- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى :
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته ، وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بخبر ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريته ، ومن والاه ، ومن تبعه إلى يوم الدين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه .
للعبادات في الإسلام حكم عظمى :
أيها الأخوة المؤمنون : في الإسلام عبادات كبرى لها حكم عظمى، إن خلت هذه العبادات من الحكم ، أو من فهم الحكم ، أصبحت طقوساً ووثنيات ، المسلم ليس كالناقة عقلها أهلها ثم أطلقوها ، فلا تدري لا لمَا عقلت ، ولا لمَا أطلقت ، ربنا سبحانه وتعالى يقول في القرآن الكريم:
﴿ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ ﴾
واذكروا ما فيه من الحكمة ، فالعبادة التي أمر الله بها من صوم ، أو من صلاة ، أو من حج ، أو من زكاة ، يجب أن تقع على النحو الذي أراده الله عز وجل ، فإذا عرف الإنسان حكمة الصيام مثلاً ، صام كما أراد الله ، أما إذا غفل عن حكمة الصيام ، فربما صام كما يصوم عامة المسلمين ، جوعٌ وعطشٌ ليس غير .
الحكمة من الصيام :
في الإسلام عبادات عدة ، لها حكم عظمى ، ينبغي أن نتعرف إلى هذه الحكم ، كي تقع العبادة على النحو الذي أراد الله عز وجل ، والصيام من هذه العبادات ، بل إن الصيام كما قال عليه الصلاة والسلام :
(( الصيام نصف الصبر ))
((الصبر نصف الإيمان ))
فالصيام ربع الإيمان بالتحديد ، فما الصيام ؟ لماذا كتب علينا الصيام ؟ إن الله سبحانه وتعالى أجلّ وأعظم من أن يأمرنا بعبادة تبدأ بترك الطعام وتنتهي بتناوله ، إن الصيام له حكم عظمى ، وغايات أعظم من أن ندع الطعام والشراب في النهار ، ونأكله في الليل ، لا بد من البحث عن حكمة الصيام ، ربنا سبحانه وتعالى أشار في القرآن إلى حكمة الصيام فقال جلّ من قائل :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾
"لعلكم تتقون" تتقون ماذا ؟ تتقون أن تقعوا في معصية ، لعلكم تتقون أن تقعوا في سخط الله ، لعلكم تتقون مضار الدنيا ، لعلكم تتقون منزلقاتها ، لعلكم تتقون مغرياتها ، لعلكم تتقون المعاصي فيها ، لعلكم تتقون ما يبعدكم عن الله عز وجل ، وكيف نتقي المعاصي ؟ وكيف نتقي الزلل ؟ وكيف نتقي الانحراف إن لم تكن لنا رؤية صحيحة ترينا الحق حقاً فنتبعه والباطل باطلاً فنجتنبه ؟ كيف تتقي الحفرة من دون مصباح ؟ كيف تتقي الحشرة القاتلة من دون مصباح ؟
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾
أساس العمل صحة الرؤية :
أيها الأخوة المؤمنون : ما من موقف تقفه ، ما من تصرف تفعله ، ما من حركة تتحركها، ما من كلمة تقولها ، ما من عمل تعمله ، تعطي وتأخذ ، وتغضب وترضى ، وتصل وتقطع وتمنع ، هذه المواقف ، هذه التصرفات ، هذه المسالك ، لا بد من أنها تصدر عن رؤية تراها، فإما أن تكون الرؤية صحيحةً ، فتكون قد نجوت وسعدت ، وإما أن تكون الرؤية مغلوطة فتكون قد أهلكت وهلكت ، أساس العمل صحة الرؤية ، متى صحت الرؤية صحّ العمل ، فهذا الذي يرى أن من الذكاء أن يأخذ ما ليس له ، وأن من القوة أن يعتدي على ما عند الآخرين ، هذه رؤية مغلوطة ، لأن الله سبحانه وتعالى لا بد من أن يحاسبه على عمله ، إذاً هو يدفع الثمن كبيراً ، ما من شيءٍ يعرض لك ، ما من شهوة تنجذب إليها ، ما من موقف تقفه ، إلا وراء هذا الموقف رؤيةً أملت عليك هذا الموقف ، هنا بيت القصيد ، الرؤية كيف تصح وكيف تصبح الرؤية ضبابية ؟ أو كيف يصبح الإنسان في عمى ؟ قال الله عز وجل :
﴿ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾
لماذا اعتدى على مال فلان ؟ لماذا اعتدى على مال أخيه ؟ لأنه أعمى ، لماذا غش الناس ؟ لأنه أعمى ، لماذا أساء التصرف ؟ لأنه أعمى ، لماذا اعتدى على أعراض الآخرين ؟ لأنه أعمى ، لماذا نافق ؟ لأنه أعمى ، لماذا وضع نفسه موضع الذلة خوفاً على رزقه ؟ لأنه أعمى ، لماذا ضيع من دينه الشيء الكثير ليرضي مخلوقاً ؟ لأنه أعمى .
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى* قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً* قَالَ كَذَلِكَ ﴾
كنت أعمى في الدنيا ، هذا الذي يقع في المعاصي ، هذا الذي ينحرف ، هذا الذي لا يطيع الله عز وجل ، هذا الذي يرضي مخلوقاً ويعصي خالقاً ، هذا الذي يظن أن الذكاء أن تأخذ ما ليس لك ، هذا الذي يظن أن قوة الشخصية في اقتناص الشهوات ، هذا الذي يرى أن الدنيا محدودة، ولا بد من أن ينغمس في الشهوات إلى قمة رأسه حتى يسعد بها أعمى ، إن لم تملك الرؤية الصحيحة فلا بد من الانحراف في القول والسلوك والعمل ، إن لم تملك الرؤية الصحيحة ، هذا الذي يدرب عضلاته كل يوم ، في البرد القارس ، لماذا يفعل هذا ؟ لأن له رؤية صحيحة ، هجر الأرائك الوثيرة ، ودرّب عضلاته على الجري خوفاً من مرض القلب ، إنه يرى ما لا يراه
الآخرون
هذا الذي يعرض له مبلغٌ كبير ، فينتفض كالعصفور ، ويقول : معاذ الله إني أخاف الله رب العالمين لأن في هذا المال شبهة ، هذا له رؤية صحيحة ، هذا الذي يغض بصره عن محارم الله ، هذا مستنير ، لأنه يأخذ الثمن من الله كبيراً ، وثميناً ، إنها سعادته الزوجية ، حينما يقول الله عز وجل :
﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ ﴾
حينما يطبق هذه الآية ، ينطلق من رؤية صحيحة ، هذه الرؤية تقول : إن طاعة الله فوزٌ عظيم في الدنيا والآخرة ، هذا الذي لا يأخذ ما ليس له خوفاً من الله عز وجل ، هذا ذو بصيرة، استنار قلبه بنور الله ، لذلك أيها الأخوة المؤمنون : ما من مشكلة على وجه الأرض إلا وهي مسببة عن معصية فيها مخالفة عن أمر الله عز وجل ، وما من معصية ترتكب إلا بسبب العمى ، إلا بسبب خطأ الرؤية ، إلا بسبب ضعف الرؤية ، إلا بسبب البعد عن الله عز وجل .
إحكام الصلة بالله أساس استنارة القلب :
أيها الأخوة الأكارم : الناس رجلان لا ثالث لهما ، شقي وسعيد ، شقي أي مقطوع عن الله ، متفلت من منهجه ، مسيء إلى خلقه ، وسعيد أي موصول بالله ، منضبط بشرعه ، محسن إلى خلقه .
فيا أيها الأخوة المؤمنون : إن الصيام من أجل التقوى ، من أجل أن تتقي الخطأ ، من أجل أن تتقي الذنب ، من أجل أن تتقي العدوان ، من أجل أن تتقي ما ليس لك ، من أجل أن تتقي سخط الله عز وجل ، من أجل أن تتقي الشقاء في الدنيا ، من أجل أن تتقي الشقاء في الآخرة :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾
ولن تتقوا إلا إذا استنار قلبكم بنور الله ، ثم قال عليه الصلاة والسلام :
(( الصلاة نور ))
ولن يستنير القلب بنور الله إلا إذا أحكمت الصلة بالله ، ولن تحكم الصلة بالله إلا إذا استقمت على أمر الله ، ولن تستقيم على أمر الله إلا إذا فكرت في ملكوت الله ، إذا فكرت بخلق السموات والأرض فعرفته ، وإذا طبقت أمره فعبدته ، عندئذٍ تنعقد الصلة بين العبد وربه ، ومع انعقاد الصلة يقذف النور في القلب ، ومتى قذف نور الله في القلب رأيت الحق حقاً فاتبعته ، والباطل باطلاً فاجتنبه .
يا أيها الأخوة المؤمنون : هذه حقيقة كبرى .
﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ﴾
نور في قلبه يريه الحق حقاً فيتبعه ، ويريه الباطل باطلاً فيجتنبه .
﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ﴾
مرتبة التقوى :
أيها الأخوة المؤمنون : الله سبحانه وتعالى يبين بآية محكمة واضحة ناصعة كالشمس بأن الصيام من أجل التقوى ، والتقوى مرتبة فوق مرتبة الإيمان ، بدليل قوله تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ﴾
والتقوى مراتب ، بدليل قوله تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾
للصيام فوائد جمة فهو عبادة نسبت إلى الله :
أيها الأخوة الأكارم : وأمر الله عز وجل أجلّ وأعظم من أن يكون له حكمة واحدة ، إن للصيام حكم جليلة ، إن للصيام فوائد جمة ، فهو عبادة نسبت إلى الله عز وجل .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم :
(( كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ لَهُ ، الْحَسَنَةُ بِعَشْرِة أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ ، قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ : إِلاَّ الصَّوْمَ ، فَإِنَّهُ لِي ، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ))
أي أجر الصوم يفوق سبعمئة ضعف لما تفعله في شهر الصوم .
((يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي))
أنت إذا تركت المعصية تتركها في الحقيقة من أجلك أنت ، إذا أخذت ما ليس لك أتلف الله مالك ، وربما أتلف المبطل مع مالك .
((من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ، ومن أخذ يريد إتلافها أتلفه الله))
إذا امتنع المسلم عن أكل أموال الناس بالباطل ، ربما كان هذا الامتناع بدافع من حبه لذاته ، يخاف أن يتلف ماله ، يخاف أن يتلف مع ماله ، يمتنع عن أكل المال الحرام ، وإذا ترك الإنسان شرب الخمر فمن أجل صحة عقله ، وإذا ترك الإنسان الزنى فمن أجل صحة جسده ومكانته الاجتماعية ، ولكن إذا ترك المباح ، إذا ترك الطعام والشراب ، ترك ما يحل له ، هذا الترك من أجل من ؟ من أجل الله عز وجل ، تترك المعصية من أجل نفسك ، خوفاً على سلامتك ، خوفاً على صحتك ، خوفاً على سمعتك ، ولكنك تترك الطعام والشراب وهما اللذان أباحهما الله عز وجل في سائر أيام العام ، تتركهما من أجل الله عز وجل ، وهل هناك من عبادة أجلّ وأعظم من أن تدع شيئاً مباحاً من أجل الله عز وجل ، لهذا يقول الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي :
(( كل عمل ابن آدم يضاعف له الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، قال اللَّه تعالى : إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ، يدع شهوته وطعامه من أجلي ، للصائم فرحتان : فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه ، ولَخُلُوف فيه أطيب عند اللَّه من ريح المسك ))
وزاد عليه ، والصوم جنة ، والجنة هي الترس ، تتقي به ، والصوم جنة من النار ، وإن جهل على أحدكم جاهل - أي خاصمه - وهو صائم فليقل : إني صائم ، إني صائم ، إني صائم .
الصيام لا يعدله شيء من العبادات :
أيها الأخوة المؤمنون : أحاديث أخرى تتمم هذا الحديث ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام في سنته المطهرة بيّن للناس ما نزل إليهم من قرآن كريم ، فيقول عليه الصلاة والسلام في حديث رواه النسائي وابن خزيمة :
((عليك بالصوم فإنه لا مثل له ))
أي لا شيء يعدله من الثواب ، لا شيء يعدله من العبادات ، ويقول عليه الصلاة والسلام في حديث صحيح على شرط الإمام مسلم :
((ليس الصيام من الأكل والشرب ، إنما الصيام من اللغو والرفث فإن سابك أحد ، أو جهل عليك ، فقل : إني صائم ، إني صائم ))
ويقول عليه الصلاة والسلام في حديث آخر صحيح على شرط الإمام البخاري :
((رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع ، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر ))
أي القائم في صلاة التراويح .
هذا الذي له عادات ، وله انحرافات ، وله مخالفات ، له تساهل في كسب المال ، في إنفاق المال ، في النظر للنساء ، هذا الذي يقيم في رمضان كما هو في أيام العام ، من دون تعديل، من دون تبديل ، من دون توبة نصوح ، هذا الذي يأتيه رمضان وكأنه عادة من عوائده ، كأنه نمط من أنماط الحياة التي اعتادها من قبل ، هذا الذي عناه النبي عليه الصلاة والسلام :
((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ))
مراتب الصيام :
أيها الأخوة المؤمنون : ليس الصيام ترك الطعام والشراب ، هذا صيام العوام ، هذا صيام الجهلة ، هذا صيام الدهماء ، هذا صيام السوقة من الناس ، ولكن الصيام كما أراده الله عز وجل ، ترك الطعام والشراب وهما مباحان ، توصلاً إلى ترك المخالفات والمعاصي ، فهذا الذي يدع طعامه وشرابه ، وهما قد أحلا له ، فلأن يدع المعصية من باب أولى ، لأن يدع المعصية المحرمة من باب أولى ، فلذلك : الإمام الغزالي في أحياء علوم الدين صنف الصوم على ثلاث مراتب .
المرتبة الأولى : صيام العامة ، هؤلاء الذين يقيمون على ما كانوا عليه قبل رمضان ، من مخالفات ، ومن تقصيرات ، ومن تجاوزات ، ومن معاصي ، ويأتي رمضان ، ويصومون رمضان ، ويدعون الطعام والشراب ، وينصرفون إلى شهواتهم ولذاتهم بعد الإفطار وكأن شيئاً ما كان ، هؤلاء العامة صيامهم جوع وعطش .
المرتبة الثانية : صيام المؤمنين ، ولكن المؤمنين يدعون الطعام والشراب ، ويدعون كل المعاصي والآثام ، يحفظون الرأس وما وعى ، يحفظون أعينهم عن النظر إلى الحرام ، يحفظون آذانهم عن استماع الباطل واستماع ما يسخط الله عز وجل ، يحفظون أيديهم ، يحفظون أرجلهم، يحفظون أسرهم ، زوجاتهم ، بناتهم ، يحفظون بيوتهم ، يحفظون متاجرهم ، يحفظون علاقاتهم الاجتماعية ، من كل خلل وكل انحراف ، هؤلاء هم المؤمنون ، الذين يدعون كل مخالفة ، و كل معصية .
المرتبة الثالثة : صيام الخاصة ، فهم يدعون ما سوى الله عز وجل ، هذا شهر كدورة تدريبية مكثفة ينصرف في هذا الشهر بكله ، بوقته ، بطاقاته ، بإمكاناته إلى الله عز وجل ، يقضيه في تلاوة القرآن ، وتدبره ، وفي حفظه ، يقضيه في العمل الصالح ، يقضيه في طلب العلم ، يقضيه في التقرب إلى الله عز وجل ، هذا صيام الخاصة ، فإما أن تصوم صيام العامة ، وإما أن تصوم صيام المؤمنين ، وإما أن تصوم صيام الخاصة .
أيها الأخوة المؤمنون : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وصلوا نفسكم بالله عز وجل قبل ألا يتاح لكم مثل هذا الوصل ، هذا شهر كريم ، أتيح لنا أن نتصل بالله عز وجل ، جعلت صلاة التراويح من أجل أن نتصل بالله عز وجل ، وجعلت بعد فرض العشاء ، تكون قد أكلت الطعام ، وبللت عرقك ، وقوي بدنك ، عندها قف بين يديه واستمع إلى قوله تعالى في الصلوات يتلى عليك ، اللهم أعنا على الصيام والقيام وغض البصر وحفظ اللسان ، والحمد لله رب العالمين .
* * *
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
فوائد رمضان الصّحيّة :
أيها الأخوة المؤمنون : الحديث عن عبادة الصيام وما فيها من تقوى وإكرام لا يعني أن الصيام ليس له فوائد صحية ، إن في الصيام من الفوائد الصحية ما لا يصدقه عقل ، لأن خالق هذا الإنسان هو الذي فرض عليه الصيام ، وأمر الله سبحانه وتعالى أجلّ وأعظم من أن ينصرف إلى حكمة واحدة ، إن للصيام حكماً لا تعد ولا تحصى .
بعض العلماء قال : إن الصيام صورة وقائية سنوية ، دورة وقائية سنوية ، تقي كثيراً من الأمراض ، أسلوب وقائي ، سلوك وقائي من أجل سلامة هذه العضوية ، ودورة علاجية بالنسبة لبعض الأمراض ، دورة وقائية لكثير من الأمراض ، ودورة علاجية لبعض الأمراض ، وأنه - أي الصيام - يقي المسلم المتبع لسننه المعتدلة في تناول الطعام في أثناء الصيام أمراض الشيخوخة .
أمراض الشيخوخة تظهر في الشيخوخة ، ولكن مسبباتها تبدأ في الشباب ، فاستهلاك العضوية العنيف يأتي الصيام ليجعل هناك توازناً بين استهلاك العضوية وبين وقاية الأجهزة ، فلذلك معظم أمراض الشيخوخة تنجم عن الإفراط في إرهاق العضوية طوال الحياة ، إرهاق العضوية في الطعام والشراب ، في سائر الملذات ، في العمل ، في التعب ، في بذل الجهد ، يأتي الصيام ليريح هذه العضوية ، وليصحح الأخطاء التي ارتكبت في بقية أشهر العام ، إن الأخطاء التي يرتكبها الإنسان في أيام العام تتراكم يأتي هذا الشهر ليصحح هذه الأخطاء كلها ، فيعود الجسد إلى نشاطه.
الصيام دروة وقائية و علاجية :
أيها الأخوة المؤمنون : ورد في الجامع الصغير حديث شريف رمز له السيوطي بأنه حسن يقول عليه الصلاة والسلام : " صُومُوا تَصِحُّوا ".
فالصيام - كما يقول العلماء - إلى الطب الوقائي أقرب منه إلى الطب العلاجي ، بدليل أن المريض يرخص له أن يفطر ، بعض هذه الحكم أن الصيام يخفف العبء عن جهاز الدوران ، القلب والأوعية ، حيث تهبط نسبة الدسم والحموضة ، تنخفض حموضة البول في هذا الشهر إلى أدنى درجة ، ومع انخفاض هذه النسبة يقي الإنسان نفسه من مرض خطير هو تصلب الشرايين ، الذي يسبب إرهاق القلب ، والذبحة الصدرية ، ومع انخفاض نسبة حمض البول في الدم يقي الإنسان نفسه من مرض آخر هو التهاب المفاصل .
إن الصيام يخفف العبء عن جهاز الدوران ، يريح الأوعية والقلب بانخفاض نسبة الدسم في الدم ، وانخفاض نسبة حمض البول ، إن الصيام يريح الكليتين بإقلال فضلات الاستقلاب ، يحول الطعام إلى طاقة عملية تسمى الاستقلاب ، في شهر الصيام ينخفض الاستقلاب إلى أدنى مستوى هذا بشرط أن يصوم كما أمر النبي عليه الصلاة والسلام ، أن يأكل باعتدال ، أما أن يجعل الطعام في الليل مكان النهار فليس هذا هو الصيام ، هناك من يأكل ويأكل ويأكل .
يقول العلماء : إن سكر الكبد في الصيام يتحرك ، المخزون السكري في الكبد يتحرك ، ومع تحرك هذا المخزون يتجدد نشاط الكبد ، والإنسان لا يستطيع أن يعيش من دون كبد أكثر من ثلاث ساعات ، إن الصيام يدعو سكر الكبد إلى التحرك ، ويتحرك معه الدهن المخزون تحت الجلد، وتتحرك معه البروتينات ، والغدد ، وخلايا الكبد ، إن الصيام كما قال بعض الأطباء يبدل الأنسجة وينظفها ، وكأنه صيانة سنوية لأنسجة وأجهزة الجسم ، هذا عن الناحية الوقائية ، فماذا عن الناحية العلاجية ؟
إن الصيام يعد علاجاً لبعض الأمراض ، منها التهاب المعدة الحاد ، منها إقياءات الحمل العنيدة ، منها ارتفاع الضغط الشرياني ، منها الداء السكري ، منها قصور الكلية المزمن ، ومنها بعض الأمراض الجلدية .
أيها الأخوة المؤمنون : أمر الله مبارك ، أمر الله يطهر النفس ، وينيرها ، ويعطيك الرؤية الصحيحة ، تعرف الحق من الباطل ، والخير من الشر .
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَنا فيمن تولَيت ، وبارك لنا فيمن أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، وأكرمنا ولا تهنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا و ارض عنا ، واقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين ، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير ، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، ولا تهلكنا بالسنين ، ولا تأخذنا بفعل المسيئين ، يا رب العالمين ، اللهم أعنا على الصيام والقيام وغض البصر وحفظ اللسان وأدخلنا الجنة بسلام ، وبارك لنا في شهر رمضان ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام ، وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .