- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (005)سورة المائدة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا بما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا إتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
اللغة في طبيعتها تقوم على الإسناد :
أيها الأخوة المؤمنون؛ مع الدرس السادس والعشرين من دروس سورة المائدة، ومع الآية الخمسين، وهي قوله تعالى :
﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) ﴾
أيها الأخوة الكرام؛ الكلمة في اللغة تدل على معنىً، فإذا قلت: جبل، قفز إلى ذهنك معنى الجبل، أو قفزت إلى ذهنك صورة الجبل، فهناك اسم، وهناك مسمى، فالاسم يشير إلى المسمى، هذه حقيقة مسلم بها في اللغة، لكن الكلمة وحدها لا تفيد معنىً تاماً، لو أنك قلت: جبل، ما شأنه؟ أي جبل، ماذا حصل؟ فالكلمة من دون أن يأتي بعدها خبر لا تدل على معنىً مفيد، دقق في حديثك اليومي، أحياناً تقول لواحد: أرأيتني مع الرجل البارحة؟ وكان طويل القامة، أشقر اللون، يرتدي ثياباً داكنة، يقول لك: ما شأنه؟ لقد مات، مثلاً، فالكلمة من دون خبر لا تؤدي معنى تاماً، حينما تنطق بكلمة واحدة قد تشير إلى معنى، أو إلى ذات، ولكن ليس هناك معنى مفيد تام إلا إذا أسندت الكلمة إلى خبر، فاللغة كلها هي إسناد، لأن البهيمة حينما تغيب الشمس تعود إلى حظيرتها، فإدراك الأشياء لا يحتاج إلى لغة، أما اللغة فوظيفتها الحكم، أو الإسناد، أو الإضافة، أو النسبة، كلها كلمات أسماء لمسمى واحد، تقول: خالد، ما شأنه؟ مجتهد، نسبت الاجتهاد إلى خالد، تقول: خالد حضر، نسبت الحضور إليه، فلا بد من مسند ومسند إليه، لا بد من علاقة، اللغة تقوم على علاقة، أما أن تكون اللغة مفردات ليس غير لا يحتاج الناس إليها، لأنهم يدركون الحقائق والأشياء بديهة من دون لغة، لذلك الحكم أن تحكم على شيء بشيء، أن تحكم على فلان بأنه بخيل، فلان قابض اليد، أن تحكم على فلان بأنه شجاع، لك أن تقول، أن تحكم عليه، أو أن تنسب إليه، أو أن تصفه، أو أن تخبر عنه، هذه كلمات تؤدي معنىً واحداً. فاللغة في طبيعتها تقوم على الإسناد، تقوم على النسبة، لاحظ كلامك، تقول: الجو حار، الأمطار في هذا العام غزيرة، الأسعار مرتفعة، فرضاً، الناس متفلتون، ليس من لغة ولا من تعبير إلا أساسه مسند ومسند إليه، مبتدأ وخبر، فعل وفاعل.
مطابقة الواقع دليل العلم وقناعتك دليل الإيمان أو النفاق :
أيها الأخوة؛ هذه العلاقة بين المبتدأ والخبر، بين الاسم والصفة، بين الفعل والفاعل، هذه العلاقة بين المسند والمسند إليه هذه علاقة إن كانت قطعية، أي العلاقة مئة بالمئة، هذه علاقة نسميها علاقة مقطوع بصحتها، وإذا غلب الإثبات على النفي نقول: هذه علاقة ظنية، وإذا تساوى الإثبات مع النفي نقول: علاقة شك، وإذا قوي النفي، وضعف الإثبات فالعلاقة بين المبتدأ والخبر علاقة وهم، وبين الفعل والفاعل، وبين المسند والمسند إليه، إما علاقة قطع، أو علاقة ظن، أو علاقة شك، أو علاقة وهم.
الآن ما هو العلم؟ علاقة أو مسند ومسند إليه، أو مبتدأ وخبر، أو فعل وفاعل، أو علاقة مقطوع بصحتها، نعتقدها ومعنا عليها دليل، هذا هو العلم، علاقة مقطوع بصحتها، نعتقدها، ويؤيدها الواقع، وعليها دليل، فإن لم نأتِ بالدليل فهذا هو التقليد، الفرق بين العلم والتقليد أن التقليد قد يقلد الإنسان حقيقة يعتقدها، ويؤمن بها، وهي صحيحة ومقطوع بها، لكنه لا يملك الدليل عليها، فلو قال طفل: لا إله إلا الله، هو ينطق بها، ويعتقدها، وهي صحيحة، ومقطوع بها، لكن الطفل لا يملك التأكيد، ولا التدليل، ولا إيراد أدلة، ولا براهين عليها.
الآن إذا اعتقدت شيئاً، ولم يطابق الواقع فهو الجهل، نحن نظن خطأ أن الجاهل لا يعلم، الجاهل ممتلئ علاقات، لكنها غير صحيحة، أما الأمي فهو الذي لا يعلم، وعاء الأمية فارغ، بينما وعاء الجاهل ممتلئ، ولكن بمقولات غير صحيحة، وهذه أكبر مشكلة في الحياة، هذا هو نصف العالم، لا هو جاهل فيتعلم، ولا هو عالم فينتفع بعلمه، لكنه نصف عالم، حفظ شيئاً فغابت عنه أشياء.
إذاً: حينما أقول كلاماً أعتقد به، وهو لا يطابق الواقع فهو جهل، حينما أقول كلاماً مطابقاً للواقع لكنني لا أعتقد به، هذا هو النفاق، مطابقة الواقع دليل العلم، وقناعتك دليل الإيمان أو النفاق، إن قنعت فأنت مؤمن، إن لم تكن قانعاً فأنت منافق، إن ملكت الدليل فأنت عالم، وإن لم تملك الدليل فأنت مقلد، وإن كانت العلاقة مقطوعاً بها فهو العلم، وإلا فهي ظن، أو شك، أو وهم، وكلمة الجاهلية منسوبة إلى الجهل أم إلى الجاهل؟ لو أنها نسبت إلى الجهل لقلنا جهلية، أما هي منسوبة إلى الجاهل، وما من مصيبة تلم بالإنسان كأن يكون جاهلاً، لأن أزمة أهل النار هي الجهل:
﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) ﴾
الجاهل عدو نفسه :
الجاهل عدو نفسه، والجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوه أن يفعله به، وأعدى أعداء الإنسان الجهل، مراتٍ ومرات سقت هذا المثل: أن إنساناً يعمل في تنظيف الطائرات رأى غرفة العجلات كبيرة جداً، فلجهله ولعدم علمه بحقيقة الطيران، وبأجزاء الطائرة، قال: أنا أقبع في هذا المكان، وأنتقل من بلد إلى بلد بلا ثمن، وبلا وثائق، وبلا جواز سفر، وبلا تأشيرة، جلس في هذا المكان، وبعد أن حلق الطيار بدقائق معدودة حرك هذا المكان فسقط الإنسان ميتاً، ما الذي قتله؟ جهله، هو ما أراد أن يموت، أراد أن يصل إلى بلد بعيد بلا ثمن، وبلا وسائل، وبلا موافقات وظن أنه أذكى من كل الناس، ولكن الذي قتله جهله.
فالجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوه أن يفعله به، لذلك الإنسان من شدة حبه لذاته ينبغي أن يتعلم، لأن كل إنسان مجبول على حب وجوده، وعلى حب سلامة وجوده، وعلى حب كمال وجوده، وعلى حب استمرار وجوده:
﴿ قُلْ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَنِ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِۦ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۖ وَمَآ أَنَا۠ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍۢ (108) ﴾
إذا قلت لكم: لا تحبوا أحداً أحبوا ذاتكم، إن أحببتم ذاتكم فينبغي أن تطلبوا العلم، وأن تعملوا به، والله عز وجل يبين أن الإنسان خاسر ما لم يؤمن ويعمل صالحاً، قال تعالى:
﴿ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3) ﴾
أي ما لم تطلب العلم، وما لم تعمل بما علمت، وما لم تدع إلى ما علمت، وما لم تصبر على طلب العلم، وتطبيقه، وتعليمه فأنت خاسر لا محالة، لأن مضي الزمن يستهلكك.
ليس الجاهل الذي لا يعلم ولكن الجاهل هو الذي يمتلئ بمقولات غير صحيحة :
أنت بضعة أيام، كلما انقضى يوم انقضى بضع منك، كبعض التأكيدات لما قلت: حينما أعلن أحدهم إسلامه قال: وأشهد أن محمداً (رسولَ) الله، قال له رجل أعرابي: و ماله ؟ أشهد أن محمداً، حينما قال: رسولَ الله – بالنصب - صفة، فأين الخبر؟ قال له: وما له؟ أما إذا قال: أشهد أن محمداً رسولُ الله، فهذا هو الخبر، المعنى ناقص ما لم يكن مخبراً عنه.
من طرائف اللغة أن فيها مفرداً وجملة، قد أقول عشرين كلمة، وهي في التصنيف مفرد، وقد أقول حرفاً واحداً، وهو في التصنيف جملة.
مثل طريف: لو أنني قلت: رئيس مجلس إدارة مؤسسة، إعادة تسيير الخط الحديدي الحجازي ، ما له؟ هذا مفرد، أما حينما أقول: قِ، حرف من وقى، يقي، قِ، والفاعل ضمير مستتر، فهذه جملة، الحرف جملة، والعشرون كلمة مفرد، المفرد لا يعطي معنى تاماً، الآن بينك وبين أقربائك، قل: فلان، واسكت، يقول لك: ما له؟ حضر، سافر، اعتمر، أدى الحج، اللغة مبنية على الخبر، على الإسناد، على الحكم.
الآن: الدين حق، هذا حكم، الدين أفيون الشعوب، أيضاً حكم، لكن الحكم الأول حق، والثاني باطل، محمد رسول الله، حكم، محمد عبقري فقط، هذا جهل، ليس عبقرياً، هو عبقري، لكن مهمته ليس عبقرياً، مهمته أنه نبي يوحى إليه. فمن هو الجاهل؟ هو الممتلئ حتى قمة رأسه بأحكام غير صحيحة، كل تفكيره غير صحيح، اجلس مع أهل الدنيا، مع الشاردين، مع كل أحكامه غير صحيحة، فالجاهل ليس الذي لا يعلم، ولكن الجاهل هو الذي يمتلئ بمقولات غير صحيحة.
حكم الإسلام هو حكم المساواة :
الله عز وجل يقول: ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ﴾ المال ينمو بالربا، المرأة مباحة لكل الرجال، هكذا كانوا في الجاهلية، كان يقول الرجل لزوجته: اذهبِي فابتضعي من فلان، فوضى جنسية، وفوضى في العلاقات، العقل لا يصدقها
﴿ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) ﴾
﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ﴾ قال بعض الصحابة: الحمد لله الذي أخرجنا من جور الحكام إلى عدل الإسلام، الأباطرة والقياصرة كانوا طغاة جبارين في الأرض، فصار المسلم يشعر بحريته وبكرامته.
سيدنا أبو بكر رضي الله عنه رأى صفوان بن أمية يعذب بلالاً فاشتراه منه، قال أمية: والله لو دفعت به درهماً لبعتكه، قال له أبو بكر: والله لو طلبت به مئة ألف لدفعتها لك، أعطيتك إياه، هذا أخي حقاً، وكان أصحاب رسول الله إذا ذكروا الصديق يقولون: هو سيدنا، وأعتق سيدنا، يقصدون بلالاً، هذا حكم الإسلام، حكم المساواة، الناس سواسية كأسنان المشط،
((
الإسلام مبادئ وقواعد وقيم :
قال تعالى:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٍۢ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْ ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) ﴾
﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبّ (1) ﴾
الإسلام مبادئ، والإسلام قواعد، والإسلام قيم ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ﴾ وحينما قال الله عز وجل:
﴿ وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَٰهِلِيَّةِ ٱلْأُولَىٰ ۖ وَأَقِمْنَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتِينَ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِعْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) ﴾
هذه إشارة إلى أن هناك جاهلية ثانية، كما ترون أن العالم يئنّ بالظلم الآن، يئن بالقتل، يئن بالقمع، يئن بالسحق، القوي يأكل الضعيف، شعار القوي: أنت قوي فأنت على حق، الحق يعني القوة فقط.
كل بطولة الإنسان أن يهديه علم اليقين إلى حق اليقين :أيها الأخوة : ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ هذا اسمه استفهام تقريري، يغلب على هذا الدرس الطابع اللغوي والبلاغي، استفهام تقريري، الآن أسألك: كم الساعة الآن؟ أنا لا أعلم كم الساعة، أسألك لأتعرف إلى الساعة، هذا استفهام حقيقي ، لكن إنساناً أحسن إلى إنسان إحساناً لا حدود له، وهذا الإنسان جحد إحسان المحسن، إذا قال المحسن لفلان: ألم أحسن إليك؟ هذا استفهام تقريري، أي أنا أحسنت إليك، ألم أنقذك من كذا وكذا؟ ألم أعطك كذا وكذا؟ الاستفهام التقريري حقيقة يقر بها الطرف الآخر، لكن سيقولها مضطراً، وهي أبلغ مما لو أخبرتك بها، لو فرضنا إنساناً اتهم إنساناً آخر أحسن إليه بالجحود قال له: من أخرجك من السجن؟ هو يعلم علم اليقين أن المحسن هو الذي أخرجه من السجن، يقول: أنت، فإذا نطق المنكر بالحقيقة فهذا أبلغ من أن ينطق بها الطرف الأول: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ .
أخواننا الكرام؛ اليقين درجات، هناك علم اليقين، وهناك عين اليقين، وهناك حق اليقين، لعل علم اليقين هو يقين العقل، أنت إذا نظرت إلى جدار، ورأيت خلفه دخاناً، بحسب قوانين الأرض تقول: لا دخان بلا نار، أنت موقن عقلاً أن وراء الجدار ناراً، لكنك لم ترَ النار بل رأيت دخانها، لا دخان بلا نار، هذا يقين عقلي، أما إذا ذهبت إلى وراء الجدار، ورأيت النار رأي العين فهذا عين اليقين، أما إذا اقتربت منها، وشعرت بوهج النار فهذا حق اليقين، فمن اليقين، إلى عين اليقين، إلى حق اليقين، فالإنسان إذا أخبره الله وهو أصدق القائلين أن هناك ناراً بعد الموت، هذا علم اليقين، فإذا سار على الصراط، ورأى النار بعينه، لكنه نجا منها فهذا عين اليقين، فإذا ألقي فيها، وأحرقت جلده فهذا حق اليقين، كل بطولة الإنسان أن يهديه علم اليقين إلى حق اليقين، علم اليقين متوافر في الدنيا، لكن الناس بعد أن يغادروا الدنيا يعاينون الحقيقة :
﴿ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)﴾
الإنسان خياره مع الإيمان خيار وقت لا خيار قبول أو رفض :
فرعون حينما أغرقه الله بلغ حق اليقين قال:
﴿ وَجَٰوَزْنَا بِبَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ ٱلْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُۥ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَدْرَكَهُ ٱلْغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱلَّذِىٓ ءَامَنَتْ بِهِۦ بَنُوٓاْ إِسْرَٰٓءِيلَ وَأَنَا۠ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ (90)﴾
الإنسان خياره مع الإيمان خيار وقت لا خيار قبول أو رفض، وقت فقط، فإما أن نؤمن في الوقت المناسب، ونحن أقوياء، أصحاء، أشداء، أغنياء، وإما أن نؤمن بعد فوات الأوان، وحينئذ:
﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّآ أَن تَأْتِيَهُمُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِىَ بَعْضُ ءَايَٰتِ رَبِّكَ ۗ يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءَايَٰتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَٰنُهَا لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِىٓ إِيمَٰنِهَا خَيْرًا ۗ قُلِ ٱنتَظِرُوٓاْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ (158) ﴾
﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ المؤمن مع اليقينيات لا مع الظنون، معه الحجة البالغة، الأمور واضحة.
﴿ قَالَ يَٰقَوْمِ أَرَءَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍۢ مِّن رَّبِّى وَءَاتَىٰنِى رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِۦ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَٰرِهُونَ (28) ﴾
باليقين : ﴿ وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾ انظر:
اليقين أكبر نعمة خصها الله بالمؤمن :
المؤمن معه اليقين، معه الحجة، الأمور واضحة، رؤيته صحيحة، بصره ثاقب، نظره عميق، هذه أكبر نعمة خصها الله بالمؤمن، ليس هناك ضلال، وليس هناك شك، وليس هناك حيرة. وليس:
جئت من أين؟ ولكنني أتــــيت فرأيت قدامي طريقاً فمشـيت
أين كنت؟ أين صرت؟ لست أدري! ولماذا لست أدري لست أدري
* * *
هذا حال أهل الدنيا، ليس عندهم يقينيات، قاعدتهم: لا نعرف.
زعم المنجم والطبيب كلاهما لا تبعث الأموات قلت إليكمــا
إن صح قولكما فلست بخاسر أو صح قولي فالخسارة عليكما
* * *
هناك آخرة، وهذه نعمة، وإذا ليس هناك الله فمشكلة.
﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ (6)
﴾
المؤمن باليقين، وكأنه يرى:
﴿
معنى ذلك أنه لم يأتِ، أما،
حينما اتخذ المسلمون اليهود والنصارى أولياء ضاع منهم كل شيء :
أيها الأخوة: يقول الله عز وجل:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) ﴾
طبعاً هذه الآية نعيشها، ولا تحتاج إلى شرح، لأن المسلمين حينما اتخذوا اليهود والنصارى أولياء ضاع منهم كل شيء، لكن الذي يلفت النظر
الولاء والبراء :
هذا الموضوع يقودنا إلى الولاء والبراء، الولاء أن توالي المؤمنين، أن تحبهم، أن تنصرهم، أن تنصحهم، أن تحمل همومهم، أن تخفف عنهم، أن تنتمي إليهم، ألا تستحي بهم.
(( إِنَّ اللهَ لم يبعَثْنِي طعَّانًا ، ولا لعَّانًا ، ولكن بعَثَني داعِيًا ورحمَةً ، اللهم اهدِ قوْمِي فإِنَّهم لا يعلمونَ ))
هذا هو الولاء. والبراء أن تتبرأ من الطرف الآخر، ولو كانوا أقوياء، ولو كانوا أغنياء، ولو كانوا مصدر رزقك، لذلك المؤمن يوالي المؤمنين، ولو كانوا ضعافاً وفقراء، ويتبرؤون من الطرف الآخر، ولو كانوا أغنياء وأقوياء، لأنهم حيال أهل الأيمان بعضهم أولياء بعض، لأنهم يتعاونون، ويتناصرون، ويدلي بعضهم لبعض النصيحة في طريقة السيطرة على المسلمين
في القرآن دقة ما بعدها دقة :
أيها الأخوة؛ أقول مئات المرات: إن لم تكن طرفاً في مؤامرة قذرة هدفها إفقار المسلمين، أو إضلالهم، أو إفسادهم، أو إذلالهم، فأنت في خير، يجب أن تنتمي إلى هؤلاء المؤمنين، ولو لم يكونوا أقوياء كما تتمنى، ولو لم يكونوا متفوقين في الدنيا كما تتمنى، لكنهم قومك، بدل أن تنسحب منهم، بدل أن تنتمي إلى أعدائهم، خذ بيدهم، وقل: يا رب أعني على تخفيف الظلم عنهم.
﴿
في القرآن دقة ما بعدها دقة، قال تعالى:
﴿
المسارعة إلى الشيء غير المسارعة في الشيء
الآيات التالية تعلل وتبرر الخضوع والاستسلام للطرف الآخر :
قال تعالى :
﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) ﴾
أيها الأخوة؛ ذكرت اليوم في الخطبة أن كل هذه المحن التي لا حصر لها، والتي تصيب المسلمين في شتى بقاع الأرض، وكأن حرباً عالمية ثالثة معلنة على هذا الدين، إنها رسالة من الله، من أجل أن نغيّر، لأن الله يحبنا، يحب لنا جنة عرضها السماوات والأرض، يحب أن نصطلح معه، يحب أن يتوب علينا، يريد أن نغادر الدنيا ونحن أنقياء، لذلك نحن في العناية المشددة، نحن في العناية الإلهية المشددة، هذا الضغط الذي لا يحتمل على المسلمين من أجل أن نغيّر، لأن الله لا يغيّر حتى نغيّر .
﴿ لَهٗ مُعَقِّبٰتٌ مِّنْۢ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهٖ يَحْفَظُوْنَهٗ مِنْ اَمْرِ اللّٰهِ
آيات ثلاثة في سورة المائدة تصف العالم الإسلامي في أدق تفاصيل حياته :
آيات ثلاث في سورة المائدة تصف العالم الإسلامي في أدق تفاصيل حياتهم
﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)﴾
العبرة في العاقبة والله سبحانه وتعالى لا يتخلى عن عباده المؤمنين :
قال تعالى:
﴿ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ۖ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) ﴾
العبرة في العاقبة، والله سبحانه وتعالى لا يتخلى عن عباده المؤمنين، لكننا في محنة شديدة.
﴿ إِذْ جَاؤُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَا بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً (11) وَإذْ يَقُوُلُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) ﴾
وهناك أناس لا يعدُّون ولا يحصون يقولون: أين الله؟ ألسنا مسلمين؟ أين وعود الله عز وجل؟ لكن الله عز يقول:
﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) ﴾
هذا هو الثبات على الحق.
(( يا عمَّاهُ ، واللهِ لَو وَضعوا الشَّمسَ في يميني والقمرَ في شمالِي علَى أن أتركَ هذا الأمرَ حتَّى يُظهرَه اللهُ أو أهلِكَ فيه ما تركتُهُ . ))
النصر المبدئي أن تموت مؤمناً كما مات أصحاب الأخدود :
قال تعالى:
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ (18) ﴾
﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) ﴾
﴿ أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) ﴾
لا يستوي الذين آمنوا والذين لا يؤمنون :
هذه الآيات أيها الأخوة تدعونا إلى أن نؤمن بكل خلية في أجسامنا، وبكل قطرة في دمائنا أنه كلام الله، لأن الله يصف ما يجري في دقة بالغة.
لا تستطيع جهة في الأرض مهما قويت أن تحول بين الله وهدايةِ خَلقه :
الآن حينما يضعف إيمان الإنسانِ يقول: أخاف، أخشى أن تلحقني دائرة، هو يخضع، ويغيّر المناهج، ويلغي دروس العلم خوفاً من أن تصيبهم دائرة، لكنه نسي أن الأمر بيد الله، وأن الأمر كله بيد الله، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشاء لم يكن، وأنه:
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ
﴿
وما أمرنا أن نعبده إلا بعد أن طمأننا
﴿ أَلَا تُقَٰتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوٓاْ أَيْمَٰنَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ ٱلرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ أَتَخْشَوْنَهُمْ ۚ
دورة الحق والباطل أطول من عمر الإنسان :
وفي درس قادم إن شاء الله نتابع الآيات التي تبدأ بقوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)﴾
ضعاف الإيمان عند الشدائد يضعف إيمانهم، وقد يفقدون إيمانهم، ويتبعون القوي خوفاً منه، لكن المؤمنين لا يرتدون عن دينهم، لأنهم يحبون الله والله يحبهم، الذي يحب الله لا يرتد عن دينه، والله عز وجل له امتحانان صعبان جداً، الامتحان الأول يقوي الكافر ويقوّيه حتى يفعل ما يقول، ويفعل ما يريد، إلى أن يقول ضعيف الإيمان: أين الله؟ نحن جاء دورنا في هذا الامتحان، ثم يقوي المؤمن، ويقويه حتى يقول الكافر: لا إله إلا الله، فاصبروا أيها الأخوة، ودورة الحق والباطل أطول من عمر الإنسان، فإذا عاش إنسانٌ عشر سنوات هل يستطيع أن يدرك رمضان في الصيف مرتين؟ لا مرة واحدة، رمضان يأتي في الصيف كل ست وثلاثين سنة مرة، فإذا عاش إنسانٌ عشر سنوات فعمره القليل لا يتيح له أن يدرك رمضان في الصيف مرتين، هذا مثل تقريبي، ودورة الحق والباطل أطول من عمر الإنسان، لذلك قال تعالى:
﴿
ربما لا يتاح للنبي عليه الصلاة والسلام أن يكحل عينيه برؤية انتصار المؤمنين، ولكن هذا الدين دين الله، ولا تقلق عليه، ولكن اقلق على نفسك، ما إذا سمح الله لك أو لم يسمح أن تكون من جنوده، والمؤمن يعمل ويتوكل، ولا تأخذه في الله لومة لائم، ويقول: حسبي الله ونعم الوكيل، ويسعى جهده للتخفيف عن المسلمين، وحمل همهم، إسداء النصح إليهم، والعمل على إسعادهم، والله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين