الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيدنا محمد الصّادق الوعد الأمين.
اللّهمّ لا علم لنا إلّا ما علّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدنا علمًا وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ
﴿ سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلْأَعْلَى(1) ٱلَّذِى خَلَقَ فَسَوَّىٰ(2) وَٱلَّذِى قَدَّرَ فَهَدَىٰ (3) وَٱلَّذِىٓ أَخْرَجَ ٱلْمَرْعَىٰ(4) فَجَعَلَهُۥ غُثَآءً أَحْوَىٰ(5)﴾
معنى (التسبيح) وورود كل مشتقاته في القرآن الكريم:
هذا هو المقطع الأول، فكلمة: ﴿سَبِّحِ﴾ فعل أمر، وفي القرآن الكريم كل مشتقات هذا المصدر، المصدر من سَبِّحْ: سبحان، قال تعالى:
﴿ سُبْحَٰنَ ٱلَّذِىٓ أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِۦ لَيْلًا مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَى ٱلْمَسْجِدِ ٱلْأَقْصَا ٱلَّذِى بَٰرَكْنَا حَوْلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنْ ءَايَٰتِنَآ ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ (1)﴾
وهناك آيات كثيرة:
﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ (1)﴾
﴿ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ ٱلْمَلِكِ ٱلْقُدُّوسِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ (1)﴾
فجاء المصدر في ﴿سُبْحَٰنَ ٱلَّذِىٓ أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ﴾ ، وجاء الفعل الماضي في: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ﴾ وأخواتها، وجاء الفعل المضارع ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ ، وبقي فعل الأمر﴿سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ ، فما معنى سبّح؟ الأمر: سَبِّحْ، والماضي: سَبَّح، ومن دون تضعيف سَبَحَ، فإذا قلنا: سَبَحَ فلان في الكلام؛ أي أكثر منه، وإذا قلنا: سَبَحَ فلان في الماء؛ أي عامَ وانبسط، وإذا قلنا: سَبَحَ فلان في الأرض؛ أي غاص في أعماقها، إذاً السبح فيه معنى الجولان والتحرك، وفيه معنى البعد، سَبَحَ القوم؛ أي انتشروا، أما سَبَّحَ قال: سبحان الله، ومعنى سَبَّحَ: صلّى، فماذا تعني ﴿سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ هنا؟ قال بعضهم: التسبيح هو التنزيه؛ أي نزّه ربك -عزَّ وجلَّ- عما لا يليق به، فأنت موجود والله -سبحانه وتعالى- موجود ولكن وجوده غير وجودك، أنت من عدم وإلى عدم، ولكن الله -سبحانه وتعالى- أزلي أبدي قديم، فإذا قلنا: سبّح الله؛ أي نزّهه عما لا يليق به من صفات البشر، إذا قلت:
﴿ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16)﴾
معنى سَبِّحْ؛ أي فسَّر هذه الآية تفسيراً يليق بذاته العلية.
﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ ۖ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَٰكِرِينَ (30)﴾
معنى سَبِّحْ؛ أي نزّه مكر الله عن مكر الخلق لأن مكر الخلق شرير لكن مكر الله لصالح الخلق، إذا قلنا:
﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَأٓتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَىٰهَا وَلَٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنِّى لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)﴾
فإذا قلنا: ﴿سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ أي وجّه هذه الآية توجيهاً يليق بذاته الكريمة الرحيمة، التسبيح هو التنزيه.
التسبيح يقتضي معرفة الله–سبحانه وتعالى-:
من الذي يسبح الله –سبحانه وتعالى-؟ هو الذي عرفه، إذاً كأن في معنى التسبيح معرفة الله -عزَّ وجلَّ-، أعرابي جاء النبي -عليه الصلاة والسلام- فقال: يا رسول الله جئتك لتعلمني من غرائب العلم، فقال عليه الصلاة والسلام: وماذا صنعت في أصل العلم؟ فقال هذا الأعرابي: وما أصل العلم؟ قال: هل عرفت الرب؟ فقال عليه الصلاة والسلام: رأس الدين معرفته، حيثما وردت كلمة العلم في القرآن والسنة فإنما تعني العلم بالله، ﴿سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ أي نزّهه عما لا يليق به، ومتى تستطيع أن تنزّهه عما لا يليق به؟ إذا كنت تعرفه، وإذا جاءك خبر سيء عن إنسان، فمَنْ المؤهل لنفي هذا الخبر؟ من يعرفه، فإن كنت تعرفه تنفي عنه النقص، وإن كنت تعرفه تنفي عنه ما لا يليق به، إذاً لا يستطيع رجل أن يُسَبِّحَ الله -عزَّ وجلَّ- إلاَّ إذا عرفه، لكن سبحان الله حينما تُفرّغ هذه الكلمات من مضمونها، حينما يكون الناس في آخر الزمان، وهذه الكلمات العظيمة حينما تفرّغ من مضمونها فيفهم الناس من ﴿سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ أن تمسك مسبحة وأن تقول: سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله والقلب ساهٍ ولاهٍ! ليس هذا هو التسبيح، فالتسبيح هو التنزيه ﴿سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ ، هل نزّهت الله -عزَّ وجلَّ- عما لا يليق به، كيف أنزهك يا رب؟ يقول لك الله -عزَّ وجلَّ-: هل عرفتني؟ يا ابن آدم اطلبني تجدني، فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإذا فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء، فليت شِعري ماذا أدرك من جهل الله -عزَّ وجلَّ-؟ وماذا فاته من عرف الله؟ إذا كان الله معك فمن عليك، وإذا كان عليك فمن معك، ﴿سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ أي تعرّف إلى الله -عزَّ وجلَّ- كي تستطيع أن تسّبحه، فإذا قرأت قوله تعالى:
﴿ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَىٰهَا (8)﴾
فإذا كنت مسّبحاً فتقول: ألهمها فجورها؛ أي ألهمها أن عملها هذا فجور، وإن لم تعرف الله -عزَّ وجلَّ- تقول: الله ألهمها الفجور، ألهمها أن تفعل الفجور ثم حاسبها عليه وأدخلها النار، إن كنت مسّبحاً تفهم قوله تعالى: ألهمها فجورها؛ ألهمها أن عملها فجور، قيّم لها عملها، ضيّق نفس الإنسان حينما فعل السيئات، فألهمه أنه فجور، وإن كنت لا تعرف الله -عزَّ وجلَّ- تفسّر ألهمها فجورها بأن الله -سبحانه وتعالى- ألهم النفس أن تفعل الفجور، إن كنت تسبح الله -عزَّ وجلَّ- تقرأ قوله تعالى:
﴿ وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)﴾
فتبحث عن تتمة الآية في السورة فتجد قوله تعالى:
﴿ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)﴾
لذلك تقول: لا، هذه الآية سياقها في التنديد بعبادة الأصنام ﴿قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ* وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾، إذا كنت تعرف الله -عزَّ وجلَّ- وتسبحه وقرأت قوله تعالى:
﴿ لَا يُسْـَٔلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـَٔلُونَ (23)﴾
تقول: لا يسأل عما يفعل لعدالته، عدله يُسكت الألسنة، وإن كنت لا تعرفه تقول: لجبروته، من يستطيع أن يسأله؟ وشتان بين المعنيين، لذلك التسبيح هو التنزيه، والتنزيه لا يكون إلا بالمعرفة؛ لذلك فمعرفة الله أصل ديني، والحب أساسي، والشوق مركبي، وذكر الله أنيسي، والفقر فخري، والقناعة حسبي، واليقين قوتي، والعلم سلاحي، والفقر ردائي، والرضا غنيمتي، وجُعلت قرة عيني في الصلاة، أصل الدين معرفته، المعرفة رأس مالي.
كلمة سبّح: إذا قلنا لطالب: خذ شهادة عالية، فماذا يُفهم من هذا الأمر؟ أي اذهب إلى إدارة الجامعة، وقدم استدعاء، وقل: امنحوني دكتوراة، أم معنى خذ شهادة عالية أي ادرس؟ فهذا الأمر ينطوي به أمر آخر، كلمة: سبّح: أمر إلهي ينطوي به أمر آخر وهو: اعرف الله -عزَّ وجلَّ- كي تنزّهه، وكي تسبحه، وكيف تنزّهه إن لم تعرفه؟! فعندما يمضي الإنسان جزءًا كبيرًا من وقته في معرفة الله، من أجل ذلك خُلق الإنسان، ورد في الأثر: "خلقت السموات والأرض من أجلك فلا تتعب، وخلقتك من أجلي فلا تلعب فبحقي عليك، لا تتشاغل بما ضمنته لك عما افترضته عليك" ، هذا أمر إلهي: سبّح؛ أي نزّه، والتنزيه أن تقول: الله -سبحانه وتعالى- وجوده غير وجودنا، وسمعه غير سمعنا، وبصره غير بصرنا، وحِلمه غير حِلمنا، وفعله غير فعلنا، نزّهه عما لا يليق به؛ هذا معنى، وهناك معنى آخر يضاف إلى التنزيه هو التعظيم، سَبَحَ القوم أي انتشروا، سَبَحَ المرء في الكلام أي أكثر منه، سَبَحَ المرء في الماء أي عام وانبسط، سَبَحَ المرء في الأرض، سَبَحَت الخيل أي أسرعت، هناك معانٍ أخرى كثيرة لكلمة (سَبِّح) ؛ أي الجولان في ملكوت السموات والأرض، والتفكر في عظمة الله -عزَّ وجلَّ-:
﴿ هُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَٱلنَّهَارَ مُبْصِرًا ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٍۢ لِّقَوْمٍۢ يَسْمَعُونَ (67)﴾
في آخر الآيات يقول الله -عزَّ وجلَّ-:
﴿ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ ۚ قُلِ ٱللَّهُ يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُۥ ۖ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ (34)﴾
[ سورة يونس ]
أين أنتم ذاهبون؟ وإلامَ منصرفون؟ ما الذي يشغلكم؟ ما الذي يلهيكم؟ ماذا تستهدفون؟ ﴿فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ﴾ ، ثم يقول الله -عزَّ وجلَّ-:
﴿ كَذَٰلِكَ يُؤْفَكُ ٱلَّذِينَ كَانُواْ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ (63)﴾
إن لم تفكر بآيات الله سوف تنصرف عنه إلى سواه، إن لم تفكر بالآيات التي بثها الله في الأرض، والتي بثها الله في السماء، وفي خلق الإنسان، وفي الحيوان، وفي النبات، إن لم تفكر بآيات الله سوف تؤفك عنه؛ أي سوف تنصرف إلى سواه؛ إلى الدنيا، فكلمة سبّح: فعل أمر ينطوي به فعل أمر آخر، كأن تقول: خذ درجة علمية عالية؛ أي ادرس فهذه الدرجة لا تؤخذ أخذاً من عند البائع، يدرس الطالب، ينتسب لجامعة ويجدّ إلى أن يستحق النجاح، يُعطى عندها هذه الدرجة، فكلمة: سبّح أي اعرف الله كي تستطيع تنزيهه، وكي تستطيع تعظيمه؛ لذلك اعرف الله في الرخاء يعرفك في الشدة:
(( اغْتَنِمْ خَمْسًا قبلَ خَمْسٍ: شَبابَكَ قبلَ هِرَمِكَ، وصِحَّتَكَ قبلَ سَقَمِكَ، وغِناكَ قبلَ فَقْرِك، وفَرَاغَكَ قبلَ شُغْلِكَ، وحَياتَكَ قبلَ مَوْتِك ))
[ أخرجه ابن أبي الدنيا، والحاكم، والبيهقي عن عبد الله بن عباس ]
بادروا بالأعمال الصالحة، ﴿سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ إذاً سبّح: اعرف الله من أجل أن تعظّمه، ومن أجل أن تنزهه، فحسن الظن بالله ثمن الجنة، وكل من ظن بالله ظن السوء لا يعرفه، الذي ظن أن الله -سبحانه وتعالى- خلق عباده ليعذبهم لا يعرفه، والذي ظن أن الله -سبحانه وتعالى- أرسل رسله وليسوا كُمّلاً لا يعرفه فهذا رسوله، يجب أن يكون هذا الرسول نموذجاً للكمال الإنساني، والذي ظن أن الله -سبحانه وتعالى- خلقنا عبثاً لا يعرفه:
﴿ وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَٰطِلًا ۚ ذَٰلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ۚ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ ٱلنَّارِ (27)﴾
والذي يظن أننا خُلقنا عبثاً كقوله تعالى:
﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَٰكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَٰلَى ٱللَّهُ ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ ۖ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْكَرِيمِ (116)﴾
﴿ذَٰلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾
﴿ إِذْ جَآءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ ٱلْأَبْصَٰرُ وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِٱللَّهِ ٱلظُّنُونَا۠ (10)﴾
فالإنسان بين أمرين: إما أن يعرف الله -سبحانه وتعالى-، وإما أن يجهله، فإذا عرفه عرف كل شيء، وإذا لم يعرفه لم يعرف شيئاً، وهو أشد الناس خسارة يوم القيامة، فسبح تعني: نزّه، ونزّه تحتاج إلى معرفة، قال الأعرابي: جئتك لتعلمني من غرائب العلم، قال: وماذا صنعت في أصل العلم؟ قال: وما أصل العلم؟ قال: هل عرفت الرب؟ وهو أصل العلم؛ لذلك الإمام الغزالي -رضي اللّه عنه- قال: حيثما وردت كلمة العلم فإنما تعني العلم بالله تعالى، لأن العلم بالله له ثمن باهظ، وله مقابل هذا الثمن الباهظ نتائج مذهلة، نتائج العلم المادي أنه يبقى في الدماغ، فقد يحمل الإنسان أعلى شهادة، وقد يشرب الخمر، وقد يكون لئيماً، وقد يكون بخيلاً، وقد يكون قاسي القلب، وقد يكون دنيئاً، وقد يعرف الإنسان ربه فتسمو نفسه.
ثمن العلم بالله المجاهدة، جاهد تشاهد، ونتائجه باهرة، فلا يبقى العلم بالله في الدماغ، بل ينقلب إلى حلم، وإلى سمو وعفو ورحمة وحنان وعطف وإنصاف وعدالة ورقة قلب؛ لذلك: "علماء حكماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء" .
التفكر والتعرف إلى الله تعالى يكون من خلال مخلوقاته لا ذاته:
لماذا ﴿سَبِّحْ اسْمَ﴾ ولم يقل الله -عزَّ وجلَّ-: سبّح الله؟ لأن كلمة (الله) اسم الذات، ولا نستطيع أن نتعرف إلى ذاته، لكن نستطيع أن نتعرف إلى أسمائه؛ لأن الكون كله مظهر لأسماء الله الحسنى، إذا أردت أن تعرف علمه فدونك الكون، وإذا أردت أن تعرف قدرته فدونك الكون، وإذا أردت أن تعرف رحمته فدونك المخلوقات، انظر كيف خلق الله في قلب الأمهات تلك الرحمة، اذهب إلى مستشفى الأطفال زيارةً، وشاهد كل أب وكل أم كيف يحرصون على ابنهم المريض، فمن أودع الرحمة في قلب الأمهات والآباء؟ الله -سبحانه وتعالى-، فرجل شديد عتيد يبكي لأن الطبيب قال له: معه التهاب سحايا، قد لا يبكيه شيء؛ فإذا أردت أن تعرف رحمته فدونك الخلق، فهذا الكون تجسيد لأسماء الله الحسنى، وتستطيع أن تعرف كل أسمائه من خلال الكون، ولذلك ربنا -عزَّ وجلَّ- قال: ﴿سَبِّحْ اسْمَ﴾ ذاته لا تعرفها، تفكروا في المخلوقات، ولا تفكروا في الخالق فتهلكوا، عندما يأتي الإنسان بميزان بقال مكتوب عليه (20) كغ، ويحاول أن يزن فيه شاحنة ثلاثين طناً فيهرس، عندها لا يتهم أن إنتاج مصنع الميزان سيء، بالطبع لا، بل إنك استعملت هذا الميزان لغير ما أعدّ له، وعندمّا يفكر العقل البشري في ذات الله ولا يفهم شيئاً ليس هذا عجزاً في العقل ولكن سوء استعمال له، فالتفكر في ذات الله ممنوع محظور.
﴿ وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَٰتِنَا وَكَلَّمَهُۥ رَبُّهُۥ قَالَ رَبِّ أَرِنِىٓ أَنظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَن تَرَىٰنِى وَلَٰكِنِ ٱنظُرْ إِلَى ٱلْجَبَلِ فَإِنِ ٱسْتَقَرَّ مَكَانَهُۥ فَسَوْفَ تَرَىٰنِى ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُۥ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُۥ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَٰنَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ (143)﴾
إذا ألقينا في فرن لصهر الحديد ورقة سيجارة، وقلنا ماذا حلّ بها؟ من الوهج تبخرت نهائياً، لم يبقَ لها أثر! تفكروا في مخلوقات الله، ولا تفكروا في ذاته فتهلكوا،
﴿سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ أي تبحَّر في أسمائه الحسنى، ابحث عن اسم اللطيف، مرُّ السحاب في السماء يؤكد اسم اللطيف، حينما يسقط سن الطفل في فمه تعرف من خلال ذلك اسم اللطيف، مهما أوتي طبيب الأسنان من براعة لا بد من إبرة المخدر، ووضع الإبرة في اللثة يؤلم ألماً شديداً، أما ربنا -عزَّ وجلَّ- لطيف فلا يُحس الطفل بشيء إلا في فمه قطعة عظم، فالسن نزعه الله له بشكل لطيف، الهواء لطيف بيننا، وسيلة لنقل الضوء، وسيلة لنقل الحرارة، وسيلة لنقل البرودة، نقل للصوت؛ خفيف، كيف ترى طائرة وزنها ثلاثمئة وخمسين طناً في الجو؟! معنى ذلك: الهواء شيء له قيمة فهو يحملها، وإذا مدّ أحدهم يده أثناء سير السيارة، يشعر بقوة شديدة تدفعها نحو الوراء، مع ذلك لطيف، يمكن أن تعرف اسم اللطيف من الهواء، من سير السحاب، من استقرار الأرض، فالأرض لا تضطرب وليس لها صوت، وليس لها عادم دخاني يملؤها سواداً، وإنما حركة لطيفة بدون صوت، إذا أردت أن تعرف اسم اللطيف، فانظر إلى الثمار والفواكه، فترى معملاً بدون صوت تكون خشباً، تزهر، تورق، تثمر بلا صوت، إذا أردت أن تعرف اسم القوي فهناك ثقوب سوداء في الفضاء الخارجي، إذا دخلت الأرض إلى أحد هذه الثقوب تصبح كالبيضة بالضبط حجماً؛ أي عشرة آلاف مليون مليون طن وزن هذه البيضة؛ لأن الضغط شديد جداً، إذا أردت أن تعرف اسم العليم فاقرأ شيئاً عن خلق الإنسان، 130 مليون عصية في الشبكية في ملمتر مربع،
كل أسماء الله الحسنى تستطيع أن تستشفها من خلال الكون.
الله تعالى أكبر من معرفة الإنسان:
إذاً ﴿سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ﴾ أقرب اسم للإنسان هو الرب؛ أي المربي، المربي عليم، والمربي حكيم، والمربي عطوف، والمربي غني؛ إمداد بالطعام والشراب، في الدرس الماضي في سورة الطارق ربنا -عزَّ وجلَّ- قال:
﴿ فَلْيَنظُرِ ٱلْإِنسَٰنُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِن مَّآءٍۢ دَافِقٍۢ (6) يَخْرُجُ مِنۢ بَيْنِ ٱلصُّلْبِ وَٱلتَّرَآئِبِ (7)﴾
هذه نعمة الإيجاد:
﴿ وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلرَّجْعِ (10) وَٱلْأَرْضِ ذَاتِ ٱلصَّدْعِ(11)﴾
هذه نعمة الإمداد، أوجدك من ماء مهين، وأمدك بالطعام والشراب عن طريق هذه الخاصّة، خاصة نزول الأمطار وإنبات النبات، ﴿سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ ، لماذا سبّح اسم ربك؟ لأنه أعلى، أعلى اسم تفضيل؛ أي لا نهاية لعلّوه ولا نهاية لقدرته، بعضهم قال: كلمة الله أكبر، الصلاة مفتاحها الطهور، وتحريمها التكبير، وحلّها التسليم، ما معنى كلمة(أكبر)، بعضهم قال: أكبر من كل شيء، وبعضهم قال: أكبر مما أعرف، فمهما عرفت عن قدرة الله فالله أكبر، مهما عرفت عن رحمته فالله أكبر، ومهما عرفت عن لطفه فلطفه أكبر، إذاً ﴿سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ أي لا نهاية لعلوه، فهذا الإله العظيم يُزهَد به؟! يُنصرف عنه؟! يُعصى؟! سبحان الله!
إرادة الله تعالى نافذة في الخلق:
﴿سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى* ٱلَّذِى خَلَقَٰ﴾ الخالق غير المخلوق، فالخالق له إرادة نافذة في الخلق، أما المخلوق فمنفعل لإرادة الخالق، فالله -عزَّ وجلَّ- خلقك، ولو شاء لما خلقك، أعطاك السمع والبصر، ولو شاء ما أعطاك السمع والبصر، أعطاك هذا الفكر:
﴿ وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَٰهُمْ عَلَىٰ مَكَانَتِهِمْ فَمَا ٱسْتَطَٰعُواْ مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ(67)﴾
شخص وصل لمنصب عالٍ جداً قبل أربعين عاماً فأصبح وزير عدلية في الحكم العثماني، ثم تقدم به السن حتى إذا خرج من بيته لا يعرف كيف يعود، فتخبر زوجته مخافر الشرطة ليبحثوا عنه،
﴿وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَٰهُمْ عَلَىٰ مَكَانَتِهِمْ فَمَا ٱسْتَطَٰعُواْ مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ﴾ ، هناك رجل أعرفه كان يحضر معنا هنا، توفي-رحمه الله- قبل وفاته بأسبوع ركب سيارته من معمله متجهاً إلى بيته فضاع عنه بيته، وبقي ساعة ونصف يدور حتى ذهب إلى بيت ابنه يسأله: أين بيتي يا بني؟! أنت منفعل بإرادة الله -عزَّ وجلَّ-، أعطاك فكراً، ولو شاء لما أعطاك، أعطاك قوة، نقطة دم أقل من ميليمتر مكعب تتجمد في شريان في الدماغ؛
شلل كامل لا يوجد حركة مطلقاً، لي قريب أصيب بالشلل فبقي في فراشه لا يتكلم ولا يتحرك. يده كقطعة لحم على بطنه لا يستطيع الحركة.
﴿ٱلَّذِى خَلَقَٰ﴾ من أعطاك القوة؟ من أعطاك البصر؟ من أعطاك السمع؟ فإذا أصابك طنين في الأذن تتضايق وتقول: معي التهاب يلزمني طبيب أذن، وإذا كان هناك غباشة في العين، ذبابة طائرة أمام عينك هناك بروتين داخل العين يتحرك مع النظر، فتتضايق من الذبابة الطائرة، أما إذا أغلقت القناة الدمعية فهذا شيء لا يحتمل،
وإذا جرح الإنسان يده وانكشفت الأعصاب الداخلية فإذا أكل سلطة يتضايق، أصبح هناك ألم، آلام الأسنان لا تستطيع أن تنام في الليل، وأثناء قلع الضرس ترى خيطاً أرفع خيط مرّ في حياتك وهو خيط عصب السن، وهو الذي أقلقك طوال الليل.
﴿سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى* ٱلَّذِى خَلَقَ﴾ ، فهو الخالق، أيعبد غير الخالق؟! لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وحينما قال الله -عزَّ وجلَّ-: ﴿سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى* ٱلَّذِى خَلَقَ فَسَوَّىٰ﴾ ما هي التسوية؟ خطر في بالي مثل وأنا في طريقي إليكم: لو أن أحدهم عنده سيارة وعمّر مرآباً، فإذا كان أضيق من السيارة لا تدخل، وإذا كان أقصر من طولها لا يغلق، وإذا كان بمثل حجم السيارة فلا يفتح الباب، وإذا كان له رصيف ارتفاعه كبير لا تصعد السيارة، أو تعمل رصيفاً آخر يكون أعرض وأطول، فعندما تجد مرآباً يتناسب مع الحجم تدخل إلى داخله، وتفتح الباب فيفتح ثم يغلق، والرصيف مكسور، أي هناك تسوية؛ أي تناسب، ربنا -عزَّ وجلَّ- قال:
﴿ ٱلَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍۢ طِبَاقًا ۖ مَّا تَرَىٰ فِى خَلْقِ ٱلرَّحْمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٍۢ ۖ فَٱرْجِعِ ٱلْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُورٍۢ(3)﴾
الشمس بُعدها عن الأرض بقدرٍ مدروس:
﴿ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍۢ (5)﴾
لو اقتربت لاحترقت الأرض، ولو ابتعدت لتجمدت، بُعد القمر عن الأرض بحسبان، فلو اقترب نصف المسافة لتضاعف المَّد ستين ضعفاً؛ أي لأصبح المَّد والجزر مئة وعشرين مترًا ولغمرت معظم مدن العالم الساحلية، حجم الأرض تقدير حكيم عليم؛ مسوّى، سرعة الأرض حول نفسها مسوّاة تتناسب مع طاقة الإنسان، اثنتا عشرة ساعة نهار واثنتا عشرة ساعة ليل، فلو دارت أسرع ولو ألغي القمر لدارت الأرض حول نفسها دورة كل أربع ساعات، معنى ذلك أن النهار ساعتان، والليل ساعتان، فهذا فتح المحل والآخر أغلقه، الأول فتح، والثاني ذهب لينام؛ فوضى
﴿ٱلَّذِى خَلَقَ فَسَوَّىٰ﴾ ، حجم الأرض يتناسب مع طاقة الإنسان، دورتها حول نفسها تتناسب، دورة الأرض حول الشمس تتناسب(360) يوماً، والفصول تتناسب، والإنسان بحاجة لماء فالماء موجود، ويحتاج لهواء له نسب ثابتة، هناك نسب ثابتة فنسبة الأكسجين إلى الآزوت مسواة؛ أي مدروسة من لدن حكيم خبير، الجبال؛ فهناك جبال تكفي لتخزين المياه العذبة، ولولا الجبال لما خُزّنت المياه العذبة،
وهناك صحارى كافية لتحريك المنخفضات الجوية، وهناك سهول كافية لتأمين طعام البشر، وهناك بحار لتأمين الأمطار، فلو جعلت طبقات الأرض كتيمة سطحية، والنفوذة تحتية فلا يوجد آبار إطلاقاً،
كيف تكون الآبار؟ الطبقة الكتيمة تحتية، والنفوذة سطحية ﴿ٱلَّذِى خَلَقَ فَسَوَّىٰ﴾، إذا أردت بروتيناً فهناك غنم، والغنم ليس مخيفًا فيقال مثلاً: فلان مثل الغنمة، أي وديع ذلول.
﴿ وَذَلَّلْنَٰهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72)﴾
وإذا أردت دجاجاً وبيضًا فهناك دجاج مذلل، وإذا أردت الركوب من جهة إلى جهة:
﴿ وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ۚ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)﴾
[ سورة النحل ]
الآن يوجد صواريخ وطائرات جامبو، وسيارات فارهة جداً
﴿وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ ، كلام إله:
﴿وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ ، من الذي خلق البترول؟ ومن الذي أعطاه هذه القوة الانفجارية؟ من خلق الحديد؟ ومن خلق الدماغ البشري ليخترع المحرك الانفجاري؟
﴿وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ ،
﴿ٱلَّذِى خَلَقَ فَسَوَّىٰ﴾ واسعة جداً؛ أي أن كل شيء يناسب شيئاً، فلو كانت الحرارة في الأرض مئة فوق الصفر لا أحد يعيش، أو مئتان تحت الصفر لا أحد يعيش، ولو كان محور الأرض أفقياً، أي موازياً لمستوى الدوران تبقى الأرض واقفة، فالأرض تدور هكذا، والشمس من هنا، فالنصف الأول للكرة شمس إلى الأبد، والآخر ظلام إلى الأبد، ولو كان المحور قائماً على مستوى الدوران فالفصول ثابتة،
المحور مائل قليلاً فهناك ليل ونهار، وهناك اختلاف الليل والنهار:
﴿ إِنَّ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَٱخْتِلَٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ لَأٓيَٰتٍۢ لِّأُوْلِى ٱلْأَلْبَٰبِ(190)﴾
واختلاف الفصول أيضاً بميل المحور
﴿ٱلَّذِى خَلَقَ فَسَوَّىٰ﴾ ، أنت تحتاج إلى خشب كي تشعله، فهناك أشجار تتخذ منها وقوداً، وتحتاج إلى خشب كي يكون في السقف، جعل الله أشجار الحور لهذه المهمة، وتحتاج إلى خشب لصنع الأثاث، فجعل الله خشب الزان لهذه المهمة، وتحتاج خشب للبيتون فهناك خشب الشوح، فلو جعلناه من خشب الزان لكسر المسمار فهو لا يناسب، خشب الشوح يختلف عن الزان، وعن السنديان، وعن الكندي،
وعن خشب المشمش، وعن الزيتون، فالله -عزَّ وجلَّ- خلق فسوى، فلو جعل لك طعاماً واحداً تملّه فالأطعمة متنوعة، والفواكه متنوعة، فلو جعل المرأة تنجب ما دامت حية فهذا شيء لا يُحتمل،
﴿ٱلَّذِى خَلَقَ فَسَوَّىٰ﴾ ليس لها حدود؛ أي كل شيء مناسب.
لو جعل الماء ينكمش إذا تجمد لانتهت الحياة من على سطح الأرض، فكل ما في الأرض ينكمش إذا تجمد عدا الماء؛ العنصر الوحيد الشاذ الذي إذا تجمد زاد حجمه، فقلّت كثافته، فطفا على وجه الماء، فلو أن الماء إذا تجمد زادت كثافته وانكمش كلما تجمد المحيط غاص في الأعماق إلى أن تتجمد المحيطات كلها، فينعدم التبخر، وتنعدم الأمطار، وينعدم النبات، ويموت الحيوان، ويموت الإنسان، ﴿ٱلَّذِى خَلَقَ فَسَوَّىٰ﴾ هناك تسوية: ﴿مَا تَرَىٰ فِى خَلْقِ ٱلرَّحْمَٰنِ مِن تَفَٰوُتٍ﴾ الحيوان يمرض فجعل الله له حشائش خاصة به، والكون كله مجال للبحث في هذه الآية.
أمثلة للتفكر في تقدير الله تعالى وهدايته:
﴿سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلْأَعْلَى* ٱلَّذِى خَلَقَ فَسَوَّىٰ* وَٱلَّذِى قَدَّرَ فَهَدَىٰ﴾ ، مثلاً: التربة فيها مواد، فلو جئنا بماء وحللنا فيه السكر والملح، وحللنا مادة صابونية من مشتقات الصابون، وحللنا فيه ملح الليمون،
وجئنا بأنابيب شعرية، فهل يُعقل أن بعض الأنابيب يمتص الملح فقط؟! مستحيل، أو أنبوب آخر يمتص الماء مع السكر؟ مستحيل، أنبوب ثالث يمتص الماء مع ملح الليمون؟ مستحيل، هذه المواد ذابت في الماء، وأصبح المحلول منسجماً، والأنابيب غير عاقلة، أرض واحدة مزروعة تفاحاً، وكمثرى، ودراقاً، وخوخاً، وعنباً، وطعم هذا غير طعم هذا مع أن الأرض واحدة، والمواد واحدة، فالماء حلّ هذه المواد، فكيف أخذ التفاح الطعم السكري، وأخذ الخوخ الطعم الحامضي، والدراق أخذ هذا الطعم مع الماء الكثير، وأخذ التمر هذا الطعم الحلو، والبرتقال الحامض شيء، والحلو شيء، والليمون شيء؟! ربنا-عزَّ وجلَّ-قال:
﴿ وَفِى ٱلْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَٰوِرَٰتٌ وَجَنَّٰتٌ مِّنْ أَعْنَٰبٍۢ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍۢ يُسْقَىٰ بِمَآءٍۢ وَٰحِدٍۢ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍۢ فِى ٱلْأُكُلِ ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٍۢ لِّقَوْمٍۢ يَعْقِلُونَ (4)﴾
من هدى هذه الجذيرات؛ الأشعار الماصة في الجذر؟
أن تختار البوتاس والحديد والفسفور والكالسيوم، والجذر الآخر اختار هذه المواد
﴿وَٱلَّذِى قَدَّرَ فَهَدَىٰ﴾ أي وضع المواد الكافية لنمو النبات، وهدى الجذور لاختيار حاجتها من هذه المواد، أما في عالم الإنسان فهذه مستحيلة أن تخلط الملح مع السكر مع ملح الليمون في ماء واحد، وتضع أنابيب رفيعة جداً، وتتوقع أن يخرج من أنبوب ماء وسكر فقط، وماء وملح فقط، هذا شيء مستحيل
﴿ٱلَّذِى خَلَقَ فَسَوَّىٰ* وَٱلَّذِى قَدَّرَ فَهَدَىٰ﴾ .
مثل آخر: هذه البذرة؛ انظر إلى البذور فهي من أضخم الموضوعات للتفكر، في غرام من البذور فيه سبعون ألف بذرة، كم هي متناهية في الدقة هذه البذور؟! ومع ذلك يرسمون على الغلاف وردة حمراء، وعلى غلاف آخر وردة صفراء، وعلى غلاف آخر وردة مطبقة، هذه البذور يخرج منها ورد مطبق، وهذه ورد أصفر، وهذه ورد أحمر، وهذه نرجس، أسماء الورود والأزهار...، من سيّر هذه البذرة حتى صار هذا النبات بهذا الشكل؟
له أوراق خاصة وجذع خاص، وله أشكال وألوان، وله طباع فيقال: هذا يلزمه ماء كثير كل يوم، وهذا يلزمه في الأسبوع مرة واحدة، وهذا يحتاج إلى شمس، وهذا يحتاج ظل، وهذا يحتاج خيالات شمس، وهذا يلزمه حرارة، وهذا نبات في الغرف، وهذا تحت السماء، وهذا نبات يعيش في هذه البلاد، وهذا على السواحل؛ له طباع، فكل هذه الطباع والألوان في هذه البذرة
﴿وَٱلَّذِى قَدَّرَ فَهَدَىٰ﴾ ، كيف أن أسماك السلمون تأتي من منابع الأنهار في أمريكا وتهاجر من منابع الأنهار إلى أواسط المحيط الأطلسي وتموت، كيف أن هذه المخلوقات الجديدة تعود إلى مسقط رأسها هناك؟!
قيل: تتجه أسماك السلمون من المحيط الأطلسي غرباً نحو أمريكا، وبعض الأسماك يأخذ زاوية نحو نهر الأمازون لأنها ولدت في ينابيع نهر الأمازون، وبعض الأسماك تتجه نحو مصب الميسيسيبي لأنها ولدت في ينابيع نهر الميسيسيبي، من وجه هذه الأسماك وجهتها؟ هناك أسماك في نهر النيل تخرج من منبعه إلى مصبه، وتتجه غرباً إلى مضيق جبل طارق، ثم شمالاً على جانب إسبانيا، ثم تعبر بحر المانش، ثم شمالاً نحو بحر الشمال، وتعود كرّة ثانية إلى ينابيع النيل، من هداها؟
﴿ قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَٰمُوسَىٰ(49) قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِىٓ أَعْطَىٰ كُلَّ شَىْءٍ خَلْقَهُۥ ثُمَّ هَدَىٰ(50)﴾
هذه النحلة من علّمها أن تبني هذه الخلية؟ ومن علّمها الشكل المسدس؟ هذا الذي لا يترك فراغات بينية أبداً، من علمها؟
من علّم بعض النحلات أن تقف على الباب حارسات، ولا تسمح بدخول النحل إلى الخلية إلاّ إذا نطق بكلمة السّر وإلاّ تقتل؟ لأن النحلة التي تنسى كلمة السّر تقتل، من علّم هذه النحلة أن تهوّي الخلية؟ تقف النحلات على بابي الخلية وتفعل بأجنحتها هكذا، فإذا كان هناك حرّ تعمل تهوية، وإذا كان برد تغلق الأبواب، فيصبح الجو دافئاً، من علّمها؟
من علّم النحلة أن للملكة طعاماً خاصاً، وهناك وصيفات خاصة بالملكة؟ تذهب الوصيفات لإحضار غبار الطلع ممزوجاً برحيق الأزهار هذا طعام الملكة الخاص، من علمّها؟ من علّم النحلة أن تقتل كل حشرة غريبة في الخلية؟ فإذا كانت هذه الحشرة فأرة لا تستطيع جرها ولا قتلها، فتغطيها بمادة شمعية تحفظها من الفساد، من علمّها ذلك؟ من علّم النحلة أنها إذا كانت محمّلة بالرحيق تعطي النحلات الأُخر ما جمعته من رحيق، وتعود تواً إلى امتصاص الرحيق تارة أخرى من أجل كسب الوقت، فإذا كان آخر الموسم دخلت النحلة إلى مكانها في الخلية ووضعت الرحيق، من علّم النحلة أن ترقص؟
فمن نوع الرقصة تعرف النحلات الباقيات بُعد الأزهار عن الخلية، فرقصة معينة 10 كم، رقصة أخرى أكثر من ذلك، فالنحلات يعرفن قبل أن يخرجن من الخلية بُعد الزهر عن الخلية من طبيعة رقص النحل، من أعلم الملكة أنها سوف تلد ذكراً، تقف في مكان خاص للذكور تضع الذكر، وهناك امرأة معها دكتوراة في أمراض النساء والتوليد وتزوجت وحملت، فهذه الدكتورة في أمراض النساء هل تعرف نوع المولود؟ ملكة النحل تعرف قبل أن تلد ماذا سوف تلد؛ لذلك تقف في مكان النحلات العاملات تلد الأنثى، وتقف في مكان الذكور تلد الذكور وهكذا،
﴿قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَٰمُوسَىٰ* قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِىٓ أَعْطَىٰ كُلَّ شَىْءٍ خَلْقَهُۥ ثُمَّ هَدَىٰ﴾ ، والأمثلة كثيرة حول هذه الآية
﴿ٱلَّذِى خَلَقَ فَسَوَّىٰ* وَٱلَّذِى قَدَّرَ فَهَدَىٰ﴾ .
الطيور؛ فترى السنونو يعشش في أحد بيوت الصالحية، تذهب مثلاً إلى حارة الحنابلة في أحد البيوت العربية ترى السنونو معششاً في صدر الليوان، يأتي موسم الشتاء فيهاجر هذا السنونو إلى الجنوب إلى بلاد أفريقيا، وأما في موسم العودة إلى الشمال، من أعلم هذا الطائر أنه يجب أن يأخذ هذه الزاوية ليصل فيها إلى دمشق؟ فإذا انحرف من أفريقيا درجة واحدة لأصبح في مصر، ولو انحرف درجة أخرى لأصبح في بغداد، فمن أعطاه الزاوية من أفريقيا ووصل إلى دمشق؟! ولو أخذ زاوية إلى المهاجرين ليرجع هذا السنونو إلى هذا البيت في الحنابلة في الحارة الثالثة في صدر الليوان إلى عشه، من علّمه وقد قطع آلاف الكيلومترات بين الصيف والشتاء؟ ﴿وَٱلَّذِى قَدَّرَ فَهَدَىٰ﴾، أحياناً يمرض الحيوان فيأكل بعض الحشائش فيشفى، الشجرة تصفر أوراقها فتستهلك ماء الأوراق، فهي بحاجة إلى الماء، والماء حيوي لها، فإذا منعت عنها السقي تصفر أوراقها، أوراقها غير مهمّة تضحي بها من أجل بقائها، ثم تيبس عيدانها، وعيدانها غير مهمّة من أجل أن تبقى، ثم ييبس جذعها، وجذعها غير مهم من أجل أن تبقى، كل هذا حفاظاً على جذرها، لو لم يكن هناك إله خالق لمُنع عنها الماء فجف جذرها ثم ماتت، تستهلك أوراقها ثم أغصانها، ثم أغصانها الكبيرة، ثم تستهلك ماء جذعها وتبقى محافظة على حياة جذرها، من علمها ذلك؟ من هدى هذا النبات إلى هذا؟ حلّلوا ورقة خضراء فوجدوها لها مسام، وهذه المسام تبقى مفتوحة شتاءً مغلقة صيفاً، فالشتاء فيه رطوبة وأمطار فتبقى مفتوحة للتهوية، في الصيف هذه المسام تقترب من بعضها بعضاً فتُغلق، ولذلك تحافظ الأوراق على نضارتها في الصيف؛ لأن المسام مغلقة، فمن هداها إلى ذلك؟ الله -سبحانه وتعالى-، قالوا: هناك غشاء بين الخلايا وبين مجرى الدم، فتصور مجموعة أبنية على اليمين، ومجموعة أبنية على الشمال، ومن الأرض حتى أعلى طابق غشاء يمنع دخول كل ما في الشارع إلى البناء؛ غشاء، هذا الشارع فيه دم والأبنية الخلايا، وهذه الخلية بحاجة إلى بوتاسيوم، فتفتح فتحة أمام مادة البوتاس، فتذهب هذه المادة عبر الغشاء إلى الخلية،
فإذا أخذت الخلية حاجتها أُغلق هذا الثقب وكأن عقلاً كبيراً يخطط لتغذية الخلايا، الدم فيه كل شيء، فتأخذ البنكرياس حاجتها، والمرارة حاجتها، والكبد حاجته، والغدد الدمعية حاجتها من المادة القلوية، واللعاب حاجته، فكل عضو يجري فيه الدم يأخذ حاجته، وهنا مثلاً يوجد مفرزات قلوية، وهنا مفرزات غير قلوية، وهنا حامضية؛ هنا يوجد حمض كلور الماء؛ وهنا مادة هاضمة، فهذه المواد التي تفرزها الغدد الصم من أين تأتي بالمواد الأولية؟ من الدم، فمن الذي يقول: يا بنكرياس خذ من الدم المواد كذا وكذا؟
﴿ٱلَّذِى خَلَقَ فَسَوَّىٰ* وَٱلَّذِى قَدَّرَ فَهَدَىٰ﴾ ، هناك أشياء مذهلة في خلق الإنسان، وفي خلق الحيوان، وفي خلق النبات.
نقار الخشب طائر يعيش على دود ضمن أشجار الصنوبر، والغريب أن له منقاراً يزيد عن 12سم، يقف هذا الطائر على جذع شجرة، ويثقب الجذع حتى يصل إلى دودة تقع داخل الجذع ويأكلها،
فهل عنده أشعة ليزر أو أشعة تحت الحمراء ليعرف مكان الدودة؟ من الذي هداه إلى مكانها بالضبط؟ الله -سبحانه وتعالى-، النحل حينما تشرع النحلات ببناء البيت الشمعي السداسي تبدأ بعض النحلات من هذه الجهة، وبعض النحلات من هذه الجهة، فيجتمعن على مسدس نظامي بينهما، فإذا أتيت ببلاطين وقلت للأول من جهة اليمين أن يبدأ، والآخر من جهة اليسار، فهل من الممكن أن يلتقوا على بلاطة نظامية؟ لا يلتقون، فقد تكون بنصف بلاطة، أو ثلثين، أو ثلاث أرباع، أما هذه النحلات فقسم يبدأ من هنا، وقسم من هنا فيجتمعان على مسدس نظامي، بدون أن يأخذوا قياسات مسبقة، فهل أخذوا عرض الخلية وقسموه؟ مستحيل؛ وإنما هناك تخطيط
﴿ٱلَّذِى خَلَقَ فَسَوَّىٰ* وَٱلَّذِى قَدَّرَ فَهَدَىٰ﴾ .
الإنسان عندما يأكل فوق حاجته يتراكم الشحم في جسمه، فيعمد إلى التنحيف فيذوب الشحم الذي كان آخر ما تواضع في جسمه، فمن أعطاه التوجيهات هذه، وأين آخر مكان توضّع فيه الشحم؟ فهذا أول مكان يذوب منه الشحم، فهذا التخطيط تخطيط من؟ الشحم مدخرات غذائية، أحدهم دخل مكاناً وأصبح هناك مجاعة فالشحم ذاب كله، أو سيارة فيها مستودع بنزين وكل غلافها مهيأ لمستودعات احتياط، وكلما انتهى مستودع يُفتح الآخر وهي ما زالت تمشي، فإذا انتهى الشحم استهلك الجسم اللحم، انتهى اللحم يستهلك العظم، وكل هذا والدماغ هو هُو حفاظاً على هذا الدماغ؛ الفكر المُفكر، فالشحم يذوب، واللحم يذوب، والعظم يذوب، ويبقى الدماغ هو هو:
﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّى وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّى وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنۢ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)﴾
هذا تفكير علمي، أول شيء الشحم، ثم اللحم، ثم العظم، والدماغ هو هو-، ومن الحقائق التي لا تُصدق عن الدماغ، أن خلايا قشرة الدماغ تستعصي على السرطان حتى الآن، فلم تظهر في العالم كله حالة سرطان في خلايا قشرة الدماغ؛ مركز المحاكمة، والتذكر، والرؤية، والسمع، والبصر، والتخيل.
غلام دخل على بعض الخلفاء فقال له: "أصابتنا سنة أذابت الشحم، وسنة أكلت اللحم، وسنة دقت العظم، وفي يدكم فضول أموال، فإن كانت لعباده فعلامَ تحبسونها عنا ونحن عباده؟! وإن كانت لكم فتصدقوا بها علينا إن الله يجزي المتصدقين، وإن كانت لنا فعلام تحبسونها عنا؟ فقال الخليفة: والله ما ترك لنا هذا الغلام في واحدة عذراً" ، إما أنها لكم أو لنا، أو لعباد الله.
الكون كله آيات على عظمة الله سبحانه:
لو نظرت إلى وكر النمل تجد مادة بيضاء ناعمة جداً على مدخل الوكر، إذا أخذتها وحللتها تجد أنها مجموعة رشيمات القمح، والنمل يعرف أن في القمحة كائناً حياً إذا أصابته رطوبة نما، وإذا نمت القمحة في وكر النملة خربته، فأول ما يفعله النمل أنه يأخذ رشيم القمحة ويبقيه جانباً، من هدى النملة إلى هذه الحقائق في النبات؟ فإلى جانب الوكر مادة بيضاء هي رشيمات القمح، وإذا أخذ عدساً -بعض الحبوب لها رشيمان- فيأخذ رشيمين من الطرفين حتى لا يبقي مادة حية تنمو في وكره، ولو دخلت إلى بيت فراشة فراقب بعد دقائق تجد فراشة ثانية تحاول أن تدخل، هذه الفراشة المؤنثة وهذا ذكرها يتفقدها، من هداها؟ الكون كله آيات، ربنا يقول:
﴿ وَفِى ٱلْأَرْضِ ءَايَٰتٌ لِّلْمُوقِنِينَ (20)﴾
ما أكثر الآيات في الكون: فأنى تصرفون؟ فأنى تسحرون؟ أفلا تتذكرون؟ أفلا تبصرون؟ أفلا تعقلون؟ قليلاً ما تشكرون، فالإنسان إذا كان عاصياً لله فهو جاهل جهلاً قبيحاً.
﴿سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلْأَعْلَى* ٱلَّذِى خَلَقَ فَسَوَّىٰ* وَٱلَّذِى قَدَّرَ فَهَدَىٰ﴾ كلمة ﴿خَلَقَ فَسَوَّىٰ﴾ هذا التناسب بين الإنسان والجو الخارجي، حرارة من الصفر لخمس وثلاثين، أو أربعين، أو خمسين محتملة، لو أصبح ثمانين أو مئة تحت الصفر لتجمدنا؛ الحرارة مناسبة، وهناك هواء، وماء، وطعام، وشراب، ومعادن، وأخشاب، ونار، وحديد، ووقود ﴿ٱلَّذِى خَلَقَ فَسَوَّىٰ﴾ ، البيضة مثلاً كل يوم هناك بيضة للدجاجة، فلو كانت كل شهر لأصبح ثمنها خمساً وعشرين ليرة سورية-فوق طاقة الإنسان-أما كل يوم بيضة فسعرها معقول، أو كانت شجرة التفاح تحمل خمس تفاحات فقط لأصبح ثمن الكيلو مئتي ليرة، لكن الكمية مناسبة، والحجم مناسب، والطعم مناسب، ولو كانت التفاحة بكل ما فيها من غذاء مرّة فمن يأكلها؟ أو كانت ذات طعم لذيذ لكنها بلا غذاء لا يُستفاد منها، أو لو توفر فيها كل شيء لكنها قاسية كالصخر فتحتاج لمطحنة بحص حتى تأكلها! إذاً هناك طعم ورائحة، وقوام، ومرونة، وجمال، ولون، ونكهة ﴿خَلَقَ فَسَوَّىٰ﴾ ، وقطافها سهل، فلو كانت الشجرة شاهقة لكان قطافها صعبًا جدًا، ولو كانت مع الأرض مشكلة، فـ﴿ٱلَّذِى خَلَقَ فَسَوَّىٰ﴾ واسعة جداً.
الكون كله
﴿خَلَقَ فَسَوَّىٰ﴾ ، والمخلوقات كلها
﴿قَدَّرَ فَهَدَىٰ﴾ ، فهدى الجذور والخلايا وتغذية الخلايا، فالعين تحتاج إلى مادة قلوية تأخذها من الدم، فمن أعلمها أن هذه المادة تفيد الإنسان للدمع؟ الله -سبحانه وتعالى-، شيء أغرب من ذلك؛ جميع خلايا الجسم تتغذى عن طريق الشرايين والأوردة إلا منطقة واحدة في الجسم خلاف هذه القاعدة، وهي قرنية العين لأنها شفافة،
فلو عمل ربنا شبكة شرايين في القرنية فكأنك تمشي وراء منخل، لكن ربنا جعل قرنية العين تتغذى بطريقة خاصة بطريقة الحلول، أول خلية تأخذ غذاءها وغذاء كل الخلايا، وينتقل الغذاء من خلية إلى أخرى عبر أغشية الخلايا حفاظاً على شفافية العين ﴿قَدَّرَ فَهَدَىٰ﴾، من وضع في العين مادة مضادة للتجمد؟ الله -سبحانه وتعالى-، ومن فتح قناة الأنف؟ الله -سبحانه وتعالى-، لذا تفكّرُك اليومي بالله-عزَّ وجلَّ-مما يؤكد لك هذه الآيات:
﴿سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ﴾ فكرْ بأسمائه، وإياك أن تفكر بذاته.
التنزيه والتعظيم يحتاجان إلى معرفة والمعرفة رأس الدين:
ومعنى سبح: أي نزّه وعظّم، نزّه عمل سلبي، وعظّم عمل إيجابي، والتنزيه والتعظيم يحتاجان إلى معرفة، والمعرفة رأس الدين، والهدف الأسمى من الحياة، ﴿سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلْأَعْلَى﴾ لا نهاية لعلّوه، ولا لكماله، ولا لرحمته، ولا لقدرته، فهو الأعلى.
﴿ قَالَ يَٰٓإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ ۖ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْعَالِينَ (75)﴾
فربنا وصف بعض المخلوقات أنهم من العالين، أما ربنا فهو الأعلى ﴿ٱلَّذِى خَلَقَ﴾ ، فهذه مشيئته، وأنت ليس لك مشيئة في الخلق، لو لم يخلقك الله فمن أنت؟ لا شيء.
﴿ هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلْإِنسَٰنِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْـًٔا مَّذْكُورًا (1)﴾
﴿سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلْأَعْلَى* ٱلَّذِى خَلَقَ فَسَوَّىٰ* وَٱلَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى﴾ ، وإن شاء الله في الدرس القادم: ﴿وَٱلَّذِىٓ أَخْرَجَ ٱلْمَرْعَىٰ* فَجَعَلَهُۥ غُثَآءً أَحْوَىٰ﴾
الملف مدقق