- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (005)سورة المائدة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا إتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الله تعالى يخاطب المؤمنين بفروع الدين ويخاطب عامة الناس بأصول الدين :
أيها الأخوة الكرام؛ مع الدرس السابع والعشرين من دروس سورة المائدة، ومع الآية الرابعة والخمسين، وهي قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) ﴾
يعلمنا القرآن أيها الأخوة أنه إذا قال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ إنما يخاطب المؤمنين بفروع الدين، أو أنه يبشرهم، أو أنه يحذرهم، أو أنه يلفت نظرهم إلى شيء، لكنه إذا خاطب عامة الناس فيخاطبهم بأصول الدين:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) ﴾
ولكن هناك خطاب للمؤمنين يعقبه دعوة إلى الإيمان، مثل هذه الآية تُشكل على بعض المفسرين:
المؤمن بحاجة إلى أن يجدد إيمانه أو أن يحافظ على إيمانه :
قال تعالى:
﴿
النبي يتقي الله، إذاً حافظ على تقواك، وحافظ على مقامك، وعلى مكانتك، لذلك هناك محذور كبير أن يكون الإيمان ضعيفاً، أن تغلب الإنسان الشبهات، أو أن تغلبه الشهوات، فإذا غلبته الشبهات، طرحت ضلالات، طرحت تفسيرات، طرحت انتقادات للدين، فقد يضعف إيمانه أمام هذه الشبهات، أو يضعف إيمانه أمام هذه الشهوات، قد يعيش في عصر الفتن.
لذلك الإنسان بحاجة إلى أن يجدد إيمانه، أو أن يحافظ على إيمانه، في الحد الأدنى يحافظ على إيمانه بدوام ذكر الله عز وجل، يحافظ على إيمانه بطلب العلم، وبالاستزادة من العلم، يحافظ على إيمانه بصحبة الصالحين، يحافظ على إيمانه بأن يكون مع الصادقين، هذا معنى قول الله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ .
المعركة بين الحق والباطل معركة أبدية سرمدية :
الآية هنا: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ﴾ الحقيقة هناك ملمح دقيق جداً من هذه الآية، ذلك أن الإنسان حينما يمرض ويشفى من مرضه يتكون في الجسم مناعة ضد هذا المرض، أو حينما نريد أن نحصن إنساناً من مرض معين، نعطيه لقاحاً من الجراثيم التي تسبب هذا المرض، ولكنها مُضعّفة ، إذا أعطي هذا اللقاح يعمل جهاز المناعة على تصنيع مصل مضاد محفوظ في الذاكرة، يغدو هذا الإنسان الذي لقح ضد هذا المرض محصناً من هذا المرض، لأنه جاءه بشكل مخفف، وهيأ سلاحاً فتاكاً له، وحفظه في الذاكرة، وأصبح ذا مناعة ضد هذا المرض، هذا الذي نفعله مع الإنسان تحصيناً له من الأمراض، فعله الله عز وجل مع المؤمنين تحصيناً لهم من الارتداد، فأخبرهم أن هناك من يرتد عن دين الله، لا تعجب، والذي يرتد عن دين الله ينبغي ألا يتوهم أنه يستطيع أن ينال من هذا الدين، هذا الدين دين الله، والله عز وجل يتولى حفظه بذاته، ولا تقلق على هذا الدين، ولكن اقلق ما إن سمح الله لك أو لم يسمح أن تكون أحد جنوده. لذلك يطمئن الله المؤمنين، ويعطيهم لقاحاً ضد الارتداد ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾ لي تجربة متواضعة في تدريس الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة، فقد قدمت لطلابي بحثاً من موقع معلوماتي يهاجم القرآن من خلال الإعجاز، يأتي بقضية عدها العلماء إعجازاً، وينقض هذا الموضوع العلمي تمهيداً لنقض القرآن، حتى أعطي الطلاب مناعة ضد هذه المواقع الفتاكة التي تهاجم القرآن، هذا نموذج، وهذا هو الرد، فالطالب لا يفاجَأ إذا رأى في موقع معلوماتي ما ينقض القرآن، ينبغي أن يهيئ نفسه أن هناك معركة بين الحق والباطل أبدية سرمدية، هذه معركة الحق والباطل قدرنا، والعبرة لا فيما يصيبك؟ بل كيف تقف ممّا يصيبك؟
الذي تحاسب عليه لا الذي ينالك من قضاء الله وقدره بل موقفك من قضاء الله وقدره:
في حقيقة دقيقة جداً، العبرة لا أن تكون فقيراً أو غنياً، البطولة أن تقف من الغنى موقف الشاكر، وأن تقف من الفقر موقف الصابر، أن تقف من الصحة موقف الشاكر، ومن المرض موقف الصابر، الذي تحاسب عليه لا الذي ينالك من قضاء الله وقدره، بل تحاسب على موقفك من قضاء الله وقدره.
ذكرت لبعض الأخوة الكرام شرحاً لهذا الحديث، أننا لو أخذنا مئة قوي لا ينجو من هؤلاء إلا قلة قليلة، لأن القوة مزلة قدم، لو أخذنا مئة ضعيف ينجو منهم ثمانون بالمئة، لو أخذنا مئة غني لا ينجو منهم إلا قلة قليلة، لأن الغنى والكبر والسيطرة واتباع الشهوات مظنة الزلل، ولو أخذنا مئة فقير ينجو منهم ثمانون، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام كان قدوة لنا، علمنا كيف أنه في بعض الصفات السلبية تكون أقرب إلى العبودية، وأسلم لدينك، وأنجى لك من صفات إيجابية قد تكون حجاباً بينك وبين الله.
والله أيها الأخوة، حقيقة عاينتها معاينة دقيقة، أن الرخاء الكبير في بعض البلاد كل الأمور ميسرة، دخل كبير، طبيعة جميلة، حقوق الإنسان مقدسة هناك، ترى في هذه البلاد بعداً عن الله لا يصدق، ترى في هذه البلاد تصحراً دينياً، جفافاً في قلوبهم، غفلة لا تحتمل عن ربهم، وتجد في بعض البلاد الأخرى التي فيها مشكلات وأزمات، وضغوط شديدة أحياناً، وتهديد من العدو، تجد أن الناس أقرب إلى الله من هؤلاء بكثير، هم مع الله، لأن هذه الشدة دفعتهم إلى الله، وألجأتهم إلى باب الله.
لذلك مرةً رأيت في متحف في اسطنبول جوهرة من الماس (البرلنت)، سألت عن قيمتها، فقالوا: مئة وخمسون مليون دولار، هي أكبر جوهرة في العالم، موضوعة في متحف، وكأنها شمس تشع، سألت هذا الماس: ما أصله؟ قالوا: من الفحم، قلت: لو جئنا بفحمة بحجم هذه الجوهرة كم ثمنها؟ أقلّ من قرش، بين القرش وبين المئة والخمسين مليون دولار مسافة كبيرة جداً، حسناً كيف تحول الفحم إلى ماسٍ؟ من شدة الضغط والحرارة، فالإنسان إذا ضغط عليه كثيراً، وكان على إيمان، وعلى علم، وكان على معرفة يغدو جوهرة.
محمد بشر وليس كالبشر فهو جوهرة والناس حجر
* * *
الفرق بين المؤمن وغير المؤمن لا يمكن تصوره :
الفرق بين المؤمن وغير المؤمن لا يمكن تصوره، كيف إذا كنت جائعاً جوعاً شديداً وجلست إلى مائدة عليها لحم مشوي، وهو طازج من أفضل أنواع اللحم، كيف تقبل على هذا اللحم؟ إقبالاً رائعاً، لو أنك مررت بحيوان ميت قبل بضعة أيام، وتفسخ اللحم وفاحت منه رائحة لا تحتمل، كلا الحالين لحم، لحم جذبك، ولحم أخرجك من جلدك وكلاهما لحم، وقد تجد إنساناً مؤمناً تنجذب إليه، تنجذب إلى علمه، إلى خلقه، إلى تواضعه، إلى سكينته، إلى عفته، إلى أمانته، إلى صدقه، إلى مصداقيته، إلى وضوحه، إلى براءته، إلى صفائه، وقد تجد إنساناً كيفما عاملته آذاك، وكيفما سألته غشك، وحينما تستعين به يخيب ظنك، هذه المشكلة أيها الأخوة. لذلك الله عز وجل يعطينا لقاحاً، أنه تجد من يرتد عن هذا الدين، وقد تجد من يهاجم هذا الدين، وقد تجد في بعض المواقع المعلوماتية من يهاجم القرآن الكريم، وهناك كتب لا تعد ولا تحصى كل يوم تظهر تطعن في هذا الدين، وفي مصداقية هذا الدين، وفي أحقية القرآن الكريم، والحقيقة أن الله عز وجل يقول:
﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112 ) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) ﴾
أشقى إنسان على وجه الأرض هو الذي يقف في خندق مناهض للدين :
هذا الذي يرتد عن دين الله لا يتوهم أنه يستطيع أن يقوض دعائم الدين، الدين دين الله، وإن الذين يريدون إطفاء نور الله كمن يريد إطفاء الشمس بنفخة من فمه، هذا يحتاج إلى مستشفى المجانين.
﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) ﴾
لذلك أشقى إنسان على وجه الأرض الذي يقف في خندق مناهض للدين، الله عز وجل يقول:
﴿ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) ﴾
يا رب! امرأتان أخطأتا
لذلك أيها الأخوة؛ نحن كوننا مسلمين معنا منهج السماء لكن لا نعرف قيمته، معنا خطاب السماء إلى الأرض، معنا في منهجنا خلاص العالم، ولكننا مقصرون في فهمه، وفي تطبيقه، وفي حسن عرضه على الآخرين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ ﴾ .
بعض من إعجاز القرآن الإخباري :
يمكن أن يرتد الإنسان عن دينه، ومسيلمة الكذاب ارتد عن الدين .
﴿ فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ، والعاقبة للمتقين(128) ﴾
لو يتاح لكم أن تقرؤوا ما جاء به مسيلمة الكذاب، ومن ارتد عن دين الله، من قلّد القرآن، لا تستطيعون أن تملكوا أنفسكم من الضحك، لأن كل ذرة في جسمك، وكل خلية في جسمك، وكل قطرة في دمك تشعر أن هذا القرآن كلام الله، أما إذا قرأت كلاماً مزوراً منحولاً تشعر بكل ذرة في جسمك، وكل خلية، وكل قطرةٍ أنه كلام إنسان لا وزن له عند الله إطلاقاً. فحينما يرتد الإنسان عن دينه لا يستطيع أن يفعل شيئاً ضد هذا الدين، إنما يسيء إلى نفسه فقط، كأن هذه الآية تنبئ المؤمنين، ولاسيما في عهد رسول الله الأمين، وبعده في عهد الصحابة أجمعين، أن هناك ارتداداً جرى في عهد رسول الله والآية تثبت للصحابة الكرام الذين تولوا الأمر من بعد رسول الله أنه هناك ارتداداً سيكون، وهذا من إعجاز القرآن الإخباري، مثلاً، حينما قال الله عز وجل:
﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) ﴾
لو أن هذا الإنسان - أبا لهب - فكر في هذه السورة، وانطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعلن إسلامه ظاهراً، إنه بهذا نقض الآية، لكن إرادة الله طليقة، حتى اختيار الإنسان أحياناً ملك الله عز وجل.
الأمر بكل تفاصيله وأصوله بيد الله عز وجل :
في مثلٍ أبلغ يقول الله عز وجل:
﴿ سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلَّىٰهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ ٱلَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا ۚ قُل لِّلَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ ۚ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٍۢ مُّسْتَقِيمٍ (142) ﴾
وصفهم الله بأنهم سفهاء، وسوف يقولون كذا وكذا، لو أنهم صمتوا لأبطلوا الآية، الأمر بيد الله، الأمر بكل تفاصيله وأصوله بيد الله عز وجل، فالله عز وجل يقـول:
الإنسان سيد هذا الكون لأنه قَبِل حمل الأمانة من بين كل المخلوقات :
أيها الأخوة: ﴿ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ ﴾ بدأ هو بحبهم لأنه رحيم، لأنه خلق الخلق ليسعدهم، وبعضهم قال: علم أنهم سيحبونه فأحبهم سلفاً، لكن المعنى الدقيق أن الله سبحانه وتعالى لأنه ذات كاملة خلق خلقاً ليسعدهم، أما إذا قلت لي: الناس في شقاء، هذا شيء واقع، هذا الشقاء من صنع أنفسهم، لأنهم مخيرون، ولا بد لاختيارهم أن يأخذ أبعاده.
﴿
لأن الإنسان قبل حمل الأمانة من بين كل المخلوقات كان سيد هذا الكون، كان المخلوق الأول، لذلك تكريماً له سخر الله له ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه، الإنسان مكرم، وهو المخلوق الأول لأنه قبل حمل الأمانة، والأمانة نفسه التي بين جنبيه، ومن لوازم حمل الأمانة أن الله جعله مخيراً، صاحب اختيار، صاحب إرادة، فإذا أراد الدنيا وأراد الشهوات، وأراد البغي والعدوان، فله ذلك، فالله يبعث له الأنبياء، وينزل عليهم الكتب، ويهيئ الدعاة.
﴿ وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلظَّٰلِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍۢ كَٱلْمُهْلِ يَشْوِى ٱلْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقًا (29) ﴾
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) ﴾
للحب معنيان عقلي وعاطفي :
أما لماذا يوقع الله المصائب بالعباد؟ هذا معنىً آخر، لأن الله سبحانه وتعالى إنما يسوق هذه الشدائد لعباده كي يعودوا إليه، كي يصطلحوا معه، كي يقبلوا عليه، كي يتوبوا إليه، كي يسعدوا بقربه في الدنيا والآخرة، أرأيت إلى هذه المركبة، ما علة صنعها؟ علة صنعها السير، لماذا فيها مكبح شديد؟ والمكبح يتناقض مع علة صنعها، ضمان لسلامتها، الإنسان خلق للسعادة، لماذا الفقر؟ لماذا المرض؟ لماذا الخوف؟ من أجل أن تكون هذه المصائب التي تأتي في الدنيا حائلاً بين الإنسان وبين الشقاء الأبدي، قال تعالى:
﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) ﴾
أيها الأخوة، الحب له معنيان؛ له معنى عقلي، وله معنى عاطفي، إنسان مريض ومرضه يقلقه ويؤلمه، ذهب إلى طبيب متفوق وصف له دواء، دواء مراً، هذا الدواء لم يجده، بحث عنه في كل مكان، سافر إلى بلد مجاور، وأتى بهذا الدواء، وهو سعيد أكبر السعادة بأنه حصل على هذا الدواء، وهو مر، لماذا أحب هذا الدواء؟ هذا حب عقلي، لا حب عاطفي، الإنسان يحب الطعام الطيب، يحب الشراب اللذيذ، يحب الأكلة الفاخرة، لا يحب دواءً مراً، هذا حب عقلي، فالإنسان يحب الله يبدأ حب الله في قلبه عقلياً، هو الذي خلقني أمري بيده، مصيري إليه، هو المسير، هو المربي، هو الواحد، بيده مقاليد السماوات والأرض، بيده من فوقي، بيده من تحتي، بيده من معي، بيده صحتي، بيده رزقي، فكلما أيقن أن الله بيده كل شيء، وأنه وحده هو المعطي والمانع، والرافع والخافض، والمعز والمذل، يحبه حباً عقلياً بادئ ذي بدء، فإذا أحبه حباً عقلياً وأطاعه، وبعد أن أطاعه أقبل عليه فأحبه حباً عاطفياً، عندئذٍ يقول:
فليتك تحلو والحياة مـــريرة وليتك ترضى و الأنــام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عـامر وبيني وبين العالمين خـــراب
وليت شرابي من ودادك سائـغ وشربي من ماء الفرات سراب
إذا صح منك الوصل فالكل هين وكل الذي فوق التراب تـــراب
* * *
الإنسان لا يسعد إلا إذا أحب اختياراً :
يبدأ الإنسان من محبة الله بعقله، يفكر في خلق السماوات والأرض، يفكر في طعامه وشرابه، يفكر مما خلق، يفكر في الإبل كيف خلقت، في السماء كيف رفعت، في الجبال كيف نصبت، ويفكر في الفجر وليال عشر، في الشمس وضحاها، يفكر في ذاته، في أقرب الناس إليه، أقرب شيء إليه، فيعظم الله عز وجل، ويحمله تعظيمه على طاعته، وحينما يطيعه، ويقبل عليه، ويذوق طعم القرب منه فيحبه.
فلو شاهدت عيناك من حسننا الذي رأوه لـما وليت عنا لغيــرنا
ولو سمعت أذناك حسن خـطابنا خلعت عنك ثياب العجب وجـئتنا
ولو ذقت من طعم المــحبة ذرة عذرت الذي أضحى قتيلاً بحـبنا
ولو نسمت من قربنا لك نســمة لـمـت غريباً و اشتياقاً لقربنا
فما حبنا سهل وكل من ادعــى سهولته قلنا له: قد جهــلتنا
* * *
أيها الأخوة، المعنى الأول: أن الله أحبهم لأنه أراد أن يسعدهم، ولأن الله ذات كاملة، وهم أحبوه لأنه أكرمهم، منحهم نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، ونعمة الهدى والرشاد.
المعنى الثاني: إنه أحبهم حينما خلقهم، وحينما أمدهم، وحينما هداهم إليه، هم إذا استجابوا له، وأقبلوا عليه، واصطبغوا بصبغته يحبهم محبة ثانية، محبة الإيجاد، ومحبة الطاعة، والإخلاص، والوفاء، والكمال، لذلك هذا الدين مبني على الحب، لو أن الله أراد من الناس أن يطيعوه قسراً لجعلهم يطيعونه، لكن هذه الطاعة القسرية لا يمكن أن تكون مسعدة لهم إطلاقاً، الإنسان لا يسعد إلا إذا أحب اختياراً، أما إذا ألزم أن يحب هذا الحب لا قيمة له، إنه شكل بلا مضمون، وقشر بلا لب. لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
(( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه ـ وفي رواية ـ من ماله وولده وأهله ونفسه ))
ما من دعوة ضالة مضلة من بعثة النبي إلى يوم القيامة إلا وفيها خصائص :
سيدنا عمر كان صريحاً مع رسول الله، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن هِشَامٍ قَالَ:
(( كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الْآنَ، وَاللَّهِ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْآنَ يَا عُمَرُ))
لا بد للإنسان أن يشعر بحب لله عز وجل، وحب مشتق من حبه لله، أن يحب المؤمنين والصالحين، وأن يحب خلق الله أجمعين، فهو فقير لأصل من أصول الدين.
سؤال دقيق أيها الأخوة، هذا السؤال يلزمنا أن نفهم جوابه، هؤلاء الذين ارتدوا، وادعوا النبوة، ألم يطالبوا بالدليل؟ النبي معه معجزات، لماذا لم يطالبوا بالدليل، ولماذا آمن الذين آمنوا بهم من دون دليل؟ الجواب بسيط جداً: لأنهم لم يأتوا بمنهج، بل خففوا المنهج، الذين ارتدوا، وادعوا النبوة ألغوا الصلاة، والشيء الطريف جداً أن بعضهم ألغى الصلاة، وألغى الصيام، وسمح لأتباعه أن يرى نساء بعضهم الآخر، أي وضع يده على شهواتهم، خفف التكاليف عنهم، لذلك ما من دعوة ضالة مضلة من بعثة النبي إلى يوم القيامة إلا وفيها خصائص، منها تأليه الأشخاص، أما في الدين فالتعظيم للمنهج.
﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) ﴾
﴿ وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً(74) إِذًا لَّأَذَقْنَٰكَ ضِعْفَ ٱلْحَيَوٰةِ وَضِعْفَ ٱلْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا(75) ﴾
في المنهج الإلهي التعظيم للمنهج أما في منهج أهل الأرض فالتعظيم للشخص :
في المنهج الإلهي التعظيم للمنهج، أما في منهج أهل الأرض فالتعظيم للشخص، لذلك المنهج يكبر فيصغر الشخص.
﴿ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ ٱلرُّسُلِ وَمَآ أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلَا بِكُمْ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰٓ إِلَىَّ وَمَآ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (15) ﴾
﴿
﴿
﴿
﴿ وَلَآ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآئِنُ ٱللَّهِ
﴿ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) ﴾
كلما كبر المنهج صغر الإنسان وكلما كبر الإنسان صغر المنهج :
كلما كبر المنهج صغر الإنسان، وكلما كبر الإنسان صغر المنهج، لذلك حينما يأتي نبي كريم، ويأتي بمنهج قويم، هذا المنهج يحد من شهوات الناس، ومن طغيانهم، ومن تعدياتهم، ومن انحرافهم، ومن اتباعهم لشهواتهم، لذلك يطالب النبي بالدليل.
﴿
تأتي المعجزة كدليل، أما حينما يأتي إنسان، ويبيح الاختلاط، ويبيح النساء من دون قيد أو شرط، وانتمِ إلينا، وافعل ما تشاء، أعلن انتماءك وافعل ما تشاء، لذلك أتباع مثل هذه الديانات يعدون بمئات الملايين، ليس فيها جهد، ولا تكليف، ولا افعل ولا تفعل، افعل ما تشاء، أعلن انتماءك إلينا، وانتهى الأمر، فلذلك هؤلاء المشعوذون الذين ادعوا النبوة لم يطالبوا بالدليل، لأنهم تملقوا لأتباعهم بتخفيف التكاليف، لذلك جميع الدعوات الضالة من بعثة النبي إلى يوم القيامة تتسم بتأليه الأشخاص، وتخفيف التكاليف، واعتماد النصوص الموضوعة والكاذبة، والنزعة العدوانية، ولا تجد دعوة ضالة مضلة من بعثة النبي إلى يوم القيامة إلا وتعتمد على تأليه الأشخاص، وتخفيف التكاليف، واعتماد النصوص الموضوعة والكاذبة، واعتماد النزعة العدوانية، ولا تجد فئة صادقة مؤمنة مخلصة إلا وتتبع ولا تبتدع، إلا وتعظم المنهج ولا تعظم الأشخاص، إلا وتعتمد النص الصحيح، وذات سجية سلمية ليس هناك عدوان ولا طغيان.
المعنى التوحيدي والمعنى التكتيكي لنصرة الضعيف :
هناك ذل ضد العز، وهناك ذل ضد القسوة، شيء مذلل أي لين مطواع، شيء ذليل ليس بعزيز:
(( ابغوني ضُعَفاءَكم ،
هذا الضعيف الذي تملك أن تسحقه فأكرمته، هذا الضعيف الذي تملك أن تحرمه فلم تحرمه، هذا الضعيف الذي تملك أن تهينه فأكرمته، أعطيته حقه، أكرمته كرّمته، يكافئك الله على هذا العمل الطيب أنه ينصرك على من هو أقوى منك:
الكافر يتجبر على الضعيف ويذل أمام القوي لأنه مقطوع عن الله :
أيها الأخوة الكرام: هؤلاء المؤمنون:
طائرة من أحدث الطائرات في العالم، وإصابتها مئة في المئة، وقد تلقي بقنبلة لا تصل إلى الأرض، بل تقتل كل من حول هذا الإنسان، ثم يشرف هذا الطاغية بنفسه على اغتيال هذا الإنسان، ما هذا النصر؟ النصر على من؟ على إنسان في السبعين، قعيد الكرسي، معاق، يرى بعين واحدة، مصاب بالشلل، هل هذا نصر؟ هذا نصر هذا؟ سبحان الله قلبت الموازين، البطولة أن تقابل مثيلاً لك، قوة عظيمة كقوة هذا الجيش، أما أن تضرب، وأن يشرف هذا الطاغية بنفسه على اغتيال هذا الإنسان، إنسان قعيد الكرسي معاق في السبعين من عمره، هل هذا هو النصر؟ لذلك الكافر يتجبر على الضعيف، ويذل أمام القوي، وكل إنسان مقطوع عن الله يتصرف بلؤم ما بعده لؤم.
والله واللهِ مرتين لحفر بئرين بإبرتين، وكنس أرض الحجاز بريشتين، ونقل بحرين بمنخلين، وغسل عبدين أسودين حتى يصيرا أبيضين، أهون علي من طلب حاجة من لئيم لوفاء دين
إذا كان عملك وفق المنهج الإلهي ووفق الضوابط الشرعية فلا تعبأ بكلام الناس :
الكريم يرحم من دونه، ويقف في وجه من فوقه، لا تأخذه في الله لومة لائم، واللئيم يسحق من دونه، ويذل لمن فوقه:
﴿
إذا لم تستحِ فاصنع ما تشاء، إذا لم تستح من الله، إذا كان عملك وفق المنهج الإلهي، وفق الضوابط الشرعية فلا تعبأ بكلام الناس
والحمد لله رب العالمين