- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (005)سورة المائدة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
هذه الآية من أدق الآيات الدالة على الحياة الاجتماعية التي ينبغي أن يحياها المؤمنون:
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الخامس والأربعين من دروس سورة المائدة، ومع الآية الخامسة بعد المئة، وهي قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105) ﴾
هذه الآية أيها الإخوة من أدق الآيات الدالة على الحياة الاجتماعية التي ينبغي أن يحياها المؤمنون، لا بد من أمثلة كثيرة الله عز وجل يقول:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لا تَأْكُلُوٓاْ أَمْوَٰلَكُم بَيْنَكُم بِٱلْبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٍۢ مِّنكُمْ ۚ وَلَا تَقْتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا(29) ﴾
المعنى البديهي: لا تأكلوا أموال إخوانكم فجاءت الآية: ﴿َلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ﴾
أي إن مال أخيك هو مالك من زاوية وجوب المحافظة عليه، فلأن تمتنع عن أكله من باب أولى، أي إن هذا المال ملك المسلمين جميعاً، هناك مُلْك خاص ومُلك عام، أنت إنسان تملك مالاً هو لك، لكن ينبغي أن تنفقه بطريقة لا تؤذي بها المسلمين، المسلمون جميعاً لهم حق في هذا المال، لا أن يأكلوه، ولا أن يغتصبوه، ولا أن يأخذوه منك، ولكن أن تُحسِن إنفاقه في الصالح العام، فالمسلمون وحدة لا تتجزأ.
المؤمن حينما يستقيم ينتفع المجموع من استقامته :
أيها الإخوة:
﴿عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ﴾ يجب أن تهتم بكل المسلمين، بكل المؤمنين، لم تأتِ الآية: عليك نفسك: ﴿عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ﴾
ذلك أن المؤمن حينما يستقيم ينتفع المجموع من استقامته، ويتأذّى الضُلَّال، لأن استقامته كشفت انحرافهم، المؤمن حينما يصدق ينتفع جميع الناس من صدقه، إلا أن الكاذب كُشف كذبه، فالمؤمن حينما يُحسن، وحينما يستقيم، ينتفع المجموع من استقامته وإحسانه، ويتأذّى الضالون، لذلك هناك معركة قديمة أزلية أبدية بين الحق والباطل في أي عصر، في أي مصر، في أي مكان، في أي زمان، لا بد من هذه المعركة بين الحق والباطل، بين الإيمان والكفر، بين المستقيم وبين المنحرف، المستقيم يكشف المنحرف، العفيف يكشف السارق، المخلص يكشف الخائن، لأن الله عز وجل يقول:
المؤمن حينما ينقل الحق إلى الآخرين يعود الخير عليه أيضاً :
إذاً حينما قال الله عز وجل:
أنت مؤمن لا تسرق، حينما تقنع مجموع الناس ألا يسرقوا إذاً هم لم يسرقوا منك، أنت مؤمن.
حينما تقنع الناس أن يغضوا أبصارهم عن نساء لا تحِل لهم، فإذا أقنعت الناس بطاعة الله هؤلاء الناس جميعاً غضوا أبصارهم عن أهلك، القضية رائعة جداً، أنت تحرص حرصاً كبيراً على أن تنقل هذا الحق إلى الآخرين، فإذا انتقل إليهم عاد الخير إليك.
قد تفهم الآية التالية فهماً ما أراده الله :
الله عز وجل يهلك الصالحين وينجي المصلحين وفرق كبير بين الصالح والمصلح :
أيها الإخوة:
إذاً المؤمن من شأنه أنه يسعى لإصلاح الناس، وما لم تنشأ هذه الرغبة عند المؤمن فإنه لن يفلح، لذلك ورد في بعض كتب الحديث:
(( أوحى الله إلى ملك من الملائكة أن اقلب مدينة كذا وكذا عل أهلها، قال إن فيها عبدك فلانا لم يعصك طرفة عين، قال اقلبها عليه وعليهم، فإن وجهه لم يتمعر في ساعة قط ))
لذلك الله عز وجل يُهلِك الصالحين، ويُنجّي المُصلحين، فرق كبير بين الصالح والمُصلح، يهلك الصالحين، وينجّي المصلحين، فمعنى قوله تعالى:
المسلمون وحدة إذا صلحوا سعد الأفراد بصلاحهم وإذا انحرفوا شقي الأفراد بانحرافهم:
مرةً إنسان استنصحني قبل زواجه، قلت له: يتوهم معظم الأزواج أنه لمجرد أن يقترن بفتاة دخل في سعادة لا تنتهي، لا، ما لم تأخذ بيد الفتاة إلى الله، ما لم تدلها على الله، ما لم تحملها على طاعة الله، لن تنتفع منها، لن تسعدك، أما تسعدك إذا تعرّفت هي إلى الله، أو ساهمت أنت في هدايتها إلى الله، الآن أنت لا تنجو من المجتمع، كله يكذب، كله يغش، كله يحتال، كله يقتنص، كله يأخذ ما ليس له، أما إذا ساهمت في هداية هؤلاء يعود الخير عليك، ولا تنسى أبداً أن الله إذا نهاك عن أن تكذب نهى ملياراً وثلاثمئة مليون مسلم عن أن يكذبوا عليك، وإذا نهاك عن أن تسرق نهى ملياراً وثلاثمئة مليون مسلم أن يسرقوا منك، فكلما صلح المجتمع عاد الخير عليك:
﴿ وَلَا تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ
المعنى: أموالهم، سفيه يعني مجنون له إرث كبير، المعنى: لا تؤتي هذا السفيه ماله.
مال الفرد هو مال المجموع :
الآية:
إنسان معه مال، فأنشأ معمل خمور، يقول لك: مالي، هو مالك فعلاً، لكن هذا المال مال الأمة، أن تنفقه في صنع شراب يعطل العقل فأنت أسأت إلى مجموع الأمة.
إذاً معنى أن مال الفرد هو مال المجموع بمعنى أن يُنفَق في صالح المجموع، هذا المعنى، حينما قال الله عز وجل:
﴿ وَلَا تَأْكُلُوٓاْ أَمْوَٰلَكُم بَيْنَكُم
المعنى الحرفي لا يستقيم، واحد له جيبان، أخذ مئة ليرة من هنا، وضعها هنا، ماذا فعل؟
للزوج الحق في أن يمنع زوجته من أن تستثمر مالها في طريق غير مشروع :
لو أن إنساناً متزوجاً، والزوجة تملك مالا وفيراً، أرادت أن تتاجر بالمُهرَّبات، لو أن هذا التهريب كُشف تُعتقل الزوجة، تتعطل الأسرة، يُشرد الأولاد، يقول لها الزوج: هذا المال هو لك، ولكنه لمجموع الأسرة، أي أنفقيه لصالح الأسرة، لو أُنفق هذا المال في مشروع يعود على الأسرة بالضرر، فأنا أمنعك من ذلك، لذلك للزوج أن يمنع زوجته أن تستثمر مالها في طريق غير مشروع، يعود بالدمار، لو أنبأها تاجر مخدرات أن القرش يربح مليون، فلزوجها أن يمنعها، لأن هذا قد يجلب إعدامها بحسب القوانين، فمع أن المال مالها ينبغي أن يُنفَق لصالح الأسرة، هذا المعنى، ومع أن المال مال زيد أو عُبيد فينبغي أن يُنفق لصالح المؤمنين، لذلك: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾
بعدئذٍ يقول:
﴿ وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَٰمَىٰ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغُواْ ٱلنِّكَاحَ فَإِنْ ءَانَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَٱدْفَعُوٓاْ إِلَيْهِمْ أَمْوَٰلَهُمْ
ما قال: أموالكم، هذه ملمح رائع جداً: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾
الدعوة إلى الله فرض عين على كل مسلم :
إذاً:
قد يغيب عنكم أيها الإخوة، وقد ذكرت هذا كثيراً أن الدعوة إلى الله فرض عين على كل مسلم، فرض عينٍ، عينٍ وليس فرض كفاية، هي فرض كفاية على بعض المسلمين، إذا قاموا بها سقطت عن المجموع، التبحُّر، والتفرّغ، والتعمّق، وامتلاك الأدلة التفصيلية، والرد على كل الشبهات هذه فرض كفاية، إذا قام بها بعض العلماء المتبحرين، المتفرغين، المتعمقين سقطت عن المجموع، يؤكد هذا قوله تعالى:
﴿ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ
أما الدعوة إلى الله كفرض عيني تؤكدها الآية الكريمة:
﴿ وَالْعَصْرِ(1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3) ﴾
التواصي بالحق فرض عين على كل مسلم في حدود ما يعلم ومع من يعرف :
التواصي بالحق فرض عين على كل مسلم، في حدود ما يعلم، ومع من يعرف، يؤكد هذا الفرض العيني آية أخرى:
﴿ قُلْ هَٰذِهِۦ سَبِيلِىٓ أَدْعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِى
فإن لم تدعُ إلى الله على بصيرة فأنت لست متبعاً لرسول الله عليه الصلاة والسلام، وحينما قال الله عز وجل:
﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
معنى ذلك أنك إن لم تتبع رسول الله عليه الصلاة والسلام فأنت لا تحب الله بنص هذه الآية.
إذاً معنى: ﴿عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ﴾
من لم يفكر بنشر الحق الطرف الآخر يقوى ويفرض عليه دينه :
هناك حالة اسمها إدمان سماع، مدمن لسماع دروس، إلى متى؟ أيعقل أن يمضي إنسان كل عمره يسمع؟ ينبغي بعد أن سمع أن ينطق، أن يتكلم، أن يتحرك، أعطِ شريطاً إن كنت لا تُحسن إلقاء الموعظة، إلقاء العلم، أعطِ شريطاً، وزّع الحق بين الناس.
أيها الإخوة:
هذه إحدى آيات الفرقان الحق، يريدون أن يضعوا لنا قرآناً آخر، يريدون أن يمنعوا أولادنا من تعلم الشريعة، يريدون أن يوقفوا كل العمل الخيري، أليس كذلك؟ هذه الآية، إذا أنتم لم تفكروا بنشر هذا الحق الطرف الآخر يقوى، فإذا قوي فرض عليكم ثقافته، وفرض عليكم إرادته، وفرض عليكم دينه، أليس كذلك؟!!
عليكم أنفسكم حتى لا يضركم من ضلّ :
هذه آية العصر:
كيفية إنكار المنكر بالقلب :
إخواننا الكرام، موضوع دقيق جداً، حينما قال الله عز وجل:
مثلاً: إنسان له أخت متفلتة، متبرجة، مستهترة، تبرز كل مفاتنها في الطريق، دخلت عليه زائرة، قال بقلبه: اللهم هذا منكر لا أرضى به، كيف حالك يا أختي؟ إن شاء الله بخير، والله اشتقنا لك، لم نعد نراك، أطلت الغياب علينا، هكذا قلبكِ قاس علينا؟! بهذا المنظر البشع المتفلت؟! هذه الشقيقة حينما ترتدي هذه الثياب ينبغي ألا تستقبلها في بيتك، وينبغي أن يفعل هذا أخوك أيضاً، وأخوك الثالث، فإذا رأت أنها معزولة، ومحاصرة عادت إلى رشدها، إنكار القلب أي أن تأخذ موقفاً سلبياً، ألا تثني على من يفعل المنكر، ألا تمدحه، ألا تحتفل به، ألا تبتسم له، ينبغي أن تأخذ منه موقفاً، هل تصدقون أن إنساناً إذا ظَلَم، ونظر إليك، ولم تقل شيئاً، إلا أنك هززت برأسك، وكأنك أشعرته أنك توافق على هذه الظلامة، فقد شاركته في الإثم، لأنه:
(( من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمه جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة الله ))
صلاحنا بصلاح المجموع :
المفهوم الذي ينبغي أن نفهمه من إنكار القلب أن تأخذ موقفاً سلبياً، هذا إنكار القلب، أنت لا تستطيع أن تمنعه بيدك، كما أنك لا تستطيع أن تنصحه، لا يلقي لك بالاً، لكن بإمكانك ألا تقيم معه علاقة، دعاك إلى نزهة تعتذر، تعال زرنا، تقول: واللهِ أنا مشغول، ينبغي أن تُشعره أنه معزول، وأن مجموع المسلمين قاطعوه، هذا الذي ينبغي أن يكون، إذا فعلنا هذا فقد طبقنا قوله تعالى:
(( بلِ ائتَمِروا بالمعروفِ، وتناهوا عنِ المنْكرِ حتَّى إذا رأيتَ شحًّا مطاعًا، وَهوًى متَّبعًا، ودنيا مؤثَرةً، وإعجابَ كلِّ ذي رأىٍ برأيِهِ فعليْكَ نفسَكَ، ودع عنْكَ العوامَّ، فإنَّ من ورائِكم أيَّامَ الصَّبرِ الصَّبرُ فيهنَّ مثلُ قَبضٍ على الجمرِ للعاملِ فيهم مثل أجرِ خمسينَ رجلًا يعملونَ مثلَ عمله. ))
من هم خاصة النفس؟ أولادك، أقرباؤك، جيرانك، أصدقاؤك، زملاؤك.
في هذا الزمان دع عنك أمر العامة وعليك بالخاصة ممن يثق بك وتثق به :
أنت لست مكلفاً بعصر وصفه النبي:(إِذَا رَأَيْتَ شُحّا مُطَاعاً)
(وَإِعْجَابَ كُلّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ)
﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ(213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ(214) ﴾
القريب واثق منك، القريب لا يخاف منك، القريب يستمع إليك، ويقول عليه الصلاة والسلام:
(فإنّ مِنْ وَرَائِكُم أيَامَ الصّبْرِ، الصّبْرُ فِيهِ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلَ أجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ)
إذاً عندنا حالة خاصة:
(( بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً ))
والحمد لله رب العالمين