- الفقه الإسلامي
- /
- ٠3موضوعات متفرقة
الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا و زدنا علماً ، و أرنا الحق حقاً و ارزقنا اتباعه ، و أرنا الباطل باطلاً و ارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
بقاء المرأة في بيتها نظام اجتماعي أمثل تنتظم به الحياة :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ وصلنا في هذه الموضوعات إلى موضوع التبرج .
التبرج إظهار ما يجب إخفاؤه ، إظهار محاسن المرأة التي أمر الله بإخفائها ، الآية القرآنية التي تتحدث عن التبرج قوله تعالى :
﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾
بهذه الآية أسئلة كثيرة ، أول شيء حينما يذكر الله عز وجل شيئاً في كتابه الكريم فمعنى ذلك أن هذا الشيء أساسي في سلامة المرء وسعادته في الدنيا والآخرة .
لا يظن بعض الناس أن الله عز وجل ذكر آية في القرآن الكريم فيها توجيه اجتماعي أن هذه الآية من الثانويات ، ما دام الله عز وجل قال :
﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ﴾
معنى ذلك أن بقاء المرأة في بيتها نظام اجتماعي أمثل تنتظم به الحياة ويسعد به الرجال ، وتسعد به النساء ، ويسعد الناس في الدنيا والآخرة .
المرأة إذا خرجت من بيتها ، وخالطت الرجال سببت فساداً كبيراً . لأن المرأة محببة إلى الرجال هذه فطرة ، قال تعالى :
﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ﴾
كيف أن البارود يشتعل بالنار ، من خصائص هذه المادة اشتعالها بالنار ، فإذا منعت النار عن البارود فهذا مبني على علم كبير ، ربنا عز وجل قال :
﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ﴾
فلما خرجت ابنتا سيدنا شعيب عليه على نبينا أفضل الصلاة والسلام لسقي الغنم قالتا :
﴿قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ﴾
أي ما خرجنا إلا لسبب قاهر ، أما من غير سبب قاهر فينبغي أن تبقى المرأة في بيتها ، وليس معنى ذلك أن تبقى جاهلة ، بعض الجهلة يقرن بين بقاء المرأة في بيتها وبين الجهل ، يجب أن تبقى في بيتها وهي في قمة الفهم ، والتأدب بأخلاق الإسلام والتفقه في الدين وفهم كتاب الله ، واتباع سنة رسول الله ، قربنا عز وجل يقول :
﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ﴾
لا حاجة إلى التفصيل لأن كلكم تعرفون ذلك ، ولو أن امرأة متبرجة تعمل في مكان، يراها الرجال كل يوم ، وكل ساعة ، الرجال على أنواع ، بعضهم كالذئب ، بعضهم كالثعلب ، بعضهم يشتهي ما ليس عنده ، هذا شيء طبيعي أن يتقرب الرجال إليها ، فإذا تقرب الرجال إليها شعرت بقيمتها ، وبخطورة جمالها في الحياة ، لذلك تستعلي على زوجها في البيت، تفسد علاقتها مع زوجها ، وتفسد علاقة الأزواج مع زوجاتهم ، وتحتل مكان رجل لو عُين مكانها لتزوج ، إذاً عطلت مكاناً لرجل ، وعطلت زواجاً لأنثى ، ورزقها مضمون على أبيها أو على زوجها ، هذا نظام الإسلام . فربنا عز وجل حينما قال :
﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ﴾
أي النظام الأمثل أن تتفرغ المرأة لرعاية زوجها وأولادها ، وأن تكون عالمة لأمر دينها وحقوق زوجها .
﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ﴾
العلاقة بين الآيتين التاليتين:
السؤال الدقيق : لماذا قرن الله عز وجل بين أمره الشريف العظيم
﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ﴾
- وبين نهيه الآخر - :
﴿ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾
لماذا قرنهما مع بعضهما ؟ الأصل أن تبقى المرأة في البيت . يا بنيتي يا فاطمة - هكذا قال عليه الصلاة والسلام - ما خير ما تفعله المرأة ؟ قالت : ألا ترى وألا تُرى .
(( صَلاةُ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلاتِهَا فِي حُجْرَتِهَا ، وَصَلاتُهَا فِي مَخْدَعِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلاتِهَا فِي بَيْتِهَا ))
الدار مجمل الغرف مع الساحة الثانوية ، مع الفناء ، أما البيت فالغرفة ، " وصلاتها في قعر بيتها خير من صلاتها في بيتها " . إذا في غرفتين ، غرفة مطلة على فناء الدار ، وغرفة داخلية ، لأن المرأة كلها فتنة ، صوتها فتنة ، حركتها ، مشيتها .
﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ﴾
ما علاقة النهي الثاني ؟ فإذا خرجتن لأمر ضروري لا تبرجن ، إذا قلنا لإنسان : لا تأكل أكل النهم ، فهل نحن ننهاه عن الأكل ؟ لا . لا تقوموا لي كما يقوم الأعاجم ، الأعاجم يقومون تعظيماً لملوكهم ، أما إذا قام الصحابة الكرام لنبيهم فهذا التعظيم ليس لذاته ، بل لحقيقته العظمى ، إذاً النهي ليس نهياً مطلقاً .
﴿ وَلَا تَبَرَّجْنَ ﴾
المرأة لابد من أن تتبرج لزوجها ، فإذا تركت التبرج لزوجها أثمت ، لأنها إذا تبرجت لزوجها كان تبرجها لزوجها أغض لبصره ، وأحصن لنفسه ، لكن المرأة غير المسلمة تتبرج لغير زوجها ، للأجانب في الطرقات ، تظهر مفاتنها لمن ليس له علاقة بها ، تبرز مفاتنها لمن لا يجوز له أن يرى مفاتنها ، تبرز مفاتنها فتفسد علاقة الأزواج بزوجاتهم ، أو تفسد علاقة الشباب بربهم ، أو تفسد علاقة المجتمع بعضه ببعض .
﴿ وَلَا تَبَرَّجْنَ ﴾
أي هذه الفتنة ، هذا الجمال الذي منحه الله للمرأة ، حينما منحه إياها من أجل أن يكون عوناً لها على أن يحبها زوجها ، من أجل الوفاق الزوجي ، أي المرأة محببة ، لو أنها تقوم بتربية الأولاد وتقوم بالوضع ، وبالحمل ، وبالرضاع ، وبالخدمة ، وبالطبخ وليس لها شكل مقبول ، لم تستقم الحياة الزوجية ، لكن الله سبحانه وتعالى جعل لها هذا الشكل المحبب وقال :
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ﴾
من أجل أن تكون الألفة بينهما :
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾
هذه مودة ، تأتي من أنها محببة للرجل ، هذا الشيء الذي منحه الله إياه لعلة واضحة ، إذا استخدمت لغير ما خلقت له فقد فسدت وأفسدت .
على المرأة صون عرضها و عفافها لأن هذا أثمن ما تملك :
﴿ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾
في الجاهلية كانت النساء تتبرج لا بقصد إرضاء أزواجهن ، بل بقصد إبراز مفاتنهن، لذلك هذه تصل في تفرغ المرأة لزوجها ، وفي صونها لنفسها ، وأثمن ما تملك المرأة شرفها وعرضها وعفافها ، فإذا عرضت هذا الشيء الثمين لأنظار الناس كلهم فقد أثارت حولها الذئاب ، الجوهرة المكنونة توضع في علبة مخملية ، وفي صندوق ، أما الشيء التافه الذي لا قيمة له فتراه ملقياً في الطريق .
﴿ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾
من الكلمة الأولى يُفهم أن هناك جاهلية أمر وأدهى سوف تأتي في آخر الزمان .
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ﴾
أكثر المفسرين فسروا هذه الآية أن الجلباب يجب أن يستر جسد المرأة كله ، من رأسها إلى أخمصها ، هذا هو الجلباب ، وسُمح أن تبقى عين واحدة مكشوفة كي ترى طريقها.
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ﴾
والآن هات لي واحدة لا يرى الناس وجهها ، لا يستطيع أحد مهما بلغ فسقه أن يسمعها كلمة في الطريق ، ولا أن يتحرش بها ، ولا أن يصف شكلها ، ولا أن يتكلم كلاماً يؤذيها، لأنه لا يراها ، فإذا بدا الوجه ، وهو موطن الفتنة في المرأة كانت التعليقات ، إن كان فاتناً علق الناس تعليقاً خاصاً ، فإن لم يعلقوا أضمروا في نفوسهم ما لا تُحمد عقباه ، وإن نظروا وكان في الوجه دمامة تكلموا بكلمات تعقد هذه المرأة ، لذلك قال الله عزوجل :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ﴾
معنى المرأة التي تظهر مفاتنها قد تؤذي ، وقد تؤذى ، تؤذي بإثارة الشهوات وقد تؤذى ببعض الكلمات التي تجرح شعورها إن بقي عندها شعور .
على كلٍّ الآية الثانية :
﴿ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ﴾
المفسرون قالوا : الذي يظهر من زينة المرأة طولها ، هل تستطيع أن تخفي طولها؟ كونها ممتلئة الجسم أو نحيلة ؟ هذا شيء لا تستطيع أن تخفيه ، لذلك الآية الكريمة :
﴿ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ﴾
أما الوجه لو أن الوجه مستثنى من هذه الآية إلا ما أظهرن ، بيدها أن تظهره أو لا تظهره ، أما إلا ما ظهر ليس إلا ما أظهرن منها ، الوجه إلا ما أظهرنا ، والمعصم إلا ما أظهرن ، والرقبة إلا ما أظهرن ، كل هذه الأعضاء يمكن سترها ، إلا ما ظهر من دون قصد، ومن دون إرادة ، ومن دون إمكان ، إلا ما ظهر منها ، قالوا : طولها ، وقالوا : ثيابها.
ابتعاد المرأة عن التبرج :
﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ﴾
الجيب فتحة الصدر ، يضربن بخمورهن ، والخمار الرداء التي تختمر به المرأة، والخمر تستر عقل الإنسان ، والخمار يستر المرأة ولتضرب خمارها على جيبها مروراً بوجهها .
﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول :
(( يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح لها أن يُرى منها ))
أي المرأة إذا بلغت سن البلوغ لا ينبغي أن يراها الأجنبي لأنه إذا رآها زرعت الشهوة في قلبه ، يقول عليه الصلاة والسلام :
((... إن المرأة إذا أقبلت أقبلت في صورة شيطان ...))
أي إذا رأيتها مقبلة بزينتها حركت الشهوة ، وإذا رأيتها مدبرة حركت الشهوة لذلك قال عليه الصلاة والسلام :
(( مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً هِيَ أَضَرُّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ ))
ويقول عليه الصلاة والسلام :
(( صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا ))
أي الثوب إذا شفّ عن لون الجلد فهذا ليس بثوب ، إنها بهذه الثياب كاسية عارية، أي القماش الرقيق الذي يظهر ملامح الجسد يدخل بهذا الحديث كاسية عارية ، والثياب الثخينة إذا كانت ضيقة فوصفت حجم العضو كاسية عارية .
((.....كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا ))
كيف أفهم أن امرأة مؤمنة تظهر مفاتنها للأجنبي ؟ إيمانها بقلبها كبير ، لا تدع الصلاة ، أي غطاء رأسها في محفظتها ، لكن مضطرة ، هذا كلام مرفوض ، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .
أب سأل بناته ، لماذا أنتن متحجبات ؟ فأجابت كل فتاة كلمة بحسب مستواها قالت إحداهن : لأن الله أمر بذلك ، وقالت أخرى : لأنني بهذا أرضي الله عز وجل ، وقالت ثالثة : أنا متحجبة لئلا أؤذي عباد الله .
شاب في مقتبل حياته ، ملتهب ، إذا رأى فتاة وكان منظرها مثيراً لشهوته ، ماذا يصنع بنفسه ؟ جاهل ، ليس له مجلس علم يعلمه غض البصر ، ليس له أستاذ يعلمه الدين الصحيح ، ليس له تعلق بالآخرة ، سيفسق ، سينحرف ، سوف يبتغي وراء ذلك ، هي شريفة ما جرؤ على التكلم معها ، ولا تكلم معها ، ونظرها في الأرض ، ولكن زرعت الفتنة في نفسه.
إذا لبست المرأة لباساً حديثاً وفق أحدث الموضات ، معنى ذلك أنها تدعو الناس إلى النظر إليها ، تدعو الناس إلى التهامها بعيونهم ، وتقول إنها شريفة ، أين شرفها ؟ لو أنها شريفة لحجبت مفاتنها عن الذئاب . أقول الذئاب بالذات .
مثل مضحك ، إذا رجل ركب سيارة عامة ترى أبوابها مخلوعة لها وضع خاص هذه عامة ، أما السيارة الخاصة فمنتظمة ، أيضاً المرأة لما تظهر مفاتنها صارت عمومي ليست خصوصي ، مستهلكة من الجميع ، يستمتع بها الجميع ، ولا شأن لها عند الله عز وجل أما هذه المرأة التي خلقها لتكون لزوجها ، فعندئذ يرزقها الله بهاءً إلى أمد طويل ، سبحان الله المرأة التي تصون نفسها بالخمسينات مشرقة ، والتي يراها الأجنبي صباحاً ومساءً بسن مبكرة يذهب رونقها ، ويذهب جمالها لأنها استهلكت ، استهلكت وأهلكت .
الحياة السليمة أساسها تطبيق لكتاب الله :
وعن موسى بن يسار رضي الله عنه قالت : " مرت بأبي هريرة امرأة وريحها تعصف - الآن أين ما مشيت ، على بعد ثلاثة أمتار تشم رائحة المرأة ، أي يدفع الناس على العطورات مبالغ طائلة ، النساء في الطريق ، إذا كان الرجل غير منتبه يشم رائحة نسائية فينظر طبعاً أهل الدنيا . فسيدنا أبو هريرة مر بامرأة وريحها تعصف ، فقال لها : أين تريدين يا أمة ؟ قالت إلى المسجد ، فقال : وتتطيبين ؟ قالت نعم ، قال : فارجعي فاغتسلي ..أي إذا خرجت المرأة متعطرة خرجت زانية ، قال : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
((لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ مِنِ امْرَأَةٍ صَلاَةً خَرَجَتْ إِلَى الْمَسْجِدِ وَرِيحُهَا تَعْصِفُ ، حَتَّى تَرْجِعَ فَتَغْتَسِلَ ))
الموضوع حساس ودقيق ، وكل منا يعرف أبعاده ، ويعرف كم من طلاق تم بسبب الاختلاط ، كم من شقاء وقع في بيت بسبب التبرج ، كم من انحراف وقع من زوج أو من زوجة بسبب ذلك .
أحياناً في هذا المسجد تأتيني مشكلات ، شيء لا يُذكر ، إنسان غائب عن زوجته دخلت إلى بيت الجار في غيبته ، طبعاً هناك إهمال للشرع ، هذا الشرع إذا طبقته كان وقاية لك من المشكلات ، ومن المفاجآت ، ومن الأمور التي لا تحتملها ، فإذا أطلقته ، ولم تكن عالماً بمضار الاختلاط نلت فوق ما تستطيع ..
رجل والله في هذا المسجد ، القصة من ثماني سنوات، بعدما انتهت خطبة الجمعة قال لي سؤالاً : قال : والله زوجتي وجدتها مع رجل ، قلت : له ما السبب ؟ قال لي : جارنا دخل إليّ ، زارني ، فقلت لا : فلان مثل أخيك هات القهوة ، هذا جاهل بما يكون من عواقب الاختلاط . الإنسان الذي يحب نفسه ويحب أن يمضي عمراً مع زوجته في اطمئنان ودعة ، واطمئنان إلى أخلاقها ، وإلى استقامتها ووفائها ، لا يعرض نفسه إلى مهالك بسبب جهله بالدين.
إنسان آخر دعا زوجته إلى العمل خارج المنزل ، بوظيفة حساسة لها علاقة بضرائب معينة، جاءتها الهدايا ، جاءتها المبالغ ، اشترت بيتاً آخر ، غابت عن البيت ، استعلت على زوجها ، بعد ذلك شعر أن على نفسها جنت براقش ، تركته بعد ذلك ، من هو أمام من هو معجب بها ، وبقيمتها ، وبدخلها .
أحدهم نفخ قربة وركب فيها بالنهر ، في منتصف الطريق نفست فغرق ، فقال له بعضهم : يداك أوكتا وفوك ونفخ ، أي ربطتا ، هذا من صنعك .
تسمعه أحياناً يقول لزوجته : يجب أن تظهري على إخوتي كلهم من دون شيء هؤلاء إخوتي . هل هذه آية أم حديث ؟ من أين أتيت بها ؟ جهل .
أحياناً الأهل يشترطون على الزوج أن ابنتهم تختلط مع أخوة زوجها شرطاً ، لا تعمل لنا تفرقة في العائلة ، نحن ربينا سوية ، شيء جميل ما هذه العادات ؟
صنف آخر ، أن فلانة ربيتها ، أين هي ؟ صارت زوجة ، يجب ألا تحجبها عني أنا مربيها ، ما هذا الكلام ؟ كلام جهل ، وترى مضاعفات ، وانحرافات ، وغمز ، ولمز ، ويفاجئون بعضهم بأوضاع غير سليمة ، ويشتكون من بعضهم ، ويخونون بعضهم ، وتصير عداوات . هذه كلها منافذ الشيطان .
فإذا أردت أن تحيا سليماً من هذه الآفات فطبق كتاب الله .
إذا اشترى رجل سيارة ، معها نشرة بالعربية ، مرة قرأتها بكاملها هي من ستين أو سبعين صفحة تقريباً ، متى يجب أن تضع الزيت ، كيف تمسح البلور ، إذا مستحته من دون ماء ينجرح ، لابد أن تفحصها كل فترة من أسفلها لتزفيتها ، وإلا تهترئ ، وجدت أشياء ضرورية جداً . من أفهم جهة تعطيك النصائح الصحيحة في صيانة السيارات ؟ المعمل . أما إذا سألت رجلاً ليس له علاقة بالمصلحة إطلاقاً فيعطيك نصائح غير صحيحة ، يقول لك : لا تحميها صباحاً فوراً امش لا يوجد وقت . غير فهمان .
فالإنسان حينما يتلقى النصائح بأمور حياته من جهات غير خبيرة يدفع الثمن ، أما إذا تلقى النصيحة من خبير :
﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾
نحن من خلقه ، وهذا الكتاب القرآن الكريم هو دستورنا في الحياة تخالفه فتدفع الثمن .
علاقة المعصية بنتائجها علاقة علمية :
كنت أقول دائماً : إن الإنسان إذا لمس مدفأة تحترق يده ، العلاقة بين لمسها واحتراق اليد هذه علاقة سبب بنتيجة ، أي علاقة علمية ، أما إذا اشترى الأب دراجة لابنه الناجح هذه علاقة حكيمة ، الأب قال لابنه : إذا نجحت أشتري لك دراجة . هذه علاقة ليست بالضرورة، علاقة وضعها الأب ، فلما نجح الابن اشترى له دراجة .
علاقة المعصية بنتائجها علاقة علمية ، أي كل معصية فيها بذور نتائجها ، من دون تدخل من الله ، نفس المعصية . تيار ستة آلاف فولت ، يقول لك : خطر الموت ، أي ما من حاجة إذا مسكه إنسان يأتي آخر و يكتب له ضبطاً ويخالفه ، يموت لوحده منه ، من دون تدخل الدولة ، إذا إنسان مسك تياراً توتره عال وخالف اللوحة المرسوم عليها جمجمة وعظمتين ، ومسكه يصبح فحماً فوراً ، لا حاجة لأن يكتبه مخالفة ، ويحيلوه على القضاء ، ما من حاجة لذلك . مسك التيار نفسه يحول صاحبه فحماً فوراً ، يجب أن تفهم الدين هكذا ، الاختلاط يسبب خراب البيوت ، التبرج يسبب فساد العلاقة بين الأزواج كلهم ، كل معصية لله عز وجل تسبب فساد الحياة من دون تدخل من الله ، الله لا يعاقب أحداً ، عمل نظاماً دقيقاً ، تخالف فتقع . إذا رجل حرك المقود على اليمين فجأة وعلى اليمين واد ، هذا التحريك بحد ذاته فيه بذور الوقوع في الوادي ، هكذا الشرع ، لذلك أوامر الشرع ليست قيوداً للإنسان ولكنها ضمان لسلامته .
الحرام هو ما حرمه الله :
لا أقول من باب المبالغة إذا الإنسان أحب نفسه يستقيم على أمر الله ، يحب أن يعيش حياة هادئة مع زوجته يقول لك : والله عشت معها خمساً وأربعين سنة ما رأيت منها شيئاً أكرهه ، معناها أنت حصنتها وحصنت نفسك ، أما المفاجآت فلا يعلمها إلا الله .
لا أحب أن أخوض بهذه الموضوعات كثيراً لأنني سمعت قصصاً يقشعر منها البدن من الاختلاط . قال رجل لأستاذ في المدرسة : أخي عنده ثلاثة أولاد ، من كل أخ واحد، مني واحد ومن أخيه الثاني واحد ، ومنه واحد . اختلاط ، هذا أخي ، وإذا أخوك ؟ الحمو الموت.
الذي حرمه الله فهو حرام ، سبحان الله أرى عوائل لا أقول في قمة الجهل ، لا ، الجهل ليس له قمة ، بل في حضيض الجهل ، إذا أراد الشاب فيهم أن يطبق الشرع يقيمون عليه النكير ، لماذا ؟ من أين أتيت بهذا الدين ؟ هذا قرآن كريم ، حديث رسول الله ، ألا يعجبكم قرآن الله عز وجل :
﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾
و :
﴿ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوْ التَّابِعِينَ أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾
معدودون سبعة لا يوجد غيرهم . ابن عمها ليس وارداً ، أخي نحن هكذا تربينا . ابن خالتها غير وارد ، أخو زوجها غير وارد ، خال زوجها غير وارد ، فبذلك يخالفون الشرع ، وتقع المشكلات .
* * *
ارتقاء الإيمان يؤدي إلى صفاء النّفس :
والآن إلى بعض الأحاديث الشريفة التي درجنا قبل رمضان على شرحها بفضل الله وتوفيقه .
قد يكون الحق مراً ، أو الحق قاس على بعض الناس ، هذا الحق ونحن نقول: النسب النظامية بالكولسترول هكذا ، إذا أنت عندك نسبة عالية تقول : أنا لا أعاني من شيء ، فالإنسان إذا انحرف عن الشرع هذه حالة مرضية ، والعلاج حتمي فإما أن يعالج نفسه قبل أن يعالجه الله عز وجل ، حتمية المعالجة ، رحمة الله عز وجل تقتضي أن يعالج كل العباد .
يقول لك : نحن نخالف ولم يحدث معنا شيء ، هذا كلام فيه جهل أيضاً ، هناك أمراض دور حضانتها ثلاثون سنة وأمراض عشر سنوات ، وأمراض خمس سنوات ، إذا إنسان وضع في الأساسات خمسة أكياس بدلاً من سبعة ، ثم يقول لك : لم يحدث شيء ، نقول له : طول بالك .. هذا الحديث :
((لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ قَالَ قُلْتُ نَافَقَ حَنْظَلَةُ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَا تَقُولُ قَالَ قُلْتُ نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ فَنَسِينَا كَثِيرًا))
الإنسان كلما ارتقى إيمانه تصفُ نفسه ، يصبح يرى ما لا يراه الناس ، إذا كانت المطر ستهطل ، يجوز واحد من أهل الدنيا يقول : قالوا : اليوم ستنزل المطر ، انظر كم ميلي نزلت اليوم ، يأتي بباله مطر نزلت ، وكم ميلي ، وكان يجب ألا تنزل المطر لأنه يوجد عنده شيء من دون تغطية ، عنده إسمنت من دون تغطية ، هذا تفكيره ، يأتي المؤمن يرى المطر تنزل، يراها رحمة الله ، يرى يد الله تنزله ، يرى استجابة الله لعباده ، يخطر بباله معاني قد يبكي منها ، كل هذه المعاني لا تخطر في بال الكافر أبداً .
المؤمن يأكل فاكهة ، يرى الذي خلقها بهذا القوام ، بهذا الشكل ، بهذه الرائحة ، بهذا الطعم ، بهذا السعر ، بهذه الكمية ، بهذه الغزارة كانت تراباً ، بستان فيه أجاص ، وتفاح، وخوخ ، ومشمش ، أثمار متفاوتة في الأشكال والألوان والطعوم ، هذه حامضة ، وهذه حلوة ، هذه هلامية ، هذه قاسية ، هذه لها قشرة ، هذه ليس لها قشرة ، هذه شكلها كثمرة ، هذه شكلها مربع ، هذه شكلها كروي ، هذه شكلها دائري ، هذه كبيرة ، هذه صغيرة، يرى رحمة الله عز وجل ، لذلك المؤمن يرى ما لا يراه الناس ، لو كبر إيمانه أكثر يحس أن هذه المخلوقات تسبح الله عز وجل .
إذا إنسان رأى زهرة يقشعر بدنه أمامها ، كائن جميل خلقه الله ، تسبح بحمد الله ، تجنب أن يدوس على زهرة في الطريق ، إذا ارتقى أكثر ، كأنها تخاطبه ويخاطبها .
إنسان صالح بقي بالطعام رزة فأكلها ، قال : سمعتها تقول : رب لا تذرني فرداً وألحقني بالصالحين .
الله خلقها من أجلك أيها الإنسان ، لمَ تتركها هكذا هملاً ؟ خلقت من أجلك .
الأصل هو الدين :
كلما صفت نفس الإنسان يرى ويسمع ما لا يراه الناس وما لا يسمعون . الأنبياء ..
(( أعرف حجراً بمكة كان يسلم علي ))
دخل على بستان صلى الله عليه وسلم فرأى جملاً ، فلما رآه حن - بكى الجمل- فتقدم منه ، ومسح ذفريه ، وقال :
(( من صاحب هذا الجمل؟ قال فتى من الأنصار: هو لي يا رسول الله، قال له النبي الكريم: ألا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه))
لا تنكر على العلماء الكبار ، لا تنكر على العارفين بالله ، أحوالهم شفافية ، نفوسهم كشوفاتهم ، قل : الله أعلم .
أخي هل هذه : يا سارية الجبل الجبل ، أنت في مستوى سيدنا عمر ؟! . قال : أسمع صوت أمير المؤمنين يحذرني الجبل ، قال : يا سارية الجبل الجبل ..
إذا سمع الإنسان هذه الحادثة من عالم دكتور في الجامعة هذه حقيقة علمية .. كم نحن مخدرون ، دخل عندنا دكتور قال لنا : هذه الحادثة اسمها التخاطر النفسي ، النفس لا تزال كائناً مجهولاً ، لها شعاع .
هناك حادثة سجلها العلماء أن امرأة في إيطالية ابنها في باريس رأت وهي في المطبخ أن ابنها قد داسته سيارة ، رأته في عينها هذه اسمها أحلام اليقظة ، بعد أربعة أيام جاء ابنها بنعش مع تقرير بنفس الدقيقة ، قال : هذه حادثة علمية ثابتة اسمها التخاطر النفسي تفسيرها صعب ، عندما يقولها دكتور في الجامعة ساعتئذ يا سارية الجبل الجبل صحيحة ، إذا لم يقلها الدكتور فهي غير صحيحة ، هذا هو الجهل ، إذا كان شيء بالعلم يوافق الدين أقبله ؟ لا ، إذا كان الدين يوافق العلم تقبل الدين ، الأصل هو الدين ، الأصل ما جاء به كتاب الله .
أنواع الحقائق :
لذلك بعض العلماء قالوا : الحقائق نوعان ، حقائق تنحدر إلينا عن طريق الوحي للأنبياء ، وحقائق نكشفها عن طريق التجربة ، مصدرها واحد.
ربنا عز وجل قال : العسل فيه شفاء للناس ، كلام إله ، حقيقة ثابتة قطعية ، قد يكون العلماء كشفوا للعسل مليون فائدة ، وألفوا عنه كتباً ، هذا العلم جاءنا عن طريق التجربة، وكلمة فيه شفاء للناس هذا عن طريق الوحي ، العلم الذي جاءنا عن طريق التجربة علم ناقص أحياناً يعتريه الشك والخطأ والنسيان ، وأما العلم الذي جاءنا عن طريق الوحي فكامل مكمل . أي إذا مسكت مذياعاً ونزعت منه الصمام توقف الصوت ، قلت : هذا من أجل الصوت ، قد يكون الصمام على طريق الصوت من أجل شيء آخر ، أما إذا قال لك مخترع الجهاز : هذا الصمام من أجل ثلاثين فائدة هي كذا وكذا وكذا ، هذا علم كامل من مخترع الجهاز ، أما إذا نزعت الصمام ورأيت آثار نزعه فغاب الصوت قلت : هذا من أجل الصوت هذا علم ناقص ، قد يكون الصمام على طريق الصوت ، أما هو فمهمته تصفية الصوت لا إحداث الصوت ، فالعلم التجريبي علم له قيمته ولكن يبقى ناقصاً ، أما علم الأنبياء فكامل ، لما قال الله :
﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ﴾
الآن العلماء الأجانب يقترحون إنشاء جامعات للفتيات وجامعات للذكور في أمريكا نفسها ، وجدوا سبعاً وعشرين ألف لقيط في الحدائق ، هناك بلاد نصف سكانها بالقضاء . الآن الأجانب بدافع علمي بحت يقترحون أن تكون جامعات للفتيات وجامعات للذكور .
(( أعرف حجراً بمكة كان يسلم علي ))
يقول عليه الصلاة والسلام :
(( قَالَ : لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ ))
هذا تعليم لنا ، إياك أن تكون شاهداً على جور .
(( عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِي اللَّه عَنْهمَا قَالَ سَأَلَتْ أُمِّي أَبِي بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ لِي مِنْ مَالِهِ ثُمَّ بَدَا لَهُ فَوَهَبَهَا لِي فَقَالَتْ لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ بِيَدِي وَأَنَا غُلَامٌ فَأَتَى بِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إِنَّ أُمَّهُ بِنْتَ رَوَاحَةَ سَأَلَتْنِي بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ لِهَذَا قَالَ أَلَكَ وَلَدٌ سِوَاهُ قَالَ : نَعَمْ قَالَ فَأُرَاهُ قَالَ لَا تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ وَقَالَ أَبُو حَرِيزٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ ))
هذا جور . الأب العاقل المؤمن يعدل بين أولاده ، بصرف النظر عن فروقهم الفردية ، واحد بهلول ، واحد لا يوجد عنده إمكانيات يكون بهلولاً ، واحد قريب منه ، بعيد عنه ، واحد متزوج عنده غضبان على كنته لا يريد أن يعطيه شيئاً من الميراث ، واحد ليس متزوجاً بعد ، هذه كلها اعتبارات لا قيمة لها عند الشرع . هؤلاء جميعاً أولادك ، ساوِ بينهم في العطية ، قال له : إني لا أشهد على جور ، هذا جور .
يقول عليه الصلاة والسلام :
((إِنِّي لَأَدْخُلُ الصَّلَاةَ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُطِيلَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَاوَزُ فِي صَلَاتِي مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ))
كان عليه الصلاة والسلام حكيماً ، دخل في الصلاة وفي نيته أن يطيل الصلاة سمع بكاء الصغير وأمه تصلي خلف الصفوف ، فاقتصر من الصلاة رفقاً بهذه الأم التي تشفق على ابنها من البكاء . لذلك كان عليه الصلاة والسلام أخف الناس صلاة في تمام .
أي أحياناً تصير الصلاة عرض عضلات ، حافظ والله شيء جميل أما إذا كان لوحده وصلى عشر ساعات فلا مانع ، لكن مع الناس أحدهم لا يستطيع أن يقف كثيراً ، أي تحملك أن تقرأ نصف صفحة ، ثلاثة أرباع الصفحة ، خمس صفحات ، أما إذا كان في قيام ليل فهذا لحاله ، ليس له علاقة ، أما الصلاة العادية ، الصلوات الخمس ، فكان أخف الناس صلاة في تمام ، أي يؤدي خصائصها وأركانها وشروطها بالتمام والكمال مع خفة في الصلاة، أي نصف صفحة ، ثلاثة آيات ، أربع آيات ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( إِنِّي لَمْ أُؤمَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ ))
التأدب بآداب الإسلام :
أنت بعت صحوناً ، أخي هذه الصحون يا ترى يريد أن يضع فيها مستلزمات المشروب ؟ هذا ليس شغلك .
أنت بعت صحوناً ، صحون يوضع بها طعام ، هناك شخص يدقق بشكل مزعج .
الإنسان إذا دخل المسجد ، و رأى إماماً ، يسأل : أخي هذا الإمام ورع ؟ هذا ليس شغلك ، صلِّ وراء كل بر وفاجر . إذا تعرفه فاجراً سلفاً فلا تصلِّ وراءه ، أما دخلت إلى المسجد فصلّ من أجل وحدة الصف .
إنسان وضع لك طعاماً ، يا ترى هل ماله حلال ؟ إذا قلت له : مالك حلال يجوز أن ينفر منك ، إن قلت له : أنا لا أعرف هل دخلك حلال أم حرام ؟ يعمل معه تحقيقاُ من أجل لقمتين ، حل عنه لا يريد أن يطعمك .
النبي الكريم كان رقيقاً ، قال :
(( إِنِّي لَمْ أُؤمَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ ))
كان بعض الأصحاب مع سيدنا عمر في البادية ، وجدوا ماء يريدون أن يتوضؤون منه ، قال : يا صاحب الماء هل ترد الوحوش هذا الماء ؟ قال سيدنا عمر : يا صاحب الماء لا تخبرنا ، أي ماء موجود ، ونظيف ، وطاهر ، إذا كنت تريد أن تتبع الأمور لأقصاها صار هذا تعنتاً .
الإنسان يجب أن يتأدب بأدب الإسلام ، هناك شخص يحل غلاظته على الناس باسم الدين ، أنا من أجل أن أتحقق ، من أجل أن أدقق وأتقصى الحلال ، أنت تقصى الحلال بشكل لطيف ليس بشكل مزعج للناس ، لئلا يكره الناس دينك .
إنسان اضطر أن يصافح شخصاً مشركاً ، هو مسك العباءة وصافحه قال: هذا مشرك نجس ، هذه ليس لباقة أن تصافحه بالعباءة ، ليست نجاسة عينية ، نجاسة حكمية ، قد يكون منذ قليل كان في الحمام غسل بصابون معطر ووضع عطراً على يديه ، ليس يديه النجسة، بل تصرفاته نجسة .
﴿ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ﴾
لا يصافحه إلا بالعباءة ، هذا مما ينفر الناس من الدين .
مرة أحدهم قال لي : ضع لي عندك هذا الغرض ، كتبت عليه السيد فلان ، هو ليس مسلماً بل نصرانياً ، قيل لي : كيف تقول عنه سيد ؟ كان سيعمل لي مشكلة ، قلت له : أنا أقصد السيد هو الذئب ، وجمعه أسياد فسكت . نفدت منه بهذا التوجيه . يكون هو له عمل أسوأ منه ، لكنه تزين بالباطل ، المسلم إذا لم يكن ورعاً مستقيماً ما هذه الادعاءات الكاذبة ؟
(( إني لا أصافح النساء ))
تراه يصافح معظم الناس وضحكته ظاهرة ، ويشد على يدها من باب المودة وهي أجنبية عنه .
إني لا أصافح النساء ، يقولون عنه : جلف ، لا يوجد عنده لباقة ، عند الله مكرم. إني لا أقبل هدية مشرك ، بعض الأشخاص يقبلون أية هدية ، إن كانت من مشرك لها معانٍ كثيرة ، لكن هناك استثناءات قليلة ، إذا كان هذا المشرك فيه نواة طيبة ، ويُرجى له الصلاح وقبلتها تأليفاً لقلبه ، فالنبي فعل هذا حينما قبل مارية القبطية من المقوقس ، أما للأفراد فلا يجوز ، فإذا فعلوها فقد خالفوا هذا الحديث الشريف . لا تصح إلا من أنبياء أو ممن بيدهم ولاية الأمور ، أما من أفراد فتقبل هدية من مشرك معنى ذلك كأنها رشوة ، أي خذها واسكت. فالإنسان إذا جاءه خير عن طريق مشرك ، أو كافر يميل نحوه ، إذا مال قلبه إلى مشرك تنتقل له أحواله ، شهواته ، دناءته ، ميوله المرضية ، هذا كله يأتيه عن طريق العدوى ، من أحبّ قوماً فهو معهم . كل نفس تُحشر على هواها ، فمن هوي الكفرة حشر معهم ولا ينفعه علمه شيئاً.
(( إني وإن داعبتكم فلا أقول إلا حقاً ))
هناك مزاح غليظ يسبب جلطة أحياناً ، يسبب طلاقاً ، أحدهم خطب امرأة قيل له هذه ليست من مستواك ، ففي اليوم الثاني طلقها ، بعد أسبوعين قال له : ماذا صنعت ؟ قال له: والله كنت أمزح معك مزاحاً . كان قد طلقها وانتهى ، هذا المزاح مدمر . " إني وإن داعبتكم فلا أقول إلا حقاً " .
معناها المداعبة والمزاح مستحب من المؤمن ، لكن المزاح الذي لا يخدش حياء إنسان ، ولا يجرح إنسان ، أي له شروط كثيرة جداً ، مطلق المزاح غير مطلوب .
من كثر مزاحه استخف به ، إياك وكثرة الضحك ، فإن كثرة الضحك تميت القلب.
لكن المزاح اللطيف ، القليل ، يضفي بهجة ، وأنساً ، ويسبب محبة وميل القلوب نحو المتكلم .
الفكاهة بالتعليم :
درسنا في التربية موضوعاً مستقلاً ، الفكاهة بالتعليم ، أحياناً تشعر أن الطلاب قد تعبوا ، وبقي لانتهاء الدرس ثلث ساعة ، أحياناً طرفة أدبية تعطي نشاطاً و استماعاً إلى ساعة ثانية . ولكن له شروط ، ألا تمزح على طالب بالذات ، أو على مهنة أولياء الطلاب ، هذا شيء لا يجوز ، لذلك المعلم الناجح يعرف مهن أولياء الطلاب كلهم ، ولو كان هناك طرفة ممتعة جداً تمس إحدى المهن فلا يستخدمها أبداً ، لأنها تجرح طالباً . فالمزاح المطلوب هو الذي لا يؤذي أحداً ، ولا يحرج إنساناً ، ولا يجرح نفساً ، ولا يخدش شعوراً . هناك مزاح ليس له علاقة بالحاضرين إطلاقاً ، مزاح أدبي ، مزاح لغوي ، فكرة معينة ، مفارقة.
(( إني وإن داعبتكم فلا أقول إلا حقاً ))
التأدب بآداب النبي الكريم :
قال :
(( إنما يقيم من أذن ))
إنما يقيم الصلاة من أذن ، ما علاقة هذه بهذه ؟ كان في المئذنة أنهى الأذان ، فقام غيره ليصلي ، ثم بدؤوا بالصلاة وهو لم ينزل من المئذنة ، بهذه الطريقة المؤذن نفسه الذي كان في رأس المئذنة هو الذي يقيم الصلاة ، هذا نظام اجتماعي .
ساقي القوم آخرهم شرباً ، إذا إبريق ليمون والحاضرون عشرة ، فعبأ كأساً وشربها ، ثم صب كأساً وكأساً ثالثاً انتهى الإبريق ، إذاً كان يجب بحسب الشرع أن يشرب آخر واحد ، ساقي القوم آخرهم شرباً ، اعمل حسابك ، الكل يريد أن يشرب وأنت آخر واحد معنى هذا عليك أن توازن بحيث يبقى لك شيء في الآخر . إنما يقيم الصلاة من أذن ، تريد أن تسبق المؤذن لا يجوز ، الذي أذن يقيم الصلاة .
العيادة فواق ناقة ، زرت مريضاً ، يريد أن يأخذ إبرة ، أو يقضي حاجة ، قعد وانبسط ، جلس ثلاث ساعات والمريض يغلي .
العيادة فواق ناقة ، مقدار حلب ناقة ، أي عشر دقائق .
* * *
نعيم بن مسعود :
والآن إلى قصة لصحابي جليل رضي الله عنه وأرضاه .
قام هذا الصحابي بعمل كبير جداً . هذه القصة مفادها أن المؤمن يجب أن يكون ذكياً ، المؤمنون كلهم مكرمون ، ولكن هناك مؤمناً محدوداً ، ومؤمناً متقد الذكاء ، متقد الذكاء يجري الله على يديه خيراً كثيراً .
قال : نعيم بن مسعود فتى يقظ الفؤاد ، ألمعي الذكاء ، خرَّاج ولاج ، لا تعوقه معضلة ، ولا تعجزه مشكلة ، يمثل ابن الصحراء بكل ما حباه الله من صحة الحدس ، وسرعة البديهة ، وشدة الدهاء ، لكنه كان صاحب صبوة - له ميول- وخدين متعة ، كان ينشدهما أكثر ما ينشدهما عند يهود يثرب - طبعاً قبل أن يسلم - فكان كلما تاقت نفسه لقينة أو هفا سمعه لوتر شدّ رحاله إلى منازل قومه في نجد ، ويمم وجهه شطر المدينة حيث يبذل المال ليهودها بسخاء ، ليبذلوا له المتعة بسخاء أكثر ، ومن هناك فقد كان نعيم بن مسعود كثير التردد على يثرب ، وثيق الصلة بمن فيها من اليهود وبخاصة بنو قريظة ، ولما أكرم الله الإنسانية برسول الله صلى الله عليه وسلم كان نعيم بن مسعود ما يزال مرخياً لنفسه العنان، فأعرض عن هذا الدين الجديد أشد الإعراض خوفاً من أن يحول هذا الدين بينه وبين متعه ولذاته .
أحياناً ترى شخصاً خلافه مع الدين ليس عقائدياً ، خلافه ليس إيديولوجياً ، خلاف تضارب مصالح ، له عدة شهوات مستمتع بها ، يخاف إذا تدين أن يحرم منها ، يقول لك : أخي لا أريد مازال الوقت باكراً .
سيدنا نعيم كان من هذا القبيل ، ثم ما لبث أن وجد نفسه مسوقاً إلى الانضمام إلى خصوم الإسلام .. كان على الحياد فصار مع الخصوم ، مدفوعاً دفعاً إلى إشهار السيف في وجه المسلمين ، لكن نعيم بن مسعود فتح لنفسه يوم غزوة الأحزاب صفحة جديدة في تاريخ الدعوة الإسلامية ، وخطّ في هذه الصفحة قصة من روائع قصص مكائد الحروب .
قصة من روائع قصص مكائد الحروب :
الحقيقة قصة مثيرة جداً ، قصة ما يزال يرويها التاريخ بكثير من الانبهار بفصولها المحكمة ، والإعجاب ببطلها الأريب اللبيب .
فقبيل غزوة الأحزاب بقليل هبت طائفة من يهود بني النضير في يثرب وطفق زعماؤهم يحزبون الأحزاب لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم والقضاء على دينه ، فقدموا على قريش - من بني النضير - وحرضوهم على قتال المسلمين ، وعاهدوهم على الانضمام إليهم عند وصولهم إلى المدينة ، وضربوا بذلك موعداً لا يخلفونه ، ثم تركوهم وانطلقوا إلى غطفان في نجد ، فأثاروهم ضد الإسلام ونبيه ، ودعوهم إلى استئصال الدين الجديد من جذوره، وأسرّوا إليهم بما تمّ بينهم وبين قريش .
وفد من بني النضير ذهبوا إلى قريش وحرضوهم على قتال المسلمين ، ليس قتالاً ولكنه استئصال ، حرب إبادة ، إنهاء الإسلام كله ، وانطلقوا بعدها إلى غطفان ، وحرضوهم كذلك وعاهدوهم على ما عاهدوهم عليه ، وآذنوهم بالموعد المتفق عليه .
خرجت قريش من مكة بقضها وقضيضها، وخيلها ورجلها ، بقيادة زعيمها أبي سفيان بن حرب متجهة شطر المدينة ، كما خرجت غطفان من نجد بعدتها وعديدها ، بقيادة عيينة بن حصين الغطفاني ، وكان في طليعة رجال غطفان بطل قصتنا نعيم بن مسعود .
خرج مع الأحزاب ليحارب رسول الله ، كان في القمة ، فلما بلغ الرسول صلوات الله عليه نبأ خروجهم جمع أصحابه الكرام وشاورهم في الأمر ، فقرّ قرارهم على أن يحفروا خندقاً حول المدينة ، ليصدوا عنها هذا الزحف غير المقدس الكبير الذي لا طاقة لها به ، وليقف الخندق في وجه الجيش الكثيف الغازي .
هذا كله معروف لديكم ، وما كاد الجيشان الزاحفان من مكة ونجد يقتربان من مشارف المدينة حتى مضى زعماء يهود بني النضير إلى زعماء يهود بني قريظة القاطنين بالمدينة .
الآن مؤامرة ثالثة ، زعماء بني النضير ذهبوا إلى زعماء بني قريظة وهم يسكنون في المدينة نفسها، وجعلوا يحرضونهم على الدخول في حرب النبي ، ويحضونهم على مؤازرة الجيشين القادمين من مكة ونجد ، فقال لهم زعماء بني قريظة : لقد دعوتمونا إلى أن نبغي ، ولكنكم تعلمون أن بيننا وبين محمد ميثاقاً ، على أن نسالمه ونوادعه لقاء أن نعيش في المدينة آمنين مطمئنين ، وأنتم تدرون أن مداد ميثاقنا معه لم يجف بعد ، ونحن نخشى إذا انتصر محمد في هذه الحرب أن يبطش بنا بطشة جبارة ، وأن يستأصلنا من المدينة استئصالاً جزاء غدرنا به .. لكن زعماء بنو النضير مازالوا يغرونهم بنقض العهد ، ويزينون لهم الغدر بمحمد صلى الله عليه وسلم ويؤكدون لهم بأن الدائرة ستدور عليه في هذه المرة لا محالة .
ويشدون عزمهم بقدوم الجيشين الكبيرين ، فما لبث بنو قريظة أن لانوا لهم ونقضوا عهدهم مع رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ، ومزقوا الصحيفة التي بينهم وبينه ، وأعلنوا انضمامهم إلى الأحزاب في حربه .
النبي الكريم حفر الخندق تجاه الجيش الغازي ، أما بنو قريظة فيسكنون خلفهم ..
فوقع الخبر على المسلمين وقوع الصاعقة .. حاصرت جيوش الأحزاب المدينة وقطعت عن أهلها الميرة والقوت ، وشعر النبي صلوات الله عليه أنه وقع بين كيد عدوين؛ قريش، وغطفان ، وبنو قريظة ، وبنو النضير .
فقريش وغطفان معسكرون قبالة المسلمون من خارج المدينة ، وبنو قريظة متربصون متأهبون خلف المسلمين في داخل المدينة ، ثم إن المنافقين الذين في قلوبهم مرض أخذوا يكشفون عن مخبآت نفوسهم ويقولون : كان محمد يعدنا بأن نملك كنوز كسرى وقيصر وها نحن اليوم لا يأمن الواحد منا على نفسه أن يذهب إلى بيت الخلاء لقضاء حاجته .
ثم طفقوا ينفضون عن النبي جماعة إثر جماعة بحجة الخوف على نسائهم وأولادهم وبيوتهم من هجمة يشنها عليهم بنو قريظة إذا نشب القتال ، حتى لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى بضع مئات من المؤمنين الصادقين .
أعتقد هذه النقطة أخطر نقطة مرّ بها المسلمون .
وفي ذات ليلة من ليالي الحصار الذي دام قريباً من عشرين يوماً لجأ النبي صلوات الله عليه وسلامه إلى ربه ، وجعل يدعوه دعاء المضطر ، ويقول : "اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك .."
إذا الإنسان وقع في مأزق حرج وتقطعت به الآمال يلتجئ إلى الله عز وجل ، هو في حسب الظاهر .
والحمد لله رب العالمين