وضع داكن
27-12-2024
Logo
الدرس : 39 - سورة المائدة - تفسير الآية 90 ، الخمر - الميسر - القمار.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا إتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

الله عز وجل يأخذ أو يؤاخذ :

 أيها الإخوة المؤمنون: مع الدرس التاسع والثلاثين من دروس سورة المائدة، ومع الآية التسعين، وهي قوله تعالى: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) ﴾

[ سورة المائدة ]

 كما تكلمت سابقاً الآية التي يكون صدرها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي هذا عقد إيماني بين المؤمن وبين الله، وما دام قد آمن بالله موجوداً، وواحداً، وكاملاً، وخالقاً، ورباً، ومُسيّراً، وما دامت أسماؤه حسنى، وصفاته فضلى، فهذا الأمر ينبغي أن يُطبق بناءً على العقد الإيماني بينك وبين الله.

 في درس سابق قلت: الله عز وجل يأخذ، أو يؤاخذ، يأخذ الكفار، لأنه ليس بينه وبينهم عقد إيماني، يبطش بهم بطشة واحدة، بينما المؤمن يؤاخذه على تقصيره في عمله، أو على تجاوزه لما حرم.

الحيوان غريزته وحدها تحكمه أما الإنسان فيتحرك وفق شهواته بشكل يؤذيه ويدمره

الله عز وجل يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا) لا بد من وقفة متأنية عند كلمة إنما، لأنه يُبنى على هذه الأداة أحكام كثيرة، هذه أداة قصر وحصر، فإذا قلت: إنما زيد عالم، قصرت زيداً على العلم، أما إذا قلت: إنما العالم زيد، قصرت العلم على زيد، إما أن تقصر صفة على موصوف، أو موصوفاً على صفة، إنما: تفيد الحصر والقصر، فإذا قال الله عز وجل: 

﴿ وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلْأَنْعَٰمِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَٰنُهُۥ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَٰٓؤُاْ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)﴾

[ سورة فاطر ]

 أي العلماء وحدهم، ولا أحد سواهم يخشى الله عز وجل، فحيثما وردت كلمة إنما في القرآن الكريم، أو في سنة النبي عليه أتم الصلاة والتسليم ففي معناها الحصر والقصر، وفي معناها الدقة والانتباه: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ)

أيها الإخوة: لو تتبعنا أحوال الحيوان لوجدنا أن الغرائز التي أودعها الله فيه تحكمه حكماً قطعياً، بمعنى أن الحيوان إذا أراد أن يأكل واكتفى لا يمكن أن يأكل لقمة زائدة، مهما ضغطت عليه، مهما جررته إلى العلف لا يأكل، مُجهّز بغرائز منضبطة، وتحكم صحته، وتحكم قوته، لو جررت دابّة لتغوص في قناة، أو في بركة تمتنع، هذا حديث طويل، الحيوان علاقته مع غرائزه منضبطة أشد الانضباط، لأن غريزته وحدها تحكمه، أما الإنسان قد يأكل أكثر مما يحتاج، وقد يغامر، وقد يتحرك وفق شهواته بشكل يؤذيه ويدمره، لأن العقل يحكمه.

انضباط الحيوان بغريزته بينما انضباط الإنسان بعقله :

 كملخص: الغرائز في الحيوان تحكمه، لذلك قّلما تجد حيواناً مريضاً إلا بحادث، لأنه يأكل وفق غريزة منضبطة، ويقارب أنثاه أيضاً وفق غريزة منضبطة، قرأت عن حيوان آخر لمجرد أن يشم أنثاه فيعلم أنها حامل يبتعد عنها، الإنسان أحياناً يتجاوز الحدود التي وُضِعت له كثيراً، لذلك نقول بشكل مختصر: الحيوان تحكمه غريزة منضبطة، تحقق له سلامته في الحياة، بينما الإنسان يحكمه عقله، والعقل كما يقولون: مناط التكليف، تماماً كما لو وضعنا في جيب أحد منا جهازاً لكشف العملة المزيفة، فالذي يحكم تعامله مع النقد هذا الجهاز، فإن استخدمه حقّق الهدف، وإن لم يستخدمه وقبض مبلغاً كبيراً من عملة مزيفة دون أن يستخدم هذا الجهاز، فقد ضيّع بيته كله، باع بيته بعملة أجنبية، ولم يتحقق من سلامة النقد بالجهاز الذي في جيبه.

 هذا تمهيد لفكرة خطيرة، ما دامت الغريزة تحكم الحيوان، وقد صُمِّمت تصميماً رائعاً بحيث أنها تقف عند حدود السلامة، وأن الحيوان ينضبط بغريزته أشد الانضباط، فيحقق سلامته في الحياة، أما الإنسان يحكمه عقله، أما غرائزه مفتوحة يمكن أن يمارسها بشكل معقول، أو بشكل غير معقول، بالحدود التي ينبغي أن يقف عندها، أو يتجاوز الحدود التي لم يقف عندها، لكن العقل في الإنسان هو الذي يحكمه.

 للتقريب: الإنسان يولد عارياً، لكن بالعقل الذي آتاه الله إياه ارتدى به أجمل الثياب، والإنسان بلا مأوى، لكن بالعقل الذي أكرمه الله به سكن في أفخر البيوت، هو يحتاج إلى مأوى، ويحتاج إلى ثياب، ويحتاج إلى طعام، فتفنّن في أنواع الطعام، وتفنّن في ألوان الثياب، وتفنّن في أنواع البيوت، لكن الحيوان له مغارة يأوي إليها، وله صوف على جلده يحميه من البرد، فالحيوان مُزوَّد بحاجاته الأساسية من دون إبداع، ومن دون تفوق، ومن دون ترف، ومن دون أي شيء آخر، أما الإنسان بهذا العقل ركب الطائرة، ونقل الصورة، ووصل إلى أعماق البحار، ووصل إلى أعالي الآفاق، بهذا العقل صنع أسلحة فتاكة، بهذا العقل تفنّن في ألوان النعيم الذي اخترعها من أجل جسده.

 إذاً: الإنسان أكرمه الله بعقل، والحيوان أكرمه الله بغريزة، فانضباط الحيوان بغريزته، بينما انضباط الإنسان بعقله، غرائزه مفتوحة، يمكن أن يمارس شهواته فوق الحدود المعقولة، وأبعد من الحدود المعقولة. 

شرب الخمر يضيع العقل الذي هو ضمان سلامة الإنسان :

 ما علاقة هذا الكلام بقوله تعالى: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ)  

العلاقة والمناسبة: أن العقل هو مناط التكليف، وأن العقل هو الذي يحكم تصرفات الإنسان، وأن العقل هو الذي يضمن سلامته، فإذا شرب الخمر ضيّع الأداة التي هي ضمان لسلامته.

 حدثني أحد الأصدقاء أن إنساناً له مكانة كبيرة، بعد أن شرب تكلم كلاماً لا يصدر من طفل، فضح نفسه، وتحدث عن أسراره في ساعة الغيبوبة. فهذا الشراب الذي يُذهِب العقل، ويغيّبه عن الوعي مُحرم أشد التحريم، لأنه الأداة التي يمكن أن تكون ضمانة لسلامتك وسعادتك عطّلتها، وتعلمون أن مقاصد الشريعة الحفاظ على الدين، والحفاظ على الحياة، والحفاظ على العِرْض، والحفاظ على العقل، والحفاظ على المال، ولكل مقصد كبير من مقاصد الشريعة حدّ رَدْعِيّ إذا تجاوزه الإنسان، فحد الارتداد معروف، وحد القتل معروف، القتل: يُعاقَب القاتل بالقتل، وحد شرب الخمر معروف، وحد انتهاك العِرْض معروف، وحد السرقة معروف، هذه المقاصد الخمس للشريعة، وكل مقصد من مقاصدها له حد رادع.

 إذاً: العقل الذي هو مناط التكليف، والعقل الذي يمكن أن يتعرف إلى الله، والعقل الذي يُريك الحق حقاً، والباطل باطلاً، والخير خيراً، والشر شراً، العقل الذي زوّدك الله به هو الميزان، قال تعالى: 

﴿ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ(7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) ﴾

[ سورة الرحمن ]

 فالذي يعطل هذا الميزان، الذي يلغي عمل هذا الميزان، الذي يغيب هذا الميزان عن أن يكون حَكَماً في تصرفاته، هو الخمر، فلذلك الخمرة في الإسلام مُحرّمة أشد التحريم، (إِنَّمَا الْخَمْرُ) .

الحكمة من التدرج في تحريم الخمر :

 أيها الإخوة: 

(( ما أسكر كثيره فقليله حرام ))

[ أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان عن جابر وأحمد والنسائي وابن ماجة عن ابن عمرو ]

((  كلُّ مسكرٍ حرامٌ ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام ))

[ رواه الترمذي عن عائشة رضي الله عنهما ]

 شراب يعطل أعظم جهاز زوّدك الله به، أكثر الفضائح تتم في حالة السُّكر، أكثر أنواع السقوط يتم في حالات السُّكْر، والسُّكْر كما ورد في بعض الآثار: "جُمِعَ الشر كله في بيت ثم أُرْتِجَ عليه، فكان مفتاحه السُّكْر" .

وهناك مقولة لطيفة، هي أن إنساناً خُيِّر بين أن يقتل غلاماً، وبين أن يزني، وبين أن يشرب الخمر، فتصوّر أن أهون هذه الثلاثة شرب الخمر، فلما شرب الخمر زنا وقتل الغلام. جُمع الشر كله في بيت ثم أُرتِج عليه، فكان مفتاحه السُّكْر. 

فالله عز وجل كما تعلمون، لأن السُّكر والخمر كانت شائعة شيوعاً كبيراً في حياة العرب قبل الإسلام، وحكمة التشريع جاءت فتدرّجت بالتحريم، فأول إشارة إلى أن هذا الشراب ليس شراباً مُستَحباً، قوله تعالى في هذا الموضع: 

﴿ وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) ﴾

[ سورة النحل ]

إذاً السَّكَر ليس رزقاً حسناً، هذه أول إشارة. ثم الإشارة الثانية:

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِى سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ ۚ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰٓ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ ٱلْغَآئِطِ أَوْ لَٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)﴾

[ سورة النساء ]

 والآية الثالثة: 

﴿ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾

منهج الدين منهج موضوعي :

 العالم الشرقي قبل أن يُفَكّك بسنوات حرم الخمر تحريماً كلياً، مع أنه يرفع شعار لا إله، هؤلاء الذين رفعوا شعار لا إله، حرموا الخمر، وفي حيثيات التحريم كلام رائع، يذهب العقل، يبدد الطاقات، يقع الإنسان فيه في متاهات، وحُرم الخمر، قبل انهيار الكتلة الشرقية بسنوات تحريماً قطعياً لا باحتفال، ولا بالطائرات، ولا بمائدة رسمية، لأن واقع السُّكارى الذي يُخزي، والذي يدمر صاحبه كان باعثاً على هذا التحريم.

بالمناسبة أيها الإخوة، منهج الدين منهج موضوعي، بمعنى أن كافراً لو أخذ به لقطف ثماره، في الدنيا طبعاً، لو أن إنساناً ملحداً أخذ ببنود منهج الله عز وجل، وطبقها لقطف ثمارها في الدنيا، لأن العلاقة بين الأمر ونتائجه علاقة علمية، علاقة سبب بنتيجة، وأن العلاقة بين النهي ونتائجه علاقة علمية، أي علاقة سبب بنتيجة.

 فالله عز وجل يقول: (إِنَّمَا) أداة قصر: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ) أي قذارة، عمل قذِر، عمل نجِس، وكلمة قذِر: يوجد قذارة مادية، وقذارة معنوية، الخيانة قذارة، لكنها معنوية، النفاق قذارة، لكنه معنوي، خيانة الأمانة قذارة، إخلاف الوعد قذارة، الكذب قذارة، وشرب الخمر قذارة، إما أن يكون القَذَر مادياً كالخمر، أو أن يكون معنوياً كالخيانة أو الاحتيال، والكِبر وما إلى ذلك. 

الشيطان من أكبر فخاخه مع الإنسان قضية الميسر :

(إِنَّمَا الْخَمْرُ) ليست إلا قذارة حصراً، قصرنا الخمر على القذارة، ليست إلا قذارة: 

(إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) 

 الميسر: 

هو الداء الذي لا برء منه       وليس لذنب صاحبه اغتفار

تشاد له المنازل شاهـقات       وفي تشييد ساحتها الـدمار

نصيب النازلين بها سهاد         فإفلاس فيأس فـــانتحار

* * *

  لماذا حرم الله الميسر؟ لأنها تلغي العمل، الإنسان إذا لعب الميسر، وكسب مالاً وفيراً بجهد يسير، يرى أن هذه طريقة رائعة جداً في كسب المال، بدقائق معدودة يكسب الملايين، هو يتوهّم أن كسب المال بهذه الطريقة يُسْر، ومن هنا سُميَت الميسر، وليس عسراً، أما كسب المال الحلال ففيه مشقة كبيرة جداً، وتعب، وسفر، وتحصيل ديون، ومشكلات، ومتاعب لا تنتهي، أما القمار فيما يتوهمه المقامرون قضية سهلة جداً، فلذلك الشيطان من أكبر فِخاخه مع الإنسان قضية الميسر..

 يتوهم المقامر أن لعب المسير يوفر له دخلاً كبيراً بلا جهد، وبلا تعب، وبلا مشقة، لكن هذا الذي يربحه فخ كبير، ثم يخسر، يتابع لعله يعوض خسارته، ثم يخسر إلى أن يُدمَّر، إلى أن يخسر كل شيء، وفي أغلب الأحيان ينتحر المقامرون، لأنهم فقدوا كل شيء، ودُور القمار في العالم الغربي واسعة الانتشار، ولأنها أحد أحابيل الشيطان.

كل كسب للمال أساسه أن تُبنى مصلحة على مفسدة أو منفعة على مضرة فهو محرم :

 القمار يلغي العمل، أراد الله أن يكون العمل طريقاً لكسب المال، لذلك حرم الربا، الربا، المال يلد المال، وحرم الميسر الحظ يلد المال، وأمر بالعمل، لأن العمل يؤكد قدراتك، العمل فيه تنافس شريف، العمل فيه إبداع، العمل فيه تقديم خدمات للأمة، العمل فيه بناء للأمة، فأي كسب للمال عن طريق غير طريق العمل، عدا طبعاً الإرث والهِبة، حرمه الشرع، فكل كسب للمال أساسه أن تُبنى مصلحة على مفسدة، أو منفعة على مضرّة فهو محرم، ما هو العمل المشروع؟ بل ما هو الكسب المشروع؟ هو الطريق الذي يأتي بالمال من دون أن يؤذي أحداً بهذا الكسب.

 الآن السرقة كسب، لماذا هي محرمة؟ لأن واحداً انتفع بمبلغ كبير سرقه، والثاني هذا المبلغ جهده الكبير الذي حصله في سنوات طويلة، جاء من يأخذه ظلماً وعدواناً، بُنيت منفعة للسارق على مضرة للمسروق، إذاً هو مُحرم، اليانصيب محرم، لماذا؟ لأن الآلاف دفعوا، وواحد الذي أخذ، واحد دفع وما أخذ، وواحد دفع شيئاً يسيراً، وأخذ شيئا كثيراً، بلا جهد، وبلا تعب، وبلا إبداع، وبلا تفوق، فأية منفعة تُبنى على مضرة، وأي كسب يُبنى على مَحْق، وأي كسب لمال حلال اغتصاباً، أو احتيالاً، أو سرقة، أو نهباً محرم، لأن منفعة بُنيت على مضرة.

 أما لماذا أحل الله البيع؟ أنت فتحت محل، واشتريت مواداً أساسية في الحياة، والجيران، جيران هذا المحل وجدوا حاجاتهم إلى جانب بيوتهم، فأنت اشتريت بسعر، وبعت بسعر، الفرق هو الربح الذي لك، وهذا الجار بدل أن يركب المركبات، ويتوجه إلى مركز المدينة، اشترى حاجاته من جانب بيته، هو انتفع وأنت انتفعت.

 بالمضاربة، لماذا المضاربة مشروعة؟ إنسان يملك مالاً ولا يحسن استثماره، وإنسان عنده خبرة يحسن استثمارها، ولا يملك المال، فالطرفان قد انتفعا.

 لو سألتني: هل يمكن أن نجمع أنواع الكسب المشروع في محور واحد، وأنواع الكسب غير المشروع في محور واحد؟ الجواب: ممكن، أي كسب يُبنى على مَضرّة للآخرين فهو محرم، وأي منفعة متبادلة بين شخصين هو المُحلل، فالكسب الحلال منافع متبادلة، والكسب الحرام منفعة بنيت على مضرة.

 لذلك الميسر: إنسان أخذ ملايين وما بذل جهداً، إما لحظ، أو لاحتيال، المتمرِّسون بالقمار عندهم أساليب لا يعرفها أحد، من هم الضحايا؟ المبتدئون بالقمار، يدخلون ويخرجون وقد خسروا كل أموالهم، لذلك الخمر عطلت العقل فحُرِّمت، والميسر عطلت الكسب المشروع فحُرِّمت.

كل أنواع الغش كسب غير مشروع لأنه عدوان على الكسب المشروع :

 الأمة أيها الإخوة، لا تُبنى إلا على كسب مشروع، كيف؟ نحن بحاجة إلى أطباء وإلى مهندسين، وإلى مدرسين، وإلى عمال، وإلى تجار، وإلى أصحاب حِرَف، فكل إنسان يتقن حرفة، أو ينال شهادة، يقدم خدمة يأخذ مقابلها مالاً يعيش به، هو انتفع ونفع، إنسان درس الطب حوالي ثلاثين سنة، فتح عيادة، يأتي إنسان آخر ابنه مريض أخذه إلى الطبيب، الطبيب عالجه، وصف له دواء، شفي بهذا الدواء بعد أن أذن الله عز وجل، فالأب حقق هدفه بشفاء ابنه، والطبيب حقق دخل، هذه منفعة متبادلة، فالأمة لا تُبنى إلا على العلم والخبرة وتبادل المنافع، بينما القمار كسب غير مشروع، لأنه عدوان على الكسب، وكل عدوان على الكسب، أو كل كسب للكسب يعد دخلاً حراماً، سماه الشرع أكل السحت.

 إنسان زرع أرضاً خلال موسم زراعي، وبذل جهداً كبيراً، واشترى البذار، واشترى السماد، وعين موظفين، واعتنى بالنبات، وعشَّب النبات، وسمَّد النبات، وسقى النبات، ثم حصد النبات، ووضعه في عبوات مناسبة، وساقه لسوق البيع، ونال ثمنه، وجاء إنسان خطف منه محفظة النقود، ماذا فعل هذا السارق؟ أخذ جهد موسم زراعي بكامله، لماذا السرقة حرام؟ لأنها عدوان على الكسب، وسع هذا الأمر، أي عدوان على الكسب مُحرم، الإنسان قد يملك قدرة على الأذى، قد يكون في مكان حساس يملك قدرة على الأذى، فإذا استخدم قدرته على الأذى في ابتزاز أموال الناس، وأخْذ كسبهم المشروع فهذا الدخل محرم أشد التحريم، ابقَ في الكليات، أي عدوان على الكسب المشروع حرام، أكل للسحت، أي إيهام، أو أي تدليس، أو أي تهديد، أو أي احتيال لتعتدي على كسب الآخرين المشروع، هو كسب غير مشروع، طبعاً في المقدمة تأتي السرقة واضحة، والميسر واضح جداً، واليانصيب واضح، لكن في أساليب بالكسب غير مشروع لا تبدو واضحة تماماً.

 أنت حينما تغير صفات البضاعة، وتوهم الآخرين أنها مصنوعة في بلاد معينة، وأنت تشتري قماشاً من دولة شرقية رخيصاً جداً، وتأتي بشريط ذهبي تستخدمه مع المكواة، صنع في فرنسا: (in France made)، وتبيع هذا القماش لامرأة جاهلة على أنه مستورد من فرنسا، تأخذ أربع أمثاله، السعر الذي تأخذه لو علمت أنه من بلاد شرقية، أنت هنا لم تسرق، بعت قماش، لكن أوهمت هذا الشاري أن هذا القماش مصنوع بفرنسا، مع أنه مصنوع في بلاد أخرى، فكل أنواع الغش كسْب غير مشروع، لأنه عدوان على الكسب المشروع، أنت حينما تبيع سلعة، وتوهم الشاري أنها ذات صفات معينة، حينما تبيع حلويات على أنه قد استُخدِم فيها الحليب كامل الدسم، وقد استخدمت حليباً مسحوقاً خالي الدسم مثلاً، وتوهم الناس على أنه حليب كامل الدسم، هذا كسب غير مشروع، لأنك سرقت من أموالهم، كل أنواع الغش سرقة، سرقة لكن ليست واضحة، الغش، والتدليس، والاحتيال، والاحتكار، وتلقي الركبان، والتعتيم على عيوب الآلة حينما تبيعها، هذا كله كسب غير مشروع، يوجد عدوان على الكسب، يوجد أخذ ما ليس لك بحق.

هناك طرق كثيرة جداً لكسب المال الغير مشروع :


وأي شيء يفعله المهندس حينما يغش في البناء، ويقلل الحاجات الأساسية الهندسية لهذا البناء فهو كسب غير مشروع. وأي إيهام من المدرس للطالب أنه ضعيف جداً، ولن تنجح، يأتي بأسئلة فوق طاقة الطلاب، يأخذون أصفاراً، ثم يوهمهم أنه لا بد من دروس خصوصية، هذا كسب غير مشروع. 

إياكم أن تظنوا أن صاحب الدين إنسان يصلي، صاحب الدين إنسان يصلي، وهو منضبط أشد الانضباط في تعامله مع الخلق، لا كذب، ولا تدليس، ولا مبالغة، ولا أيمان كاذبة، قال عليه الصلاة والسلام: 

((  اليمينُ الكاذبةُ مُنَفِّقَةٌ لِلسِّلْعَةِ مُمْحِقَةٌ لِلْبَرَكَةِ ))

[ الطبري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ]

 لو دققنا في سلوكنا لماذا تخلى الله عنا؟ لأن الغش، والتدليس، والكذب، والاحتيال، وكسب المال الحرام، والعدوان على كسب الآخرين، هذا شيء شائع بين المسلمين، طبعاً الشيء الصارخ: المَيْسِر، الشيء الصارخ: السرقة، الشيء الصارخ: اليانصيب، الشيء الصارخ: الربا، لكن هناك أكثر من مليون طريق لكسب المال غير مشروع.

حينما تلد الأعمال المشروعة المال يكون هذا المال حلالاً :

 إنسان يعمل في بيع البيوت، فدخل بيتاً شمالي الاتجاه، والوقت ليل وظلام، فحتى يوهم الشاري أنه باتجاه القبلة صلى باتجاه الشمال، فأوهمه أنه باتجاه القبلة، وإذا كان البيت من خمسة طوابق يقف معه عند كل طابق دقائق حتى يرتاح، يحكي له قصة لا ينتبه، يصل إلى الأعلى مرتاحاً تماماً، مناظر جميلة، لم يصعد معه بشكل مستمر، مُقَطّع، أوهمه أن البيت مريح جداً. فأيّ إيهام، أيّ تدليس، أيّ كذب، نوع من الكسب الغير مشروع، أنا ذكرت الأشياء الصارخة، الواضحة، لكن هناك مليون طريق لكسب المال غير المشروع، يفعله المسلمون وهم في حجاب عن الله عز وجل، ما لم تكن صادقاً، ما لم تكن ورعاً، ما لم تكسب المال، وقد وصل إليك بشكل حلال، بشكل يثني عليك الناس، ويقولون: بارك الله لك بهذه السلعة.

أحياناً تبيع جوارب في الشتاء من الصوف، يوجد في الصوف خيوط أساسها ألبسة بالية تُعَالَج، ويُؤخَذ منها خيوط ضعيفة جداً، فهذا الجورب، تأخذ ثمن جورب خيوط صوفية متينة، وهي خيوط مستعملة سابقاً، لا يصمد على الاستعمال أكثر من أسبوعين، والمفروض الجورب أن يتحمل موسم شتاء بكامله مثلاً، هذا كسب غير مشروع.

 أيها الإخوة: حينما تلد الأعمال المشروعة المال يكون هذا المال حلالاً، فإذا اشتريت به طعاماً يكون هذا الطعام طيباً، فإذا أكلت طيباً كنت مستجاب الدعوة، كلام جامع مانع، إذا عملت عملاً مشروعاً، وسلكت به الطرق المشروعة، وخدمت به المسلمين، ولم تكذب، ولم تغش، ولم تدلّس، ولم تبالغ، ولم تحلف، ولم تقع في آلاف الأخطاء التي يقع فيها الباعة حينما يبتغون ربحاً وفيراً بجهد قليل، فإذا خدمت المسلمين بسلعة جيدة، وسعر معتدل، وكسبت مالاً، واشتريت به طعاماً كان هذا الطعام طيباً.

طبعاً أنا توسعت في كسب المال غير المشروع، لأن كسب المال غير المشروع الصارخ يعلمه جميع المسلمين، لكن هناك ألوان وأنواع من الكسب غير المشروع مُحرّمة، لأن فيها غشاً، ويقول عليه الصلاة والسلام: 

(( مَن حَمَلَ عليْنا السِّلاحَ فليسَ مِنَّا، ومَن غَشَّنا فليسَ مِنَّا. ))

[ صحيح مسلم عن أبي هريرة ]

و:

(( من غش فليس منا ))

[ السيوطي عن أبي هريرة رضي الله عنه ]

 بالمناسبة، كلمة (ليسَ مِنَّا) ينفي النبي عليه الصلاة والسلام انتماءه إلى الأمة، وهذا من أشد أنواع الوعيد. 

(إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) .

 وفي درس قادم إن شاء الله نتابع هذه الأشياء المُحرّمة التي تفتك بالأمة، وتفتك بقدرات الأمة، لأنها تُودي بأصحابها إلى الهلاك.

أنواع الغش لا تعد ولا تحصى :

 أيها الإخوة: الآن يوحد غش بالكيل، إذا اشترى القماش يكيل، والقماش له خط منحنٍ على المتر، وإذا باع القماش يشد القماش حتى يتمزق، يفرق، أحياناً تضع قطعة اللحم بقوة على الكفة ترجح، رجحت لا بوزنها، بل بقوة اندفاعها، هذا غش أحياناً، أحياناً مروحة بالمحل، وأنت تبيع مادة غالية جداً، مواد غالية، المروحة مُسلّطة على الميزان، فإذا جاءت الحركة باتجاه الكفة وزن وقام، هذا أيضاً غش، قلت لكم: أنواع الغش لا تعد ولا تحصى.

الغش قديم، والغش كسب غير مشروع، وأنت حينما تغش الناس تُحجب عن الله عز وجل، والله هو الرزاق، هو الرزاق ذو القوة المتين. فصّلت في أساليب كثيرة جداً، والله الأمثلة لا تعد ولا تحصى، كل أنواع المصالح فيها غش، فهذا الذي يغش نفى النبي أن يكون منه: 

(( مَن حَمَلَ عليْنا السِّلاحَ فليسَ مِنَّا، ومَن غَشَّنا فليسَ مِنَّا. ))

[ صحيح مسلم عن أبي هريرة ]

يقول إنسان: هذا غير مسلم

((  من غش فليس منا ))

[ السيوطي عن أبي هريرة رضي الله عنه ]

لو غششت مجوسياً لست من المسلمين، فما قولك إذا غششت مسلماً؟ تقول: فلان غشني، أما إذا غششت غير مسلم يقول: الإسلام غشني، والفرق كبير جداً بين أن يتهمك بالذات بأنك غشاش - لا سمح الله - وبين أن يتهم الإسلام كله بأنه دين غير صحيح، بأن أصحابه لا يطبقون أحكامه، لذلك قيل:

أنت على ثغرة من ثغر الإسلام فلا يؤتين من قبلك.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين. 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور