- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (005)سورة المائدة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
التدرج في التشريع :
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الواحد والأربعين من دروس سورة المائدة ومع الآية الثالثة والتسعين، وهي قوله تعالى:
﴿ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(93) ﴾
أيها الإخوة الكرام، كلكم يعلم أن التشريع نزل متدرّجاً، ففي وقت فُرِضت الصلاة، في وقت فُرِض الصيام، في وقت فُرِض الحج، في وقت حُرِّمت الخمر، في وقت حُرِّم الميسر، فالعبادات والمُحَرَّمات نزلت بالتدريج.
لذلك بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ممن استُشهدوا أو ماتوا قبل تحريم الخمر، قلق الأصحاب الكرام على إخوانهم، فتساءلوا: ما حكم إخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر قبل أن تُحرّم؟ هذا القلق قلق مُقدَّس، لكن الله جل جلاله رحيم بعباده، الله عز وجل لا يكلفنا إلا بما شرّع لنا.
إذاً قبل التشريع: الإنسان معفوّ عنه، هذا التساؤل الذي تساءل به أصحاب النبي رضوان الله تعالى عليهم، وهذا القلق المُقدّس الذي قلقوا به على إخوانهم، ممن سبقوهم إلى دار الحق، من هؤلاء الذين فعلوا شيئاً حُرّم فيما بعد، بعد موتهم أو بعد استشهادهم، هذا السؤال الكبير جاء جوابه في هذه الآية.
الصحابة الكرام الذين توفاهم الله قبل نزول تحريم الخمر حُكم الله فيهم العفو :
أولاً يقول الله عز وجل:
﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلْجُنُودِ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍۢ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّى وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُۥ مِنِّىٓ
إذاً معنى طَعِمَ الماء: أي شعر بطعمه في فمه، وليس معنى طَعِمَ الماء أن الماء يُؤْكَل، لكن هنا تأتي كلمة طَعِمَ لتغطي الطعام والشراب معاً، فهؤلاء الصحب الكرام الذين توفاهم الله عز وجل قبل نزول تحريم الخمر، أو استُشهدوا في بعض المعارك قبل تحريم الخمر، ما حكم الله فيهم؟ حكم الله فيهم العفو، لأن الله عز وجل حينما كانوا أحياء الذي كلفهم به أتمّوه على أكمل وجه، إذاً ليس عليهم شيء.
الله سبحانه وتعالى لا يحاسب إلا بعد التكليف :
أيها الإخوة، الآية تُبشِّر وتُطمئِن الأصحاب الكرام، ومن سبقوهم إلى رحمة الله:
إذاً: في حياتهم وقبل موتهم، أو استشهادهم أدَّوا الواجب، وتركوا المُحرَّم، أما الشيء الذي لم يُحرَّم بعد، ما فعلوه من هذا الشيء الذي حُرِّم بعد ذلك، فلا إثم عليهم فيه، وماتوا أطهاراً عند الله عز وجل.
إذاً:
من مات وقد فعل شيئاً لم يحرم في حياته فهو ناجٍ عند الله :
لكن الذين جاؤوا بعدهم أُضيف إلى الأحكام التي عاش إخوانهم في خلالها، ونفذوها أُضيف أحكام جديدة، فالمؤمنون الذين عاشوا بعد موت إخوانهم، أو بعد استشهادهم، ونزلت أحكام جديدة في تحريم الميسر، وتحريم الخمر نفّذوها، هؤلاء تغطيهم الآية الثانية.
إنسان مات، وقد فعل شيئاً لم يُحرَّم في حياته، فهو ناجٍ عند الله، الإنسان الثاني امتدّ به العمر حتى نزلت أحكام جديدة فنفّذها، هؤلاء غطاهم الله عز وجل في قوله:
الآية تتحدث عن ثلاث مراحل :
إذاً هناك ثلاث مراحل: مرحلة صَحْب كرام عاشوا الوحي، وطبقوا التشريع الذي كان في عهدهم، وماتوا، هم إلى رحمة الله ومغفرته، لأنه لا مؤاخذة إلا بعد التكليف.
وأناس آخرون عاشوا حياة بعد موت إخوانهم، فاستقبلوا أحكاماً جديدة، ونفذوها، هم عند الله أيضاً ناجون، لأنهم طبقوا كل ما انتهى إليهم، لكن بعد انقطاع الوحي، وانتقال النبي إلى الرفيق الأعلى، هؤلاء زادوا في عباداتهم، زادوا في صلواتهم، زادوا في أداء الأموال التي يبتغون في إنفاقها وجه الله عز وجل، زادوا في صيامهم، حجوا حجة بعد حجة، أنفقوا أموالهم، هؤلاء
( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ )
هؤلاء الفريق الأول، ثم الفريق الذي عاش بعد هؤلاء، واستقبل أحكاماً جديدة فنفـذها:
إذاً: الله عز وجل من رحمته بنا أنه لا يكلفنا ما لا نطيق، ولا يكلفنا إلا في حدود ما شرّع لنا، ولا معصية من دون تكليف، وهذا بند كبير في كل دساتير العالم، أي إن القانون لا يمكن أن يأخذ مفعولاً رجعياً، فإذا أخذ القانون مفعولاً رجعياً كان فيه ظلم كبير، لأنه حينما شُرّع هذا القانون الذين خالفوه قبل التشريع لا شيء عليهم، وهذا أصل فيما يسميه علماء القانون بالمسؤولية، لا مسؤولية إلا بعد التشريع، ولا معصية إلا بعد التكليف، ولا مؤاخذة إلا بعد التبيين، وهذا من رحمة الله بالمؤمنين.
حكم من عاش بين نبوتين وفي وقت لم يصل إليه وحي من السماء :
ولكن هذا الكلام يذكرنا بكلام آخر، أن هؤلاء الذين عاشوا فيما بين نبوات الأنبياء، يُسميهم العلماء أهل الفترة، أليسوا محاسبين؟ هناك من توهم أنهم لا يُحاسبون أبداً، الحقيقة بين ذلك، بين هذا وذاك، الحقيقة أن الإنسان أودع الله فيه عقلاً كافياً للتعرف إلى الله، وأودع فيه فِطرة كافية كي تكشف له خطأه، فالإنسان الذي لم يتلقَّ رسالة من السماء، ولم يتلقَّ توجيهاً نبوياً، محاسب لا في ضوء تفاصيل الشريعة، ولكن محاسب على شيئين كبيرَين أودعهما الله فيه، وهو العقل والفطرة، فالعقل كافٍ أن يدله على الله، والفطرة كافية أن تدله على خطئه، إذاً هو يحاسب.
إنسان ما التقى بأي رجل دين في الأرض، عاش في جزيرة، لو أنه قتل أمه، أو أكل وأجاع أمه، هذا الإنسان بفطرته التي فُطر عليها، يشعر أنه بحق هذه المرأة هو مجرم، من دون تشريع، فالفطرة كافية أن تكتشف خطأك، والدليل:
﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) ﴾
والدليل الآخر أن الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) ﴾
فالإنسان بفطرته يكشف خطأه، وبعقله يصل إلى ربه، فحينما يكون الإنسان بين نبوّتين، وفي وقت لم يصل إليه شيء من وحي السماء، ليس محاسباً على تفاصيل الشريعة، ولكنه مُحاسب على أصل الإيمان، وأصل طاعة الرحمن، عقله يدله على الله، وفطرته تمنعه من أن يخطئ.
المؤمن يوطن نفسه أن التحريم لابدّ منه في الأديان لأن ترك المحرمات ثمن الجنان :
قال تعالى:
﴿ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(93)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ(94) ﴾
إخواننا الكرام، لا يمكن أن تكون هناك جنة من دون مُحرمات، لو أن إنساناً بسذاجة طفلية تصور لو أن الله عز وجل لم يُحرم علينا الزنا، ولا المال الحرام، ولا الفواحش، ولا السرقة، ولا لحم الخنزير، ولا الخمر، لارتحنا، وكنا جميعاً في طاعة الله عز وجل، وجميعاً إلى الجنة، عندئذٍ ليس هناك جنة، الشيء الذي لم تدفع ثمنه لا قيمة له إطلاقاً.
فيجب أن نعتقد جميعاً أنه لا بد من شيء مُحرَّم، الربا مُحرَّم، وقد يتراءى للإنسان أن كل مصلحته في الربا، والزنا مُحرَّم، وقد يتوهم الإنسان أن كل لذائذه تُحَلّ، أو تتحقق بالزنا، والسرقة مُحرّمة، وقد يتوهم الإنسان أن السرقة يمكن أن تعطيه مالاً كثيراً بلا جهد إطلاقاً، لذلك المؤمن يُوطّن نفسه على أن التحريم لا بد منه في الأديان، لأن ترك المُحرمات ثمن الجنان.
الله عز وجل لا يمكن أن يعطي الجنة إلا لمن يدفع ثمنها وثمنها ليس سهلاً :
لذلك الله عز وجل يقـول:
ما هي الأمانة؟ الأمانة لا أن تؤدي مبلغاً من المال كُتب عليك به سند، أو إيصال موثق، لا، هذا سلوك مدني.
الأمانة: أن يُودَع عندك مبلغ كبير بالملايين، والذي أودعه عندك لم يأخذ منك إيصالاً، ومات بحادث، وأهله لا يعلمون عن هذا المبلغ شيئاً، أنت لست مُدَاناً في الأرض إطلاقاً، ولكن خوفك من الله يدعوك إلى أداء هذه الأمانة. أقسم لي أخ بالله، وهو عندي صادق، أنه كان عنده عشرون مليون ليرة سورية، والذي أودعها عنده لم يُعلِم أحداً بذلك، وتوفي بحادث، فذهب إلى الورثة، وقدّم لهم المبلغ عداً ونقداً تبرئة لذمته، هذه الأمانة.
لذلك الله عز وجل لا يمكن أن يعطي الجنة إلا لمن يدفع ثمنها، ثمن الجنة ليس سهلاً، ثمن الجنة أمانة قد تُغري الإنسان أن يخالفها، فنبدأ بالشيء الصغير:
ما كل تشريع سماوي يقابله تشريع أرضي :
يبدو أن الصيد شيء محبب جداً:
أضرب لكم بعض الأمثلة: يمكن أن تكون في غرفتك، والنافذة مفتوحة، وبيت مقابل لبيتك، فتحت النافذة امرأة صاحب البيت، ولم تكن تهتم بحشمتها، ثيابها مُتبذِّلة، وقد تبدو كل مفاتنها من خلال ثيابها، وأنت في مكان مظلم، وليس على وجه الأرض إنسان يكشف أنك تملأ عينيك من شيء حُرِّم عليك، ليس إلا الله يعلم خائنة الأعين، فإذا غضضت البصر، وقلت: إني أخاف الله رب العالمين، لا أحد على وجه الأرض يكشف هذه المخالفة، هذا امتحان أحياناً، ما كلّ تشريع سماوي يقابله تشريع أرضي، فالسرقة تتفق بين تشريعات السماء، وتشريعات الأرض، لكن غضّ البصر مما تنفرد به شريعة السماء، فأنت لست مُؤاخذاً في كل بقاع الأرض إذا مرّت امرأة مُتبذِّلة، وملأت عينيك من محاسنها، لا أحد يحاسبك، لكن الله وحده يعلم ذلك، هذا أيضاً امتحان.
قد تدخل إلى بيتك في أيام رمضان، ورمضان في شهر آب، والنهار طويل جداً، وتكاد تموت عطشاً، وبإمكانك أن تفتح الصُّنبور، وأن تشرب ماء بارداً، لا يعلم أحد بهذه المخالفة إلا الله، ما الذي يمنعك أن تشرب في رمضان؟ إيمانك بالله، فالصوم عبادة الإخلاص، وغضّ البصر عبادة الإخلاص، لكن السرقة قد تُضبَط من قِبَل أهل الأرض، وقد تُحَاسَب حساباً عسيراً على هذه السرقة.
الناس يمتحنون ويفرزون بين مؤمن يخاف الله وبين غير مؤمن يتجرأ على النواهي
إذاً:
القصة التي ذكرتها عشرات المرات، وقد تركت في نفسي أثراً كبيراً: أن هذا الإمام الذي كان في لندن، وانتقل إلى ظاهر لندن، وركب مركبة كل يوم، وصعد المركبة مرّة، ودفع للسائق ورقة نقدية كبيرة، وردَّ له السائق البقية، فلما عدّها وجدها تزيد عشرين بِنساً عما يستحق، فقال: أنا كمسلم ينبغي أن أرد هذه الزيادة، هذا موقف المسلم، وبما أن لكل إنسان مَلَك يُلهمه، وشيطان يوسوس له، يبدو أن الشيطان قال له: إنها شركة عملاقة، ودخلها فلكي، والمبلغ زهيد ويسير، لا يقدِّم ولا يؤخر، فلا عليك إذا أخذته، وأنت بحاجة إليه، وكأنه هِبة من الله لك، لكنه قبل أن يغادر المركبة، دون أن يشعر مدّ يده، ودفع للسائق العشرين بنساً، ابتسم السائق، وقال له: ألست إمام هذا المسجد؟ قال له: بلى، قال له: والله قبل يومين حدثتُ نفسي أن أزورك بالمسجد لأتعبّد الله عندك، ولكنني أردت أن أمتحنك، وقع هذا السائق مَغشيّاً عليه لهول الصدمة، وأدرك لحظتها كم هي الجريمة التي كاد يقترفها لو أبقى في جيبه العشرين بنساً، ثم لما صحا من غفوته قال: يا رب، كِدتُ أبيع الإسلام بعشرين سنتاً، هذا رسب أمام إنسان، فكيف إذا رسبت أمام الواحد الديان؟!
أنا أقول لكم أيها الإخوة: لو أن الإنسان وقع من طائرة، وتكسّرت أضلاعه، أهون من أن يسقط من عين الله، والله عز وجل يمتحنك كل يوم، أنت في دائرة الامتحان كل يوم.
إذاً: هذا الصيد بين يديك، الله عز وجل حرّم الصيد على المُحرِم، وحرّم الصيد في الحَرَم، حرّم الصيد على المُحرِم في حدود المواقيت، وحرّم الصيد على غير المُحرِم في الحَرَم، في أثناء الحج، فلذلك قد يأتي الصيد إلى ما بين يديك، تستطيع يداك أن تناله، أو رمحك أن يناله، ومع ذلك الناس يُمتحنون، ويُفرَزون بين مؤمن يخاف الله، وبين غير مؤمن يتجرّأ على النواهي التي نهى الله عنها: (لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ)
العاقل هو الذي يحكمه النص والأحمق هو الذي يحكمه الواقع :
إخواننا الكرام، كل إنسان حينما يرى سلاحاً مُوجهاً ضده يرعوي ويستقيم، لكن البطولة أن تخشى الله بالغيب، لذلك الله عز وجل حينما قال:
﴿ الم(1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ(2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ
يا إخوان، الدنيا محسوسة، تراها بعينيك قصراً جميلاً، سيارة فارهة، طعاماً طيباً، مزرعة رائعة، امرأة جميلة، هذه كلها محسوسة، أما الآخرة فتفتح كتاباً اسمه القرآن الكريم تجد أربع كلمات:
﴿ وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) ﴾
هذا خبر، الدنيا محسوسة، والآخرة خبر، لذلك الإيمان بالغيب درجة متقدمة عالية جداً بالإنسان، الآن كم من إنسان يموت من الدخان، وآلاف الأبحاث العلمية تبين أخطار الدخان، من هو العاقل؟ الذي يحكمه النص، من هو الأحمق؟ الذي يحكمه الواقع، الإنسان حينما يصل إلى الواقع المُرّ يندم أشد الندم، لكن العاقل قبل أن يصل إلى ما وصل إليه يرعَوي قبل فوات الأوان
الله عز وجل جعلك عبداً تاماً له في الحج خاضعاً لكل توجيهاته :
في الحقيقة له عذاب، لأنه لم يعبأ بمنهج الله عز وجل، لكن الحكمة من ذلك أيها الإخوة أن الإنسان بالحج عليه أن يخضع لله خضوعاً تاماً، وعليه أن يُصفّي نفسه، وأن يبتعد عن كل شعور بالفوقية، فالإنسان أعلى المخلوقات، دونه الحيوان، في الحج ممنوع منعاً باتاً أن يُقتَل الحيوان في أثناء الحج، صيد البر محرم في الحج، الآن الحيوان فوق النبات، والنبات دون الحيوان، وممنوع أيضاً أن تؤذي نباتاً في أيام الحج، الإنسان، الحيوان، النبات، دون النبات الجماد، وعليك أن تُقَبّل حجراً في أثناء الحج، تُقبِّل حجراً بتوجيه الله، وترجم حجراً بتوجيه الله، وتمتنع عن اقتلاع نبات أو إيذائه، وعن قتل حيوان في أيام الحج وفي الحرم.
إذاً الله عز وجل جعلك عبداً تاماً له، خاضعاً لكل توجيهاته، تأتمر بأمره، وتنتهي عما عنه نهى:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ۚ
الصيد ممنوع وأنت مُحرِم، مُحرِم طبعاً من المواقيت، في أثناء الحج ممنوع لغير المُحرم في منطقة الحرم فقط أن يقتل صيداً، أي المُحرم مكان التحريم: حدود المواقيت المكانية، وغير المحرم: حدود التحريم منطقة الحرم من التنعيم إلى الجعرانة، حدود الحرم الضيقة.
ليس من دين إلا وفيه محرمات :
أؤكد لكم أيها الإخوة أنك إذا دخلت إلى مسجد، ورأيته ممتلئاً بالأخوة الكرام المؤمنين، يجب أن تعلم علم اليقين أن عدداً كبيراً جداً من هؤلاء إنما عالجه الله معالجة حكيمة، وساقه إلى مسجده، وإلى بابه بطريقة لطيفة، أنه شعر أنه في خطر، ليس له إلا الله، فانكبّ على أعتاب الله، واصطلح مع الله، وأطاعه، فأزاح الله عنه هذا الخطر، هذه طريقة في التربية.
فإما أن يُقدم مثل هذا الحيوان الذي قتله:
إذا لم يرافق الانحراف عقاباً وتأديباً أو خبرة مؤلمة فهناك مشكلة كبيرة :
يُروى أن إنساناً حُكِم عليه بالإعدام، فطلب منه ماذا يتمنى؟ قال: أريد أن أرى أمي، جاءت أمه، فقال لها: مدّي لسانك كي أُقَبّله، فلما مدّت لسانها قطعه بأسنانه، وقال: لو لم يكن هذا اللسان مشجعاً لي في الجرائم ما فقدت حياتي.
إذاً: إذا لم يرافق الانحراف عقاباً، وتأديباً، أو خبرة مؤلمة فهناك مشكلة كبيرة، الأمر يتفاقم.
التحريم مرتبط بالإحرام أما تحريم منطقة الحرم فمرتبط بأيام الإحرام لغير المحرم :
أيها الإخوة الكرام:
﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(96) ﴾
لكن للبحر شأن آخر:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحِلُّواْ شَعَٰٓئِرَ ٱللَّهِ وَلَا ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَلَا ٱلْهَدْىَ وَلَا ٱلْقَلَٰٓئِدَ وَلَآ ءَآمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَٰنًا ۚ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَادُواْ
التحريم مرتبط بالإحرام، أما تحريم منطقة الحرم فمرتبط بأيام الإحرام، لغير المُحرِم: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)
الإنسان محاسب على كل حركاته وسكناته ومحاسب على كل أفعاله :
أيها الإخوة، الصيد حلال ومُبَاح لغير المُحرم، ولكن لِعلّة وجيهة، الإنسان مخلوق مُكَرّم عند الله، يمشي في الطريق انقطع زاده، فإذا اصطاد حيوان، وأكله، وأبقى على حياته فهذا مباح في الشرع، أما أن يذهب ليمارس هواية الصيد، وليقتل مئات الطيور دون أن يأكلها، فقط لإحكام الرمي، هذا في كتب الفقه مُحرّم أشد التحريم.
لذلك إخواننا الكرام، الإنسان محاسب على كل حركاته وسَكنَاته، محاسب على كل أفعاله، ولا ينبغي أن يجرّب بندقيته بحيوان، ولا يجوز أن تجعل الحيّ غرضاً لصيد، أو لرمح، هذا أيضاً مُحرّم أشد التحريم، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام نهى أن تروِّع حيواناً أن تشحذ سكينك أمامه، أو أن تذبح شاة أمام شاة، هذا محرم أيضاً بنص الحديث الشريف:
(( إِنَّ اللهَ كتبَ الإحسانَ على كلِّ شيءٍ فَإِذا قَتلتُم فأحسِنُوا القِتلة، وَإِذا ذَبحتُم فأحْسِنُوا الذَّبحَ، وليُحدَّ أحدُكم شَفرَته، ولْيُرِحْ ذبيحَته ))
عملية الحج خضوع تام لإرادة الله عز وجل :
الآيات أيها الأخوة:
أيها الإخوة، هناك موضوع جانبي يَحسن أن نأتي عليه، هو أن هناك مكاناً يُسمى الحرم، وهناك أشهر حُرم، الذي يحصل أن الحروب التي تقوم بين البشر ترتبط هذه الحروب بكرامة المتقاتلين، فالدخول في الحرب سهل جداً، أما الخروج منها فصعب جداً، فالإنسان في أثناء الحرب يمكن أن يُدمّر كل شيء، أو أن يُدَمَّر له كل شيء، حفاظاً على دعواه التي يدّعيها، لكن رحمة الله بهؤلاء البشر أن الأشهر الحُرم يُحَرَّم فيها القتال، فحينما تقف الحرب، لا لأن أحد الطرفين غلب الآخر، ولا يَقدح توقيف الحرب بكرامة أحد الطرفين، بل لأن تشريع السماء يُحَرِّم القتال في هذه الأشهر، الناس ماذا يقول لهم؟ يذوق طعم السِّلم، ويحب السِّلم فلعل هذه الهِدنة التي فرضها الله عز وجل على المتقاتلين تكون سبباً في إنهاء الحرب، وفي حقن الدماء. فلذلك عندنا مكان فيه تحريم لقتل الحيوان، وإيذاء النبات، حتى وفي هذا المكان الإنسان يهبط إلى أدنى مستوى فيُقبِّل حجراً، أو يرجم حجراً بتوجيه الله.
سيدنا عمر حينما قبّل الحجر قال: والله إني أعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله يقبّلك ما قبّلتك.
هذا تشريع، أما الإنسان أكرم من أي حجر كان، ومع ذلك الإنسان في الحج يخضع خضوعاً تاماً، أي حتى الذي أحله الله للبشر في الحج مُحرم عليه، محرم على الحاج أن يتطيّب، أو أن يحلق شعره، أو يُقلِّم أظافره، أو أن يقارب أهله، الأشياء المباحة خارج الحج مُحرّمة في أثناء الإحرام، فعملية الحج خضوع تام لإرادة الله عز وجل.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين