- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (005)سورة المائدة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا بما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا إتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
النبي عليه الصلاة والسلام من بين جميع الأنبياء والمرسلين لم ينادَ باسمه :
أيها الأخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثاني والعشرين من دروس سورة المائدة، ومع الآية الإحدى والأربعين، وهي قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنْ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) ﴾
أيها الأخوة الكرام؛ أنبياء الله جل جلاله خوطبوا ونودوا بأسمائهم؛ يا زكريا، يا يحيى، يا إبراهيم، إلا أن النبي عليه الصلاة والسلام من بين جميع الأنبياء والمرسلين لم ينادَ باسمه، بل نودي بكلمة يا أيها النبي و ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ ﴾ وهذا تكريم له وأي تكريم، لأن رسالته ألغت كل الرسائل السابقة، ولأنه سيد الأنبياء والمرسلين ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ﴾ النبي بشر، لولا أنه بشر وتجري عليه كل خصائص البشر لما كان سيد البشر، لأنه بشر، وانتصر على بشريته كان سيد الأنبياء والمرسلين.
البشر خلقوا من أجل أن يكونوا على شاكلة محمد فهو قدوة البشر :
الذين قالوا: إن الكون خُلق من أجل محمد شطحوا، لكن البشر خلقوا من أجل أن يكونوا على شاكلة محمد، فهو قدوة البشر، وهو القدوة الذي جعل الله حياته كلها تشريعاً، فأقواله تشريع، وأفعاله تشريع، وإقراره تشريع، وصفاته تشريع، رسالته خاتمة، ورسالته ناسخة، ناسخة وخاتمة، وهو قمة بني البشر، وهو سيد الأنبياء والمرسلين، وسيد ولد آدم ولا فخر، كما قال عليه الصلاة والسلام، ولم ينادَ باسمه، اسمه جاء خبراً:
﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ ۚ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَىٰهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَٰنًا ۖ سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِى ٱلتَّوْرَىٰةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِى ٱلْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْـَٔهُۥ فَـَٔازَرَهُۥ فَٱسْتَغْلَظَ فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِۦ يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا(29) ﴾
أما إذا ناداه الله عز وجل:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ ۖ تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أَزْوَٰجِكَ ۚ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (1) ﴾
﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ ﴾ إذاً هناك تفوق، وهناك تميز، وهناك نسخ للشرائع السابقة، وهناك شريعة هي خاتمة الشرائع إلى يوم القيامة ﴿ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ﴾ .
فرق كبير بين سارع إلى الشيء وسارع في الشيء :
أيها الأخوة الكرام؛ قد يسأل سائل: لمَ لمْ يقل الله عز وجل: أولئك الذين يسارعون إلى الكفر، لو أن الآية: يسارعون إلى الكفر فهم كانوا في موقع آخر غير الكفر، كانوا مؤمنين، لكنهم سارعوا إلى الكفر، المعنى ليس كذلك، هم لم يؤمنوا أصلاً، إلا أنهم كانوا في الكفر، فلما جاءت هذه الرسالة سارعوا إلى مزيد من الكفر، فلا بد من استخدام كلمة (في)
﴿
﴿ سَابِقُوٓاْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ ٱلسَّمَآءِ وَٱلْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ ۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ (21) ﴾
الأداة
عصمة النبي بالمعنى السلوكي أنه لا يسمح لجهة كائنة من كانت أن تنال منه :
أيها الأخوة الكرام؛ هؤلاء الذين أرسل إليهم كانوا يحزنونه لعنادهم وإبائهم أن يؤمنوا، لكن الله سبحانه وتعالى يطمئن نبيه مرتين، يطمئن نبيه أن هؤلاء الذين لم يؤمنوا بك وهم أقوياء، وهم سادة قريش، لن يستطيعوا أن ينالوا منك لأنك معصوم، قال تعالى:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُۥ ۚ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْكَٰفِرِينَ (67) ﴾
ولا يقبل المنطق أن الله يرسل رسولاً إلى أناس، ثم يسلمه إليهم، خالق هذا الكون، مبدع هذا الكون هو القوي، لا يسمح لأعدائه أن ينالوا من أنبيائه، لذلك أخبره الله عز وجل أنه يعصمه من الناس، وعصمة النبي بالمعنى السلوكي أنه لا يسمح لجهة كائنة من كانت أن تنال منه، إذاً: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ﴾ لا تخف منهم، لأنهم بيد الله، وليس إلا الله، وليس لك من الأمر شيء.
﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) ﴾
﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍۢ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُغْشِى ٱلَّيْلَ ٱلنَّهَارَ يَطْلُبُهُۥ حَثِيثًا وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَٰتٍ بِأَمْرِهِۦٓ ۗ أَلَا لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَٰلَمِينَ (54) ﴾
لا تخف منهم، لا تخف أن يطفئوا نور الله، هذا الذي يتوهم أنه يستطيع إلغاء الدين إنسان في منتهى الغباء، الله عز وجل يقول في آية أخرى:
﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) ﴾
بربكم لو أن واحداً من الناس توجه إلى قرص الشمس، ونفخ ليطفئ لهيبها ألا نشك في عقله؟ فإذا كان البشر مجتمعين عاجزين عن أن يطفئوا نور الله، فهل يستطيع واحد أن يحول بين الله وهداية خلقه؟!
لاتستطيع جهة في الأرض مهما قويت أن تحول بين الله وهداية خلقه :
الآن وقد كثر الحديث عن ضغوط توجه إلى العالم الإسلامي ليغير مناهجه، وليلغي العبادات التي جاء بها الدين، هل تعتقدون أن جهة في الأرض مهما قويت، ومهما تضخم شأنها، ومهما استعلت، ومهما تغطرست، تستطيع أن تحول بين الله وهداية خلقه؟ هذا من سابع المستحيلات، لكن الله يسمح للطرف الآخر أن يهدد وأن يتوعد ليمتحن إيمان المؤمنين.
﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) ﴾
﴿ مِن دُونِهِۦ ۖ فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ(55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (56)﴾
﴿ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17) ﴾
الله عز وجل يريد أن يطمئن نبيه لأنه بشر :
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ ﴾ على عنادهم وعلى كفرهم لا تقلق من مؤامراتهم، لا تنظر إلى قوتهم، هم أقوياء ولكن الله أقوى منهم، الله عز وجل يريد أن يطمئن نبيه لأنه بشر، قال عليه الصلاة والسلام:
(( لقد أوذيت في الله، وما يؤذى أحد، وأخفت في الله، وما يخاف أحد، ولقد أتت علي ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال ))
إنه بشر، ولأنه بشر وجرت عليه كل خصائص البشر، وانتصر على بشريته كان سيد البشر، لكن الله يعامله كبشر، يطمئنه، لا تقلق.
﴿ قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى (45) ﴾
على فرعون:
﴿ قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) ﴾
لو أراد الله أن يقهر الناس على الإيمان به وعلى طاعته لكان ذلك يسيراً عليه :
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ﴾ لا تحزن خوفاً منهم، ثم إن هناك معنى آخر: لا تحزن خوفاً عليهم إنهم مخيرون.
﴿ وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلظَّٰلِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍۢ كَٱلْمُهْلِ يَشْوِى ٱلْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقًا(29) ﴾
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) ﴾
لو أراد الله أن يقهر الناس على الإيمان به وعلى طاعته لكان ذلك على الله شيئاً يسيراً.
﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً
ولكنه أراد أن نأتيه محبين، مختارين، طائعين.
الفرق بين العبيد والعباد :
لو أن عبداً شرساً كذوباً شروداً ربطه بسلاسل، فإذا طلبته شدت السلسة فجاءك، وازن بينه وبين إنسان حر طليق، لمجرد أن تناديه يكون أمامك، أيهما تحب؟ تحب الثاني، الذي يأتيك طوعاً، يأتيك عن حب، يأتيك عن تقدير، لذلك حينما نقرأ قوله تعالى:
﴿ مَّنْ عَمِلَ صَٰلِحًا فَلِنَفْسِهِۦ ۖ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ۗ
العبيد جمع عبد، وحينما تقرأ قوله تعالى:
﴿
ألم يخطر في ذهنك الفرق بين العبيد والعباد؟ العبيد جمع عبد، والعباد جمع عبد، واختلاف المبنى دليل اختلاف المعنى، قال بعض علماء التفسير: العبيد جمع عبد القهر، أي إنسان كائناً من كان، مسلماً أو كافراً، مستقيماً أو عاصياً، مؤمناً أو ملحداً، هو عبد لله، هو عبد قهر، قطر الشريان التاجي بيد الله، سيولة الدم بيد الله، نمو الخلايا بيد الله، والله عز وجل في آية ثانية يجعل الإنسان جثة هامدة.
﴿ إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) ﴾
فكل إنسان كائناً من كان، مسلماً كان أو كافراً هو عبد لله، شيئاً بمعنى أنه مقهور بحكم الله، هذه الحقيقة تغيب عن الأقوياء الجهلاء، في أية لحظة أنت في قبضة الله، مليون سبب تصبح به جثة هامدة، تستمع أحياناً إلى موت مفاجئ، سكتة دماغية، سكتة قلبية، حادث، تشمع كبد، فشل كلوي، التهاب بالأعصاب حاد، فالله عز وجل قاهر عباده، فكل عباده عبيد له قهراً، لكن كلمة عباد التي هي جمع عبد فهو عبد الشكر، هذا الذي عرف الله مختاراً، هذا الذي أقبل عليه مشتاقاً، هذا الذي أطاعه وهو قوي، وهو في مقتبل حياته، هذا العبد يجمع على عباد
الإيمان محله القلب والإسلام محله الجوارح :
إذاً يا محمد لا تحزن بسبب خوفك منهم، فإنهم في قبضتي، ولا تحزن بسبب خوفك عليهم، فإنهم مخيرون، أنا لا أريد طاعة قسرية، الطاعة القسرية لا تسعد الطائع، يريد الله إنساناً يحبه ويطيعه. لذلك يقول الله عز وجل:
﴿
هؤلاء
إيمان المنافقين :
قال تعالى:
فهؤلاء الكفار الذين عاشوا مع النبي، والذين أبوا أن يؤمنوا به، ثم آمنوا بألسنتهم لا بقلوبهم، تحقيقاً لمصالحهم، أو تحقيقاً لمصالح الطرف الآخر، قال تعالى:
المؤمن يطبع على الخلال كلها إلا الكذب والخيانة :
أنت إذا أتيت بمنشار وقدوم، وقطعت خشبة تسمى ناجر ، لا تسمى نجاراً، النجار الذي اتخذ النجارة حرفة، له خبرات متراكمة، الإنسان قد يسمع الكذب، المؤمن قد يكون في مكان فيسمع الكذب إلا أنه لا يقبله، فإذا استطاع رده، لكن المنافق من خصائصه أنه سماع للكذب، اتخذ من سماع الكذب صفة له، يستمع إلى الكذب، وينطق بالكذب، ويرحب بالكذب، ويروج الكذب، فالإنسان حينما يتخذ الكذب أداة يسمعه، يرحب به، يثني عليه، ينطق به، يعظم الكذابين، ويحقد على الصادقين، هذا إنسان عدو للدين، فهؤلاء الذين ينهى الله عز وجل نبيه أن يحزن من أجلهم، أو أن يحزن عليهم، أو أن يحزن خوفاً منهم، هؤلاء سماعون للكذب، والمؤمن يطبع على الخلال كلها، قد تجد مؤمناً عصبي المزاج، وقد تجد مؤمناً هادئ الطبع، وقد تجد مؤمناً اجتماعياً، وقد تجد مؤمناً يؤثر الوحدة على الاجتماع، وكل هذه الطباع مقبولة وعلى العين والرأس.
(( يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الكذب والخيانة ))
فهو لا يكذب ولا يخون:
للآية التالية عدة معانٍ :
أيها الأخوة، من معاني
من صفات المنافقين أنهم لا يضعون الكلمة في مواضعها بل يزورون ويحرفون :
قال تعالى:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ
يكتفون بقوله
﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) ﴾
يفسرون اليقين لا على ما فهمه أصحاب رسول الله، بل على مزاجهم، ما دمت قد تيقنت من إيمانك فقد انتهت عبادة ربك، يستمعون للكذب من الكفار، ويثنون على الكفار، ويستمعون من رسول الله من أجل أن يكذبوا عليه، ويستمعون لحساب قوم آخرين مستكبرين لم يأتوا رسول الله
الفتنة امتحان حيادي :
أذكر هنا قصة للتوضيح، مرةً قلت: إن الإنسان لو قبل المصحف من وجوهه الستة ولم يعمل بأحكامه لا ينتفع بهذا التقبيل، نقل أحدهم هذا الكلام، وقال: إن فلاناً يحرم تقبيل المصحف، أنا لم أحرم تقبيل المصحف، فماذا تنتفع بأن يكون المصحف في صدر محلك التجاري، وأنت تكذب مع كل نفس؟ ماذا تنتفع بمصحف في مقدمة مركبتك، وأنت تتحرك لإيذاء الناس وللكذب عليهم ولابتزاز أموالهم؟ لذلك يمكن أن تقول كلمة لا شيء فيها إطلاقاً، لكنها تحرف، وتغير، وتؤول لا لصالحك، هذا كشاهد
العبرة لا بالفتنة بل بنتائج الفتنة :
قال تعالى:
﴿ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَٰتٍۢ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ
﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُون (2) ﴾
فلا بد من أن تفتن، إلا أن المعنى الذي يفهمه العامة من كلمة فتنة أن تدمر فلاناً، فتن فدمِّر، لا، فتن أيْ امتحن فقط، والعبرة بالنتيجة، قد تنجح وقد لا تنجح، سيدنا يوسف عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام ألم يفتن بامرأة العزيز؟ هل نجح أم رسب؟ نجح، قال:
﴿
لم يرسب، وآلاف الشباب يكونون في موقف مشابه لهذا النبي الكريم فيفتنون ويقترفون الفاحشة، فالعبرة لا بالفتنة، بنتائج الفتنة، إذا نجحت فهذا نجاح كبير، الله عز وجل خاطب سيدنا موسى فقال:
﴿ إِذْ تَمْشِىٓ أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ مَن يَكْفُلُهُۥ ۖ فَرَجَعْنَٰكَ إِلَىٰٓ أُمِّكَ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ ۚ
فامتحنا ما في نفسك، الله عز وجل يفتن عباده كل دقيقة، وكل ساعة، وكل يوم، وكل شهر، إن آتاك المال فتنك به، وإن حرمك منه فتنك، هل تصبر؟ هل ترضى بقضاء الله؟ إن قوى الكافر يفتنك بهذا، هل تقول أين الله، أم تقول: حسبي الله، ونعم الوكيل؟ فقد يقوي الكافر، وقد يقوي المؤمن، وقد يعطي، وقد يمنع، وقد يرفع، وقد يخفض، وقد يعز، وقد يذل، وقد يبسط، وقد يقبض، هذه كلها فتن .
الأصل في الدنيا أنها دار امتحان :
المرأة الكاسية العارية في الطريق أليست فتنة؟ إما أن تغض عنها البصر فترقى، وإما أن تملأ عينيك من محاسنها فتفتن فتسقط، المال الحرام إما أن تأخذه فتسقط، وإما أن ترفضه فترقى عند الله:
﴿
من أراد الدنيا لا يستطيع أحد أن يقنعه بالدين لأنه اتخذ قراراً بدائياً برفض الدين :
إذا قال الله عز وجل:
أيها الأخوة ؛ الآية:
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين