- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (005)سورة المائدة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا إتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الانتماء إلى الدين التاريخي لا قيمة له إطلاقاً :
أيها الأخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثاني والثلاثين من دروس سورة المائدة، ومع الآية الخامسة والستين، والآيات التي تليها، يقول الله عز وجل:
﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) ﴾
أعيد وأكرر أن ذكر أهل الكتاب في القرآن الكريم يعني أن هؤلاء الذين جاءهم كتاب من عند الله قد انحرفوا، ووقعوا في أمراض نحن مرشحون أن نقع بها تماماً، فالحديث عن بني إسرائيل وأهل الكتاب كمن يقول: إياكِ أعني، واسمعي يا جارة( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا )
لا يجعلك مسلماً حقاً إلا إذا كنت مؤمناً حقاً، ومستقيماً حقاً، ومحسناً حقاً، فإن لم تستقم، ولم تحسن خرجت من حيز الإيمان، وبقي إسلامك بالهوية، وانتماؤك شكلي، وهذا الانتماء الشكلي لا يقدم ولا يؤخر، وهان أمر الله على المسلمين، فهانوا على الله، لا أعتقد أمة من الأمم تعاني كما يعاني المسلمون، تؤخذ أراضيهم، ويقتل أبناؤهم، ويفتك بنسائهم، وتنتهك أعراضهم، ولا أحد يقدم لهم شيئاً، هان أمر الله عليهم فهانوا على الله.
حينما ينتمي الإنسان إلى الله ينبغي أن يتخلق بالخلق الذي أمر الله به :
الآية واضحة ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا ﴾ إذاً هم عند الله ليسوا مؤمنين، الله عز وجل له أسماء حسنى، وله صفات فضلى، وله منهج، وحينما ينتمي الإنسان إلى الله أي ينتمي إلى منهج الله، وحينما ينتمي الإنسان إلى الله ينبغي أن يتخلق بالخلق الذي أمر الله به، من صدق، وأمانة، وعفو، وتسامح، ورحمة، ولطف، وخير، وعطاء، وبذل، وتضحية، فهذا الكلام معناه: إياك أيها الإنسان أن تتوهم أن انتماءك الشكلي إلى الدين ينجيك من عذاب الله، الانتماء الشكلي، والانتماء التاريخي، والانتماء الذي لا يعني أنك مصدق بما عند الله من وعد وهو الجنة، ولست معنياً بوعيد الله وهي النار، ولست ملتزماً بمنهج الله، ولست تسعى لخير البشر، بل تسعى لأن تبني مجدك على أنقاض الآخرين، وأن تبني حياتك على موتهم، وأن تبني غناك على فقرهم، وأن تبني عزك على ذلهم، وأن تبني أمنك على خوفهم، أنت إن كنت كذلك خرجت من الملة، وخرجت من حيز الدين، وحيز الإيمان كما قال الله عز وجل: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا ﴾
الانتماءات الشكلية والتاريخية لا تقدم ولا تؤخر :
ملخص هذه الآية: لا تعبأ، ولا تهتم لانتماء شكلي لهذا الدين، قد لا تجد الآن المسلم مسلماً، ولا النصراني نصرانياً، ولا اليهودي يهودياً، مثلاً يقول الله عز وجل متحدثاً عن أتباع السيد المسيح:
﴿ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰٓ ءَاثَٰرِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ وَءَاتَيْنَٰهُ ٱلْإِنجِيلَ
هل ترون فيما يجري حولنا إنْ في العراق أو في فلسطين، هؤلاء الذين اتبعوه هل في قلوبهم رأفة ورحمة، هذا الانتماء الشكلي أيها الأخوة يسبب التعصب، يسبب العداوة، يسبب البغضاء، يسبب الحروب، الانتماءات الشكلية والتاريخية لا تقدم ولا تؤخر﴿ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا﴾
﴿
أيها المسلمون:
﴿ لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ
الآية التالية ينبغي أن تكون ماثلة أمام كل إنسان :
هذه الآية ينبغي أن تكون ماثلة أمام كل إنسان ﴿ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ﴾
﴿ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) ﴾
يقاس على ذلك والمسلمون يقولون: نحن أمة محمد، نحن أمة مرحومة ﴿ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ أنا أتكلم بالحقيقة المرة، لأنها أفضل ألف مرة من الوهم المريح، أي ما ينطبق على أهل الكتاب ينطبق الآن على المسلمين، الإيمان الحقيقي ما أُقر في القلب، وأقر به اللسان، وصدقه العقل، عمل المسلمين لا يعبر عن إيمانهم، وكلامهم لا يعبر عن إيمانهم، فإذا لم يكن عملهم يعبر عن إيمانهم، ولا كلامهم يعبر عن إيمانهم، إذاً هم ليسوا مؤمنين، أما أن تقول: أنا مؤمن، والحمد لله أن الله هو الخالق، فهذه كلمة قالها إبليس، قال:
﴿ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ۖ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ
حقيقة العقيدة ليست ما ينبغي أن نعتقد بل ما ينبغي أن نكون عليه :
أما أن تؤمن أن الله رب العالمين قالها إبليس:
﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) ﴾
أما أن تؤمن أن الله عزيز قالها إبليس، أما أن تؤمن أن هناك يوم آخر قالها إبليس:
﴿ قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِىٓ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ
فأن تقر إقراراً لا قيمة له إطلاقاً، أن حقيقة العقيدة ليست ما ينبغي أن تعتقد فحسب، بل ما ينبغي أن تكون عليه، إذا كنت مؤمناً بالله، لماذا لا تستقيم على أمره؟ لماذا لا تحبه؟ لماذا لا تخدم عباده وتحسن إليهم؟ لماذا لا تتوكل عليه؟ فحقيقة العقيدة ليست ما ينبغي أن نعتقد، بل ما ينبغي أن نكون عليه، بناء على عقيدتنا ﴿ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴾
ما ينطبق على أهل الكتاب ينطبق على المسلمين :
﴿ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴾
من آمن بصحيح التوراة والإنجيل آمن بالقرآن الكريم :
ثم يقول الله عز وجل:
﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) ﴾
التوراة التي أنزلت من الله تماماً، والإنجيل الذي أنزل من الله تماماً، أي ما صح من التوراة، وما صح من الإنجيل يقود هؤلاء إلى الإيمان بالقرآن الكريم.
﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ يَٰبَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ إِنِّى رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ ٱلتَّوْرَىٰةِ وَمُبَشِّرًۢا بِرَسُولٍۢ يَأْتِى مِنۢ بَعْدِى ٱسْمُهُۥٓ أَحْمَدُ
إذاً لو أنهم آمنوا بصحيح التوراة، وآمنوا بصحيح الإنجيل، لقادهم إيمانهم بالتوراة والإنجيل إلى الإيمان بالقرآن الكريم ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ ﴾
في السماء خيرات لا يعلمها إلا الله :
قال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ﴾
الثروات في باطن الأرض لا يعلمها إلا الله :
هناك ثروات في باطن الأرض لا يعلمها إلا الله، أحياناً مناجم ذهب، أحياناً مناجم ألماس، أحياناً بترول، فالبلاد التي فيها بترول تتنعم بغنى يفوق حد الخيال﴿ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ﴾
﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) ﴾
البترول تحت الثرى، النحاس، الحديد، الفوسفات، القصدير، هذه المعادن الثمينة جداً، الفحم الذي أصبح ماساً، هذا تحت الثرى﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ﴾
﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰٓ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَٰتٍۢ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلْأَرْضِ
﴿ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً (16) لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِۦ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) ﴾
تقنين الله سبحانه ليس تقنين عجز ولكنه تقنين تأديب :
أخطر حقيقة في هذا الموطن أن التقنين الذي ترونه، الجفاف، التصحر، قلة الأمطار، ضعف الإمكانات، لا يمكن أن يكون تقنين عجز، سبحانه وتعالى، ولكنه تقنين تأديب.
﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ
الله عز وجل يعلمنا الدقة في الأحكام :
﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾
معنى كلمة (مقتصد) :
قال تعالى:
حينما يبلغ الناس مرتبة من الانحلال وفساد العقيدة لا بدّ من نبي جديد :
أيها الأخوة الآية التي بعدها:
﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) ﴾
الحقيقة الدقيقة أن الله سبحانه وتعالى يرسل نبياً أو رسولاً، وهذا النبي والرسول يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويقيم منهج الله في الأرض، ثم ينتقل إلى الرفيق الأعلى، أمته من بعده تحافظ على منهجه، لكن مع مضي الزمن يتفلت الناس من المنهج، لكن لا تزال في المجتمع نفوس لوامة، تنصح، وتلوم ذاتها، وتسعى إلى الإصلاح، أما حينما يعم الفساد ولا ترى واحداً يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، حينما قال عليه الصلاة والسلام:
(( كيف بكم إذا لم تأمروا بالمعروف، ولم تنهوا عن المنكر، قالوا: أو كائن ذلك يا رسول الله؟ قال: وأشد منه سيكون، قالوا: وما أشد منه؟ قال: كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر، ونهيتم عن المعروف، قالوا: أو كائن ذلك يا رسول الله؟ قال: وأشد منه سيكون، قالوا: وما أشد منه؟ قال: كيف بكم إذا أصبح المعروف منكراً، والمنكر معروفاً؟ ))
الآن العمل الصالح يثير التهمة، ما قصده؟ إذا خدمك إنسان لوجه الله تشك به سريعاً، الأصل أن يؤذيك أما إذا خدمك أصبحت حالة مرضية (كيف بكم إذا أصبح المعروف منكراً، والمنكر معروفاً؟ )
الله عز وجل نادى كثيراً من أنبيائه بأسمائهم كما ورد في القرآن الكريم :
لكن قبل ذلك:
﴿ وَيَٰٓـَٔادَمُ ٱسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ
ناداه باسمه.
﴿ يَٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَٰبَ بِقُوَّةٍۢ ۖ
﴿ قَالَ يَٰمُوسَىٰٓ إِنِّى ٱصْطَفَيْتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ
﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ
يا عيسى، ويا موسى، ويا إبراهيم:
﴿ قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّءْيَآ
لم يرد في القرآن الكريم أن الله خاطب محمداً باسمه :
﴿ يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ﴾
﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) ﴾
الملمح الثاني: أن كل خير جاء به نبي سابق ضمن رسالة هذا النبي، وكل خير ورد في رسالة سابقة هي في رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يقل: يا محمد، قال: يا أيها النبي، أي أن الأنبياء السابقين فحوى دعوتهم في دعوتك، والرسل السابقون فحوى رسالتهم في رسالتك ﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ ﴾
ما يأتي به النبي الكريم ليس من عنده :
إذاً الله عز وجل يريد من هذه الآية أن هذا الذي يأتي به النبي عليه الصلاة والسلام ليس من عنده.
﴿ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ
لكن الطرف الآخر يريده عبقرياً لا يريده نبياً، هو نبي، ينبغي أن يطرح على أمم الأرض على أنه نبي لا على أنه مصلح وعبقري: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ ﴾
﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ
يستحيل أن يؤخر النبي البيان عن وقته :
يروى أن الحسن البصري رحمه الله تعالى، كان سيد التابعين، وقد عاش في عصر الحجاج، وقد بلغ رسالة الله في عصره، فغضب الحجاج أشد الغضب، وقال لمن حوله: يا جبناء والله لأروينكم من دمه، وأمر بقتله، وجيء به ليقتل، دخل الحسن البصري فإذا السياف واقف، والنطع قد مد على الأرض، وينتظر إشارة البدء من الأمير ليقطع رأسه، حرك الحسن البصري شفتيه، ولم يسمع أحد ماذا قال، فإذا بالحجاج يقف له، ويستقبله، ويقول: أهلاً بأبي سعيد، أنت سيد العلماء، وما زال يدنيه من مجلسه حتى أجلسه على سريره واستفتاه في موضوع، وضيفه، وشيعه إلى باب القصر، السياف صعق، لأنه أوتي به ليقطع رأسه، والخادم صعق، تبعه الخادم، قال: يا إمام لقد جيء بك لغير ما فُعل بك، فماذا قلت لله عز وجل وأنت داخل؟ فقال الإمام قلت له: يا ملاذي عند كربتي، يا مؤنسي في وحشتي، اجعل نقمته عليّ برداً وسلاماً كما جعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم. إذاً:
(( حديث أم العلاء الأنصارية ـ رضي الله عنها ـ عندما توفي عثمان بن مظعون ـ رضي الله عنه ـ وهو أحد السابقين والمهاجرين، وليس ابنا لها، قالت: رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: وما يدريك أن الله أكرمه؟ فقالت: بأبي أنت يا رسول الله فمن يكرمه الله؟ فقال: أما هو فقد جاءه اليقين، والله إني لأرجو له الخير ـــ هذا سماه العلماء تألي على الله ــــ والله ما أدري ـ وأنا رسول الله ـ ما يفعل بي؟ قالت: فوالله لا أزكي أحداً بعده أبداً ))
لا يعلم الغيب إلا الله سبحانه :
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ﴾
أخواننا الكرام ؛ في القرآن قل لهم: ﴿ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ﴾
﴿ قُل لَّآ أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُ ۚ
هو لا يعلم الغيب، قل لا أملك لكم نفعاً ولا ضراً، أبلغ من ذلك ﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَرّاً ﴾
مقام النبي هو مقام العبودية لله عز وجل :
قال تعالى:
﴿ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) ﴾
هذا مقام النبي، مقام العبودية لله عز وجل
(( أَرِقَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقالَ: لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا مِن أَصْحَابِي يَحْرُسُنِي اللَّيْلَةَ، قالَتْ وَسَمِعْنَا صَوْتَ السِّلَاحِ، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: مَن هذا؟ قالَ سَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ: يا رَسولَ اللهِ، جِئْتُ أَحْرُسُكَ. قالَتْ عَائِشَةُ: فَنَامَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ حتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ. ))
فنزلت هذه الآية ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ ﴾
باحثة بلجيكية قرأت سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، وكانت هذه الآية سبب إسلامها، قالت: لو أن النبي يخدع الناس ما خدع نفسه، فإذا أخبره الله عن طريق جبريل أنه يعصمه من الناس، لو لم يكن واثقاً من وعد الله عز وجل، ومن حفظه، لما صرف حراسه.
الإنسان أحياناً يخدع الناس لكنه لا يخدع نفسه، قد يقول: فلان مشى على وجه الماء، هذا كذب بالطبع، تفضل وامشِ أنت؟ يعلم أنه إذا مشى يغرق، فقد تروي آلاف الكرامات، وأنت تدَّعي أنك ولي لله عز وجل، لمَ لا تفعل أحدها؟ إنك تخدع الناس ولكنك لا تخدع نفسك، أما النبي عليه الصلاة والسلام حينما جاءه الوحي فقال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ ﴾
(( كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُحرَسُ حتى نزلت هذه الآيةُ : ( وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) فأخرج رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رأسَه من القُبَّةِ ، فقال لهم : يا أيها الناسُ انصرِفوا ، فقد عصمني اللهُ ))
لا يستطيع إنسان أن ينهي حياة النبي لأنه بهذا يتحدى خالق الأرض والسماوات :
﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ ۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنقَلَبْتُمْ عَلَىٰٓ أَعْقَٰبِكُمْ
أي ما دام النبي عليه الصلاة والسلام يؤدي رسالة ربه فلا يمكن لإنسان كائن من كان أن ينهي حياته، أما إذا أدى الرسالة فقد يموت موتاً طبيعياً، وقد يقتل، أما وهو يؤدي الرسالة، أو لما يؤدي الرسالة بعد، مستحيل وألف أَلف ألف مستحيل أن يستطيع إنسان في الأرض أن ينهي حياته، لأنه بهذا القتل يتحدى خالق الأرض والسماوات ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾
الدنيا لها أسباب قد تملكها بأسباب من عند الله وقد تملكها بأسباب من صنعك :
أيها الأخوة الكرام؛ بقي ملمح في الآيات مجتمعة أن هؤلاء أهل الكتاب
﴿ قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلَّا مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا
الفرق بين أن تملك أسباب الدنيا في ظل الإيمان وبين أن تملكها في ظل الشرك والكفران:
قد يملك المؤمن أسباب الدنيا، وقد يملكها الكافر بصدقه، وسعيه، وإتقان عمله، وبحثه، ودرسه، وسهره، ولكنه يملك أسباب الدنيا، ثم في ثوانٍ معدودة يقهره الله عز وجل:
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) ﴾
فشتان بين من يؤمن، ويستقيم، ويتقي الله، ويحسن إلى خلقه، ثم يؤتيه الله أسباب الحياة الدنيا، فيرتقي عند الله، هذه الأسباب جاءت مكافأة له، يصونها الله له من كل عبث، ويطمئنه على مستقبله.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا
أما من نال أسباب الدنيا بجهده وشركه واعتداده بنفسه فهو كقارون قال:
﴿ قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِىٓ
﴿ فَخَسَفْنَا بِهِۦ وَبِدَارِهِ ٱلْأَرْضَ
هذا الفرق بين أن تملك أسباب الدنيا في ظل الإيمان، وبين أن تملكها في ظل الشرك والكفران.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين