- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى :
الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ، ولا توكلي إلا على الله .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيّته ، وإرغاماً لمن جحد به وكفر .
وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظر أو سمعت أذنٌ بخبر .
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومَن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين .
اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم ، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما جرت به المقادير ، إنك على كل شيءٍ قدير .
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أحاديث شريفة تتعلق بالقرآن .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ طائفةٌ من الأحاديث النبوية الشريفة تتعلق بالقرآن الكريم .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يحزن قارئ القرآن .
يقول عليه الصلاة والسلام :
(( لا يحزن قارئ القرآن ))
النبي عليه الصلاة والسلام ينفي عن قارئ القرآن الحزن ، لأن الذي يقرأ القرآن يعرف أنه لا إله إلا الله ، وما تعلَّمت العبيد أفضل من التوحيد ، فإذا وَحَّد الإنسان نُفِيَت عنه الأحزان ..
﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ﴾
اعمل لوجهٍ واحدٍ يكفك الوجوه كلها .. من جعل الهموم هماً واحداً كفاه الله الهموم كلها .
(( لا يحزن قارئ القرآن ))
لأنه يوحد الواحد الديان .
(( لا يحزن قارئ القرآن ))
لأنه يعلم علم اليقين أن أبواب التوبة مفتوحةٌ على مصاريعها ..
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ﴾
جاء في بعض الأحاديث القدسية :
(( أن عبدي لو جئتني بملء السماوات والأرض خطايا غفرتها لك ولا أبالي ))
لماذا يحزن قارئ القرآن وأبواب التوبة مفتوحةٌ على مصارعها ؟!
(( لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من الضال الواجد ، والعقيم الوالد ، والظمآن الوارد ))
كيف يحزن قارئ القرآن وقد طمْأنه الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم ..
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾
هل في الأرض جهةٌ تستطيع أن تُعَطِّل هذه الآية ؟ هل في الأرض جهةٌ تستطيع أن تتدخَّل لتمنع الحياة الطيِّبة عن المؤمن ؟
كيف يحزن قارئ القرآن وهو يتلو قوله تعالى :
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾
هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، لا يعقل أن تكون حياتهم كحياة الذين اجترحوا السيئات ، هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا يعقل أن يكون مماتهم كممات الذين اجترحوا السيئات .
يا أيها الإخوة المؤمنون ؛ كل آيةٍ في كتاب الله لو عقلها الإنسان لبثَّت في قلبه الأمْن والطمأنينة ، ألا يكفينا قوله تعالى :
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ﴾
إذا فعلت الخير لا تبتغي به إلا وجه الله تعالى ، يجب أن تعلم علم اليقين أنه محفوظٌ عند الله ، ومُدَّخَرٌ لك في دنياك وأخراك .
ألا يكفينا قوله تعالى :
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾
لو أن الإنسان اتجه إلى الدنيا ، وجعل الدين وراء ظهره ، وجعل القرآن وراء ظهره ، يجب أن يعلم علم اليقين أنه لابدَّ أن يحيا حياةً شقيَّة..
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي ﴾
( من ) اسم شرط جازم ، ومعنى الشرط أن هناك حدثين إذا وقع الأول لابدَّ من أن يقع الآخر ..
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾
كيف يحزن قارئ القرآن والله سبحانه وتعالى يعده وعداً حسناً ؟ فيقول الله عزَّ وجل :
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾
هل يستويان ؟ هل يتناسبان ؟ ما أبعد الأرض عن السماء وما أبعد الثريا عن الثرى ، هل يستوي مَن وعده الله وعداً حسناً ..
﴿ فَهُوَ لَاقِيهِ ﴾
كمن متَّعه متاع الحياة الدنيا ..
﴿ ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾
كيف يحزن قارئ القرآن وهو يتلو قوله تعالى :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾
كيف يحزن قارئ القرآن والواحد الديَّان يعده بعدم الحُزْن ..
﴿ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا ﴾
وعدم الخوف ، عدم الحزن على ما مضى ، وعدم الخوف لما سيكون ، وهل من ضمانةٍ أعظم من أن تمتدَّ إلى الماضي والمستقبل ؟ هل من ضمانةٍ على وجه الأرض تتسع رقعتها حتى تشمل الماضي والمستقبل؟.
(( لا يحزن قارئ القرآن ))
كيف يحزن قارئ القرآن وهو يعلم أنه إذا انقلب إلى ربه سعد بقربه، وكان في الآخرة له ما لا عينٌ رأت ، ولا أذنٌ سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ؟ .
﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾
كيف يحزن قارئ القرآن وهو يتلو قوله تعالى :
﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ﴾
هل من شبحٍ يخيِّم على الناس أشدَّ هولاً من شبح الموت ؟ ما الموت؟ الموت نهاية الحياة عند بعض الناس ، ولكن الموت في القرآن الكريم بداية الحياة الأبدية ..
﴿ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ﴾
أيَّةُ حياةٍ كان يحياها ؟ إنها الحياة الدنيا ، وقد سمَّاها الله دنيا لأن هناك حياةً عليا ، حياةً عليا لا موت فيها ، ولا هَرم فيها ، ولا كِبَرَ فيها ، ولا مرض فيها ، ولا شيء ينغص الحياة فيها .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قرأ القرآن متعه الله بعقله حتى يموت . .
يا أيها الإخوة المؤمنون ؛ من قرأ القرآن ـ كما قال عليه الصلاة والسلام :
(( من قرأ القرآن متعه الله بعقله حتى يموت ))
كيف يحزن قارئ القرآن وهو يعلم علم اليقين أنه إذا قرأه فسيتمتع بعقله حتى الموت ؟ شبح الخَرَف ، شبح ضياع العقل ، شبح خمود الخلايا الذهنية ، شبح ضعف المكانة الاجتماعية ، هذه الأخطار التي تتهدد الناس في خريف العمر ، قارئ القرآن معافىً منها بنص الحديث الشريف :
(( من قرأ القرآن متعه الله بعقله حتى يموت ))
كيف يحزن قارئ القرآن وهو يتلو قوله تعالى :
﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ﴾
لماذا يُنافق الناس ؟ من أجل الرزق ، لماذا يعصي الناس ربَّهم ؟ من أجل الرزق ، بحسب ضعف إيمانهم ، وبحسب محدودية تفكيرهم ، وبحسب بعدهم عن آيات القرآن ، يرتكبون المعاصي والآثام من أجل الرزق ، ولو قرأ قارئ القرآن قوله تعالى :
﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ﴾
انقطع عن كل عملٍ فيه معصيةٍ يبتغي فيه الرزق .
كيف يحزن قارئ القرآن وهو يعلم أنه من ابتغى أمراً بمعصيةٍ كان أبعد مما رجا ، وأقرب مما اتقى ؟ يعلم أن الأمور كلها بتوفيق الله عزَّ وجل ، يتلو قوله تعالى :
﴿ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ﴾
يعني لا يحقق هدفٌ على وجه الأرض إلا بتوفيق الله ، فإذا سلك إلى هذا الهدف طريقاً فيه معصية ، قارئ القرآن يعلم علم اليقين أنه لن يحقق الهدف ، ما دام قد اتخذ له معصيةً كوسيلةٍ لتحقيقه ، لذلك المؤمن الحق لا يتخذ إلى أهدافه إلا الوسائل المشروعة ، لا يغش الناس كي يطعم أبناءه ، لو أنه فعل هذا ما كان قارئاً للقرآن ، لو قرأ القرآن لا يتخذ وسيلةً فيها معصيةٌ لغايةٍ مشروعة في حياته .
لا يحزن قارئ القرآن لأنه يعلم علم اليقين أن الأمور كلها بيد الله..
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ﴾
متى أمرك الله عزَّ وجل أن تعبده ؟ بعد أن طمأنك أن الأمر كله بيده ..
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾
كيف يحزن قارئ القرآن وهو يتلو قوله تعالى :
﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾
كل شيءٍ تخافه ، كل شيءٍ يقلقك إنما هو بيد الله عزَّ وجل ، فإذا كانت العلاقة بينك وبين الله عامرةً بالطاعة والمحبة كان الله عزَّ وجل مدافعاً عنك لقوله تعالى :
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾
كيف يحزن قارئ القرآن وهو يعلم علم اليقين أن خالق السماوات والأرض ومَن بيده كل شيء يدافع عنه ؟ مَن اتخذ محامياً لامعاً ، يبث هذا المحامي في قلبه بعض الطمأنينة ، وقد يخيِّب ظنه في النهاية ، ولكن مَن جعل الله مدافعاً عنه أنَّى له أن يحزن ؟ أنى له أن يقلق .؟!!
السكينة .
يا أيها الإخوة المؤمنون ؛ إن الله يعطي الصحة ، والذكاء ، والمال ، والجمال للكثيرين من خلقه ، ولكنه يعطي السكينة بقدرٍ لأصفيائه المؤمنين .
إن الشعور بالأمن ، الشعور بالسكينة ، التوازن النفسي ، هذه المشاعر لا يعرفها إلا مَن فقدها ..
﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾
جاء الجواب ..
﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾
نعمة الأمن .
الأمن شيء والسلامة شيءٌ آخر .
عدم حصول مصيبةٍ هي السلامة ، ولكن عدم توقُّع المصيبة هي الأمن .
نعمة الأمن لا يعرفها إلا المؤمن ، لأنه يعلم علم اليقين أن الله سبحانه وتعالى في عَلْيائه يدافع عنه ، ولن يسمح لأحدٍ أن ينال منه ..
﴿ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ﴾
العبادة شرط للاستخلاف .
كيف يحزن قارئ القرآن وهو يتلو قوله تعالى :
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي ﴾
هذا هو الشرط ، الشرط الذي يتعلَّق بالعباد هي العبادة الخالصة ، والله سبحانه وتعالى وعد هؤلاء العباد المؤمنين بالتمكين ، والأمن ، والاستخلاف في الأرض ، فإذا أَخَلَّ العباد بالشرط الذي عليهم فالله سبحانه وتعالى في حلٍ من وعوده الثلاث .
كيف يحزن قارئ القرآن ؟!!
يا أيها الإخوة المؤمنون ؛ كيف يحزن قارئ القرآن وهو يتلو صباح مساء :
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
في كل صلواته الخمس ، وفي كل الركعات في الفرض والسنة ؟
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
يُحْمَد على كل شيء .
كيف يحزن قارئ القرآن وهو يعلم أن المصيبة في حدِّ ذاتها خيرٌ كبير ؟
﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ﴾
كيف يحزن قارئ القرآن لو فقد مُلْكَه ، لو فقد ماله ، لو فقد كل شيء إذا كان يعلم علم اليقين أن هذه نعمةٌ باطلة ؟ ألم يقل الله عزَّ وجل :
﴿ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ﴾
يا أيها الإخوة المؤمنون ؛ إذا قرأتم القرآن وجدتم فيه شفاءً لكل الأمراض النفسية التي يعاني منها الناس ، إنسان العصر الحديث بين ضغط الحاجات وضغط القيَم ، بين المادة والروح ، بين أن يكون منسجماً مع مبادئه ، وبين أن يكون منسجماً مع متطلبات عصره ، يقع في صراعٍ شديد، هذا الصراع الشديد يحلُّ بتدبر آيات القرآن الكريم .
إنك إذا قرأت القرآن الكريم وعلمت أن ما فيه حقٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وعلمت أن الذي أنزله على النبي عليه الصلاة والسلام هو الله سبحانه وتعالى مَن بيده الأمر والخَلق ، عندئذٍ تطمئن النفس ، وتسكن ، وتذوق طعم السكينة التي يفقدها الإنسان في حال بُعْدِه عن الله عزَّ وجل .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ أحاديث كثيرة تتعلق بالقرآن الكريم ، الحديث الأول :
(( لا يحزن قارئ القرآن ))
أرجو الله سبحانه وتعالى أن يكون هذا الحديث الشريف في أذهانكم، وفي خواطركم ، وفي أنفسكم ، وأن يدفعكم إلى تلاوة كتاب الله تلاوة تدبُّر، وتلاوة تفكُّر ، وتلاوة عقل ، وتلاوة تطبيق ، ليكون هذا القرآن الكريم هادياً لنا في حياتنا ، في أمور معاشنا ، في علاقاتنا مع الناس ، في علاقاتنا مع الله عزَّ وجل .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزَن عليكم ، واعلموا أن مَلَكَ الموت قد تخطّانا إلى غيرنا وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيس مَن دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز مَن أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني .
كل مخلوقٍ يموت ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت ، الليل مهما طال فلابدَّ من طلوع الفجر ، والعمر مهما طال فلابد من نزول القبر .
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلةٍ حدباء محمولُ
فـإذا حملت إلى القبور جنازةً فاعلم بأنك بعـدها محمـول
* * *
صلاة الجنازة .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ صلاة الجنازة أربع تكبيرات :
بعد التكبيرة الأولى دعاء الثناء والفاتحة .
وبعد التكبيرة الثانية الصلوات الإبراهيمية .
وبعد التكبيرة الثالثة يدعو المصلي للميت فيقول :
اللهم اغفر له وارحمه ، وعافه واعفُ عنــه ، وأكرم نزلــه ، ووسـع مدخله ، واغسله بالماء والثلج والبَرَد ، ونقِّه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ، وأبدله داراً خيراً من داره ، وأهلاً خيراً من أهلـه ، وزوجاً خيـراً من زوجتـه ، وأدخله الجنـة ، وأعذه من عذاب القبر وعذاب الموت .
وبعد التكبيرة الرابعة يقرأ المصلي على الجنازة :
﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾
اللهم لا تحرمنا أجره ، ولا تفتنا بعده .
والحمد لله رب العالمين
***
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد ألا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخُلُق العظيم ، اللهم صلٍ وسلم وبارك على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين .
الكريات البيض .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ في دم كلٍ منا ثلاث أنواع ، النوع الأول: الكريات الحمر ، ولها بحثٌ طويل ، تحدثت عنه مراراً ، والنوع الثاني : الكريات البيض ، والنوع الثالث : الصفيحات الدموية .
فالكريات البيض ، هي جيش الدفاع الذي يتولىَّ الدفاع أمام كل هجمةٍ من الجراثيم
ما هذه الكريات البيض ؟ إن لها قلاعاً ، تؤوي إليها ، وتنطلق منها، ما هي هذه القلاع ؟ إنها العُقَد اللمفاوية ، التي هي بمثابة قلاع يحشر بها عددٌ كبير من الكريات البيض .
قال بعض العلماء : إن من هذه الكريات ، من يقوم بمهمة الاستطلاع ، فإذا دخل إلى البدن جرثومٌ غريب ، اقتربت منه الكريات البيض لتتعرَّف إليه ، لتتعرَّف بُنْيَته التركيبية ، أماكن ضعفه ، ما الذي يعطِّله عن العمل ؟ ما الذي يكبِّله ؟ ما الذي يقضي عليه ؟ وتعود هذه الكريات البيض ، وكأنَّها كائناتٌ عاقلةٌ ، من أعلى درجة من الذكاء ، تعود هذه الكريات البيض إلى أماكن انطلاقها ، إلى العقد اللمفاوية ، لتخبر عن طبيعة هذا الجرثوم ، وأماكن ضعفه ، وطريقة القضاء عليه ، حيث تتولى المخابر ، في هذه العقد ، صنع المواد المضادة للجراثيم .
هناك كرياتٌ بيض أخرى ، مهمتها تصنيع السلاح ، الكريات الأولى مهمتها الاستطلاع ، والثانية مهمتها تصنيع السلاح ؛ حيث يصنع في هذه العقد المصول التي من شأنها أن تقضي على هذا الجرثوم .
تنطلق كرياتٌ أخرى ذات طبيعةٍ قتالية ، تحمل هذه المضادَّات ، وتتجه نحو العدو الجرثومي ، وتحاصره ، إلى أن تقضي عليه ، فإذا شعر الإنسان ، أن في بعض أعضائه ، وذمةً بيضاء ، فليعلم علم اليقين ، أن هناك معركةً طاحنة ، تجري بين الكريات البيض ، وبين هذا الجرثوم الغريب .
وفي الإنسان خطوطٌ دفاعية ، تشكِّل هذه الكريات البيض الاستطلاعية الخط الأول ، وتشكَل العقد اللمفاوية الخط الثاني ، فإذا اجتاح الجرثوم هذه العقد اللمفاوية ، يُعْلَن الاستنفار العام في الجسد ، عندئذٍ ترتفع الحرارة ، ويضعف الجسد عن القيام بأعبائه اليومية ، وتظهر العلامات التي تؤشِّر ، أو تدلُّ على وجود مرضٍ جرثوميٍ عام .
يا أيها الإخوة المؤمنون ؛ ما ذكرت لكم ، مما يتعلَّمه طلاَّب الطب إلا جزءاً يسيراً جداً عاماً ، ومع ذلك فهذا الجهاز بعناصره الثلاث ؛ عناصره الاستطلاعية ، وعناصره التصنيعية ، وعناصره القتالية ، وقيادته المركزية ، وخططه الحكيمة ، في الدفاع عن الجسد ، إن جهاز المناعة هذا يقضى عليه أحياناً ، كما في مرض الإيدز ، الذي يتحدث عنه العالم اليوم .
والذي لفت نظري ، أن النبي عليه الصلاة والسلام ، في بعض الأحاديث الشريفة ، ذكر عن هذا المرض شيئاً ، فقال عليه الصلاة والسلام :
(( يا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خصال خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ ... ))
يقول العلماء : إن السبب الأول لهذا المرض هو ، شيوع الفاحشة ، بل شيوع الفاحشة المنكرة ، المثلية ، بين أفراد المجتمع ، لذلك يقول عليه الصلاة والسلام :
(( لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا ... ))
أي إلى أن يظهروها وإلى أن يعلنوا عنها ، في الصحف والمجلات، وفي أجهزة الأعلام ، في الغرب ، وفي البلاد التي انحلَّت فيها القيم ، يعلن عن الرذيلة في أجهزة الإعلام ، يعلن عن أماكن البغاء ، وأماكن الانحراف اللاأخلاقي ، في كل مكان .
(( حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلافِهِمِ ... ))
الإيدز هذا المرض الخطير ، الذي أقلق العالم ، والذي جعل الرعب يملك القلوب صار الإنسان ، يخشى كل شيء ، خوفاً من هذا المرض حينما تجاوزوا حدود الله عزَّ وجل ، ولم يعبؤوا بشرعه ، ولم يعبؤوا بنظافة العلاقة الاجتماعية ، عندئذٍ ، جاء هذا المرض ليقلقهم ، وليجعل حياتهم جحيماً .
(( يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلافِهِمِ الَّذِينَ مَضَوْا .... ))
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك .
اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، وأكرمنا ولا تهنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وارض عنا ، واقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنَّتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا .
ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على مَن ظلمنا ، وانصرنا على مَن عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلِّط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا .
اللهم اغفر ذنوبنا ، واستر عيوبنا ، واقبل توبتنا ، وفكَّ أسرنا ، وأحسن خلاصنا ، وبلغنا مما يرضيك آمالنا ، واختم بالصالحات أعمالنا مولانا رب العالمين .
اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء ، مولانا رب العالمين .
اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .