- التربية الإسلامية
- /
- ٠9سبل الوصول وعلامات القبول
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
التبتل :
أيها الأخوة الكرام، مع موضوعٍ جديد من موضوعات: "سبل الوصول وعلامات القبول"، والموضوع اليوم هو "التبتل".
ولابد من وقفةٍ قصيرة حول اختيار الموضوعات، هناك موضوعاتٌ تتصل اتصالاً قوياً بموضوع سبل الوصول وعلامات القبول، وهناك موضوعاتٌ تتصل اتصالاً سلبياً، تحدثنا عن الشرك والنفاق، هذه موضوعات تتناقض مع سبل الوصول، وهناك موضوعات اتصالها بالوصول إلى الله من أعلى مستوى.
إذاً الموضوعات بين أن تكون في أعلى درجة، أو في درجة عادية، أو في درجة سلبية، الحقيقة التبتل من الموضوعات التي يتصف بها كبار المؤمنين، الله عز و جل يقول:
﴿ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ﴾
الإنسان حينما يصنف من حوله في مراتب محدودة، أحياناً بعالم الوظائف عشر مراتب، وكل مرتبة ثلاث درجات، إذا كان هناك خمسة ملايين موظف ينزلون جميعاً في هذه الثلاثين خانة، هذا شأن البشر، لكن شأن خالق البشر أن كل إنسانٍ على وجه الأرض له مرتبة والدليل:
﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ﴾
هذه المرتبة مرتبة التبتل هي للسابقين السابقين، لكبار المؤمنين.
كل أمرٍ في القرآن الكريم يقتضي الوجوب ما لم تقم قرينةٌ على خلاف ذلك :
بالمناسبة: من تعليمات وضع الأسئلة في الشهادات العامة أن يكون هناك سؤال لا يجيب عنه إلا الطلاب المتفوقون جداً، وهناك سؤال يجيب عنه الطلاب الضعاف في تحصيلهم، وفي قدراتهم، والأسئلة الأساسية يجيب عنها المتوسطون.
لأن في أساس تقسيم البشر هناك عالم قديم رمز للتقسيم في كل القدرات التي يتحلى بها البشر، هناك خمسة بالمئة متفوقون، وخمسة بالمئة متخلفون، وتسعون بالمئة متوسطون، في شأن الجمال، في شأن الذكاء، طلاقة اللسان، في معظم صفات البشر خمسة بالمئة تفوق، وخمسة بالمئة ضعف، وتسعون بالمئة وسط.
لذلك هناك سؤال يجيب عنه معظم الطلاب؛ متوسطو الثقافة والتحصيل والقدرات، و سؤال لا يجيب عنه إلا المتفوقون جداً، و سؤال يجيب عنه ضعاف الطلاب، فحينما نختار موضوعاً من موضوعات سبل الوصول هناك موضوعات إيجابية، أساس في الوصول إلى الله، وهناك موضوعات سلبية تتناقض مع الوصول إلى الله، وهناك موضوعات للمتفوقين.
فموضوع اليوم للمتفوقين "التبتل"، قال تعالى:
﴿ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ﴾
بالمناسبة أيها الأخوة، من قواعد الفقه أن كل أمرٍ في القرآن الكريم يقتضي الوجوب، توهم الناس أن الدين خمس عباداتٍ شعائرية، والحقيقة الدين هو كل أمر في القرآن الكريم وفي السنة، هذا الأمر يقتضي الوجوب، وعلة هذا الأمر أنه أمر من الله عز وجل، فالذي يطلب العلم يرى أن الدين عشرات بل مئات الألوف من الأوامر والنواهي، منهج تفصيلي يبدأ من فراش الزوجية وينتهي بالعلاقات الدولية، وهناك من يتوهم أن الدين خمس عباداتٍ شعائرية ليس غير، هذا فهمٌ ساذج وفهمٌ ضعيف، لذلك كل أمرٍ في القرآن الكريم يقتضي الوجوب، وللدقة البالغة ما لم تقم قرينةٌ على خلاف ذلك.
إذا قلت: في بيتنا زهرة أي زهرة، أما إذا قلت: في بيتنا زهرةٌ تلعب إذاً طفل، كلمة تلعب قرينة تنفي معنى الزهرة الطبيعية، إذاً كل أمرٍ في القرآن الكريم يقتضي الوجوب ما لم تقم قرينةٌ على خلاف ذلك.
الدين منهج تفصيلي يغطي كل شؤون حياة الإنسان :
أنت أيها المؤمن حينما تقرأ القرآن الكريم وتمر على أمر اجتماعي، أمر نفسي، أمر شخصي، أمر علمي.
﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾
أمر، فكلما كان إيمانك أقوى ترى أن هذه الأوامر كلها ينبغي أن تطبق، مثلاً قال تعالى :
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾
علامة إيمانك -وهذا مقياس دقيق- أنك إذا مررت في كتاب الله على أمر، أي أمر من المئة ألف أمر، أو من الخمسمئة ألف أمر، هذا الأمر يقتضي أن تنفذه، هذا الدين منهج تفصيلي يغطي كل شؤونك، وكل أحوالك، وكل أقواتك، وكل أطوارك، إذاً
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾
التفاوت الواسع بين بني البشر :
لكن هناك ملاحظة: لو جئت بمئة بيضة الفرق بين اثنتين لا يزيد على خمسة بالمئة من حيث الحجم أو الوزن، إلا أن بني البشر شيءٌ آخر، قد تجد إنساناً في أعلى عليين، قد تجد إنساناً عمّ خيره معظم الخلائق، وقد تجد إنساناً كتلة من الشر، كيف بقطع اللحم هناك قطعة من اللحم الطازج المشوية وأنت جائع، وهناك قطعة متفسخة تكاد تخرج من جلدك من رائحتها، التفاوت بين بني البشر واسع جداً.
﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ﴾
إنسان مجرم، يبني حياته على أنقاض الآخرين، يبني غناه على إفقارهم، يبني أمنه على إخافتهم، يبني عزه على إذلالهم، وإنسان حياته كلها عطاء، المسافة كبيرة جداً، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( هذا خيرٌ من مِلءِ الأرض من هذا ))
رجل واحد يساوي ملء الأرض، أي الأرض لو أنها مجوفة تتسع لكم إنسان؟ لمليارات ممليرة، إنسان يساوي ملء الأرض من غيره، لذلك قالوا: واحد كألف وألف كأف، حال واحدٍ في ألف أفضل من قول ألفٍ في واحد، إنسان واحد موصول بالله يؤثر بألف إنسان، وألف إنسان متكلم بارع لا يؤثر في إنسان واحد، إذا كان هناك بعد عن الله عز وجل.
أغبى إنسان من يتمنى شيئاً في الدنيا فقط و ينسى الآخرة :
أيها الأخوة، الأصل في ذلك أنك مصمم أيها الإنسان لهدفٍ كبير، فحينما تختار هدفاً محدوداً تسقط من عين الله، دخلت على ملك قال لك: اطلب وتمنى، قلت له: قلم رصاص، أقل عطاء للملك بيت فخم وسيارة معه، فأنت قبلت من عطاء الملك بقلم، كم هو غبيٌ الإنسان حينما يتمنى شيئاً في الدنيا فقط، والدنيا زائلة ومنقطعة.
﴿ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ﴾
الله يعجب!
﴿ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾
خُلق الإنسان لمعرفة الله عز وجل :
هناك آيات أخرى:
﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ ﴾
﴿ َفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾
إذاً أنت أيها الإنسان خُلقت لمعرفة الله، أنت مُصممٌ لمعرفة الله، فحينما تختار هدفاً أرضياً محدوداً قبل أن تصل إليه ربما تشعر بالسعادة، لأن هذه السعادة شعور بالوصول، فإذا وصلت إلى هذا الهدف خبا بريق هذا الهدف، وأصبح شيئاً مألوفاً، ولو سألت من نجحوا في الحياة الدنيا، من جمعوا أموالاً طائلة، من ارتقوا إلى مناصب رفيعة، من تزوجوا بنساءٍ جميلات، لو سألتهم الوضع أقل مما يتصور، لأن الله سبحانه وتعالى أبى أن يجعل لهذه الدنيا قدرةً على أن تمد الإنسان بسعادة مستمرة، تمده بلذائذ متدنية، ولذائذ متناقصة، ولذائذ حسية، أما الذي يمدك بسعادة مستمرة بل ومتنامية فهو الإيمان.
حجم الإنسان عند الله بحجم عمله الصالح :
أيها الأخوة، الآن كل واحد من الأخوة المؤمنين بمعرفته، باستقامته، بإخلاصه، بنواياه الطيبة، بتضحياته، بانضباطه، بورعه، بمؤثراته، بكل هذا يحتل عند الله مرتبة، قال تعالى:
﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ﴾
هذه المرتبة لها أثر كبير في السعادة الأبدية
﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ﴾
فالبطولة أن يكون لك:
﴿ مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ﴾
والله مرة التقيت مع إنسان عدة لقاءات، دنياه يصعب تصورها، أذواقه، بيته، أثاث بيته، مركباته، سفرياته، معمله، شيء يفوق حدّ الخيال، أتاه الله أذواقاً عالية جداً، وذكاء، وقدرة على تحصيل المال، ثم توفاه الله عز و جل، وحضرت جنازته، قام أحد علماء دمشق ليؤبنه، والله قال: أخوكم أبو فلان كان مؤذناً، هو كان صوته حسناً، و أحياناً إذا حضر صلاة جمعة يدعوه الإمام إلى أن يؤذن، فقال: أخوكم كان مؤذناً ترحموا عليه، أنا صعقت، كلمة واحدة؟ ثم عذرت المتكلم، أي بعد الوفاة هل هناك من حديث عن نوع البيت؟ مساحة البيت؟ تزيينات البيت؟ نوع المركبات؟ عند الوفاة لا يتحدث إلا عن العمل الصالح، فقلت وقتها في نفسي: اعمل عملاً يستمر الحديث عنك أربع دقائق، هناك مشكلة عند الموت لا يذكر إلا العمل الصالح، والناس في الدنيا حجمهم كبير، الحجم المالي كبير، الهيمنة كبيرة، الأتباع كثر، أما عند الموت فلا يذكر إلا العمل الصالح، وهذا درسٌ بليغ.
أيها الأخوة، حجمك عند الله، لا بأناقتك، ولا بطعامك، ولا بشرابك، ولا بأثاث بيتك، ولا بموقع بيتك، ولا بمساحة بيتك، ولا بنوع مركبتك، حجمك عند الله بحجم عملك الصالح ، فالبطولة وأنت في الدنيا أن تستخدم مقاييس القرآن
﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ﴾
مرتبة التبتل مرتبة المتفوقين و المنقطعين إلى الله :
أيها الأخوة، مرتبة التبتل ليست مرتبةً مألوفةً بين الناس، هذه مرتبة المتفوقين، مرتبة المنقطعين إلى الله، مرتبة الذين قال الله عنهم:
﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
مرتبةٍ تستنبط من دعابةٍ بين إنسانين، قال له: سيدي كم الزكاة؟ قال له: عندنا أم عندكم؟ قال له: عجيب الدين واحد! قال له: عندكم اثنان ونصف بالمئة، أما عندنا فالعبد وماله لسيده.
المؤمنون السابقون، المتفوقون، أوقاتهم، طاقاتهم، جهدهم، ذكاؤهم، أقلامهم، ألسنتهم في سبيل الله كلها،
﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
ومن بعض الآيات التي تؤثر، حينما خاطب الله سيدنا موسى قال له:
﴿ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ﴾
أنت لي.
﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ﴾
المؤمن الصادق في مرتبة التبتل يحمل همّ المسلمين :
أيها الأخوة، المؤمن الصادق في مرتبة التبتل يحمل همّ المسلمين، أهدافه في الحياة تزيد عن حاجاته اليومية، هناك أناس كثيرون إذا أمّن بيتاً، وتزوج، انتهت كل أهدافه، وهناك أشخاص يحملون همّ المسلمين، هدفهم كبير، يتحركون لأهدافٍ ساميةٍ كبيرة، فمهما ارتقت أهدافك ارتقيت عند الله، هناك إنسان يهتم بأهله فقط جيد، لكن هناك أشخاص يسمون عميد أسرتهم، يهتم بالأسرة الموسعة، وهناك إنسان يهتم بأمته، الأنبياء يهتمون ببني البشر.
(( لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ))
النبي عليه الصلاة والسلام في الطائف نال منه أهل الطائف شيئاً لا يحتمل حتى سال الدم من قدمه، جاءه جبريل ليمكنه أن ينتقم منهم، جاء ملك الجبال وقال: يا محمد أمرني ربي أن أكون طوع إرادتك، لو شئت لأطبقت عليهم الأخشبين، قال: اللهم اهدِ قومي إنهم لا يعلمون، لعل الله يخرج من أصلابهم من يوحده.
المؤمن في مرتبة التبتل يقود نفسه ولا تقوده :
المؤمن في مرتبة التبتل يقود نفسه ولا تقوده، يسخر كل طاقته لله، ولا يسخر من القيم والمبادئ، الآن الله عز و جل يقول:
﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾
الإنسان يتقرب إلى الرحيم بأن يرحم خلقه، يتقرب إلى العدل بأن يكون منصفاً، أي كل واحد منا أحياناً في موقع أنه قاض، جاءت ابنته تشكو زوجها، فالعم الآن قاض بين ابنته وزوجها، اختلف ولداه هو يقضي بينهم، هناك إنسان ينحاز إلى ابنته، تكون ابنته قد تطاولت على زوجها، وهناك آباء كثر لا يتنازل أن يسأل صهره ما الذي أزعجك من ابنتي؟ تأتي إلى بيت أهلها يحجزها ليذله، لا يوجد إنصاف، فأنت أحياناً تكون في موقع قاض، أحياناً بين تاجرين، بين شريكين، بين أخوين، بين جارين، لن تتقرب إلى الله إلا بالعدل، لن تتقرب إلى الله إلا بالرحمة، إلا بالحكمة، إلا بالإنصاف.
لذلك الآية الكريمة:
﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾
أي تخلق بخلقٍ من كمالات الله تقرب بهذا الخلق إلى الله، هذا معنى:
﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾
تقرب إليه بخلقٍ مشتقٍ من كمال الله.
الفطرة و الصِبغة :
أيها الأخوة، هذا الموضوع ينقلنا إلى موضوع الصبغة، هناك مصطلحان في القرآن الكريم مصطلح الفطرة ومصطلح الصبغة، مصطلح الفطرة.
﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ﴾
نحن جميعاً مفطورون على حب الكمال، فأن تحب الكمال شيء وأن تكون كاملاً شيءٌ آخر، أن تحب العدل شيء وأن تكون عادلاً شيءٌ آخر، أن تحب الرحمة شيء وأن تكون رحيماً شيءٌ آخر، كل واحد منا يتمنى أن يكون رحيماً ويقدر الرحماء، بل إن اللصوص حينما يسرقون يقسمون هذا الذي سرقوه بالعدل بينهم، فطرتهم تدعوهم إلى العدل، الفطرة ليست كمالاً لكنها حبٌ للكمال، أنت ولِّفت، جُبلت، فطرت على حب الكمال، وحب الكمال هو الذي يعذبنا إذا أخطأنا، لو أن الإنسان فطر على النقص وكان ناقصاً لا يتعذب إطلاقاً، أحد أسباب الشقاء النفسي أنك مفطور فطرة سليمة على حب الكمال، فإذا وقع منك نقصٌ تتألم، هذا يسمونه تأنيب الضمير، يسمونه الشعور بالنقص، الشعور بالذنب.
مرة ذكرت لكم أن هناك فندقاً بألمانيا كُتب على السرير إن لم تنم هذه الليلة فالعلة ليست في فراشنا إنها وثيرة، ولكن العلة في ذنوبك إنها كثيرة.
الذين يقترفون السيئات، يظلمون البشر، هؤلاء يعانون من أزمات، ما سبب هذه الأزمات؟ أنهم فطروا فطرةً عالية، أي إنسان حتى الكافر، حتى المجرم، حتى الطاغية، في أصل فطرته فطرة عالية، ما الذي يعذبه؟ أنه خرج عن مبادئ فطرته، فأنت سواء اصطلحت مع الله فأطعته دون أن تشعر تصطلح مع نفسك، لأن منهج الله مطابقٌ تماماً لقواعد الفطرة التي فطرك الله عليها، وكل خروج عن منهج الله هو خروج عن مبادئ الفطرة، فهناك توافق عجيب بين منهج الله وبين خصائص نفسك.
هذه الفطرة، الفطرة أن تحب الكمال، أن تقدر الرحمة، أن تقدر العدل، أن تقدر الكمال هذه فطرة، أما الصبغة فأن تكون رحيماً، أن تكون منصفاً، أن تكون حكيماً، أن تكون سخياً، قال تعالى:
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ﴾
مصطلحان دقيقان الفطرة والصبغة، بعد الاتصال بالله تنتقل من الفطرة إلى الصبغة، الصبغة كمال، الصبغة إنصاف، الصبغة عدل، الصبغة رحمة، أما الفطرة فحب الرحمة، حب الكمال، حب العدل، حب الإنصاف وهكذا ...
التبتل هو الانقطاع المستمر لله عز وجل :
أيها الأخوة الكرام، التبتل هو الانقطاع، وهو الَّتفعل من البتل، وهو القطع، بتل أي قطع، انقطع لله،
﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
بتل قطع، تبتل تفعل ، التفعل العمل المتكرر، انظر كسر تكسر، تكسر على مراحل، فالتبتل هو الانقطاع المستمر، الانقطاع المتعدد، منقطع لله عز وجل، وسميت مريم البتول بتولاً لانقطاعها عن الأزواج، وعن أن يكون لها نظراء من نساء زمانها.
﴿ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ﴾
أول اصطفاء اصطفاء الكمال، والاصطفاء الثاني أنها الوحيدة التي أنجبت من دون زواج، اصطفاء إعجاز، واصطفاء تكريم.
الإنسان حينما ينقطع لله فالله عز وجل له عطاء استثنائي :
أيها الأخوة، النقطة الدقيقة أن الإنسان حينما ينقطع لله فالله عز وجل له عطاء استثنائي، هؤلاء الذين انقطعوا على الله مغمورون بسعادةٍ لا توصف، حتى قال بعضهم -وكان ملكاً-: والله لو يعلم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليها بالسيوف.
وصدقوا أيها الأخوة، إن لم تقل-إذا كنت متبتلاً، منقطعاً لله-: أنا أسعد الخلق ففي التبتل شك، أنت مع الله .
تنام أعيننا كما قال النبي الكريم ولا تنام قلوبنا، أما أنتم يا أخي فساعة وساعة.
نقول نحن في الصلوات على رسول الله: وعلى أسعدنا محمد، هذا الذي وصل إلى الله، واتصل به، وسعد بقربه عن طريق التبتل، التبتل مرتبة، عامة الناس يعمل، ويصلي، ويصوم، وله بيت، وله نزهات، وله حظوظ نفسية، كلها وفق المباحات لا يوجد مشكلة هذا مؤمن، أما هناك سابق.
﴿ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ﴾
أوقاتهم كلها لله، طاقاتهم كلها لله، قدراتهم كلها لله، أموالهم كلها لله، فأرجو الله سبحانه وتعالى حينما نعرض موضوعاً متفوقاً أن نطمح إلى هذه المراتب العليا.