- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (005)سورة المائدة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا إتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
العقيدة السليمة تكشف زيغ عقيدة الطرف الآخر :
أيها الأخوة المؤمنون؛ مع الدرس التاسع والعشرين من سورة المائدة، ومع الآية التاسعة والخمسين، وهي قوله تعالى:
﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ(59) ﴾
لماذا ينقم أهل الكتاب على الذين آمنوا بالله؟ هذه حقيقة أيها الأخوة تنسحب على أية علاقة بين مؤمن وغير مؤمن إلى يوم القيامة، ذلك أن المؤمن حينما انتصر على نفسه وأقر بالحق، وخضع له، وجعله منهجاً له في حياته، وأرضى نفسه، و أرضى ربه، وشعر بالتفوق، هذا الإنسان بهذا السلوك، وبهذا الانصياع، وبهذه الطمأنينة، وبهذه السعادة، كشف العاصي، وكشف المقصر، وكشف من كانت عقيدته زائغة، وكشف من كانت علاقاته سيئة مع الآخرين، لذلك هذا الذي كُشف وعرِّي أمام المجتمع، ينقم على المؤمن، تماماً كما لو أن موظفين في دائرة كلفا بشراء حاجات، فالواحد رفض أن يوقع توقيعاً غير صحيح، وأن يأخذ عمولة لا يستحقها، فلما رفض الأول، وانتصر على نفسه، وأكد استقامته، وأكد نزاهته، يكشف الطرف الأخر الذي أراد أن يأخذ مالاً حراماً، وأراد أن يغش الأمة، وأراد أن يخون الأمانة، فالإنسان حينما يستقيم يكشف غير المستقيم، وحينما تصح عقيدته يكشف من زاغت عقيدته. حينما يقول الطرف الآخر:
﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ
﴿ لَّقَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ
فحينما يؤمن المؤمن بأن الله سبحانه وتعالى بيده مقاليد السماوات والأرض .
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ
حينما يؤمن المؤمن أن الله غني ونحن الفقراء، هذه العقيدة السليمة تكشف زيغ عقيدة الطرف الآخر، وهذه الاستقامة الرشيدة تكشف انحراف الطرف الآخر، وهذا التعامل الأخلاقي والسلوك الرباني يكشف سلوك الطرف الآخر، لذلك كانت النقمة.
المعركة بين الحق والباطل معركة أزلية أبدية :
أيها الأخوة؛ العلاقة بين شخصين:
والذي نفس محمد بيده ما تواد اثنان ففرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما
أحمد عن ابن عمر
على مستوى الأمم والشعوب.
﴿ وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّا نَصَٰرَىٰٓ أَخَذْنَا مِيثَٰقَهُمْ
حينما يعتدي شعب يعادي الشعوب الآمنة المسالمة، كأن معركة الحق والباطل معركة أزلية أبدية، الإنسان المؤمن يوطن نفسه على أن الطرف الآخر، يكره المؤمنين، الطرف الآخر كره سيد المرسلين، الطرف الآخر لم يعبأ بهذا الكمال الفريد الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام، لم يعبأ بهذا المنطق السديد، لم يعبأ بهذا الوحي الذي بيَّن كل شيء، وشرح كل شيء، وقد أعطى تفسيراً للكون والحياة والإنسان، فلذلك الآية الكريمة: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا ﴾
العداوة والبغضاء بين الذين آمنوا والذين كفروا عداوة طبيعية من الأزل إلى الأبد :
لماذا قال قابيل لهابيل:
﴿ وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱبْنَىْ ءَادَمَ بِٱلْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ ٱلْءَاخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ (27) ﴾
ماذا فعل هابيل؟ ما فعل معه شيئاً، هابيل قبل أن يأخذ أخته التي من بطن قابيل، وقابيل رفض أن يأخذ أخته التي من بطن هابيل، فقال: ﴿ لَأَقْتُلَنَّكَ ﴾ وهذه العداوة والبغضاء التي ترونها بين الذين آمنوا بالله وبين الذين لم يؤمنوا به، بين الذين استقاموا وبين الذين لم يستقيموا، بين الذين أحسنوا وبين الذين لم يحسنوا، هذه عداوة طبيعية من الأزل إلى الأبد.
﴿ وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوًّا شَيَٰطِينَ ٱلْإِنسِ وَٱلْجِنِّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍۢ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُورًا ۚ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) ﴾
حينما تعصي الله يختل توازنك لأن منهج الله متوافق مع فطرتك توافقاً تاماً :
أيها الأخوة الكرام؛ يدخل واحد على رسول الله، وهو قمة المجتمع البشري قاطبةً، قمة المجتمع البشري بكلامه السديد، بخلقه الرفيع، برحمته الواسعة، بكل ما أتاه الله من كمال، يقول: يا محمد دخلت عليك وما على وجه الأرض رجل أبغض إلي منك، والآن أغادر وما على وجه الأرض رجل أحب إلي منك.
فالعداوة بين المؤمنين وبين الطرف الآخر عداوة طبيعية، أساسها أن الإنسان حينما يعصي ربه، دققوا الآن، يختل توازنه لأنه خالف فطرته، لأنه خالف ما جبل عليه، لأنه تنكر لفطرته، قال تعالى:
﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14 ) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) ﴾
أنت حينما تعصي الله عز وجل يختل توازنك، لأن منهج الله متوافق مع فطرتك توافقاً تاماً، فسواء أخرجت عن مبادئ فطرتك، أو أنك خرجت عن مبادئ دينك، النتيجة واحدة: كآبة ما بعدها كآبة، فالإنسان حينما يعصي الله، حينما تغلبه شهوته، حينما تسيطر عليه نزوته، حينما يؤثر الدنيا على الآخرة، حينما يتنكر لإنسانيته، أيها الأخوة الكرام، الإنسان إذا فعل ذلك يختل توازنه، وإذا اختل توازنه كيف يستعيده؟ هنا يستعيد توازنه بأن يطعن بالمؤمنين، وهذا سلوك مألوف من قديم الأزمان.
الآن في البيت شاب مستقيم، منضبط، ورع، يغض بصره، صادق، دخله حلال، وأخوه في البيت نفسه، متفلت، يميل إلى كل شيء لا يرضي الله، لا يصدق، يسيء، لا يحسن، لماذا تنشأ عداوة بين الأخوين؟ مع أن الأول مسالم جداً، لأن الأول كشف الثاني، لذلك الثاني تأتي عداوته من الطرف الأول، لأنه كشف، لذلك كيف يستعيد توازنه؟ يستعيد توازنه بطريق واحد، يدقق على أخيه، لو أنه هفا هفوة لجعلها جريمة.
من فسدت عقيدته يعادي من صحت عقيدته لكن المؤمن يسالم ويسامح :
أيها الأخوة الكرام؛ الآية تقول: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ ﴾ أي نحن آمنا بأنبيائكم، آمنا برسلكم، آمنا بالسيد المسيح، آمنا بسيدنا موسى عليه السلام، آمنا بالتوراة، آمنا بالإنجيل، آمنا بالله، آمنا بوحدانيته، نحن ما فعلنا شيئاً يسيء إليكم: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ﴾ بشكل مختصر الفاسق يعادي المستقيم، والخائن يعادي الأمين، والمنحرف يعادي الذي هو على صراط مستقيم، والكاذب يعادي الصادق، والورع يعادي المتساهل، ومن فسدت عقيدته يعادي من صحت عقيدته، لكن المؤمن يسالم، ويسامح، وهو أكبر بكثير من أن يكون له عدو من بني البشر، هذا أخي في الله أنصحه، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
(( انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِماً أَوْ مَظْلُوماً، قِلنا: يا رسول الله، نَصَرْتُهُ مَظْلُوماً، فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِماً؟ قال: تَكُفّهُ عَنْ الظّلمِ، فَذَاكَ نَصْرُكَ إِيّاهُ ))
سبب معاداة الطرف الآخر للمؤمنين أنهم آمنوا بالله واستقاموا على أمره وأحبوه
قال تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ﴾ فرعون ماذا فعل؟ لأنه آمن بالله نقم عليه، الذي ألقى أصحاب الأخدود في الأخدود وحرقهم.
﴿
المشكلة أنت تعادي قاتلاً، تعادي من يسفك دماء الناس، تعادي من ينتهك أعراضهم، أما أن تعادي إنساناً ذنبه الوحيد أنه آمن بالله، آمن بخالق الأكوان، واستقام على أمره، وتقرب إليه وأحبه، وجعل مرضاته مطمح آماله، ومحط رحاله، ماذا فعل؟ هذا الموقف وقفه سيدنا نعيم بن مسعود، وكان سيد غطفان، حينما جاء ليحارب النبي في موقعة الخندق، وهو في خيمته فكر، لماذا جئت إلى هنا يا نعيم؟ لتقاتل هذا الرجل الصالح!! ماذا فعل حتى تقاتله؟! هل سفك دماً؟! هل سلب مالاً؟! هل انتهك عرضاً؟! أين عقلك يا نعيم؟ أرأيت إلى هذا الحوار الصادق، أين عقلك يا نعيم؟!
الله سبحانه وتعالى يعطي السكينة بقدر لأصفيائه المؤمنين :
يا أيها الأخوة الأكارم؛ آلاف الأعمال يفعلها الناس اليوم بلا عقل، يعادي بلا سبب، يسالم بلا سبب، يعطي بلا سبب، يمنع بلا سبب، الناس إمعة هم مع الناس إن أحسن الناس، وإن أسَاؤوا أساؤوا.
﴿ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) ﴾
قد تجلس مع إنسان لوقت قصير لا يجد حديثاً يحدثك فيه إلا عن بعض العلماء، تركت شرائح المجتمع كلها، فئات المجتمع كلها، تركت أصحاب الحرف كلهم، لا يحلو له شيء إلا أن يتصدى لمن أقامهم الله بالدعوة، أنا لا أبرئهم، ولكن لماذا هذا التركيز على من دعا إلى الله؟ لماذا هذا التركيز على من فعل شيئاً، وأنت لم تفعل شيئاً، لماذا؟ قلت لواحد منهم مرةً: لو أن كل هؤلاء الدعاة ليسوا على حق، وليسوا مخلصين، هل تنجو أنت من عذاب الله؟ لا تنجو، من هو شر مكاناً من الذي ينتقده؟ الذي أعرض عن الله كلياً، أي أنتم تنقمون منا أننا آمنا بالله، هل هذا ذنب؟ وآمنا بما أنزل إلينا من هذا الكتاب العظيم، وآمنا بما أنزل من قبل، هذا ذنبنا، وهذا سبب نقمتكم علينا، أما أنتم، قل لهم يا محمد:
الإسقاط العملي للآية السابقة على مجتمعنا :
لو انتقدت كل الدعاة إلى الله، وسفّهت آراءهم، ومحّصت في سلوكهم وانتقدتهم، وأسأت الظن بهم، هل تنجو أنت من عذاب الله؟ دعك منهم إذاً، التفت إلى نفسك هذا الإسقاط العملي لهذه الآية، هذه الآية عن أهل الكتاب، وعن علاقتهم بالمؤمنين، ولكن الإسقاط العملي لهذه الآية على مجتمعنا أنك حينما تنتقد داعية، وقد تكون مصيباً هل تنجو أنت من عذاب الله؟ هل يعد هذا خطأ؟ هذا الذي نصب نفسه للدعوة إلى الله، هل هذا الخطأ يبرر انحرافك؟ وأكلك المال الحرام؟ ومجاوزتك لحدود الله عز وجل، لذلك هذا الذي يعادي أهل الحق، ولا يأتمر بأمر الله، ولا يستقيم على أمره، ولا يقدم لآخرته شيئاً، هذا شر مكاناً عند الله من هذا الذي قدم شيئاً، وقد جانب الصواب أحياناً.
مرة سألني إنسان عن شخص وأنا لا أحب أن أجرّح أحداً، قلت له: أقدم لك قاعدة: لو أنك التقيت بسيد الخلق وحبيب الحق افتراضاً، لو التقيت بسيد ولد آدم، لو التقيت بالذي كمله الله عز وجل، وعصمه عن أن يخطئ في أقواله وأفعاله وإقراره، التقيت معه وجهاً لوجه، وصاحبته، ولم تطبق منهجه إطلاقاً، هل تنتفع به؟ قال: لا، لو التقيت بإنسان لا تعرف أنه غير صادق، قال لك: يا بني استقم، فاستقمت، أدِّ الذي عليك، أديت الذي عليك، غض بصرك، غضضت بصرك، ألم تنتفع من هذا، وقد يكون هذا ليس على صواب، وليس صادقاً، وليس مستقيماً، ماذا تستنبط من هذه المفارقة الحادة؟ أنك لم تنتفع بمنهج سيد الخلق، وانتفعت بإنسان منحرف، المقصد من هذا المثل أن المعول عليه أنت، أنت محاسب عما سمعت، والذي ألقى الدرس محاسب عما قال، لك حساب، وله حساب، حسابك: هل طبقت ما جاءك به من البينات؟ قال لك: افعل وهذا الدليل، لا تفعل وهذا الدليل، ولا يستطيع إنسان كائن من كان أن يقول برأيه في الدين ، انظروا عمن تأخذون هذا الحديث فإنما هو دينكم .
(( يا ابنَ عمرَ ! دينُك دينُك، إنَّما هو لحمُكَ و دمُكَ، فانظُر عمَّن تأخذُ، خُذ عنِ الَّذينَ استَقاموا، و لا تأخُذ عن الَّذينَ مالوا ))
الذي تنمو شهوته وتسيطر على كل شيء يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل :
أنت تسأل: ماذا فعلت مما قيل لك؟ والذي قيل لك مدعم بالأدلة والشواهد، والذي ألقى الكلام، ألقى العلم، له حساب خاص، هل طبقت الذي تقوله؟ هل كنت ملتزماً بما تقول؟ هل كنت قدوة لما تقول؟ فالمعول عليه أنت، دعونا من هذه المشاحنات، وهذه التقييمات، وهذه الاتهامات، دعونا منها، وليلتفت كل واحد منا إلى علاقته بربه، وإلى مصيره عند ربه، وإلى مدى التزامه بمنهج ربه:
ينبغي أن نكثر من ذكر الموت وأن نعد أعمارنا عداً تنازلياً :
أيها الأخوة، في بعض البرامج التي تهدف إلى رفع قدرة الإنسان هناك مقولة رائعة: ابدأ من النهاية، نحن جميعاً في هذا المسجد المبارك إن شاء الله نهايتنا جميعاً أن نكون تحت الأرض من وقت لآخر، لكن بالتأكيد بعد مئة وخمسين سنة ليس منا واحد من هؤلاء الحاضرين، وأنا معكم فوق سطح الأرض، بالتأكيد، هذه النهاية، النهاية:
عش ما شئـت فـإنك مـيت
وأحبب ما شئت فإنك مفارقـه
واعمل ما شئت فإنك مجزي به
* * *
لو أن كل واحد منا بدأ من النهاية، سوف أترك هذا البيت، وأترك هذه التجارة، أترك هذه الزوجة، وهؤلاء الأولاد، وهذه المركبة، وسوف أترك كل ما عندي، أترك أموالي ومقتنياتي، وسوف أدس في التراب، ما ينبغي أن أفعل حتى أكون في التراب مكرماً؟ ابدأ من النهاية، أكثر من ذكر الموت، وينبغي أن نعد أعمارنا عداً تنازلياً، ليقل كل منا لنفسه: كم بقي لي؟ لا ينبغي أن يقول: كم مضى من عمري، العد التصاعدي فيه إيهام، أما العد التنازلي فيه رهبة، كم بقي لي؟ مضى خمسون، في الأعم الأغلب لم يبقَ بقدر ما مضى، فإذا مضى الذي مضى كلمح البصر، فالذي بقي يمضي أيضاً كلمح البصر، كل واحد منا يجري إحصاء، كم من إنسان من أقربائه توفي في حياته؟ واللهِ مرة اطلعت على دليل هاتف أكثر من عشرين شخصاً في هذا الدليل توفاهم الله عز وجل، عشرون شخصاً، وكل يوم نودع بعضنا بعضاً، أعرف أخاً كريماً دخل إلى غرفته ليكتب بعض المقالات، واستأذنته زوجته أن تذهب لتنام، في الصباح دخلت عليه فإذا هو ميت، قد يأتي الليل ولا نعيش فيه إلى النهار، وقد يأتي النهار ولا نعيش في اليوم إلى الليل:
الدنيا ساعة اجعلها طاعة النفس طماعة عودها القناعة
* * *
قرد على خنزير على عابد للطواغيت، وصف جامع مانع لهذا الإنسان.
البطولة لا في الدخول ولكن في الخروج ينبغي أن تدخل صادقاً وأن تخرج صادقاً :
قال تعالى:
﴿ وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ(61) ﴾
أيضاً في صفة النفاق، كلما تقدم الإنسان في حياته يتقن فن التمثيل، فالإنسان حينما يعبد ذاته، ويعبد مصالحه يعنيه أن يرضي معظم الناس، لذلك يجامل أهل الإيمان.
﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) ﴾
فهذا الإنسان الشارد له ألف لون ولون، يرضي هؤلاء المؤمنين، ويرضي هؤلاء المنحرفين، هو مع المرابين، ومع الورعين، ومع المخلصين، ومع غير المخلصين هو هدفه أن يحقق مصالحه، لذلك:
﴿
البطولة لا في الدخول، ولكن في الخروج، ينبغي أن تدخل صادقاً، وأن تخرج صادقاً.
حينما تؤمن أنه لا تخفى على الله خافية تستقيم على أمره :
قال تعالى:
﴿ وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) ﴾
هذا الإنسان حينما يغفل عن الله، ويشرد يقوم بأعمال لم يدرك أخطارها، ولا مضاعفاتها، يتكلم كلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم سبعين خريفاً. ألا تذكرون أن السيدة عائشة قالت عن أختها صفية قصيرة، قال لها عليه الصلاة والسلام:
(( لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته ))
يتكلم كلمة يتهم إنسانة محصنة، وقذف محصنة كما قيل يهدم عمل مئة سنة، يوقع بين أخوين، بين زوجين، بين شريكين، يروج الكفر، يروج النفاق، يثني على العصاة، يكفي أن تقول: فلان لا يصلي، ولا يأتمر بما أمر الله، ولا ينتهي عمل نهى الله عنه، لبق، لطيف، صاحب ذوق رفيع، فهيم، أين الدين؟ تجاهلت دينه كله، إذا سمع ابنك هذا الثناء الكبير، وهو يرى أن هذا الذي تثني عليه قد يشرب الخمر أحياناً، وليس هناك انضباط بحياته، أنت ماذا فعلت؟ يتكلم كلاماً لا معنى له، يتحرك حركة مشبوهة، ينغمس في مستنقع آثم، يقول ما لا يعلم، يتهم صادقاً، يكذب صادقاً، يصدق كاذباً، يخون أميناً، يؤمن خائناً.
الإثم والعدوان وأكل السحت :
قال تعالى:
أمراض أهل الكتاب نحن مرشحون أن نقع فيها واحداً وَاحداً :
أيها الأخوة، حينما يحدثنا ربنا جل جلاله عن أهل الكتاب، ليس القصد أهل الكتاب ولكن القصد نحن، لأن كل الانحرافات العقدية والسلوكية التي وقعوا بها نحن كمسلمين مرشحون أن نقع بها، فكأن الله عز وجل يريد أن يلفت نظرنا إلى أن هذه الانحرافات في العقيدة والسلوك يمكن أن يقع بها المسلمون، والدليل مثلاً:
﴿
والمسلمون اليوم يفهمون بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فهماً سطحياً وساذجاً، يقولون: افعل ما شئت والنبي يشفع لك، الفكرة واحدة.
﴿ إِنَّمَا أَهْلَكَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَنّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشّرِيفُ تَرَكُوهُ،وإذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدّ ﴾
فحينما لا يعاقب إلا الضعيف وينجو من العقاب القوي فنحن وقعنا في مرض آخر من أمراض بني إسرائيل، وإنما أهلك الله بني إسرائيل أنهم:
﴿
حينما نكف اللسان مطلقاً عن أي إنكار لمنكر، وعن أي أمر بمعروف وقعنا في انحرافاتهم، وحينما قال اليهود:
﴿ إِذْ أَخَذْنَا مِيثَٰقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍۢ وَٱسْمَعُواْ ۖ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ۚ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِۦٓ إِيمَٰنُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (93) ﴾
ولسان حال المسلمين: سمعنا وعصينا، فنحن مثلهم، أمراض أهل الكتاب نحن مرشحون أن نقع فيها واحداً وَاحداً، وها أنا قد ذكرت لكم بعضاً من هذه الأمراض، وقد تماثلت بيننا وبينهم، فلذلك حينما يحدثنا ربنا عن هؤلاء أي أنكم معرضون لانحرافات كهذه الانحرافات، نسأل الله جل جلاله أن يعفو عنا، وأن يلهمنا رشدنا.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين