وضع داكن
26-04-2024
Logo
موضوعات فقهية متفرقة - الدرس : 35 - الحلال بين والحرام بين - الشبهات 1 - بعض المواقف للنبي عليه الصلاة والسلام في ترك الشبهات.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

الحلال بيّن و الحرام بيّن :

 أيها الأخوة الأكارم : الحديث الشريف اليوم :

((الْحَلالُ بَيِّنٌ ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ، فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ ، أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ ، أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ))

[البخاري عن النعمان بن بشير]

 الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم يعد من أصح الأحاديث ، يسميه علماء الحديث متفق عليه .
 أيها الأخوة هذا الحديث تسمعونه كثيراً ، هناك فرق بين أن نستشهد بحديث شريف وبين أن نفصل في الحديث ، فهذا الحديث مع أنكم تسمعونه كثيراً نريد أن نقف عنده وقفة متأنية ، السبب : إن سبب اختياري لهذا الحديث هو أن معشر المؤمنين الحرام عندهم واضح ، لا يشربون الخمر ، ولا يزنون ، ولا يسرقون ، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ، والحلال عندهم واضح أن يعملوا بتجارة مشروعة ، أن يأكلوا ويشربوا ، ويسكنوا في بيت ، أن يتزوجوا ، هذه أشياء واضحة جداً ، مشكلات المؤمنين ليست في الحلال ولا في الحرام ! لأن الحرام والحلال عندهم بين ، فلو تتبعت بعض المفتين و سألتهم ما السؤال الذي يتواتر عندهم لقالوا لك : إنها الشبهات ، المحرمات واضحة ، والحلال واضح وبين ومتفق عليه ولا اختلاف فيه وليس مشكلة ، وأغلب الظن أن المؤمنين بعيدون بعداً كبيراً جداً عن أن يقعوا في المحرمات، ففي مجتمع المؤمنين المسلمين قلّما تجد ويندر أن تجد شارب خمر ، أو عابد صنم، أو قاتل نفس ، أو زانٍ ، هذه أشياء قلّما توجد ، فنحن في بيت من بيوت الله نحن مؤمنون والحمد لله بدليل قوله تعالى :

﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾

[سورة التوبة : 18]

 لأنكم في بيوت الله فأنتم في نص الآية الكريمة مؤمنون والحمد لله .

الشبهات :

 لكن نحن مشكلتنا لا في الحلال ولا في الحرام ! فالذي يهلك المؤمنين الشبهات، الذي يحجبهم عن ربهم صغائر الأعمال التي تكون حجاباً بينهم وبين السموات ، هذا الذي يظنونه صغيراً وهو عند الله كبير ، لذلك اخترت هذا الحديث الشريف ولنقف عنده وقفة متأنية لنتعلم أن سلامة دين المؤمن ليست في اتقاء المحرمات إنه يتقيها ولا شك ، ولكن سلامة دين المؤمن في اتقاء الشبهات ، لأن الشبهات تنقله إلى المحرمات ، لذلك الحلال المحض الواضح البين كأكل الطيبات من الزروع ، هل سمعت إنساناً على وجه الأرض يسأل مفتياً : ما حكم أكل التفاحة مثلاً ؟ هذا السؤال لا يسأل لأنه بالبديهة والفطرة والواقع حلال كأكل الطيبات من الزروع والثمار وأكل بهيمة الأنعام ، وشرب الأشربة الطيبة ، ولباس ما يحتاج إليه من القطن والكتان ، والصوف والشعر ، والزواج ، هذا كله حلال بين ، الحرام أكل الميتة ، لحم الخنزير ، الدم ، شرب الخمر ، نكاح المحارم ، إلباس الحرير للرجال ، اكتساب المحرم كالربا والميسر . . . هذه أشياء ليست مشكلة إطلاقاً ومن نافذة القول الحديث عنها ، إن حدثت عصاة أو أناساً بعيدين جداً عن أضواء الدين لك أن تحرم عليهم الخمر والربا ، لكن إن حدثت المؤمنين هؤلاء بعيدون بعداً كبيراً عن هذه المحرمات ، لذلك الحديث المناسب المفيد للمؤمنين هو الحديث عن الشبهات.

معنى الشبهة :

 معنى الشبهة شيء من جهة يشبه الحرام ، ومن أخرى يشبه الحلال ، إذا كان الشيء هناك دليل على حلّه ، ودليل على حرمته ، أدى للاشتباه ، هذا الشيء من كان رقيقاً في دينه يقع في الشبهات ، ومن كان ورعاً لا تنسوا أنه لا تبلغ درجة المتقين حتى تدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس ، فصفات المؤمن الذي يرقى عند الله عزوجل هو الورع ، ومعنى كلمة ورع أنه يدع ما اشتبه عليه ، قضية فيها إشكال ، وفيها وجهات نظر ، قضية خلافية ، قضية تحتمل أن بعض العلماء أحلّها ، وبعضهم حرمها ، الذي حرمها معه دليل ، والذي أحلّها قاسها على شيء محلل ، فما دام القضية فيها شبهة وشعور بالضيق فالورع يبتعد عنها ، وكما أقول لكم دائماً : ركعتان من ورع خير من ألف ركعة من مخلّط .

مجموع القضايا التي عالجها الدين مجموع تام :

 الشيء الذي يجدر أن نذكره بادئ ذي بدء أن النبي الكريم حينما قبضه الله عز وجل بيّن كل شيء ، لذلك نزل عليه قوله تعالى :

﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً ﴾

[ سورة المائدة : 3 ]

 هذا كلام خالق الكون ، هناك من يقرأ هذه الآية قراءة ليس فيها تدبر ، إذا قال لك خالق الكون :

﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً ﴾

[ سورة المائدة : 3 ]

 هل معقول أن يبقى في الدين شيء نسيه القرآن ؟ أو لم يرد ذكره في القرآن ؟ أو القرآن عالجه معالجة سريعة نحن في أمس الحاجة لمعالجة عميقة ؟ فحينما يقول الله عز وجل:

﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً ﴾

[ سورة المائدة : 3 ]

 معنى أكملت من حيث النوع ، ومعنى أتممت من حيث العدد :

﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾

[ سورة البقرة : 196]

 ولنفرض أنك أقرضت إنساناً عشر ليرات ذهبية وهي ذات مواصفات جيدة ، فإذا أعطاك إياها يقول لك : تلك عشرة عدها ، وبعد أن عددتها تقول له : كاملة ، من النوعية الجيدة التي أخذتها منك ، إذاً فالتمام عددي ، والكمال نوعي ، وربنا عز وجل يقول :

﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً ﴾

[ سورة المائدة : 3 ]

 فما من قضية عالجها الدين إلا عالجها معالجة كاملة ، ومجموع القضايا التي عالجها الدين مجموع تام .

دور الإنسان في الدين دور التلقي والنقل وليس دور الابتداع :

 ألا يستطيع إنسان كائناً من كان أن يضيف على الإسلام شيئاً ؟ أن يحدث فيه ما ليس منه ؟ لا ، لذلك : من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد :

((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ يَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ يَقُولُ : مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْهُ فَلا هَادِيَ لَهُ ، إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ، وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا ، وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ وَكُلُّ ضَلالَةٍ فِي النَّارِ))

[ النسائي عن أبي هريرة ]

 فالدين ختم ، ودورنا دور التلقي والنقل ، وليس دور الابتداع ، الابتداع ضلال في ضلال إنما أنا متبع ولست بمبتدع ، يقول الله عز وجل :

﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ﴾

[سورة النحل : 89]

 لكن يجب أن نقف يا ترى نوع البناء القرآن لم يذكره فهناك بناء إسمنتي ، حجري من لبن وطين ، فكيف نفهم قوله تعالى :

﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ﴾

[سورة النحل : 89]

 أنواع الأطعمة ، أنواع الأشربة ، أنواع الألبسة ، أنواع البيوت ، السدود ، البحيرات، المستنقعات ، الأهوار ، أنواع الجبال ، المعادن أنواعها وعددها ، القرآن لم يذكر هذا جاء ذكره عرضاً ، أما أن يذكر القرآن تفصيلات كل شيء ما ورد ، ما الجواب ؟ الجواب : أن القرآن كتاب هداية فأي شيء في حياتك تتوقف عليه نجاتك وسعادتك أمرك الله به أمر إلزام ، هذا الفرض ، الصلاة فرض ، وأي شيء يقوض سعادتك وسلامتك ويهلكك نهاك الله عنه نهي جزم، أي تحريم ، فنحن عندنا في القرآن الكريم والسنة فرائض ومحرمات ، الفرائض الأمر بها إلزام ووجوب وقطع وحتم ، ومن تركها فقد هلك ، والمحرمات النهي عنها نهي مؤكد جازم قاطع بات ومن وقع فيها فقد هلك ، هناك فرائض كطلب العلم ، المسلم يتوهم أن الفرائض خمس صوم وصلاة وحج وزكاة . . من قال لك ذلك ؟ من قال إن هذه فرائض تعبدية ؟ أما مطلق الفرائض فكثيرة جداً حينما ألزمك الله أن تتعلم فالعلم أن لا إله إلا الله هذه صيغة أمر ، طلب العلم فريضة .

﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾

[ سورة آل عمران : 104]

 فريضة ، لذلك إذا قرأت القرآن الكريم دقّق أي فعل أمر أو مضارع مسبوق بلام الأمر هذا أمر وجوب ، أمر كالصلاة تماماً :

﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ ﴾

[ سورة هود : 112 ]

 أمر فرض ، فمن الغباء والسخف ومن ضيق الأفق والجهل الفاضح أن تتوهم أن الفرائض خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأداء الصلاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا وأداء الزكاة . هذه أركان الإسلام ، أما الفرائض بمعناها المطلق فكبيرة جداً :

﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ﴾

[ سورة طه : 132 ]

 أن تأمر أهلك بالصلاة فرض ، أن تدعو إلى الله فرض ، أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فرض ، أنكحوا الأيامى أن تزوج أولادك ، فالأمر في أعلى درجاته فرض ، وبعد الفرض واجب مندوب ، فإذا قرأت القرآن لا ينبغي أن تظن أن الفرائض خمس ، أي فعل أمر أو مضارع مسبوق بلام الأمر ، إنه أمر إنه فرض إنه واجب فاتفقنا على أن في الإسلام قضايا تتوقف عليها نجاتنا وسعادتنا ، لقد أمرنا الله بها ، وهناك قضايا في حياتنا لو فعلناها لهلكنا وأهلكنا كالمحرمات . هناك أشياء إذا فعلناها حسّنا الفرض ، ورفعنا مستواه كالواجبات ، ويوجد أفعال إذا فعلناها اقتربنا من المحرمات هي المكروهات ، يوجد لدينا فرائض و محرمات ، مندوبات ومكروهات ، وأشياء سكت عنها الشرع ، والحكمة من سكوته عنها لا تقل عن الحكمة من تشريع بعضها ، أشياء حيادية ليس لها علاقة ، لا بنجاة الإنسان ولا بهلاكه ، لا برقيه ولا بضعفه ، هذه الأشياء الحيادية هي المباحات ، لكن العلماء قالوا : " المباحات إذا نويت بها أن تنفع المسلمين أو نفسك أو أن تتقوى على طاعة ربك انقلبت إلى عبادات" تناول الطعام والشراب هل هو أمر فرض ؟ لا ، مندوب ؟ لا ، محرم ؟ ليس محرماً بل مباحاً، لكنك إذا أردت أن تأكل ونويت أن تتقوى بهذا الطعام على طاعة الله انقلب هذا الطعام إلى عبادة ، فمجموع القضايا التي عالجها الدين تام ، طريقة المعالجة طريقة كاملة ، إذاً لا يستطيع إنسان كائناً من كان أن يضيف على الإسلام شيئاً ، من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد أي مردود عليه .

(( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ يَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ يَقُولُ : مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْهُ فَلا هَادِيَ لَهُ ، إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّد ، وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا ، وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضلالَةٌ ، وَكُلُّ ضَلالَةٍ فِي النَّار ))

[ النسائي عن أبي هريرة ]

تعريف الابتداع :

 من أجل أن ترى الإسلام بعد ألف ومئة وخمسين عاماً كما بدأ في عهد النبي الكريم، من أجل أن يستمر هذا الدين كما بدأ ، من أجل أن يبقى هذا النبأ عذباً صافياً فراتاً ، يجب ألا يضاف على هذا النبع شيء ، وألا يؤخذ منه شيء ، هذه قاعدة . من أضاف على الإسلام ما ليس منه فهو مبتدع ، ومن حذف منه فهو مبتدع ، الابتداع في الإضافة عليه والحذف منه ، هذه آية .
 الآية الثانية : يبين الله لكم أن تضلوا أي ألا تضلوا ، الله عز وجل بين .

﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾

[ سورة التوبة : 115]

﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً ﴾

[ سورة المائدة : 3 ]

 فهذه الآيات توضح وتبين أن الله بين وفصل ، والنبي عليه الصلاة والسلام بين وفصل أيضاً ، فأنت أمام شريعة تامة كاملة . هذه الآيات ، أما الأحاديث :

((وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ ، قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذِهِ لَمَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا ؟ قَالَ : قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلا هَالِكٌ ، وَمَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلافًا كَثِيرًا ))

[الترمذي عَنْ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ]

 الإسلام واضح .

الدين كله حياء :

 هنا نقطة هامة جداً : اعلم علم اليقين ليس في دين الله شيء لا يقال ، هذا دين - أخي دعها بيننا - لا بالدين لا يوجد بيننا ، في الدين يقال كل شيء على الملأ ، دين الله ، دين الخالق ، خالق الكون أنزل هذا القرآن فهل أنت تخجل فيه ؟ هل من شيء في الدين يستحيا منه؟ كلمة لا حياء في الدين للقليل ، تذكر العورات وتقول : لا حياء في الدين !! هذه والله ليست صحيحة ! كان عليه الصلاة والسلام أشد حياء من العذراء في خدرها ، شيء يلفت النظر سيأتي معنا بعد قليل : أن سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله من هؤلاء السبعة شاب دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله رب العالمين ! جميعاً فهمتم المقصود ، النبي نكر شيئاً يستحيا منه لماذا دعته ؟ لم يقل ، إلى ماذا دعته ؟ مفهوم ، هذا الكمال النبوي ، الله عز وجل قال :

﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ* فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴾

[سورة المؤمنون : 5-7]

 كل انحرافات الأخلاق في هاتين الكلمتين ! لا حياء في الدين ، أسماء العورات أوضاع مثيرة ، أشياء فاضحة ، تقول : لا حياء في الدين ، من قال لك ذلك ؟ الدين كله حياء، الحياء والإيمان قُرنا معاً ، فإذا رفع الحياء رفع الإيمان ، لكن لا حياء في الدين ، الدين دين الله لا يمكن أن تستحي من فكرة في الدين تقول له : هذه بيني وبينك إياك أن تقولها للناس ! وهناك شيء مضحك أكثر أنت دون مستوى هذه الآية لا يمكن أن تفهمها ، أنت دون مستواها ، من قال لك ذلك ؟ إنسان أعطاه الله فكراً ، العلم لا يمنع ولا يحظر ، والدين دين واضح ، فالحلال حلال ، الحرام حرام ، المندوب مندوب ، المكروه مكروه ، المباح مباح ، كل شيء واضح:

(( تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلا هَالِكٌ ))

[ ابن ماجه عن العرباض ]

 وقال أبو ذر الغفاري رضي الله عنه : " توفي رسول الله وما من طائر يحرك جناحيه في السماء إلا وقد ذكر لنا منه علماً " فكل شيء له علاقة بحياتنا ذكر النبي منه علماً، لذلك في بعض كتب الحديث بين دفتيها عشرات بل مئات ألوف الأحاديث كله بينه النبي الكريم.
 وقال عمه العباس رضي الله عنه : " والله ما مات رسول الله حتى ترك السبيل نهجاً واضحاً ، أحلّ الحلال وحرم الحرام ونكح وطلق وحارب وسالم حتى بيّن كل شيء "، هذا يؤكد أن ليس في الدين إضافة .

الآيات نوعان قطعية الدلالة و ظنية الدلالة :

 الآن موضوع الدرس هو الشبهات ، بعض العلماء قالوا : ما كان القرآن واضحاً وضوح الشمس فهو الحلال والحرام والبين منه آيات محكمات هن أم الكتاب :

﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾

[سورة المائدة : 38]

﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ﴾

[سورة النور : 2]

 وأحل البيع وحرم الربا ، فهناك آيات واضحة محكمة مهما حاولت أن تتفلسف فالعلماء سموها قطعية الدلالة ، الآيات قطعية الدلالة واضحة وضوحاً تاماً لا مشكلة ، لا يختلف فيها اثنان :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾

[سورة المائدة : 6]

 تفضل واجتهد وفكر استنبط ؟ واضح وأيديكم إلى المرافق هذا النص سماه العلماء قطعي الدلالة ، أي واضح بين ، موضوع غير اجتهادي ، موضوع نصي ولا اجتهاد في موضع النص ، لكن ربنا عز وجل في موضوعات ثانية أعطاها آيات ظنية الدلالة ، ففمكن أن تفهم هذه الآية بمستويات كثيرة ، حينما أراد الله عز وجل من الآية أن تكون ظنية الدلالة أراد كل المعاني التي تحتملها، مثلاً قوله :

﴿ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾

[ سورة البقرة : 195]

 شيء واضح هذه آية احتمالية يا ترى أنفق لئلا تهلك أم لا تنفق كل مالك لئلا تهلك؟ ماذا تقولون ؟ المعنيان مقصودان ، هذه آية احتمالية ظنية ، فأنت بالقرآن الكريم أمام نموذجين صاخبين ، آيات محكمات قطعية الدلالة ، وآيات متشابهات ظنية الدلالة ، فالآيات قطعية الدلالة أرادها الله أن تكون قطعية الدلالة ، وأراد الله ألا نختلف فيها ، وأراد الله أن نفعهما على نحو واحد ، وأما الآيات ظنية الدلالة فالله سبحانه وتعالى أراد كل المعاني المحتملة : وامسحوا برؤوسكم هذه الباء للتبعيض ؟ أي وامسحوا بعض رؤوسكم ممكن هذه الباء زائدة .

 

﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾

[سورة المائدة : 6]

 فحينما يأتي النص ظني الدلالة اعلم علم اليقين أن الله أراد كل هذه المعاني ، لماذا؟ توسعة على العباد ، اختلاف الظروف والبيئات والأوضاع والحالات والسن والجنس ، لذلك أراد الله أن تكون هناك مذاهب لأن بالقرآن آيات احتمالية ، وآيات ظنية الدلالة ، لذلك عالم فهم هكذا ، وعالم فهم هكذا ، من خلال مواقف النبي الكريم ، وأحاديثه ، عالم قال ممكن أن يكون خلاف غنى ، فيا أيها الأخوة الأكارم من عظمة هذا الدين أنك إذا تركت جانباً مبدئياً الآيات قطعية الدلالة ودخلت في الآيات ظنية الدلالة ، وفي الأحاديث ظنية الدلالة ، وجدت أن هذه الصيغة الظنية الاحتمالية التي تحتمل حالات عديدة هكذا أراد الله عز وجل أن تحتمل كل هذه الحالة ، فمعنى التشابه آيات ظنية الدلالة يفهمها كل إنسان بحسب منهجه في استنباط الأحكام .

 

 الآن دقق في الحديث يقول عليه الصلاة والسلام :

((سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : الْحَلالُ بَيِّنٌ ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ ، لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ ، أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى ، أَلا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ ، أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ ))

[البخاري عن النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ]

 فهذه الشبهات ألا يوجد حل لها ؟ نبقى طوال حياتنا في حيرة وشك ؟ هل يوجد بالحديث حل ؟ دققوا في الحديث :

(( الْحَلالُ بَيِّنٌ ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ ، لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ))

[البخاري عن النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ]

 ماذا يستفاد من هذه الفقرة في الحديث ؟ أن بعض الناس يعلمون ، العامة لا يعرفون ذلك ، لكن الخاصة يعلمون ، الله عز وجل قال :

﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾

[سورة الأنبياء : 7]

 قال لك : اسأل به خبيراً ، فأنت مكلف أن تسأل ، مفتاح العلم السؤال ، أنت واقع في حرج ، لك صديق يغلب على ظنك أن دخله حرام ، جئته ضيفاً فقدم لك ضيافة ! هذا شيء يحير ، فماله حرام أو بعض ماله فهل أتناول الطعام أم لا ؟ عليك أن تسأل فهذه شبهة ، لا يعلمها كثير من الناس ، هناك من يعلم فاسألوا أهل الذكر ، وهذه وظيفة المفتين ، ووظيفة العلماء ، أن تسألهم أحلال أم حرام ؟ ماذا أفعل ؟ فهذه الشبهات هناك من أولي العلم والخبرة والتبحر من يعلم حقيقتها . ولنفرض أنك اشتريت من عند أحدهم قطعة ، فأعطاني خمساً وعشرين ليرة ، صانع مكنسيان اشترى قطعة فأعطاه خمساً وعشرين ليرة مكافأة يا ترى هذه حلال أم حرام ؟ إن كان أعطاك إياها من ربحه الخاص فهي حلال ، وإن كان قد أعطاك إياها من صاحب القطعة الذي اشتراها وأضافها على الثمن فهي حرام ، فمن هذا القبيل ، هناك آلاف القضايا في البيع والشراء والزواج والطلاق ، يا ترى حلال أم حرام ؟ فهذه الشبهات هناك من يعلم حقيقتها ، على كل لو سألنا أنفسنا هذا السؤال لماذا اختلف العلماء في بعض الأحكام الفقهية ؟ لأن المذهب الشافعي يختلف عن الحنفي عن ابن مالك ، لولا مالك لكان الدين هالك ! هذا حنبلي ساقها حنبلية ، أي هناك مذهب متشدد ، ومذهب ليّن ، مذهب نصي ، مذهب يأخذ بالمصلحة ، مثلاً المذهب الحنفي يأخذ بالنص ، مذهب يأخذ عن الصحابة . . . إلى آخره .
 لماذا الخلاف ؟ قال بعض العلماء : أولاً قد يكون أحد النصوص وصل لعلم عالم وخفي عن علم عالم آخر ، فالذي أخذ بهذا النص أعطى فتوى ، والذي غاب عنه هذا النص أعطى فتوى، هذا أحد أسباب الخلاف ، أو هناك نصان أحدهما يأمر ، والآخر ينهى ، فالعالم حار في هذا الأمر ، لا يملك تاريخاً للنصين ليرجح أحدهما المتأخر ، حتى يجعل المتأخر ناسخاً ، والمسبوق منسوخاً ، وهذا باب آخر ، أحياناً حديث ثبت عند هذا العالم ولم يثبت عند هذا العالم فوجد الخلاف ! أحياناً استنباط المعنى من النص هذا استنبط الفرض ، وهذا استنبط الندب ، وأنكحوا الأيامى هذا فعل أمر ، لكن العلماء استنبطوه أنه أمر ندب ، فلدينا أمر وجوب ، وأمر ندب ، وأمر إباحة ، وأمر تهديد ، فربنا قال :

﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾

[سورة البقرة : 187 ]

 أمر إباحة ، وإذا قال :

﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾

[سورة الكهف : 29]

 ما معنى فليكفر ؟ هل هي أمر ؟ أعوذ بالله إذاً هذا أمر تهديد ، فيوجد أمر إباحة، أمر وجوب ، أمر ندب ، إذاً هناك أسباب لاختلاف العلماء في هذا المعنى ، على كل الشبهات تحتاج إلى جلاء وسؤال ، فمفتاح العلم السؤال ، فأنت بسؤال تلقيه على إنسان تثق بعلمه وبورعه تأخذ كل خبرته فلماذا تضن على نفسك بالعلم ؟ الحلال بيّن والحرام بيّن ، لكن هذا الأمور المشتبهة لماذا لا تجليها وتوضحها أو تسأل عنها ؟ لماذا أنت بين بين ؟ فبالعلاقات الزوجية هل يجوز أن نسقط الحمل ؟ اسأل يا أخي ، رجل مجهول أجاب من هو هذا الرجل؟

(( إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ ))

[مسلم عن محمد بن سيرين]

 يقول ابن عمر رضي الله عنهما : " دينك دينك إنه لحمك ودمك خذ عن الذين استقاموا ولا تأخذ عن الذين مالوا " .

 

بعض المواقف للنبي عليه الصلاة والسلام في ترك الشبهات :

 سأذكر لكم بعض المواقف للنبي عليه الصلاة والسلام في ترك الشبهات يقول عليه الصلاة والسلام :

(( إِنِّي لأَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِي فَأَجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِي فَأَرْفَعُهَا لآكُلَهَا ، ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً فَأُلْقِيهَا ))

[ البخاري عن أبي هريرة]

 النبي عليه الصلاة والسلام أصابه أرق في الليل فقالت له بعض نسائه :

((عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ تَحْتَ جَنْبِهِ تَمْرَةً مِنَ اللَّيْلِ فَأَكَلَهَا فَلَمْ يَنَمْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَقَالَ بَعْضُ نِسَائِهِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرِقْتَ الْبَارِحَةَ قَالَ : إِنِّي وَجَدْتُ تَحْتَ جَنْبِي تَمْرَةً فَأَكَلْتُهَا ، وَكَانَ عِنْدَنَا تَمْرٌ مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ فَخَشِيتُ أَنْ تَكُونَ مِنْهُ ))

[ أحمد عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ]

 وفي بعض الروايات أن النبي عليه الصلاة والسلام تضايق من تأخر الوحي عنه ، كم كان ورعاً ! تمرة تأخر عنه الوحي هذا تعليم لنا ، أبو حنيفة النعمان رضي الله عنه ما وقف في ظل بيت مرهونٌ عنده قال : أكره أن أنتفع بظله ، لذلك ركعتان من ورع خير من ألف ركعة من مخلط .
 هذا الحديث له تتمة وإن شاء الله تعالى سنتابع الحديث عنه في درس قادم لأنه حديث من أصول الدين ، وأنا أحرص دائماً في درس الحديث أن يكون الحديث من أصول الدين أساسياً ، طبعاً هذا الحديث تسمعونه مني دائماً ، أما أن أذكره على سبيل الاستشهاد أما التفصيل فهو يحتاج لدرس أو أكثر .

* * *

مواقف النبي الكريم في تعليم أصحابه :

 والآن إلى بعض مواقف النبي الكريم في تعليم أصحابه ، نحن في الدرس الماضي بينت لكم بعض المبادئ الأساسية في الدعوة إلى الله ، إليكم نماذج تطبيقية في دعوة النبي عليه الصلاة والسلام كان عليه الصلاة والسلام يقول :

((أُمِرْتُ أَنْ يَكُوُنَ صَمْتِي فِكْرَاً ، وَنُطْقِي ذِكْرَاً وَنَظَرِي عِبْرَةً ))

[أخرجه زيادات رزين عن أبي هريرة ]

((عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ : قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْيٍ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ تَبْتَغِي إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ! فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ ؟ قُلْنَا : لا وَاللَّهِ وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لا تَطْرَحَهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا ))

[ مسلم عن عمر ِ]

 استغل النبي الكريم شاهداً صارخاً ، مثلاً حياً ، مشهداً رائعاً ، النبي عليه الصلاة والسلام قرب إليهم فرح الله عز وجل بتوبة عبده .

((عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِالسُّوقِ دَاخِلا مِنْ بَعْضِ الْعَالِيَةِ وَالنَّاسُ كَنَفَتَهُ فَمَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ فَتَنَاوَلَهُ فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ ثُمَّ قَالَ : أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ ؟ فَقَالُوا : مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ وَمَا نَصْنَعُ بِهِ ؟ قَالَ : أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ ؟ قَالُوا : وَاللَّهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا فِيهِ لأَنَّهُ أَسَكُّ فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ ! فَقَالَ : فَوَ اللَّهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ ))

[مسلم عن جابر]

 أقسم بالله أن الدنيا أهون على الله من هذا الجدي الأسك الميت على صاحبه ألقوه في الطريق ، لذلك إذا رأيت الله يعطي زيداً المال الوفير ، أو الصحة ، أو الجاه العريض ، أو القوة وتظن أنك محروم من هذا كله فأنت واهم :

﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾

[ سورة آل عمران : 196-197 ]

﴿قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ﴾

[ سورة إبراهيم : 30]

﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾

[ سورة البقرة : 126]

 إذا سأل سائل سؤالاً وسخر منه هذا سلك سلوكاً منافياً لأصول التربية ، فإذا سخرت من سائل فقد حطمته ، وقد حطمت أساس السؤال ، وقد منعت طلب العلم من السؤال ، فلذلك يروى أن أعرابياً جاء النبي فقال له : يا رسول الله :

(( ثِيَابَنَا بِالجَنَّةِ نَنْسُجُهَا بَأَيدْيَنَا ؟ فَضَحِكَ القَومُ فَقَالَ عَليهِ الَّصَلاَةُ وَالسَّلاَمْ وَهُوَ مُنْزَعِجْ : مِمَ تَضْحَكُونْ ؟ إِنَهُ يَسْأَلُ ! لاَ يَا أَعْرَابِيُ وَلَكِنَهَا تَتَشَقَقُ عَنْهَا ثِمَارُ الجَنَّةِ!))

[الطبراني في الأوسط عن عمر بن عبد الغفار وهو متروك‏ ]

 إنك بعيد بعد الأرض عن السماء عن أن تكون داعية إلى الله عز وجل ‍مهما بدا لك السؤال سخيفاً ، أو ساذجاً ، سأل سؤالاً !! هذا من أساليب الدعوة إلى الله الاهتمام بالسائل، احترام السائل ، أن تجيبه باحترام ، أن تجيبه بصبر ، ورحابة صدر .

الأساليب التربوية التي استخدمها النبي مع أصحابه :

 كما ذكرت لكم أن النبي الكريم كان يحسن الحسن ، ويقبح القبيح ، مرة قال :

(( من يسأل الناس تكثراً ...))

 أي رجل غني وعنده أموال طائلة ، ولكنه اعتاد التسول ، أن يمد يده للناس ، أن يثير عطف الناس ، شفقتهم ، وهو كاذب ويتخذ هذه حرفة ، فأنا سمعت قصصاً تكاد لا تصدق امرأة متسولة دخلت لبعض المصارف لها رصيد يزيد عن سبعمئة ألف ليرة في المصرف ، ‍فهذه أصبحت حرفة لها ، فالإنسان إذا أراد أن يدفع مالاً للفقراء ينبغي أن يجتهد ، لا أن يلقي المال جزافاً ، فهذا المال مال الله ، به قيام الحياة ، تعطيه لإنسان ليزيد ثروته !! يقول عليه الصلاة والسلام :

(( من يسأل الناس تكثراً فإنما يسأل جمراً - من جمر جهنم - فليستقل أو ليستكثر ))

[ مسلم عن أبي هريرة]

((سَمِعْتُ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ الْجُهَنِيَّ يَقُولُ : خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ ، فَقَالَ : أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ إِلَى بُطْحَانَ أَوِ الْعَقِيقِ فَيَأْتِيَ كُلَّ يَوْمٍ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ زَهْرَاوَيْنِ فَيَأْخُذَهُمَا فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلا قَطْعِ رَحِمٍ ؟ قُلْنَا : كُلُّنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ يُحِبُّ ذَلِكَ ، قَالَ : فَلأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَتَعَلَّمَ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ وَثَلاثٌ خَيْرٌ مِنْ ثَلاثٍ وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ مِنْ أَرْبَعٍ وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الإِبِلِ))

[ أحمد عن عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ الْجُهَنِيَّ ]

 أي أنت إذا جئت إلى المسجد لتتعلم شيئاً من كتاب الله ، من سنة رسول الله ، من أحكام الشرع ، من قصص الصحابة الكرام ، وتستفيد من هذه الحقائق ، وتجعلها سلوكاً يومياً أنت بهذا أغنى من لو جئت كل يوم بثلاثمئة ألف ليرة . النبي عليه الصلاة والسلام يروي بعض القصص قال :

((حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَهُوَ عَمُّهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ ، كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلاةٍ ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا ، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ : اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ ))

[ مسلم عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ]

 فالنبي الكريم أراد أن يصور لكم شدة فرح الله عز وجل إذا تاب العبد إليه ، وإذا رجع إليه ، وإذا اصطلح معه ، هذه كلها أساليب تربوية كان عليه الصلاة والسلام يستخدمها مع أصحابه :

((عَنْ عبد الله رَضِي اللَّهم عَنْهم قَالَ : خَطَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا مُرَبَّعًا وَخَطَّ خَطًّا فِي الْوَسَطِ خَارِجًا مِنْهُ ، وَخَطَّ خُطَطًا صِغَارًا إِلَى هَذَا الَّذِي فِي الْوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي فِي الْوَسَطِ ، وَقَالَ : هَذَا الإِنْسَانُ وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ ، أَوْ قَدْ أَحَاطَ بِهِ وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ وَهَذِهِ الْخُطَطُ الصِّغَارُ الأَعْرَاضُ ، فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا ، وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا))

[ البخاري عن عبد الله ]

 أي أعراض الدنيا المسرات ، الأحزان ، أشياء كلها ماضية لا تبقى ، هو خارج هذا المربع ، هذا أيضاً من وسائل النبي عليه الصلاة والسلام في تعليم أصحابه ، إذاً استخدم الرسم، استخدم القصة ، استخدم المشهد ، والمثل ، والحادثة ، احترم أسئلة أصحابه ، ما سخر من سؤال من صحابي ، هذا كله من هدي النبي في تعليم أصحابه .
 إليكم هذا الحديث :

((حَدَّثَنَا أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهم عَنْهم قَالَ : أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ هَلَكْتُ وَقَعْتُ عَلَى أَهْلِي فِي رَمَضَانَ ، قَالَ : أَعْتِقْ رَقَبَةً ؟ قَالَ : لَيْسَ لِي ، قَالَ : فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ، قَالَ : لا أَسْتَطِيعُ ، قَالَ : فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا ، قَالَ : لا أَجِدُ ، فَأُتِيَ بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ قَالَ إِبْرَاهِيمُ : الْعَرَقُ الْمِكْتَلُ ، فَقَالَ : أَيْنَ السَّائِلُ ؟ تَصَدَّقْ بِهَا ، قَالَ :عَلَى أَفْقَرَ مِنِّي وَاللَّهِ مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنَّا ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ قَالَ : فَأَنْتُمْ إِذًا ))

[ البخاري عن أبي هريرة ]

 فالنبي بدأ معه بالتدريج ، هناك ترفق وتساهل ، فهو عاجز عن عتق رقبة ، وصيام ستين يوماً ، وإطعام ستين مسكيناً ، فأعطاه التمر ليتصدق به فسأله على من ؟ على أفقر منا؟ فضحك النبي وقال له : اذهب فأطعمه أهلك .
 إذاً يوجد تساهل ولين ورحمة ، فهناك متشددون يعطيك الحكم وينهي الأمر ، لا أمل من التراجع ، أعطاه العرق من التمر وقال له : كله أنت وأهلك ، هذه بعض هدي النبي في توجيه أصحابه .

من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف :

 نحن ذكرنا من درسين سابقين أن الأخ الكريم الذي له بال طويل في تلقي العلم وله وقت مديد ، آن له أن يدعو إلى الله عز وجل ، أو يبث هذا العلم الشريف لكن بترفق وتساهل ، ذكرت لكم في درس سابق أن عليك أولاً أن تعرف الآمر قبل الأمر ، والإحسان قبل البيان ، وخاطب العقل والقلب معاً ، وخاطب العامة بأصول الدين ، والخاصة بفروع الدين ، والحق مع ما أكدته الفطرة والواقع والعقل والنقل ، واسلك سبيل التدريج ، وسدد وقارب ، وبشر ولا تنفر ، ويسر ولا تعسر ، عليك أن تكون لطيفاً :

﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾

[سورة آل عمران]

 فهذه الآية نقرؤها كثيراً ولكن والله لو وقفنا عندها " ولو كنت يا محمد " عليه الصلاة والسلام سيد الخلق ، حبيب الحق ، سيد ولد آدم ، يوحى إليه ، مثل أعلى ، نبي ، معه قرآن ، رغم كل ذلك :

﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾

 فإذا كان رجلاً لا وحي لديه ، ولا رسالة ، ولا نبوة ، ولا عصمة ، ولا تأييد ، ولا معجزة ، فكيف يكون فظاً غليظ القلب ؟ لذلك : من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف ، إن هذا الدين قد ارتضيته لنفسي ولا يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق فأكرموهما ما صحبتم .

 

تحميل النص

إخفاء الصور