء الله وقدره.
الافتخار بالمعاصي مرفوض في كل شرائع الأرض :
أيها الأخوة الكرام، لكن هناك ملاحظة دقيقة جداً في قوله تعالى:
﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ﴾
دقق إذا كان هناك ابتلاء عام فبسبب فساد عام:
﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾
لم يقل ليذيقهم ما عملوا، ولا كل الذي عملوا، بعض الذي عملوا، حديث أردده كثيراً يقول:
((كنتُ عاشرَ عشَرةٍ رهطٍ من المهاجرين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل علينا بوجهه فقال: يا معشر المهاجرين، خمس خصال أعوذ بالله أن تُدركوهن، ما ظهرت الفاحشةُ في قوم حتى أعلنوا بها ... ))
مع الإعلان، لا يفتخر، مثلاً: ببعض بلاد الغرب هناك وزير الصحة ببلد أوربي قال: أنا شاذ، وزير الخارجية في بلد آخر قال: أنا شاذ، سفير أمريكا ببوخارست، أقيم له حفل وداع في واشنطن، كان مع شريكه الجنسي ـ حتى يعلنوا بها ـ هذه جريمة تعاقب عليها القوانين جميعاً، مرفوضة حتى في شرائع الأرض، الآن يفتخر بها:
((ما ظهرت الفاحشةُ في قوم حتى أعلنوا بها إلا ابتُلوا بالطواعينِ والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا ـ كل فترة هناك مرض جديد، أحد هذه الأمراض الإيدز ـ ولا نقصَ قومٌ المكيال إلا ابتلوا بالسنين وشدةِ المؤونة وجور السلطان...))
كل أنواع الغش في الكيل، في المساحة، بالعدد، بالمواصفات، بوقت الصنع، أحياناً يكون الدواء غالياً جداً يحك تاريخ انتهاء الصلاحية ويبيعه، كل شيء محاسب عنه.
(( وشدةِ المؤونة، وجور السلطان، وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء))
وأنا أقول دائماً: كلما قلّ ماء الحياء قلّ ماء السماء، وكلما رخص لحم النساء علا لحم الضأن، وكلما اتسعت الصحون على السطوح ضاقت صحون المائدة:
((...ولولا البهائمُ لم يُمطروا، ولا نقد قومٌ عهد الله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم يأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم يعمل أئمتهم بما أنزل الله في كتابه إلا جعل الله بأسهم بينهم))
وكأن النبي عليه الصلاة والسلام يعيش معنا.
الإنسان في دار ابتلاء و ممتحن في كل دقيقة و لحظة :
أيها الأخوة الكرام، أرجو الله سبحانه وتعالى أن نعلم علم اليقين أننا في دار ابتلاء، وأنك ممتحن، والله في كل دقيقة، في كل لحظة، في كل ساعة، في بيتك، في عملك، في الطريق، مع صديق، مع عدو، مع من هو أعلى منك، مع من هو أدنى منك، ممتحن في الغنى والفقر، في الصحة والمرض، في القوة والضعف، كل شيء أنت فيه عده مادة امتحانك مع الله، أي شيء أنت فيه إيجابي أو سلبي ينبغي أن تعده مادة امتحانك مع الله.
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، و زنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، و اعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، و سيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه، و عمل لما بعد الموت، و العاجز من أتبع نفسه هواها، و تمنى على الله الأماني .
* * *
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
العاقل من حاسب نفسه قبل فوات الأوان :
أيها الأخوة الكرام، مثل قفز إلى ذهني لو أنك سافرت إلى بلد مجاور، وحالة نادرة رأيت تشديداً غير معقول للقادمين لبلدك من حيث البضاعة، كل شيء معهم يوضع على الطاولة، ويحاسبون على أدنى شيء، الآن أنت سافرت إلى بلد مجاور، رأيت حاجة جيدة رخيصة، يقفز إلى ذهنك سؤال، هذه لا تمر، لا يسمحوا لي بإدخالها، إذا عندك هذا الشعور دائماً مع الله، أن هذا العمل ماذا أجيب الله عنه؟ مسافر عادي سافر من دمشق إلى بيروت، وجد تشديداً للقادمين إلى بلده غير معقول في موضوع البضائع، كلما رأى حاجة أعجبته وسعرها مناسب لا يشتريها، يقول لك: هذه لا تمر معي، أنت كمؤمن يجب أن تسأل نفسك مع كل موقف، ماذا تجيب الله عن هذا الموقف؟ والبطولة أن تهيئ جواباً لله عز وجل، وإذا ما كان عندك جواب فهناك مشكلة كبيرة، أنا ضربت مثلاً من واقعنا سافرت إلى بيروت وجدت تشديداً غير معقول في محاسبة القادمين إلى البلد من حيث البضائع، فأنت كلما أعجبك شيء رخيص، وأنت بحاجة له تقول: لا تمر، فالبطولة أن تحاسب نفسك عن كل موقف، عن كل كلمة، على الابتسامة، عن الزيارة، عن عدم الزيارة، عن اللقاء، عن عدم اللقاء، عن مشاركة في رحلة أحياناً، لا ترضي الله عز وجل، فيها اختلاط، هذه السهرة لا ترضي الله عز وجل، هذه الصفقة لا ترضي الله عز وجل، فالبطولة أن تحاسب نفسك قبل أن تحاسب.
كنت مرة في بلاد المغرب رأيت كلمة على محل تجاري، قال: صلِّ قبل أن يُصلى عليك، وأنا أقول لك: حاسب نفسك قبل أن تحاسب، لذلك من حاسب نفسه في الدنيا حساباً عسيراً كان حسابه يوم القيامة يسيراً، ومن حاسب نفسه في الدنيا حساباً يسيراً كان حسابه يوم القيامة عسيراً.
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق، ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك و نتوب إليك، اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام، وأعز المسلمين، انصر المسلمين في كل مكان، وفي شتى بقاع الأرض يا رب العالمين، اللهم أرنا قدرتك بأعدائك يا أكرم الأكرمين .