الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيدنا محمد الصّادق الوعد الأمين.
اللّهمّ لا علم لنا إلّا ما علّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدنا علمًا وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة؛ وصلنا في سورة الأعلى إلى قوله تعالى:
﴿ فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكْرَىٰ (9)﴾
ولكن هذه الآية سُبقت بآيتين يتصل معناهما بها اتِّصالاً وثيقاً، فقال تعالى:
﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰٓ (6) إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُۚ إِنَّهُۥ يَعْلَمُ ٱلْجَهۡرَ وَمَا يَخْفَىٰ (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ (8) فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكْرَىٰ (9)﴾
التذكير بآلاء الله ونعمائه صِنْفٌ من أصْناف الدعوة إلى الله:
﴿فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكْرَىٰ﴾ لها علاقة بما قبلها، فما قبلها ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰ﴾ عبءُ الحفظ ليس عليك ولكنه علينا، أنت لا تنْسى وإنَّك مُوَفَّقٌ لغايتك ﴿وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ﴾ ، الآن بعد أن حفظْتَ فلا تنْسى، وبعد أنْ بشَّرك الله -عزَّ وجلَّ- بِتَيْسير دعْوَتِكَ الآن ﴿فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكْرَىٰ﴾ ، هذا أمرٌ لسيِّدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وينسحب بالتبعِيَّة على كلِّ مؤمن ﴿فَذَكِّرْ﴾ ، بماذا؟ بِعَظَمَةِ الله، وعدالته، وبِيَوْم الحساب، وبأوامره، ونواهيه، وبالدعوة إلى العمل الصالح، وبِحِفْظ الأمانة والعهْد، طبْعاً الفِعْل إذا حُذِفَ منه المفعول به أُطلق، لو قال ربنا -عزَّ وجلَّ-: َذكِّر الناس بِعَظَمَتي لصار التذكير محْدوداً، لكن فَذَكِّر بأي شيء؟ بِكُلِّ شيء، سواء عليك أعَرَفْتَ الناس بالله أم ذَكَّرْتَهم باليوم الآخر، أم حَذَّرْتهم من عذاب النار، أم حَمَّسْتَهم للعمل الصالح، أم وقَّيْتَهُم من المعصية؛ كُلُّ هذا تذْكير، سيّدنا موسى فيما يُرْوى عنه أنه قال مرَّةً في المُناجاة: "يا ربّ أيُّ عبادك أحبُّ إليك حتى أُحِبَهُ بِحُبِّك؟ قال: يا موسى أحبُّ عبادي إليّ تقِيُّ القلب نقِيُّ اليَدَيْن، لا يمشي إلى أحدٍ بِسوء، أحَبَّني وأحبَّ من أحَبَّني وحَبَّبَني إلى خلْقي، فقال: يا ربّ، إنَّكَ تعلم أنَّني أُحِبُّك، وأُحِبُّ من يُحِبُّك، فَكَيْفَ أُحَبِّبُك إلى خلْقك؟! قال: ذَكِّرْهم بآلائي، ونعْمائي، وبلائي" والفقرة الأخيرة: تُوَضِّح هذه الآية ﴿فَذَكِّرْ﴾ ؛ أيْ ذَكِّرْهم بآلائي فإذا حَدَّثْتَ إنْساناً عن المَجَرَّة، وعن الشمس والقمر، وعن المُذَنَّبات والمسافات في الكون:
﴿ فَلَآ أُقْسِمُ بِمَوَٰقِعِ ٱلنُّجُومِ (75) وَإِنَّهُۥ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)﴾
هذا باب من أبواب التذكير وصِنْفٌ من أصْناف الدعوة إلى الله؛ ذَكِّرْهم بآلائي، فإن ذَكَّرْتَهُم بالأرض وحجْمها، وجاذِبِيَّتِها، وكُرَوِيَّتِها، ودَوَرانِها حول نفْسِها، ومَيْل مِحْوَرِها، ومائِها، وبَرِّها، وبحارها، وجبالها، وأنْهارها
﴿فَذَكِّرْ﴾ ، وإنْ ذَكَّرْتَهم بالنبات؛ أنواعه وأصْنافه وبذوره وأشْجاره والمحاصيل والغابات، أشْجار الأخْشاب والزينة والحدود والفاكهة،
والأشجار الَدائمَة الخضْرة والمُتساقطة الأوْراق، المحاصيل والحِكْمة من خلْقِها وطريقة قطْفِها وحصادِها
﴿فَذَكِّرْ﴾ ، إنْ ذَكَّرْتَهُم بالحيوانات مليون نوع من أنواع السمك في البِحار وأشْكالها، الأسْماك الكبيرة والصغيرة، وأسْماك الزينة، والأسماك التي تنْشر بُقْعَةً من الزيت حولها، والأسماك الحِبْرِيَّة تنشر بقعة من الحبر تخْتفي بها، والأسماك المكهربة، وأسْماك القاع، هذه ضِمْن
﴿فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكْرَىٰ﴾ ، وإن ذَكَّرْت الإنسان بِخَلْقه؛ كيف أنه خُلِقَ من ماء مهين، وعضلاته وأعْصابهن وشرايينه وأوْرِدَته، عظامه، وأجْهزته المُتَعَدِّدة، كيف يتذكَّر ويُفَكِّر ويُحاكم وكيف ينسى؟ وكيف ينْبض قلبه؟ وكيف يتنفَّس؟ وكيف يهضم الطعام؟ وكيف يطرح الفضلات؟! فالتذكير بالآلاء هذه فقْرة، والتذْكير بالنَّعْماء" فذكرهم بآلائي ونعمائي"، هذا الهواء الذي نسْتنشقه ما سرُّ ثبات نِسَبِهِ؟
الأوكسجين إلى الآزوت نِسَبٌ ثابتة، مع أنَّ بني البشر يتنفَّسون منذ آدم وحتى قِيام الساعة، والنبات يتنفس، فمن جعل هذه النِّسْبة ثابتة؟ ومن خلق حركة الرِّياح، جعل قطبين وخط اسْتواء، وبحار، وصحارى، وجُزر؟! يقول لك: مُنْخَفَض مُتَمَرْكز فوق قُبْرُص، قُبْرُص لها وظيفة كبيرة في أمطار الشرق الأوسط، من خلق هذا؟ هذه كلها نِعَمٌ، وكذا البلاء؛ ذَكِّرْهم بالفيضانات والزلازل:
﴿ قُلْ هُوَ ٱلْقَادِرُ عَلَىٰٓ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ ۗ ٱنظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ ٱلْءَايَٰتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)﴾
الأمراض النفسية والهم والحزن والقلق، وأنواع الأمراض؛ الأمراض المُستَعْصِيَة والمُزْعجة، الفقر والضيق والإهانة، وهناك عذاب عظيم وآخر مهين، ذَكِّرْهُم ﴿فَذَكِّرْ﴾ ، إذاً يا محمد ذَكِّر ويا أيها المؤمن ذَكِّر، لكنّ الآية تقول: ﴿فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكْرَىٰ﴾
آراء العلماء في تفسير (إن):
اختلف العلماء في تفْسير كلمة (إِنْ) بالذات:
1-بعضهم قال: هذه (إنْ) شرْطِيَّة؛
أي لا تُذَكِّر إلا إذا نفعت الذكرى، من هذا التفسير يُستنبط أقْوال كثيرة، فَسَيِّدُنا علي قال:
"ما من أحدٍ مُحَدِّث قوماً حديثاً لا تبْلُغُهُ عُقولهم إلا كان عليهم فِتْنَة" ، وهناك أثرٌ آخر عن علي -رضي الله عنه-:
"حَدِّثُوا النَّاسَ بما يَعْرِفُونَ، أتُحِبُّونَ أنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ ورَسولُهُ" فإن كانت كلمة إنْ شَرْطِيَّة أي إنْ نفعت الذِّكْرى فَذَكِّرْ بِشَرْط أنْ تنْفَع؛ لذلك قالوا: من تكلَّم بالحِكْمَة لِغَيْر أهلها فقد ظلمها، ومن منعها أهْلها فقد ظلمهم؛ هذا معنى.
2-هناك معنى آخر بِمَعْنى (حيْثُ)
أي فَذَكِّر حيث تنْفعُ الذِّكْرى؛ أيْ كلما وجدْتَ فُرْصَةً ذَكِّرْ، وكلما وجدْتَ وسيلةً ذَكِّرْ، وكلما وجدْتَ قلباً واعِياً ذَكِّرْ، كلما وجدت فرصة؛ جلست مع شخص مسافرٍ في الطريق لأربع ساعات فهي فرصة للتذكير، وكذا إنْ زارك شخْصٌ ذَكِّرْه، فهناك موضوعات كثيرة وقد تكون سخيفة لكن ما دمت التقيت إنسانًا لفترة طويلة ذَكِّرْه هاقد وجدت فرصة فذَكِّر، وإذا خدمْتَ شخْصاً خِدْمَةً وأبْدى لك اهْتِماماً كبيراً فقَلْبُ هذا الشخْص مُهَيَّأ فذَكِّره، إذاً ذَكِّرْ حيث وجدت فرصةً، وذكّر حيث وجدت قلباً واعِياً، وذكّرْ حيثُ وجدت وسيلَة، فإذا سمعنا اكتشافاً علمياً، أو قرأ أحدهم لك مقالاً فهناك مناسبة للتذكير، فحيث وجدت فرصة، وحيث وجدت قلباً واعياً، وحيث وجدت وسيلة مقنعة فذكّر؛ هذا المعنى الثاني من معاني إنْ، فالمعنى الأول شَرْطي أما المعنى الثاني ظَرْفي(حيث).
3-المعنى الثالث: ﴿فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكْرَىٰ﴾ بِمَعْنى: ذكّر إِذْ تنفع الذكرى
، فالذِّكْرى تنْفع دائِماً.
﴿ وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَنتُمُ ٱلْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139)﴾
بمعنى إذْ كنتم مؤمنين.
4-المعنى الرابع: بِمَعنى قد:
﴿فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكْرَىٰ﴾ أيْ ذَكِّر فقد تنْفعُ الذِّكْرى، إذاً صارت:
إن الشرطية، وبمعنى حيث الظرفيّة، وبمعنى قد التي تُعرب حرف تحقيق إن جاءت قبل فعل الماضي، وتُعْرب حرف تقليل إن جاءت قبل فعل مضارع، وبمعنى إن الدالة على الثبوت ﴿فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكْرَىٰ﴾ ، فأكبر مهمّة في الحياة أمام المؤمن أن يُذَكِّر عباد الله -عزَّ وجلَّ- بعظمة الله عن طريق آلائه ونِعَمِهِ ونِقَمِهِ، فإذا ذَكَّرْتهم بآلائه يُعَظِّمونه، وإذا ذَكَّرْتهم بِنِعَمِهِ يُحِبُّونه، وإذا ذكَّرْتهم بِبَلائه يخافونه، فلا بد أن يجتمع في قلب المؤمن الخوف والمحبّة والتعظيم؛ لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
(( أحبّوا الله لما يغذوكم من نعمه، وأحبوني بحبِّ الله، وأحبّوا أهل بيتي لحبي ))
[ رواه الترمذي والحاكم عن عبد الله بن عباس ]
﴿فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكْرَىٰ﴾ الآيات التي قبلها: ها قد أقْرَأناك فلا تنْسى، وها قد يسَّرْناك لليُسْرى فَذَكِّرْ، التذكير مبْني على هاتين الآيتين أو على هذين السَّبَبَيْن، فإذا الإنسان زَوَّدوه بِخُبراء، وأعْطَوْهُ دعْماً كافٍ لِمَ لا يتحَرَّك؟! أحدهم أقام مشروعاً وجاء بخبراءٍ من أعلى مستوى، وجاءه دعم مادي من أعلى مستوى، وبقي واقفاً، نقول له: ماذا تنتظر؟! ها قد أقْرَأناك فلا تنْسى، وها قد يسَّرْناك لليُسْرى فَذَكِّر إن نفعت الذِّكْرى، هذه الآيات إذا أردْنا أنْ نسْحَبَها قليلاً للمؤمن؛ ها قد عرفْتَ شيئاً من كتاب الله، وها قد يسَّرْنا لك عملك في الدنيا، فلماذا لا تُذَكِّرُ بنا؟!
﴿ فَٱذْكُرُونِىٓ أَذْكُرْكُمْ وَٱشْكُرُواْ لِى وَلَا تَكْفُرُونِ (152)﴾
من أمر بِمَعْروف فَلْيَكُن أمرهُ بالمعْروف:
﴿فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكْرَىٰ﴾ فصارت معنا (إن) بمعنى قد، بمعنى حيث، بمعنى حرف شرط جازم، بمعنى حيث الظرفية، بمعنى إذ؛ أي الذكرى تنفع قطعاً، فالإنسان لا ييأس، أبعد الناس عن الهداية في الأرض فرعون، فقال:
﴿ فَقَالَ أَنَا۠ رَبُّكُمُ ٱلْأَعْلَىٰ (24)﴾
أبعد الناس قاطبة عن الهداية فرعون ومع ذلك:
﴿ اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (43) فَقُولَا لَهُۥ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُۥ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ (44)﴾
ذكروا أنَّ رجلاً أراد أنْ يعظ إنسانًا بِقَسْوة فقال له: لِمَ القسْوة يا أخي؟! لقد أرسل الله من هو خير منك إلى من هو شرّ مني؛ أرسل موسى إلى فرعون-طبعًا موسى خير منه، وفرعون شر منه ومع ذلك: ﴿فَقُولَا لَهُۥ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُۥ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ﴾ - من أمر بِمَعْروف فَلْيَكُن أمرهُ بالمعْروف.
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لَٱنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى ٱلْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَوَكِّلِينَ (159)﴾
هذه الآية دقيقة جداً وينبغي أن تكون في قلب كلٍّ منا ﴿فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكْرَىٰ﴾ ، وهل نؤاخذ بما نقول؟ قال له:
(( قلتُ: يا رسولَ اللهِ، أخبِرْني بعملٍ يُدخِلُني الجنَّةَ، ويباعدني منَ النَّارِ، قال: لقد سألتَ عن عظيمٍ، وإنَّهُ ليسيرٌ علَى من يسَّرَه اللهُ عليه، تعبدُ اللهَ ولا تشرِكُ بِه شيئًا، وتقيمُ الصَّلاةَ، وتؤتي الزَّكاةَ، وتصومُ رمضانَ، وتحجُّ البيتَ، ثمَّ قالَ: ألا أدلُّكَ علَى أبوابِ الخيرِ؟ الصَّومُ جُنَّةٌ، والصَّدَقةُ تطفئُ الخطيئةَ، كَما يطفئُ الماءُ النَّارَ، وصلاةُ الرَّجلِ في جوفِ اللَّيلِ، ثمَّ تلا: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُم عَنِ الْمَضَاجِعِ) حتَّى بَلغَ: (يَعمَلونَ) ثمَّ قال: ألا أُخبِرُك بِرأسِ الأمرِ، وعمودِه، وذِروَةِ سَنامِه؟ قلت: بلَى، يا رسولَ اللهِ، قال: رأسُ الأمرِ الإسلام، وعمودُه الصَّلاةُ، وذِروةُ سَنامِهِ الجِهادُ، ثمَّ قال: ألا أخبرُك بمِلاكِ ذلِك كلِّه؟ قلتُ: بلَى، يا نبيَّ اللهِ، فأخذَ بلسانِهِ، وقال: كُفَّ عليكَ هذا، فقُلتُ: يا نبيَّ اللهِ، إِنَّا لمؤاخَذونَ بما نتَكلَّمُ بِه؟ قال: ثَكلتكَ أمُّكَ يا معاذُ، وَهل يَكبُّ النَّاسَ في النَّارِ علَى وجوهِهِم، أو علَى مناخرِهم، إلَّا حصائدُ ألسنتِهم. ))
[ صحيح الترمذي عن مُعَاذِ بنِ جَبَل ]
لا يستقيم إيمان عبْد حتى يسْتقيم قلبه، ولا يسْتقيم قلبه حتى يسْتقيم لِسانه، فهذا الإنسان ينبغي أن يكون ذاكراً لله -عزَّ وجلَّ-، دخل على سيّدنا عمر بن عبد العزيز وَفْدُ الحِجازيين يتقدَّمُهُم غُلامٌ صغير لا تزيد سِنُّه عن إحدى عشْرة سنة فَغَضِبَ سيّدنا عمر وقال: يا غُلام اجْلِس! ولْيَقُمْ من هو أكبر منك سِناًّ، فقال هذا الغُلام الصغير: أصلح الله الأمير، المرءُ بِأصْغَرَيْهِ قلبه ولسانه، فإذا وَهَبَ الله العبد لِساناً لافِظاً، وقلباً حافِظاً فقد اسْتَحَقّ الكلام، ولو أنَّ الأمر كما تقول لكان من هو أحقّ منك في المجْلس، وقد ورد في الأثر: أمرني ربي بتسع؛ خشية الله في السر والعلانية، كلمة العدل في الغضب والرضا، القصد في الفقر والغنى، وأن أصل من قطعني، وأن أعفو عمن ظلمني، وأن أعطي من حرمني - موطِنُ الشاهد الآن- وأن يكون صمتي فكراً، ونطقي ذكراً، ونظري عبرة.
(( يقولُ اللَّهُ تَعالَى: أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي، وأنا معهُ إذا ذَكَرَنِي، فإنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وإنْ ذَكَرَنِي في مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ في مَلَأٍ خَيْرٍ منهمْ، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ بشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِراعًا، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِراعًا تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ باعًا، وإنْ أتانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً. ))
[ أخرجه البخاري، ومسلم باختلاف يسير عن أبي هريرة ]
﴿فَٱذْكُرُونِىٓ أَذْكُرْكُمْ وَٱشْكُرُواْ لِى وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ فإذا أعْطاك الله إمْكانيات التذكير بالله -عزَّ وجلَّ- فهذا فضْلٌ من الله عليك كبير، إذا أراد ربُّك إظْهار فضْلِهِ عليك، خلق الفضْل ونسَبَهُ إليك، فلا يضِنُّ الإنسان بالذكر على أهله وزوجته وأولاده وجيرانه وزملائه وكل من يُصادف ﴿فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكْرَىٰ﴾ فذَكِّر حيث نفعت الذكرى؛ أي في الوقت المناسب والقلب المناسب وبالكلام المُناسب، الوقت المناسب: شخص مشغول بقضية، فإذا جئت تذكره قال لك: نحن مشغولون الآن، فيصدك لكن الآن أصبح فارغاً وارتاحت نفسه وأخذ موافقة وغيّر البضاعة، فالآن ذكّره.
﴿ فَإِذَا فَرَغْتَ فَٱنصَبْ(7) وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَٱرْغَب (8)﴾
ذكّر حيث وجدت فرصةً، وجدت قلباً واعياً ووسيلةً؛ هذا هو التذكير، ذَكِّر إذْ نفعت الذكرى فالذِّكْرى تنْفع دائِماً، وذَكِّر بمعنى (قد) فقد تنْفع الذِّكْرى، رأيت شخصاً شارب الخمر، والله رحيم وغفور، قل له: الصلحة بلمحة، فمن الممكن أن يبكي، وشارب الخمر عاصٍ لا يصلي، فهذه (إن) بمعنى (قد) فقد تنْفع الذِّكْرى، العوام يقولون كلمة: اضرب هذه الطينة بهذا الحائط، إذا لم تُلتصق تترك أثرًا، فَهَمُّ الإنسان المؤمن الأول أن يدْعوَ إلى الله -عزَّ وجلَّ-:
﴿ قُلْ هَٰذِهِۦ سَبِيلِىٓ أَدْعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ ٱتَّبَعَنِى وَسُبْحَٰنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَا مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ (108)﴾
﴿فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكْرَىٰ﴾
﴿ سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ (10) وَيَتَجَنَّبُهَا ٱلْأَشْقَى (11)﴾
وسيتجنبها الذي لا يخشى؛ هكذا يجب أن يكون الكلام ولكن ربنا -عزَّ وجلَّ- قال:
﴿وَيَتَجَنَّبُهَا ٱلْأَشْقَى﴾ وهذا من البلاغة (تبديل الكلمات) فصار الذي لا يتذكر هو الأشقى، والأشقى على وزْن الأفعل وهو اسم تفْضيل؛ أي الأشقى إطْلاقاً، الأشقى في الدنيا والأشقى في الآخرة، وفي تفكيره وفي حياته النفسية والزوجيّة ومع أولاده وفي تِجارته وتعامله ووظيفته وفي خريف عمره وساعة موته والبرزخ والآخرة.
﴿فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكْرَىٰ* سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ﴾ الذي يتذكر صاحب القلب الحيّ؛ وعلامة حياة القلب الخشية، القلب الذي ينبض بالحياة هو الذي سيتذكَّر، أما القلب الميِّت فلا يذكر، وربُّنا -سبحانه وتعالى- يقول:
﴿ أَمْوَٰتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍۢ ۖ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)﴾
﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ۖ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۚ هُمُ ٱلْعَدُوُّ فَٱحْذَرْهُمْ ۚ قَٰتَلَهُمُ ٱللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ(4)﴾
﴿ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ (50)﴾
﴿ مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوْرَىٰةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًۢا ۚ بِئْسَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ ۚ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّٰلِمِينَ (5)﴾
هذا القلب الذي لا يذكر هو قلب ميِّت، علامة الحياة الخشية، أخصُّ ثمار العلم الخشية فإن لم تكن الخشية فالعلم -إن وجد- فلا قيمة له، ﴿سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ﴾ هذا الذي ينطوي على قلب حيّ علامة حياته الخشيَة هذا يذكر، وهذا الذي يُعرِض عن الحق هو الأشقى، ربنا -عزَّ وجلَّ- قال:
﴿ إِنَّ ٱلْأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍۢ (14)﴾
بعضهم يفهم هذه الآية أنّ إطْلاقها يبْقى مطلقاً، في نعيمٍ في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا هناك نعيم، في زواجه هناك نعيم، وبين حَيِّه وجيرانه هناك نعيم، وله في الدنيا نعيم قبل الآخرة لأنه:
﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)﴾
فهذا الإطلاق على إطْلاقه، النبي الكريم يقول:
(( أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ خطبَ النَّاسَ يومَ فتحِ مَكَّةَ، فقالَ: يا أيُّها النَّاسُ، إنَّ اللَّهَ قد أذهبَ عنكم عُبِّيَّةَ الجاهليَّةِ وتعاظمَها بآبائِها، فالنَّاسُ رجلانِ: برٌّ تقيٌّ كريمٌ على اللَّهِ، وفاجرٌ شقيٌّ هيِّنٌ على اللَّهِ، والنَّاسُ بنو آدمَ، وخلقَ اللَّهُ آدمَ من الترابِ، قالَ اللَّهُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ))
[ أخرجه الترمذي، وابن حبان عن عبد الله بن عمر ]
فلا يوجد حلّ وسط إما أن تكون سعيداً وإما أن تكون شَقِيّاً، إما أن تكون سعيداً بِمَعْرِفَتِه والصلة به، وإما أن يكون المرء شَقِيّاً بالابتعاد عنه والجهل به: ﴿سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ* وَيَتَجَنَّبُهَا ٱلْأَشْقَى﴾ تبديل الكلمات في الآيات إعْجاز، بِحَسْب تفْكير الإنسان الساذج يقول: سيَذَّكَر من يخشى ويتجنَّبُها الذي لا يخْشى، لما ربنا قال: ﴿وَيَتَجَنَّبُهَا ٱلْأَشْقَى﴾ فُهِمَ من هذا أنَّ الذي لا تنْفعه الذكرى هو الأشقى قاطبةً.
﴿ ٱلَّذِى يَصْلَى ٱلنَّارَ ٱلْكُبْرَىٰ(12)﴾
فالكُبرى في أمدها.
(( إن أهل النار ليبكون حتى لو أجريت السفن في دموعهم لجرت، وإنهم ليبكون الدم يعني مكان الدمع ))
[ رواه الحاكم عن عبد الله بن قيس مرفوعًا (صحيح الإسناد) ]
النار الكبرى في مُدَّتِها إلى الأبد، فأكبر رقَمٍ يتصَوَّرُهُ ذِهْنُك ضَعْهُ صورة واجعل في المخرج اللا نهاية يكون العدد هو الصفر؛ أي ألف أَلف ألْف ...مليون مليون..... حتى ينقطع النفس! فأنت إذا نسَبْتَ أكبر رقم في الأرض إلى اللا نهاية يصبح لا شيء، وحتى تعرف اللا نهاية لو أخذت قلم حِبْر أحمر ووضعت حافَّتَه على كيس طحين ثم اضغط ضغطًا خفيفاً فكم من ذرة ستلصق به؟ إذا كل ذرة مليون سنة، فتصور كم في الكيس من مليون سنة؟ وكم في الكيسين؟ وطحين القطر العربي السوري؟ وطحين العالم كم سنة؟ فالأبد أطول، ويصْعُب تصوّره، ربنا -عزَّ وجلَّ- يقول:
﴿ إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ ۚ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23)﴾
كلّ عطاء ينتهي بالموت ليس بِعَطاء:
لذلك كلمة من القلب: كلّ عطاء ينتهي بالموت فهو ليس بِعَطاء، الكريم لا يفعل هذا، مادام العطاء ينتهي بالموت فهو لا يُسمى عطاءً، سيدنا علي يقول: فلْيَنظر عاقل بِعَقْله أنَّ الله أكرم محمداً أم أهانه حين زوى عنه الدنيا؟ فإن قال: أهانه فقد كذب، وإن قال: أكرمه فلقد أهان غيره حيث أعْطاه الدنيا، لو أنَّ الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها الكافر شَرْبة ماء، هكذا قال الله -عزَّ وجلًّ-: الدنيا جيفة طُلابها كلابها، الدنيا دار من لا دار له، ولها يسْعى من لا عقل له! إنَّ أكْيَسَكم أكثركم للموت ذِكْراً، وأحْزَمَكُم أشَدكم اسْتِعْداداً له، ألا وإنَّ من علامات العقل التجافي عن دار الغُرور، والإنابة إلى دار الخُلود، والتَّزَوُّد بِسُكْنى القبور، والتأهُّب لِيَوْم النشور، فالعطاء في الدنيا لا يُسَمى عطاءً:
﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15)﴾
قال: كلا، ليس هذا إكراماً هذا امتحان، ليس هناك إكرام ينتهي بالموت، يأتي أحدهم بأفخر سيارة ولها سرعة تصرع الأذان، وتحسده عليها وفجأة أثناء ركوبه السيارة يتعرض للموت؛ ولذلك قال ربنا -عزَّ وجلَّ-:
﴿ بَلْ تُؤْثِرُونَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا(16)﴾
جَهَنّم صعبة وأصعب ما فيها الخلود فيها:
قال تعالى:
﴿ ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ (13)﴾
(ثمَّ) هذه للترتيب غير الزمني؛ لِتَرْتيب الرتبة أي دُخول النار صَعْبٌ جداً والأصعب من ذلك البقاء فيها إلى الأبد، أحياناً الشيء ينتهي، ودخول النار مصيبة كبيرة والأكبر منها أن الإنسان فيها إلى الأبد، ﴿ٱلَّذِى يَصْلَى ٱلنَّارَ ٱلْكُبْرَىٰ* ثُمَّ﴾ والأصعب من هذا أنه لا يموت فيها ولا يحيا! لا يموت فَيَسْتريح، ولا يحْيا فَيَسْتريح، لا يموت فَتَنْزاح عنه هذه العذابات ولا يحْيا فَيَرْتاح منها، إنَّ جَهَنّم صعبة وأصعب منها الخلود فيها: ﴿ٱلَّذِى يَصْلَى ٱلنَّارَ ٱلْكُبْرَىٰ* ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ﴾ فالإنسان الذي لا يخاف من كلام الإله فَمِن كلام من سَيَخاف؟! إذا كانت هذه الآيات التي هي من خالق الأرض والسماوات لم تُحدث في نفسه خوفاً فَمِمَ يخاف إذاً؟! لذلك قال ربنا-عزَّ وجلَّ-قال:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ (14)﴾
الفلاح أيْضاً مُطلق، نجح، وتَفَوَّقَ، سَعِد، الناس لهم مقاييس للنجاح، فَمَن حصَّل دخْلاً كبيراً قالوا: فلان نجح في حياته، ومن حصَّل منصِباً عالِياً، ومن كان ناجحاً في بيْتِهِ ومع زوْجَتِه وأولاده.
ربنا -عزَّ وجلَّ- يقول: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ﴾ الذي أفلح ونجح وسعِد وتعب وتفَوَّق وحقَّقَ الهدف، وسعِدَ إلى أبد الآبِدين هو الذي تزَكَّى، اُنظر إلى حال الناس في هذه الأيام، مَن مِن الناس يعْنيه أمر نفْسه؟ الناس جميعاً يعْنيهم أمر دُنياهم؛ بيْتُهُ واسع ومُزَيَّن، ومَرْكبة نقْل مُريحة وفَخْمة، ويحْتاج إلى دخْلٍ كبير، ولا بد أنْ يسَرّ بالحياة، وطعام جيد ولباسٌ جيّد ومظهر لائق، ووقت فراغ غَنِيّ بالمُتع والمسرات، من الذي يعْنيه أمْر نفسه ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ﴾ ؟!
كُلّ هذه المظاهر المادِيَّة تنْتهي بالموت مهما عَلَوْتَ في الدنيا، ومهما كَثُرَ مالك، مهما غُصْتَ في مُتعها ونعيمها يأتي الموت فَيَسْلُبُك كُلّ هذه المُتَع والمسرات والأموال والمكانة في ثانِيَة واحدة، لكن الفلاح والنجاح أن تتزَكى، ما معنى تتزَكى؟
1-قال بعضهم: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ﴾ أيْ مَن طَهَّرَ نفسه من الأدران الخبيثة ومن أمراضها؛ لأن أمْراض الجسد تنتهي بالموت، لكن خَطَرَ أمراض النفْس يبْدأ بالموت، واحدٌ مُتَكَبِّر مستعلٍ وحسود وحقود لئيم، يُحِبّ ذاته، يقبل أن يبني مَجْدَهُ على أنقاض الآخرين، وثَرْوَتَهُ على فقْرِ الآخرين، وأن يبني نفسه على إتْلاف الآخرين، وهو في الدنيا مُخَدَّر، الناس نِيام إذا ماتوا انتَبَهوا، لكن أمراض النفس تبدأ آلامها بعد الموت، أما أمراض الجسد فتنتهي آلامها عند الموت.
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ (14) وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبِّهِۦ فَصَلَّىٰ (15)﴾
فهذا الذي تزكى طَهَّر نفسه من كُلّ الأدران والمُيول المُنْحَرِفَة ومن كُلّ الشهوات والنقائِص والانحرافات قد أفلح.
2- ومن معاني التزكية أيضاً التَحَلِّي بالكمالات والتخلِّي عن الانحرافات ، فلا بد من تحْلِيَة ولا بد تَخْلِيَة، فالصَّبّاغ قبل أن يغمس القماش في الصِّباغ يقوم بِتَنْظيفه، فإن كان في القُماش مواد زَيْتِيَّة فالصِّباغ لا يعْلق ولا يؤثر فيه، فلا بد من التخلِيَة أولاً ثم التَحليَة، لا بد من تطْهير النفْس من الأدران ثمّ تَحْلِيَتِها بالكمال، فالتطْهير والتَّحْلِيَة هو التَزَكي؛ وهذا هو الفلاح لأنَّهُ:
﴿ يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾
هذه الجُهود الكبيرة التي يبْذِلُهُا الإنسان في الدنيا كي يُطَهِّرَ نفسه من كُلّ دَرَنٍ وعُجْبٍ وشِرْكٍ واسْتِعْلاء وكِبْر وحِقْد وضغينة وأَثَرَة وحُبِّ الذات؛ هذه الجُهود يرى ثَمَرَتَها عند الموت:
﴿ سَلَٰمٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّۢ رَّحِيمٍۢ (58)﴾
﴿ ٱدْخُلُوهَا بِسَلَٰمٍ ءَامِنِينَ (46)﴾
﴿ قَالُواْ يَٰوَيْلَنَا مَنۢ بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا ۜ ۗ هَٰذَا مَا وَعَدَ ٱلرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ ٱلْمُرْسَلُونَ (52)﴾
﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَٰبَهُۥ بِيَمِينِهِۦ فَيَقُولُ هَآؤُمُ ٱقْرَءُواْ كِتَٰبِيَهْ (19) إِنِّى ظَنَنتُ أَنِّى مُلَٰقٍ حِسَابِيَهْ(20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ( 24))
﴿ ءَاخِذِينَ مَآ ءَاتَىٰهُمْ رَبُّهُمْ ۚ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَٰلِكَ مُحْسِنِينَ(16) كَانُواْ قَلِيلًا مِّنَ ٱلَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِٱلْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِىٓ أَمْوَٰلِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ (19)﴾
﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ﴾ هذه الآية واضحة ولكن هل أنت في مُسْتَواها؟! هل لك رؤيَة تنطبق على هذه الآية؟ إنْ كانت لك رؤية خِلاف هذه الآية، فإذا رأيتَ إنْساناً حَقَّقَ دخْلاً كبيراً جداً فهل تقول: هذا هو الفالح، أين الآية إذاً؟!
﴿ فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِۦ فِى زِينَتِهِۦ ۖ قَالَ ٱلَّذِينَ يُرِيدُونَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا يَٰلَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِىَ قَٰرُونُ إِنَّهُۥ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍۢ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)﴾
من لم تكن له رؤية مُطابقة لِهذه الآية فَحالُهُ خطيرة ولو فَهِمَها وحفِظَها وقرأها وتلاها في الصلاة، ليستْ العِبْرة أن تقرأ الآية إنما أن تعيشَها وأن تكون في مُسْتواها، أن تنطبق رؤيتك عليها﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ﴾ ؛ لذلك سيّدنا الصديق ما ندم على شيء من الدنيا فاته قطّ، فالحياة مُؤَقَّتَة، فإذا اختار الله لك أن تكون مُوَظَّفاً موظف، ودَخْلُك محْدود لابأس، ولكن صِحَّتي طيِّبَة، وإيماني جيّد، وحياتي هادئة مُسْتَقِرَّة، الله اختار لك أن تكون تاجراً فعليك مسؤوليات أكبر، الله اختار لك أن تكون بحال معين، هذه كلها أشياء ليست في جوْهر الحياة؛ الجَوْهر أنْ تعْرِفَ الله، وأن تكْسَبَ حياتك.
فَلَيتَكَ تَحـــلو وَالحَـياةُ مَريرَةٌ وَلَيتَكَ تَرضى وَالأَنامُ غِضابُ
وَلَيتَ الَّذي بَيني وَبَينَكَ عامِرٌ وَبَيني وَبَينَ العالَمينَ خَـــرابُ
إِذا صَحَّ مِنكَ الوُدَّ فَالكُلُّ هَيِّنٌ وَكُلُّ الَّذي فَوقَ التُرابِ تُرابِ
[ أبو فراس الحمداني ]
﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ* وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبِّهِۦ فَصَلَّىٰ﴾ كيف تزْكو النفْس؟ إذا ذكَرْتَ اسم الله فَصَلَّيْت، هذا طريق التزْكِيَة، فعلى الإنسان أن يعرف أسْماء الله الحُسْنى، الله-سبحانه وتعالى- ليس له صفات له أسماء؛ لأن الصفات تتحول وتتغير:
﴿ وَلِلَّهِ ٱلْأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا ۖ وَذَرُواْ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِىٓ أَسْمَٰٓئِهِۦ ۚ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (180)﴾
(( إنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وتِسْعِينَ اسْمًا مِئَةً إلَّا واحِدًا، مَن أحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ ))
[ صحيح البخاري عن أبي هريرة ]
هل عَرَفْتَ رحْمَتَهُ ولُطْفَهُ وقُدْرَتَهُ وحِكْمَتَهُ وحنانه ورأْفته؟! ماذا عرفْتَ عنه إذاً؟! إذا رأيْتَ بلاءً عامّاً تقول: والله شيءٌ مُحَيِّر، أين الله؟ أنت إذاً لا تعرفه، فإذا قلت: فلان ماذا فعل وكل يوم عنده مصائب، وفلان ليس لديه دين ولكن يزداد قوة، وفلان يمشي بطريقة صحيحة وكل يوم مصيبة، كأنَّك تشُكُّ في حِكْمِتِه، فأنت لا تعرفه إذًا، ماذا تعرف عن حكمته وعدالته؟!
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوٓاْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ۚ وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا ٱلْقِتَالَ لَوْلَآ أَخَّرْتَنَآ إِلَىٰٓ أَجَلٍۢ قَرِيبٍۢ ۗ قُلْ مَتَٰعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ وَٱلْءَاخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)﴾
لا تزكو النفسُ إلا بمعْرِفَة الله والإقْبال عليه:
لذلك
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ﴾ لا تزكو النفسُ إلا إذا ذكر صاحبها اسم ربِّهِ فَصَلى، فَمَنْ ذكر اسم ربِّهِ فقط لا تزْكو نفْسُهُ، لا بد من معْرِفَة الله والإقْبال عليه، فالمعْرفة من دون تَحَرُّك لا قيمة لها:
﴿ وَقَالَ إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّى سَيَهْدِينِ (99)﴾
﴿ فَفِرُّوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ ۖ إِنِّى لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (50)﴾
العقبات التي تعترض طريق الفلاح والتزكية:
المعْرِفَة تحْتاج إلى تَحَرُّكٍ نحو الله -عزَّ وجلَّ- ﴿وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبِّهِۦ فَصَلَّىٰ﴾ ، حسناً ما هي العقبات التي تقف بين الناس وبين أن يُحَقِّقوا النجاح والفلاح؟ وبين أنْ يُحَقِّقوا هذا الفلاح والتَفَوُّق؟! وبين أن يُزَكوا أنفسهم؟ وبين أن يذكروا اسم ربِّهم فَيَتَّصِلون به؟ ما العقبات؟! قال تعالى أنكم لا تفعلون ذلك:
﴿ بَلْ تُؤْثِرُونَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا(16)﴾
تُؤثِرون الدنيا العاجلة على الآخرة الباقِيَة، تُؤثِرونَ عَرَضاً تافِهاً سخيفاً قليلاً ومُؤَقَّتاً على جنَّةٍ عَرْضُها السماوات والأرض، فالله -عزَّ وجلَّ- عَرَّفَ الفلاح ورسم طريقهُ وبيَّنَ عَقَباتِهِ،
عَرَّفَ الفلاح وهو التَزَكي؛ تطْهيرُ النفْس من أدْرانها وتَحْلِيَتُها بالكمال تهْييئاً لها لِتَكون في جِوار الله -عزَّ وجلَّ- إلى أبد الآبدين، وطريق هذه التزْكية أن تعرف الله وأن تتصِلَ به، والعَاقِبَةُ هي الدنيا، حب الدنيا هو رأس كلِّ خطيئة، وحُبُّكَ الشيء يُعْمي ويُصِمّ.
﴿ بَلْ تُؤْثِرُونَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا(16) وَٱلْأٓخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰٓ(17)﴾
ربنا -عزَّ وجلَّ- يُقَدِّم لكم هذه النصيحة، لو قُلْتَ لِشَخْصٍ: أتقْبل مبلغاً كبيراً دفعة واحدة ولا يوجد بعده شيء أم مبلغ قليل شهريًا طوال الحياة والمبلغ المدفوع على دفعات أكبر لمدة طويلة؟! فهذا الخِيار يجْعله يرى للبعيد وتراهُ يُقَدِّم الدفعة الشهرية على الدفعة الواحدة المُنْتَهِيَّة!! ﴿وَٱلْأٓخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ﴾ ليس فقط أبقى بل هي خير؛ كلام ربِّ العالمين، فإذا لم يُصَدِّق شخْصٌ هذا الكلام يكون أحْمقاً، ليس عنده فكر إطلاقًا، ﴿وَٱلْأٓخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ﴾ إلى الأبد، مثلاً شخصٌ مُعْتنٍ ببيْتِهِ مُرَتِبٌ لِحالِهِ فلما ينتهي من ترْتيبه أسبوع أسبوعان قد يأتيه الأجل فيوضع في النعش، دخل عامودياً وخرج بشكل أفقي إلى المقبرة ليُدْفن، ويأكلون في تعزيته ما لذ وطاب، وبعد أسبوع يضحكون ثم بعد شهر قد يذهبون في نزهة، وبعد سنة يتركون الحزن نهائيًا كأنه لم يكن مع أنه هو الذي رتب، معنى ذلك أنَّ الحياة هي الفناء، والذكاء أن تعمل.
(( كُنتُ معَ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ، فجاءَهُ رجلٌ منَ الأنصارِ، فَسلَّمَ على النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ، ثمَّ قالَ: يا رسولَ اللَّهِ أيُّ المؤمنينَ أفضلُ؟ قالَ: أَحسنُهُم خُلقًا، قالَ: فأيُّ المؤمنينَ أَكْيَسُ؟ قالَ: أَكْثرُهُم للمَوتِ ذِكْرًا، وأحسنُهُم لما بعدَهُ استِعدادًا، أولئِكَ الأَكْياسُ ))
[ أخرجه ابن ماجه، والحاكم باختلاف يسير، والطبراني بنحوه عن عبد الله بن عمر ]
(( الكَيِّسُ مَن دان نفسَه وعمِل لما بعدَ الموتِ والعاجِزُ مَن أتبَع نفسَه هَواها وتمنَّى على اللهِ الأمانِيَّ ))
[ أخرجه الترمذي، وأحمد مختصراً، وابن ماجه باختلاف يسير عن شداد بن أوس ]
﴿ بَلْ تُؤْثِرُونَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا(16) وَٱلْأٓخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰٓ(17) إِنَّ هَٰذَا لَفِى ٱلصُّحُفِ ٱلْأُولَىٰ(18)﴾
ليس هذا الكلام شيئًا جديدًا ولم يُذْكر من قبل فهذا كلام قديم، وهذه الحقائق أزليَّة وأبديَّة لم تكُن في القرآن فَحَسْب بل في التوراة والإنجيل وصُحُف إبراهيم وموسى، جاء في الإنجيل:" أنا الطريق والحق والحياة، فَكُلّ غُصْن لا يثبتُ فيَّ يُقْطع ويُلْقى في النار، أنا الكَرْمَةُ الحقيقيَّة وأنتم الأغْصان- هذا عن سيّدنا عيسى-" فلو قرأت التوراة والإنجيل قبل التبديل والتحريف، والإنجيل كما أُنْزل لَرَأيْتَ تَطابًقاً هناك بين التوراة والإنجيل والقرآن:
﴿ إِنَّ هَٰذَا لَفِى ٱلصُّحُفِ ٱلْأُولَىٰ(18) صُحُفِ إِبْرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ (19)﴾
(( صحابيٌّ جليل سأل النبي -عليه الصلاة والسلام-، فعن أبي ذَرٍّ -رضي الله عنه- قلتُ: ....يا رسولَ اللهِ ! فَما كانَت صُحفُ إبراهيمَ؟ قالَ: كانَت أمثالًا كلُّها: أيُّها الملِكُ المسلَّطُ المبتَلَى المغرورُ، فإنِّي لم أبعثْكَ لتجمَعَ الدُّنيا بعضَها إلى بعضٍ، ولكن بعثتُكَ لترُدَّ عنِّي دعوةَ المظلومِ، فإنِّي لا أردُّها ولَو كانَت مِن كافِر، وعلَى العاقِلِ ما لَم يكُن مغلوبًا علَى عقلِهِ أن تكونَ له ساعاتٌ؛ ساعَةٌ يُناجي فيها ربَّهُ، وساعةٌ يحاسِبُ فيها نفسَهُ، وساعَةٌ يفكِّرُ فيها في صُنعِ اللَّهِ، وساعةٌ يخلو فيها بحاجتِهِ من المطعَمِ والمشرَبِ، وعلى العاقلِ أن لا يكون ظاعِنًا إلَّا لثلاثٍ؛ تزوُّدٍ لمعادٍ، أو مرمَّةٍ لمعاشٍ، أو لذَّةٍ في غيرِ محرَّمٍ، وعلى العاقِلِ أن يكونَ بصيرًا بزمانِهِ، مقبِلًا على شأنِهِ، حافِظًا للسانِهِ، ومن حسَبَ كلامَهُ من عمَلِهِ قلَّ كلامُهُ إلا فيما يعنيهِ. قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ! فما كان صحُفُ موسَى عليهِ السَّلامُ؟ قال: كانَت عبرًا كلَّها، عجبتُ لمن أيقنَ بالموتِ ثُمَّ هو يفرَحُ، عجبتُ لمن أيقنَ بالنَّارِ وهو يضحَكُ، عجبتُ لمن أيقنَ للقدرِ ثم هو ينصَبُ، عجبتُ لمن رأى الدُّنيا وتقلُّبَها ثُمَّ اطمأنَّ إليها، عجِبتُ لمن أيقنَ بالحسابِ غدًا ثُمَّ لا يعمَلُ. قلتُ: يا رسولَ اللهِ! أوصِني، قال: أوصيكَ بتقوى اللهِ فإنَّهُ رأسُ الأمرِ كلِّهِ، قلتُ: يا رسولَ اللهِ! زِدني، قال: عليكَ بتلاوَةِ القرآنِ فإنَّهُ نور لكَ في الأرضِ وذكرٌ لكَ في السَّماءِ. قلتُ: يا رسولَ اللهِ! زِدني، قال: إيَّاكَ وكثرةَ الضَّحِكِ فإنَّهُ يُميتُ القَلبَ، ويَذهَبُ بنورِ الوَجهِ، قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ! زِدني، قال: عليكَ بالصَّمتِ إلَّا مِن خيرٍ، فإنَّهُ مطردَةٌ للشَّيطانِ عنكَ، وعونٌ لكَ علَى أمر دينِكَ. قلتُ: يا رسولَ اللهِ! زِدني، قال: عليكَ بالجهادِ فإنَّهُ رهبانيَّةُ أمَّتي. قلتُ: يا رسولَ اللهِ! زِدني، قال: حبُّ المساكينِ وجالِسهُم. قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ! زِدني، قال: انظُر إلى مَن تحتَكَ ولا تنظُر إلى مَن فوقكَ فإنَّهُ أجدَرُ أن لا تَزدَري نِعمةَ اللهِ عندكَ. قلتُ: زِدني يا رسولَ اللهِ! قال: صِلْ قرابَتَكَ وإن قَطعوكَ. قلتُ: يا رسولَ اللهِ! زِدني، قال: لا تَخَف في اللَّهِ تعالى لَومَةَ لائمٍ. قلتُ: يا رسولَ اللهِ! زِدني، قالَ: قُل الحقَّ وإن كان مُرًّا. قلتُ: يا رسولَ اللهِ! زِدني، قال: يردُّكَ عن النَّاسِ ما تعرفُ من نفسِكَ، ولا تجِد عليهِم فيما تأتي، وكفَى به عيبًا أن تعرِفَ من النَّاسِ ما تجهَلُ من نفسِكَ، أو تجِدُ عليهِم فيما تأتي. ثُمَّ ضربَ بيدِهِ علَى صدري، فقالَ: يا أبا ذَرٍّ! لا عقلَ كالتَّدبيرِ، ولا ورعَ كالكَفِّ، ولا حسَبَ كحُسنِ الخُلُقِ، قلتُ: يا رسولَ اللهِ! هل لي في الدُّنيا شَيءٌ مِمَّا أنزلَ اللهُ عليكَ مِمَّا كان في صحُفِ إبراهيمَ وموسَى؟ قال: يا أبا ذَرٍّ! اقرَأ: (قَد أفلَحَ مَن تزَكَّى) إلى آخرِ السُّورَةِ ))
[ أخرجه الطبري في تاريخه، وابن حبان، وأبو نعيم في(حلية الأولياء) واللفظ له عن أبي ذر الغفاري ]
هذا بعض ما في صُحف إبراهيم وموسى، ربنا -عزَّ وجلَّ- يقول: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا* وَٱلْأٓخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ* إِنَّ هَٰذَا لَفِى ٱلصُّحُفِ ٱلْأُولَىٰ* صُحُفِ إِبْرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ﴾ الحق قديم فَمُنذ أن خلق الله الأرض ومن عليها هذا هو الحق وهذا هو الطريق المُستقيم، فَمَن سار عليه سعِد ومن حاد عنه شَقِيَ.
الملف مدقق