- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (005)سورة المائدة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الجعل تخصيص الشيء بعد إيجاده :
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الثاني والأربعين من دروس سورة المائدة، ومع الآية السابعة والتسعين، وهي قوله تعالى:
﴿ جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(97) ﴾
أيها الإخوة الكرام، ما معنى كلمة جعل؟ جعل لا تساوي كلمة خلق، فرق كبير بينهما، الجعْل بعد أن يوجَد الشيء تعطيه بعض الخصائص:
﴿ وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنۢ بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْـًٔا وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلْأَبْصَٰرَ وَٱلْأَفْـِٔدَةَ
فجزء من الخلايا كانت سمعاً، وجزء آخر كانت بصراً، وجزء ثالث كانت فؤاداً، إذاً: الجعل تخصيص الشيء بعد إيجاده.
الحقيقة أن الله عز وجل اتّخذ لنفسه بيتاً في الأرض، ما معنى كلمة بيت؟ الإنسان يكدح، ويعمل، ويسعى، ويعود إلى بيت ليستريح، ليستروح، ليُسَر، فالإنسان يعتني ببيته لأنه يُؤوي إليه، وبه ينسى تعب النهار، وبه ينسى مشقة النهار، إذاً كلمة بيت تعني مكان فيه راحة، أو مكان فيه سعادة، والبيت المادي في الأرض يعني ذلك.
الله تعالى اتخذ بيتاً في الأرض هو البيت الحرام وأرادنا أن نأتيه لنستجم روحياً :
الله عز وجل اتخذ بيتاً، وأرادنا أن نأتيه، كي نستجم استجماماً روحيّاً، كي نرتاح راحة نفسية، كي نجدد النشاط في السعي للدار الآخرة، فالله عز وجل جعل هذه الكعبة قياماً للناس، جسمك يقوم بالغذاء، بالطعام، والشراب، ولكن نفسك تقوم بالاتصال بالله، فهذا البيت جُعل لإقامة الصلاة.
﴿ رَّبَّنَآ إِنِّىٓ أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ
أي أن الإنسان بحاجة إلى غذاء، وبحاجة إلى اتصال بخالق الأرض والسماوات، فالحقيقة أن الإنسان له نزعة مادية، لذلك الله عز وجل اتخذ بيتاً، وقال: تعالوا إليّ، الحاج حينما يقول: لبيك اللهم لبيك، فكأنه يجيب نداء من الله، أن يا عبادي تعالوا إلي، تعالوا كي أريحكم من متاعب الحياة، تعالوا كي أريحكم من أثقال الشهوات، تعالوا كي أريحكم من مشكلاتكم، تعالوا إلي.
والحقيقة أن الصلاة تتم في بلدك، والصيام يتم في بلدك، لكن الحج عبادة منفردة، هذه العبادة تحتاج إلى تفرّغ، تحتاج إلى ترك بلدك، ولو كان بعيداً عن مكة، تحتاج إلى تَجشُّم مشقة، تحتاج على إنفاق مال، من أجل ماذا؟ الإنسان حينما يشد الرحال إلى بيت الله الحرام قد يكون هذا البيت خالياً من كل قريب له، لا قريب، ولا نسيب، ولا حبيب، ولا تجارة، ولا مصلحة.
مرةً في بعض أيام الحج أحد علماء دمشق قال له: يا رب ليس لنا أحد في هذه الأمكنة إلا أننا أتينا نبتغي رضاك، فهي رحلة إلى الله.
﴿ فَفِرُّوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ
رحلة الإنسان إلى خالقه، لأن الإنسان مادي، فربنا عز وجل اتخذ بيتاً في الأرض، قال: تعالوا إلي.
بيت الله الحرام قيام للناس تقوم سعادتهم على الصلح مع ربهم :
الحقيقة حينما جعل هذه العبادة، تحتاج إلى ترك الأوطان، وترك الأهل والخُلّان، وإنفاق الأموال، وتجشّم مشاق السفر، والسفر عند الفقهاء مظنّة هلاك، والآن مظنّة هلاك، يقول لك: وقد مات جميع ركابها، أربع كلمات، خبر سقوط الطائرة قصير جداً ، لا يوجد فيه تفاصيل، وقد مات جميع ركابها، إذاً السفر مظنّة هلاك.
فالله سبحانه وتعالى يقول لك: يا عبدي تعال إلي، تعال كي تصطلح معي، تعال كي تذوق طعم القرب مني، تعال كي تسعد بقربي، تعال كي أُريحك من هموم كالجبال، تعال كي أُريحك من متاعب الحياة، من خصومات الحياة، من القيل والقال، وكثرة السؤال، من مشاحنات الأرض، تعال إلي، تعال وذُق طعم القرب مني، فهذا الحج ذهاب إلى بيت الله الحرام، وبيت الله الحرام قيام للناس، تقوم سعادتهم على الصلح مع ربهم، طبعاً الحج زيارة بيت الله الحرام، بيت الله الحرام مكان، لكن العبرة ليس في المكان، ولكن بما يجري في هذا المكان، الله عز وجل في هذا المكان يتجلى على عباده المؤمنين تجليات استثنائية، من وقف في عرفات، ولم يغلب على ظنه أن الله غفر له فلا حج له، يجب أن تشعر أن الله قبلك، وعفا عنك، يجب أن تشعر أنك في أعلى درجات القرب، لأنك تجشّمت مشاق السفر، وأنفقت المال الوفير، وغادرت الأوطان، وتركت الأهل والخُلان إلى بيت الله الحرام.
إذاً الله عز وجل منذ أن خلق السماوات والأرض اتخذ لنفسه بيتاً في الأرض، هذا البيت مكان.
﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ
المكان طول وعرض، أما إذا أنشأنا بناء صار فيه طول، وعرض، وارتفاع، وكل شيء ناتئ يسمى كعبة.
﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَٰهِۦمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ
البيت مكان، أما الكعبة فحجم، الكعبة نتوء، هذا بيت الله عز وجل، الكعبة رمز، ما من إنسان على وجه الأرض يقصد هذا البيت وهو صادق في طلب مرضاة الله عز وجل إلا وتنتابه مشاعر لا توصف من السعادة، ولحكمة بالغةٍ، بالغة، عطّل الله كل مُتع الأرض هناك، ما فيه منظر جميل، جبال قاسية، حر لا يُحتمل، ازدحام لا يحتمل، ازدحام وحر ﴿ بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ﴾
الكعبة بيت الله الحرام :
كل أسباب السرور المادية منعدمة هناك، بقي سبب واحد للسعادة وهو الاتصال بالله، ومن حج البيت حجاً صادقاً، ولم يقل وهو يغادر البيت: يا رب لا تجعل هذه الزيارة آخر عهدي بالبيت، يكون قد ابتعد عن مفهوم الحج والعمرة، لأنك تزور الله عز وجل.
(( إن بيوت الله في الأرض المساجد
إلا أن هذا المسجد، وأي مسجد آخر هو بيت الله، ولكن باختيار الإنسان، الذي أنشأه اختار هذا المكان، وجعله مسجداً، ولكن الكعبة البيت الحرام بيت الله باختيار خالق الأكوان، فالفرق كبير، لذلك:
(( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد
ليس هناك تقرب إلى الله بأن تشد الرحال إلى مسجد بحلب مثلاً، أو إلى مسجد في بغداد، هذا ليس عبادة، أما إذا شددت الرحال إلى بيت الله الحرام، أو إلى المسجد النبوي الشريف، أو إلى الأقصى، بيت المقدس، هذه عبادة إلى الله عز وجل.
فأنت حينما تزور بيت الله الحرام تلبي دعوة الرحمن، أنت حينما تزور بيت الله الحرام تُؤوي إلى خالق الأكوان، فقيامك في معرفتك بالله، وقيام سعادتك، قيام سلامتك، قيام راحتك، قيام طمأنينتك، قيام أمنك، قيام تفاؤلك، قيام محبتك أن تتصل بخالق الأكوان، إلا أن الاتصال هنا في بلدك بلا ثمن، تتوضأ وتصلي، لكنك إذا أردت أن تذهب إلى بيت الله الحرام فتحتاج بالحد الأدنى إلى خمسين ألف ليرة، وأن تدعَ عملك، ومكتبك وتجارتك ووظيفتك، هناك ثمن، هذا الثمن تقبض ما يكافئه من تجليات الله على قلبك، لذلك إن لم تقل وأنت في بيت الله الحرام: أنا أسعد الخلق، ففي الحج مشكلة، أنت في ضيافة خالق الأكوان.
الحج من أجل أن تعلم أن الله يعلم وحينما تعلم أن الله يعلم حلت كل مشكلاتك :
طبعاً الذي يؤلم أشد الإيلام أنك حينما تلتقي بإنسان حجَّ بيت الله الحرام يُحدِّثك عن كل شيء عدا الحج، فصار الحج نزهة، يقول لك: تسوق بأبراج مكة، أسواق مذهلة، يركب الطائرة، وينزل في هذه الفنادق الفخمة، ويتسوّق، ويؤدي مناسك العمرة أداء شكلياً ويعود، فإذا عاد إلى بلده حدّثك عن كل شيء، إلا مشاعر المؤمن حينما يدخل بيت الله الحرام، وحينما يلتقي مع خالق الأكوان.
لذلك مرة كان أحد الخلفاء في الحج، فالتقى بعالم جليل، فقال له: سلني حاجتك، تقرباً إليه، قال له: والله إنني أستحي أن أسأل غير الله في بيت الله، فلما التقاه خارج بيت الله الحرام قال له: سلني حاجتك، قال: والله ما سألتها من يملكها، أفأسألها من لا يملكها؟ قال له: ما حاجتك؟ قال له: أن أدخل الجنة، قال له: هذه ليست بيدي، قال: إذاً ليس لي عندك حاجة. فأنت في بيت الله الحرام مع خالق الأكوان.
أيها الإخوة، ورد في بعض الأحاديث أن الناس في آخر الزمان يذهبون إلى الحج للسمعة، ليكتب قبل اسمه الحاج فلان، أو للتجارة، أو للمنفعة، أو حينما يحج أحدهم بيت الله الحرام، ويكسب أموالاً طائلة بغير حق، ويُناقَش بهذه الأموال يقول:
﴿ لِّيَشْهَدُواْ مَنَٰفِعَ لَهُمْ
فهم المنافع فهماً مادياً محدوداً، لكنك إذا عرفت الله عرفت كل شيء.
فكما أن الصلاة من أجل أن تتصل بالله، وكما أن الزكاة من أجل أن تزكو نفسك بإنفاق هذا المال، والصيام من أجل أن تتقي الله، الحج من أجل أن تعلم أن الله يعلم، وحينما تعلم أن الله يعلم حُلّت كل مشكلاتك، الدليل:
﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً(12) ﴾
أنت حينما تعلم أنك إذا خالفت هذا الأمر دفعت الثمن باهظاً، لا تخالف، مشكلة المعاصي كلها تبدأ من تَوهُّم أن الله لا يعلم، أما إذا أيقنت أن الله يعلم، وسيحاسب، وسيعاقب لا يمكن أن تعصيه، تبدأ المعصية من الغفلة عن الله عز وجل.
الاتصال بالله اتصال متميز فيه سكينة و إجابة دعاء :
إذاً:
أي إذا زرت هذا المكان نزل على قلبك من السكينة مالا يوصف، وهذا كلام لا يعرفه إلا من ذاق طعم الحج والعمرة، أنت حينما تشعر أنك في كَنف الله، وأن الله قد عفا عنك، وقبِلك، وأن الله سبحانه وتعالى سيكرمك، وسيوفقك في أمور الدنيا والدين، تشعر بمعنى الحج الصحيح.
لذلك للتقريب فقط، لو أن إنساناً والده أستاذ رياضيات، قال له: تعال يا بني أعطيك درساً خاصاً، يتهرّب من هذا الدرس لأنه بلا ثمن، أما الابن نفسه لو كان ضعيفاً بالفيزياء، وأخذ درسا خاصّاً، والدرس بألف ليرة، يأتي قبل ربع ساعة إلى الدرس، وإذا خفف الأستاذ الدرس دقيقتين، يقول له: بقي دقيقتان، دفع ألف ليرة، مثلاً.
الله عز وجل أراد أن تدفع ثمن هذا الاتصال، وهو اتصال متميز، اتصال مركز، اتصال فيه تجلٍّ، فيه سكينة، فيه إجابة دعاء، أرادنا الله بزيارة بيته الحرام أن ندفع ثمن هذا الاتصال، وبقدر الدفع يكون إحكام الاتصال بالله عز وجل.
سبب تسمية البيت الحرام بهذا الاسم :
﴿ فِيهِ ءَايَٰتٌۢ بَيِّنَٰتٌ مَّقَامُ إِبْرَٰهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنًا
هذا أمر تكليفي وليس أمرناً تكوينياً، أي اجعلوه آمناً، أن يكون هذا البيت آمناً منوطاً بكم، كلّفتكم أن تجعلوه آمناً، تماماً كما تقول:
﴿ ٱلْخَبِيثَٰتُ لِلْخَبِيثِينَ وَٱلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَٰتِ ۖ وَٱلطَّيِّبَٰتُ لِلطَّيِّبِينَ وَٱلطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَٰتِ
أليس في الأرض مئات الأسر الرجل طيب جداً والمرأة سيئة؟ وبالعكس، ما معنى قول الله عز وجل:
﴿الطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ﴾ ؟ أي احرصوا على أن يكون ﴿الطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ﴾ واضح تماماً:
بيت الله الحرام مكان ينفرد فيه حكم شرعي أن الإنسان محاسب على نيته فقط :
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ٱلَّذِى جَعَلْنَٰهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً ٱلْعَٰكِفُ فِيهِ وَٱلْبَادِ ۚ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍۢ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍۢ
على الإرادة فقط، حرمة لهذا البيت، وضماناً لأمنه، لا يُسمح لك أن تقتل كائناً من كان، عدا خمس كائنات استثناها النبي عليه الصلاة والسلام، العقرب، والحية، والفأرة..
(( خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ، مَن قَتَلَهُنَّ وهو مُحْرِمٌ فلا جُنَاحَ عليه: العَقْرَبُ، والفَأْرَةُ، والكَلْبُ العَقُورُ، والغُرَابُ، والحِدَأَةُ. ))
ولا يسمح لك أن تؤذي نباتاً، ولا أن تشتم إنساناً، ولا أن تجادل.
﴿ ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَٰتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِى ٱلْحَجِّ
لا جدال، ولا مشاحنة، ولا إيذاء، لا إلى إنسان، ولا إلى حيوان، ولا إلى نبات، فجعله حراماً، أي له حُرمته، وقد يلتقي الإنسان بقاتل أبيه فلا يستطيع أن يفعل شيئاً، هذا البيت آمن، وأرادنا الله أن نجعله آمناً، هذا معنى بيت الله الحرام، حرام أن تؤذي إنساناً، حرام أن تشتمه، حرام أن تجادله، حرام أن تؤذي حيواناً، حرام أن تؤذي نباتاً، بل إنك يجب أن تخضع لتوجيهات الله بكل التفاصيل.
لا تقوم سعادتنا إلا باتصالنا بربنا :
إذاً:
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124) ﴾
الحج هو شحنة العمر :
الله عز وجل:
(( إن بيوتي في أرضي المساجد، وإن زواري فيها عمارها، فطوبى لعبد تطهر في بيته، ثم زارني في بيتي، فحق على المزور أن يكرم زائره ))
لذلك إذا التقيت بإنسان حج بيت الله الحرام حجاً صحيحاً كما أراد الله، أو التقيت بمعتمِر اعتمر بيت الله الحرام كما أراد الله، يجب أن تشعر بثمرة هذه العبادة، وهي عبادة راقية جداً، ذلك أن الإنسان يُشحَن في الصلاة شحنة روحية، تمكنه أن يبقى مع الله إلى الصلاة الثانية، شحنة محدودة، أما في يوم الجمعة هناك خطبة، ويوجد صلاة جماعة، وإخوانك كلهم في المسجد، وتوجد خطبة مؤثرة، تُشحَن شحنة أسبوعية، من أسبوع لأسبوع، فالإنسان بعد خطبة الجمعة يشعر باندفاع إلى الدين، باندفاع إلى طاعة الله، باندفاع إلى الإنفاق، إلى عمل صالح، إلى دعوة إلى الله، هذا الاندفاع تخبو جَذوته كلما ابتعدت عن يوم الجمعة، إلى أن تصل إلى يوم الخميس، وأنت في أمسّ الحاجة إلى شحنة جديدة.
لكنك في الصيام تُشحَن من عام إلى عام، ثلاثين يوماً، ثلاثين صلاة تراويح، ثلاثين قيام ليل، ثلاثين يوماً وأنت صائم، غاض للبصر، ضابط للسان، ضابط للجوارح، هذه شحنة تكفيك للعام القادم، أما الحج فهو شِحنة العمر، لذلك جعل الله الحج رحلة إلى الله قبل الأخيرة، الأخيرة في التابوت، في النعش، هي قبل الأخيرة، من أجل أن تُشحَن شحنة تعينك على طاعة الله، والصلح معه إلى نهاية الحياة، لكن يقول عليه الصلاة والسلام:
(( إنَّ عبدًا أصحَحتُ جِسمَه، وأوسَعتُ عليه في الرِّزقِ لا يَغْدو إليَّ في كلِّ خَمسةِ أعوامٍ مرَّةً لَمَحرومٌ. ))
إذا كنت في بحبوحة من العيش، أيضاً هذه الحَجَّة تضعف قيمتها بعد مضي خمس سنوات، إذاً لا بد أن تجدد هذه الحَجّة بحَجّة أخرى.
الهدي هي الأنعام التي تساق لتقدم هدية إلى الله عز وجل :
الآية اليوم عن الحج:
على الإنسان أن يعلم أن الله يعلم :
﴿ ٱتْلُ مَآ أُوحِىَ إِلَيْكَ مِنَ ٱلْكِتَٰبِ وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ ۖ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ
أي أكبر ما فيها ذكر الله، هذه الصلاة، الصيام:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183) ﴾
التقوى، من الزكاة:
﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(103) ﴾
هذه الزكاة، الصلاة، والصوم، والزكاة، الحج:
﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ﴾
الحج من أجل أن يرتقي الله تعالى بالإنسان إلى طاعته الطاعة المستمرة :
كلمة كبيرة جداً، حينما تعلم أن الله يعلم لا يمكن أن تعصيه، حينما تعلم أن استخدام الهاتف المحمول في أثناء قيادة السيارة فيه غرامة كبيرة جداً، وتلمح شرطياً فوراً تنزله، طبعاً، واضع القانون يطولك من خلال هذا الشرطي، فإذا علمت أن الله يعلم، الله معك دائماً، كلام دقيق جداً. أنت حينما تقف على إشارة حمراء، وأمام الإشارة شرطي، مُجهَّز لكتابة ضبط، والإشارة حمراء، وأنت مواطن عادي، ليس لك ولا ميِّزة، هل تتجاوز هذه الإشارة؟ لأنه مُركَّب في أعماق أعماقك أن واضع نظام السير علمه يطولك من خلال هذا الشرطي ، وقدرته تطولك من خلال القانون، تُحجَز المركبة أحياناً، تُسحَب منك الإجازة، وقد تدفع غرامة كبيرة، أنت حينما توقن أن واضع نظام السير علمه يطولك، وقدرته تطولك لا يمكن أن تعصيه، لكن ممكن في الساعة الثالثة أن تتجاوز الإشارة الحمراء، لأن علم واضع القانون لا يطولك علمه لغياب الشرطي الساعة الثالثة ليلاً، وإذا كنت أقوى من واضع القانون أيضاً لا تطولك قدرته، أما بالأحوال الطبيعية، بشكل مدني، طبيعي، لا يمكن أن تعصي جهة يطولك علمها، وتطولك قدرتها.
الحج من أجل أن تعلم أن الله يعلم، وإن علمت أن الله يعلم لا يمكن أن تعصيه، فالحج من أجل أن يرتقي بك إلى طاعته، إلى الطاعة المستمرة.
هناك طاعة نوبية، الآن الناس عندهم مشكلة، برمضان تأتيهم كريزة استقامة، أسميها أنا كريزة، يغض بصره، يصلي الفجر بالمسجد، يضبط لسانه، هذه غيبة، اسمحوا لنا، لا تناقشوني بهذا الموضوع، هذه غيبة، ينتهي رمضان
رَمَضانُ وَلّى هاتِها يا ساقي مُشتاقَةً تَسعى إِلى مُشتاقِ
كل شيء فعله برمضان ينساه بعد رمضان، هذا الذي ما أراده الله من رمضان، أرادك أن ترتقي، فعدت إلى ما كنت عليه ولم ترتقِ.
حينما تعلم أن الله يعلم تستقيم على أمر الله :
إخواننا الكرام، القضية دقيقة، أرادك الله في رمضان أن تصفو نفسك، بطاعة ربك، لينسحب هذا الصفاء على كل أيام العام، أنت أردته -بجهل منك- أن يكون هذا الصفاء في رمضان فقط، إذاً لم تنتفع في رمضان، وحينما اصطفى الله من كل الأماكن بيت الله الحرام، وقال: اذهب إليه، وتعال يا عبدي إلي، من أجل أن يشيع هذا الصفاء الذي ذقته في بيت الله الحرام في كل مكان، حتى إذا عدت إلى بلدك، تابعك هذا الصفاء إلى بلدك، لكنك أردت رؤيته هناك فقط، أن يبقى الصفاء في بيت الله الحرام.
إذاً نحن حينما نعود إلى ما كنا عليه بعد الصيام، وحينما نعود إلى ما كنا عليه بعد الحج، عطّلنا الحكمة البالغة من فرض الحج، وفرض الصيام، أراد الله عز وجل أن تكون هذه الأشهر التي نصومها كل عام كالدّرَج، كل سنة درجة، ثم تستمر، هكذا، لكننا أردناها حجراً ارتقينا عليه، ثم عدنا إلى المستوى السابق، بين أن تكون درجات متتابعة، أردناها صعوداً طارئاً، ونعود إلى ما كنا عليه.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين