- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (005)سورة المائدة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
العلم يقتضي البحث والدليل وعدم التقليد :
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الثالث والأربعين من دروس سورة المائدة ومع الآية الثامنة والتسعين، وهي قوله تعالى:
﴿ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(98) ﴾
أولاً:
أي تحققوا، الدين لا يُؤخذ تقليداً، ولا يمكن أن يُقبَل مقلِّد عند الله، لأنه لو قُبل مقلّد عند الله، لكانت كل الفرق الضَّالَّة ناجية يوم القيامة، لأنهم قلَّدوا رؤساءهم، رؤساء هذه الطوائف، ولكن لأن الدين تحقُّق، ولأن الدين بحْث، ولأن الدين درْس، ولأن الدين اعتقاد أساسه الدليل، لذلك قال:
﴿ فَٱعْلَمْ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّهُ
العلم يقتضي البحث، يقتضي الدليل، يقتضي عدم التقليد، يقتضي العلم المثابرة.
أيها الإخوة:
هان أمر الله على المسلمين فهانوا على الله :
الله عز وجل في بعض ما يروى في كتب الأثر أن نبياً قال:
(( يا رب، أي عبادك أحب إليك حتى أحبه بحبك؟ قال: أحب عبادي إلي تقي القلب، نقي اليدين، لا يمشي إلى أحد بسوء، أحبني، وأحب من أحبني، وحببني إلى خلقك، قال: يا رب إنك تعلم إني أحبك، وأحب من يحبك، فكيف أحببك إلى خلقك؟ قال: ذكرهم بآلائي، ونعمائي، وبلائي ))
والله هناك بلاء لا يحتمل، لأن الله عز وجل يقول:
﴿ لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ
والله الذي يصيب المسلمين لا يُحتمل
﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ(11) ﴾
ولأنه هان أمر الله على المسلمين فهانوا على الله، ذكرهم ببلائي، هناك أمراض، هناك شدة.
﴿ قُلْ هُوَ ٱلْقَادِرُ عَلَىٰٓ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ
قديماً كانت الصواعق، وأُضيف لها حديثاً الصواريخ حارقة، وخارقة، وانشطارية، وعنقودية، وذكية، وجرثومية، وكيماوية، وما إلى ذلك ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾
الإنسان دائماً في قبضة الله :
كان قديماً، ولا يزال الزلازل، أضيف إليها الألغام ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾
الحروب الأهلية، الطغاة في العالم ﴿وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾
ذكرهم بآلائي، بالآيات الكونية الدالة على عظمته، ذكرهم بنعمائي، ذكرهم ببلائي، ذكرهم ببلائي كي يعظموني، ذكرهم بنعمائي كي يحبوني، ذكرهم ببلائي كي يخافوني، مستحيل أن يستقيم إيمانك من دون أن تخاف من الله، مستحيل أن يستقيم إيمانك من دون أن تحب الله، ينبغي أن تخافه، وينبغي أن تحبه، والأنبياء يعبدون الله رَغَباً ورهَباً، خوفاً وطمعاً، رجاءً وحذراً.
الله عز وجل خلقنا ليسعدنا :
أنت في متناول قبضة الله، قد تأتي المصيبة من جسمك، أو من نفسك، أو ممن حولك، أو ممن فوقك، أو ممن تحتك، حينما تعلم أنك في قبضته، وحينما تخاف منه تستقيم على أمره، وليس الهدف أن تخاف منه، الهدف أن تستقيم على أمره، وليس الهدف أن تستقيم على أمره، الهدف أن تسعد باستقامتك على أمره، خلقك ليسعدك.
﴿ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ
خلقهم ليسعدهم.
(( انْظُرُوا إلى مَن أسْفَلَ مِنكُمْ، ولا تَنْظُرُوا إلى مَن هو فَوْقَكُمْ، فَهو أجْدَرُ أنْ لا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ. ))
(( اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوّل عافيتك، ومن فجاءة نقمتك، ومن جميع سخطك ))
الخثرة في الدماغ تأتي في ثانية واحدة، بثانية تعطّل الكلام، وشُلّ طرف الإنسان، وأصبح عالة على من حوله، يتمنى أقرب الناس أن يموت ويُسمعه ذلك، هكذا ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾
من لا يخاف الله لا يعرفه :
إخوتنا الكرام، الذي لا يخاف الله إنسان لا يعرفه.
﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ(12) ﴾
وقد ترون أحياناً ما يجري حولنا، كيف أن إنساناً كان في أعلى درجات القوة إذا هو يصبح في أدنى درجات الذل ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ هذه عَيْنة، لأن الله لا يعاقب كل المسيئين في الأرض، يعاقب بعضهم ردعاً للباقين، ولا يُكرم كل المحسنين يكرم بعضهم تشجيعاً للباقين.
﴿ كُلُّ نَفْسٍۢ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ
إخواننا الكرام، لا يُعقل ولا يُقبل أن يكون في الأرض قوي وضعيف، وظالم ومظلوم، وغني وفقير، وصحيح ومريض، وأن تنتهي الحياة هكذا، ولا شيء بعد الموت.
﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثَاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ(115) ﴾
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدىً(36) ﴾
بنى مجده على أنقاض الآخرين، هؤلاء الطغاة في العالم ماذا يفعلون؟ يموت بسبب عدوانهم ألوف مؤلّفة، بل ملايين مُملينة، وهم ينعِمون في عز الدنيا فيما يبدو، لكن الله سبحانه وتعالى إذا أخذ أدهش:
﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾
قصة عن أحد العصاة المنحرفين الضالين المضلين :
الله عز وجل يقول:
قصة واحدة: إنسان يضع مركبته في مكان لتستقر، مسّت مركبة أخرى، كتب ورقة بهاتفه، وعنوانه كي يتولّى تصليح هذا العطب الذي أصاب المركبة الأخرى، وهو من أهل العلم، ورعه يقتضي ذلك، بعد قليل جاء صاحب المركبة، أسمعه كلاماً لا يستحقّه السَّفلة، بقسوة ما بعدها قسوة، بتجبُّر ما بعده تجبُّر، بتطاول ما بعده تطاول، والقصة طويلة، لكن هذا الذي تجاوز الحد، أراد أن يتشفّى منه، في اليوم التالي دعا أصدقاءه إلى طعام في مزرعة خارج دمشق، أحد أصدقائه لم يهتدِ إلى المزرعة، فاتصل به هاتفياً، قال له: أنا آتيك، أين أنت؟ قال له: في المكان الفلاني، في طريقه إليه ضربته مركبة فشلّته نصفين، عمره ثلاث وثلاثون سنة، الآن طريح الفراش إلى أن يموت ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾
علامة عقل الإنسان خوفه من الله :
قبل أن تستعلي، قبل أن تجمح، قبل أن تقسو، قبل أن تحتقر الآخرين، قبل أن تنسى أن لهذا الإنسان إلهاً سيحاسبك، علامة عقل الإنسان خوفه من الله، ورأس الحكمة مخافة الله ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾
إخواننا الكرام، لكن أتمنى عليكم إذا استمعتم إلى قصة ألا تتبنّوها إلا بحالة واحدة، أن تعرفها من فصلها الأول إلى فصلها الأخير، إن عرفتها من فصلها الأول إلى فصلها الأخير، يقشعرّ جلدك من عدل الله عز وجل، أما إن عرفتها من آخر فصولها ما لها معنى أبداً، بل إن رواية هذه القصة تُسهم في خلل يصيب السامع.
﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
الأنبياء لهم مهمة واحدة وهي أن يبينوا ويبلغوا :
هذه حقيقة أيها الإخوة، الخير بيد الله، والتأديب بيد الله، فإما أن تَصلُح للإكرام، أو أن تصلح للتأديب، الأمر بيدك، والكرة في ملعبك، وأنت مُخيَّر إما أن تكون أهلاً لإكرام الله، وإما أن تكون مستحقّاً لعقاب الله، الأنبياء ما مهمتهم؟ لهم مهمة واحدة فقط؛ أن يبينوا، أن يبلغوا.
﴿ مَّا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلَّا ٱلْبَلَٰغُ
لأنك مخير، لأن الله حينما خلقك منحك حرية الاختيار، النبي الكريم يبيّن، والداعية يبيّن، والعالم يبيّن، والناصح يبين، وأنت حر إما أن تأخذ بهذه النصيحة، أو ألا تأخذ بها.
﴿ وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً(3) ﴾
﴿ وَلِكُلٍّۢ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا
هذا قرارك، وأنت وحدك تتحمّل مسؤوليته.
﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ
كل إنسان يتحمل تبعة عمله :
كل إنسان يتحمل تَبِعة عمله.
﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ
﴿ وَكَذَّبَ بِهِۦ قَوْمُكَ وَهُوَ ٱلْحَقُّ ۚ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍۢ(66) ﴾
لست عليهم بحفيظ.
﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ(21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ(22) ﴾
هذا النبي، فكيف بإنسان داعية بسيط؟ النبي قال: لا أملك لكم نفعاً ولا ضراً، لا أعلم الغيب، ولا أقول لكم عندي خزائن الله، ولا أعلم الغيب، ولا أقول إني ملك:
﴿ قُل لَّآ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلَآ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ وَلَآ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّى مَلَكٌ
﴿مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾
علامة إخلاصك أن تكون سريرتك كعلانيتك :
الذين يذودون عن الرسول ما عليهم إلا البلاغ، إلا البيان فقط، والله عز وجل:
لا تبقِ هذا تقليداً، ولا سماعاً غير مسؤول: ﴿مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ﴾
﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ(19) ﴾
كلمة:
على النبي أن يبلغ، وعليك أن تستجيب لأمره، فإن استجبت فلك، وإن لم تستجب فعليك.
المال الذي يأتي بأساليب غير مشروعة يذهب بطرق مؤلمة جداً :
ثم يقول الله عز وجل:
﴿ قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ
هذه الآية دقيقة جداً، هناك شيء طيب تطيب به النفس، وشيء خبيث تخبُث به النفس، فالطيّب الذي تطيب النفس به طَيّب ولو كان قليلاً، والخبيث الذي تخبث به النفس يبقى خبيثاً ولو كان كثيراً، عشرة آلاف ليرة مشروعة مقابل عمل مشروع دقيق، مُتقن، مخلِص، نصحت به المسلمين أفضل من مليون ليرة جاءتك بالكذب والاحتيال، لأن العشرة آلاف ليرة من عمل مشروع، مخلص، منضبط، متقَن، نصحت به المسلمين هذا المبلغ يبارك الله فيه، يصرف عنك نفقات لا تعد ولا تحصى، أنت في أمسّ الحاجة إلى أن تتلافاها، أما إذا طمعت بالكثير الخبيث هذا تنفقه في وجوه أنت في غنى عنها. بعض الأقوال في كتب الأثر: من أصاب مالاً في مهاوُش أذهبه الله في مَهابُر. المال الذي يأتي بأساليب غير مشروعة يذهب بطرق مؤلمة جداً:
الخبيث أحياناً يكون كثيرا في نوعيته وكميته والطيب قليلاً في نوعيته وكميته :
مثلاً سفر خبيث فيه رفاه، وفنادق، ومعاص، وآثام، سفر متعب إلى العمرة، والحج، ازدحام، وحر، ونفقات باهظة، ومناظر ليست مُحبّبة، جبال سوداء، وحر لا يُحتمل، دائماً كلمة خبيث وكلمة كثرة، شيء تخبُث به نفسك إذا فعلته، وقد يكون كثيراً، كثيراً في تألّقه، كثيراً في كمه، كثيراً في نوعه، كثيراً في لذته
مثلاً: لو دخلت إلى بيت بمقاييس العصر أربعمائة متر، في أرقى أحياء المدينة، له إطلالة رائعة، شُرُفات واسعة، فيه كل الأجهزة الإلكترونية، والكهربائية، تكييف، على تبريد، على تدفئة، على أجهزة المطبخ، على أجهزة الصالون، لكنه اشتُرِي من مال جاء من بيع المخدرات، مثلاً، وبيت غرفتان متواضعتان في حي متواضع، الفرق بين البيتين لا يُقدر بثمن، هذا البيت مشروع، صاحبه مؤمن، مطعم خمس نجوم، غلته اليومية مليون ليرة، ومطعم بسيط غلته اليومية ثلاثة آلاف، المطعم الفخم يقدم خمر، خبيث، والغَلّة كثيرة جداً، كلمات لطيفة خبيث وكثير، كثير في نوعيته. صالة للقمار كلّفت ثلاثين مليون دولار، وقد تجد مدرسة أو جامعة متواضعة جداً، تُخرِّج أطباء ومهندسين، البناء متواضع لكن يقدم للأمة قادة، وأطباء، وعلماء، الخبيث أحياناً يكون كثيراً، كثيراً في نوعيته، في كمّه، في متعته، وأحياناً الطيب قليل، قد يكون قليلاً في نوعيته، وقليلاً في كمّيته.
الإنسان دائماً بين خبيث كثير وطيب قليل :
أيها الإخوة، آية دقيقة:
﴿قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾
أي اتقوا الله أن تتجهوا إلى الخبيث الكثير، وآثروا عليه الطيِّب القليل، أحياناً وظيفة في التعليم فرضاً، والتعليم صَنعة الأنبياء، التعليم مُتعب، لكنك تربّي النفوس، أو محل تجاري بأفسق الأسواق، والنساء فيه شبه عرايا، والله من حيث المتعة هذا المحل أجمل من هذا العمل الشاق مع طلاب متعبين مثلاً، لكن التدريس مع الطلاب، والأخذ بيدهم إلى الله، وغرس القيم الأخلاقية فيهم، وتعريفهم بالله مع التعب والمشقة والدخل القليل، أفضل ألف مرة من محل تجاري تُنتَهك فيه حرمات الله كل يوم، ويكون فيه نوع من الزنا في كل دقيقة، زنا النظر، وزنا اللمس، وزنا الكلام. لذلك: أنت دائماً بين خبيث كثير، وطيب قليل، حتى في الزواج.
(( من تزوج امرأة لعزها لم يزده الله إلا ذلاً، ومن تزوجها لمالها لم يزده الله إلا فقراً، ومن تزوجها لحسبها لم يزده الله إلا دناءة، ومن تزوج امرأة لم يرد بها إلا أن يغض بصره ويحصن فرجه أو يصل رحمه بارك الله له فيها وبارك لها فيه ))
قد تكون المرأة الدينة أقل من المرأة التي ليس فيها دين إطلاقاً، قد يكون ذلك لذلك:
(( إن المرأة تنكح لدينها، ومالها، وجمالها، فعليك بذات الدين تربت يداك ))
ملخص الآية: أن تختار زوجة صالحة، ولو كانت أقل من التي تعجبك، وأن تختار حرفة خيِّرة للمجتمع، وإن كان دخلها أقل من دخل حرفة لا ترضي الله، وأن تختار مكاناً تعبد الله فيه، وإن كان في هذا المكان متاعب كثيرة، لا أن تختار مكاناً تُرتَكب فيه المعاصي على قارعة الطريق، وهذه مشكلة المسلمين أحياناً، يسافر إلى بلد بعيد يقول لك: كأنني في الجنة، الآن في الجنة، لكن بعد حين سوف يصيب هذا الإنسان من الألم ما لا يحتمله، حينما يرى أولاده فَسَقة وفجاراً، ولا ينتمون إلى أمتهم ولا إلى دينهم.
من حكمة الله أن الحرام محفوف بالمرغبات والتسهيلات أما الحلال فيحتاج إلى جهد كبير:
أيها الإخوة، الملخّص: إن أردت الزواج فعليك بالطيبة، إن أردت العمل فعليك بالعمل الطيّب الذي ينفع الأمة، إن أردت السفر فعليك ببلد طيّب، أما إن أردت الخبيث الكثير في الدخل، وفي الزواج، وفي الإقامة، فسوف تدفع الثمن باهظاً في النهاية، والله عز وجل يقول:
﴿ تِلْكَ ٱلدَّارُالْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِى ٱلْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَٱلْعَٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ
حدثني أخ أن أخوين أرادا الذهاب إلى بلد غربي للإقامة والعمل، وجمع ثروة طائلة، أحدهما تمنى أبوه عليه ألا يسافر ليبقى معه، والثاني لم يعبأ برجاء والده وسافر، يحدثني أحد الأخوين قال لي: والله بين حالي في الشام، ومع أهلي، وأولادي، وتوفيقي بالعمل، وسعادتي المنزلية، وبين حال أخي الذي تزوج امرأة ليست مسلمة، وضاعت بناته، وضاع أولاده، ثم أصابه مرض عُضَال، قال لي: لو وازنت عملي الذي ابتغيت به رضاء الله عز وجل، وعمل أخي الذي ابتغى الدنيا المسافة كبيرة جداً:
﴿قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾
أي يا أصحاب العقول أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً، أرجحكم عقلاً من أراد الآخرة.
﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ
﴿ مَنْ عَمِلَ صَٰلِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةً طَيِّبَةً
أيها الإخوة الكرام، هذه الآية أصل في اختيارك، كلما عُرض عليك شيئان؛ سفر أو إقامة؟ زواج من هذه أم من تلك؟ هذه الوظيفة أو هذه الوظيفة؟ هذا العمل أو هذا العمل؟ والله عز وجل يبتلي عباده دائماً، أنت بدخل لا يكفيك، يأتيك عرض وفير بشُبهة كبيرة.
إذاً أيها الإخوة ينبغي ألا يغترّ الإنسان بالخبيث ولا بكثرته، ولو كان مُحبّباً، وينبغي أن يسعى للطيب ولو كان متعباً وقليلاً.
وبالمناسبة شاءت حكمة الله أن يكون الحلال صعباً، والحرام سهلاً، الحلال صعب، والحرام سهل، لأنه لو كان العكس لأقبل جميع الناس على الحلال، لا حباً بالله، ولا طمعاً بالجنة، ولكن لأنه سهل، الأوراق تداخلت، لكن العمل مُتعب، أما السرقة فسهلة، تأخذ مبلغاً كبيراً بلا جهد، وقد تنجو أحياناً، الزواج صعب جداً، أما الزنا فسهل جداً، الحرام محفوف بالمُرغِّبات والتسهيلات، أما الحلال فيحتاج إلى جهد كبير، وهذا من حكمة الله عز وجل.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين