الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيدنا محمد الصّادق الوعد الأمين.
اللّهمّ لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهمّ علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس السادس عشر من دروس سورة المائدة، ومع الآية الواحدة والعشرين، وهي قوله تعالى في معرض الحديث عن قصة بني إسرائيل:
﴿ يَٰقَوْمِ ٱدْخُلُواْ ٱلْأَرْضَ ٱلْمُقَدَّسَةَ ٱلَّتِى كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّواْ عَلَىٰٓ أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَٰسِرِينَ(21)﴾
وكان الله -جل جلاله- قد بدأ الآيات بقوله تعالى:
﴿ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحْنُ أَبْنَٰٓؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّٰٓؤُهُۥ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ۖ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ ۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ ۚ وَلِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ(18)﴾
ولقد تم شرح هذه الآية في درس قبل الماضي، وفي الدرس الماضي:
﴿ يَٰٓأَهْلَ ٱلْكِتَٰبِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَىٰ فَتْرَةٍۢ مِّنَ ٱلرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِنۢ بَشِيرٍۢ وَلَا نَذِيرٍۢ ۖ فَقَدْ جَآءَكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ ۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ (19) وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِۦ يَٰقَوْمِ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنۢبِيَآءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَءَاتَىٰكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ ٱلْعَٰلَمِينَ(20)﴾
الجرأة والشجاعة من صفات المؤمنين، والخوف الشديد من صفات العصاة:
﴿يَٰقَوْمِ ٱدْخُلُواْ ٱلْأَرْضَ ٱلْمُقَدَّسَةَ﴾ دُعي بنو إسرائيل إلى دخول فلسطين وكان في فلسطين قوم جبارون، فالإنسان حينما يعرف الله، ويعرف قدرته المطلقة، ويعرف أن النصر بيده، ويعرف أن الفعل بيده، ويعرف أن الأمر راجع إليه، ويعرف أن العباد في قبضته، ينفذ أمر الله ويستجيب له، ويقتحم المعارك، أما إذا غفل عن الله وضعفت ثقته بنفسه لضعف طاعته لله -عزَّ وجلَّ- يخاف، فالخوف الشديد غير المعتدل من صفات العُصاة والشاردين، بينما الثقة بالله -عزَّ وجلَّ- والاعتماد عليه، والتوكل عليه من صفة عباده المؤمنين، فحينما دُعي بنو إسرائيل إلى دخول القدس أو فلسطين قالوا:
﴿ قَالُواْ يَٰمُوسَىٰٓ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَٰخِلُونَ (22)﴾
الكنعانيون كانوا في فلسطين، وكان هؤلاء جبابرة وعمالقة، وهذا أمر تكليفي؛ إن دخلتم نصرتكم، فأحجموا، ﴿وَلَا تَرْتَدُّواْ عَلَىٰٓ أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَٰسِرِينَ * قَالُواْ يَٰمُوسَىٰٓ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُواْ مِنْهَا﴾ موقف من التخاذل ومن الضعف والجبن الذي أساسه الشرك، الإنسان حينما يشرك يلقي الله في قلبه الخوف.
﴿ سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ بِمَآ أَشْرَكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِۦ سُلْطَٰنًا ۖ وَمَأْوَىٰهُمُ ٱلنَّارُ ۚ وَبِئْسَ مَثْوَى ٱلظَّٰلِمِينَ (151)﴾
أيها الإخوة؛ ﴿يَٰقَوْمِ ٱدْخُلُواْ ٱلْأَرْضَ ٱلْمُقَدَّسَةَ﴾ ومعنى الأرض المقدسة أي أنها أرض الأنبياء، مهبط الرسالات الثلاث، أرض الأنبياء والمرسلين، ﴿ٱدْخُلُواْ ٱلْأَرْضَ ٱلْمُقَدَّسَةَ ٱلَّتِى كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ﴾ أي أمركم بها أمراً تكليفياً، فإن كان إيمانكم به قوياً، وإن كان اعتمادكم عليه كافياً، وإن كانت ثقتكم بأنفسكم عالية بسبب طاعتكم لله -عزَّ وجلَّ- فلا بد من أن تدخلوها معتمدين على الله آخذين بالأسباب، ولو أردنا أن نُسقط هذا الحدث على مجتمع المسلمين، المسلمون حينما يغفلون عن الله، وحينما يقعون في الشرك الخفي، وحينما تضعف ثقتهم بأنفسهم بسبب معصيتهم لا يستطيعون التوكل على الله، ولا يستطيعون الاعتماد عليه، ولا يجرؤون على مواجهة أعدائهم بسبب ضعف ثقتهم بأنفسهم، وبسبب بعدهم عن خالقهم؛ لذلك الجرأة والشجاعة من صفات المؤمنين، والخوف الشديد والقلق الشديد من صفات العصاة والمذنبين.
﴿ قَالَ رَجُلَانِ مِنَ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمَا ٱدْخُلُواْ عَلَيْهِمُ ٱلْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَٰلِبُونَ ۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوٓاْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (23)﴾
أنعم الله عليهما بالإيمان وبالتوحيد، وبالثقة -عزَّ وجلَّ- ﴿ ٱدْخُلُواْ عَلَيْهِمُ ٱلْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَٰلِبُونَ ۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوٓاْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين﴾ ، لكن هؤلاء القوم أبوا الدخول، واستنكفوا، وخافوا، وظنوا أنهم لا يستطيعون أن يحققوا النصر لضعف ثقتهم بربهم، ولضعف ثقتهم بأنفسهم، ولأن توكلهم كان ضعيفاً بسبب المخالفات، بالمناسبة أيها الإخوة، أنت حينما تخالف أمر الله -عزَّ وجلَّ- لا تستطيع أن تتوكل عليه، وأن حينما تخالف أمر الله -عزَّ وجلَّ- لا تستطيع أن تعتمد عليه، وأنت حينما تخالف أمر الله -عزَّ وجلَّ- تضعف ثقتك بالله -عزَّ وجلَّ-.
(( يقولُ اللَّهُ تَعالَى: أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بي، وأنا معهُ إذا ذَكَرَنِي، فإنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، وإنْ ذَكَرَنِي في مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ في مَلَإٍ خَيْرٍ منهمْ، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ بشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِراعًا، وإنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِراعًا تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ باعًا، وإنْ أتانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً ))
[ أخرجه البخاري ومسلم باختلاف يسير عن أبي هريرة ]
الإيمان مع تحقُّق جنديتك لله تؤكد حتمية النصر:
أيها الإخوة؛ سيدنا موسى حينما قال أصحابه ووراءهم فرعون وأمامهم البحر، والأمل بالانتصار ضعيف جداً إلى درجة الانعدام.
﴿ فَلَمَّا تَرَٰٓءَا ٱلْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَٰبُ مُوسَىٰٓ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّآ ۖ إِنَّ مَعِىَ رَبِّى سَيَهْدِينِ (62)﴾
هذه ثقة المؤمن، والله الذي لا إله إلا هو كإسقاط لهذه القصة على الأحداث العامة؛ لو أن المسلمين آمنوا بالله حق الإيمان، آمنوا بالله إيماناً يحملهم على طاعة الله، ثم أعدوا لعدوهم ما يستطيعون، ولم يُكلَّفوا أن يعدوا العدة المكافئة بل كُلِّفوا أن يعدوا العدة المتاحة فقط، والله الذي لا إله إلا هو كان النصر أقرب إليهم من البياض إلى السواد، النصر في متناول أيديهم لأن الله -عزَّ وجلَّ- يقول:
﴿ وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِۦ قُلُوبُكُمْ ۚ وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(10)﴾
والله -عزَّ وجلَّ- يقول:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)﴾
والله -عزَّ وجلَّ- يقول:
﴿ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَٰلِبُونَ (173)﴾
والله -عزَّ وجلَّ- يقول:
﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلْأَشْهَٰدُ (51)﴾
والله -عزَّ وجلَّ- يقول:
﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بِٱلْبَيِّنَٰتِ فَٱنتَقَمْنَا مِنَ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ ۖ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ ٱلْمُؤْمِنِينَ (47)﴾
والله -عزَّ وجلَّ- يقول:
﴿ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِى ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِى لَا يُشْرِكُونَ بِى شَيْـًٔا ۚوَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْفَٰسِقُونَ (55)﴾
أيها الإخوة؛ هذان الرجلان تذكر بعض الروايات أسماءهما، ولا فائدة تُرجى من ذكر الأسماء، رجلان مؤمنان يخافان الله -عزَّ وجلَّ- ويقدرانه حق قدره أنعم الله عليهما بالإيمان، أشارا على قومهما أن ﴿ٱدْخُلُواْ عَلَيْهِمُ ٱلْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَٰلِبُونَ﴾ لأن الله -عزَّ وجلَّ- يقول: ﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَٰلِبُونَ﴾ حينما تتحقق فيك جندية الله -عزَّ وجلَّ-؛ أن تكون جندياً لله لا أن تكون جندياً لجهة أرضية، حينما تتحقق جنديتك لله لا بد من أن تنتصر؛ لأن الله -عزَّ وجلَّ- يقول: ﴿ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَٰلِبُونَ﴾ ، والآيات التي تبشر المؤمنين بالنصر كثيرة جداً، وكلكم يعلم أن زوال الكون أهون على الله من ألا يحقق وعوده للمؤمنين فلذلك ﴿قَالَ رَجُلَانِ مِنَ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمَا ٱدْخُلُواْ عَلَيْهِمُ ٱلْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَٰلِبُونَ ۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوٓاْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ ، لكن الضعف والخور الناتجة عن ضعف الإيمان وعن ضعف الطاعة، أقول وأعيد: الضعف والخور الناتج عن ضعف الإيمان وعن ضعف الطاعة يسبب الخوف الشديد والفَرَق من مواجهة العدو.
قيمة الإنسان تكمن بمن حوله:
﴿ قَالُواْ يَٰمُوسَىٰٓ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَآ أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا ۖ فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَٰتِلَآ إِنَّا هَٰهُنَا قَٰعِدُونَ (24)﴾
هذا الموقف يذكرنا بموقف سيدنا سعد بن معاذ حينما أراد النبي -عليه الصلاة والسلام- أن يحارب قريشاً، فسأل الأنصار عن موقفهم فقال زعيمهم: "امضِ يا رسول الله لما أردت، صل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وسالم من شئت، وعادِ من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، فوالذي بعثك بالحق لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك، ما تخلف منا واحد، إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقرّ به عينك، وقال سيدنا المقداد: ولا نقول لك اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، بل نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا ونحن معك مقاتلون" ، ألم يقل الله -عزَّ وجلَّ-:
﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ ۚ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَىٰهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَٰنًا ۖ سِيمَاهُمْ فِى وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِى ٱلتَّوْرَىٰةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِى ٱلْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْـَٔهُۥ فَـَٔازَرَهُۥ فَٱسْتَغْلَظَ فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِۦ يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًۢا (29)﴾
﴿وَٱلَّذِينَ مَعَهُ﴾ الإنسان قيمته بمن حوله، قيمته بأخوانه، قيمته بالمؤمنين.
﴿ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَٱصْبِرُوٓاْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ (46)﴾
(( إنَّ اللَّهَ لا يجمعُ أمَّتي - أو قالَ: أمَّةَ محمَّدٍ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ - علَى ضلالةٍ ويدُ اللَّهِ معَ الجماعةِ، ومَن شذَّ شذَّ إلى النَّارِ ))
[ أخرجه الترمذي واللفظ له، والحاكم عن عبد الله بن عمر ]
﴿ قَالُواْ يَٰمُوسَىٰٓ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَآ أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا ۖ فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَٰتِلَآ إِنَّا هَٰهُنَا قَٰعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّى لَآ أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِى وَأَخِى ۖ فَٱفْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَٰسِقِينَ (25)﴾
فأنت حينما تكون في مجتمع فاسد، وفي مجتمع شارد، وفي مجتمع تُرتكب فيه المعاصي في الطرقات، وفي مجتمع يكثر فيه الكذب والنفاق، وحينما تكون في مجتمع تُرتكب المعاصي على قارعة الطريق، وحينما تكون في مجتمع تحكمه المصالح لا المبادئ، وحينما تكون في مجتمع يعلو فيه الفاجرون، ويبتعد عن الأضواء المستقيمون، إذا كنت في هذا المجتمع فلك أن تعتزله لأن الله -عزَّ وجلَّ- يقول:
﴿ وَإِذِ ٱعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ فَأْوُۥٓاْ إِلَى ٱلْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِۦ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا (16)﴾
لهذا قال عليه الصلاة والسلام يحدثنا عن آخر الزمان:
(( يُوشِكُ أنْ يَكونَ خَيْرَ مَالِ المُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بهَا شَعَفَ الجِبَالِ ومَوَاقِعَ القَطْرِ، يَفِرُّ بدِينِهِ مِنَ الفِتَنِ. ))
[ أخرجه البخاري عن أبي سعيد الخدري ]
لذلك ما لم تشعر بالغربة في مجتمع الفساد، ما لم تشعر بالغربة في مجتمع التفلت، ما لم تشعر بالغربة في مجتمع النفاق، ما لم تشعر بالغربة في مجتمع المعاصي والآثام لن تكون مؤمناً.
(( بَدَأَ الإسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كما بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ ))
[ أخرجه مسلم عن أبي هريرة ]
ضرورة التزام المسلم بالمؤمنين الصادقين في المجتمع الفاسد:
أيها الإخوة الكرام؛ إذا قال الله -عزَّ وجلَّ-: ﴿فَأْوُۥٓاْ إِلَى ٱلْكَهْفِ﴾ أين كهف هذه الأيام؟ إنه المسجد، إنه بيتك:
(( ...بَلِ ائْتَمِرُوا بِالمَعْرُوفِ، وَتَنَاهَوْا عَنِ المُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحَّاً مُطَاعَاً، وَهَوَىً مُتَّبَعَاً، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ بِنَفْسِكَ، وَدَعْ عَنْكَ الْعَوَامَّ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، الصَّبْرُ فِيهِ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ ))
[ أخرجه أبو داود عن أبي أُمَيَّةَ الشَّعْبَانيّ ]
الزم بيتك، وأمسك لسانك، وخذ ما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة، وقد فسر علماء الحديث خاصة النفس أنهم أقرباؤك، جيرانك، زملاؤك، أصحابك؛ أي من تثق بهم، فعليك بخاصة نفسك؛ أي عليك بمن تثق بهم، ودع عنك أمر العامة، هذا توجيه النبي -عليه الصلاة والسلام- في زمن الفتن، في زمن التمثيل، إتقان التمثيل في هذا الزمن لا يُصدق، تظنه صديقاً وهو عدو لدود، تظنه مخلصاً لأمته وهو خائن كبير، إتقان التمثيل يدعوك إلى أن تكون حذراً من الناس، إذا رأيت (شُحَّاً مُطَاعَاً، وَهَوَىً مُتَّبَعَاً) الشح المُطاع المادة، المادة إله يُعبد من دون الله، المال؛ يبيع دينه وعرضه بعَرَض من الدنيا قليل.
(( بَادِرُوا بالأعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا))
[ أخرجه مسلم عن أبي هريرة ]
إذا كنت في مثل هذا المجتمع فكن مع المؤمنين الصادقين (يدُ اللَّهِ معَ الجماعةِ، ومَن شذَّ شذَّ إلى النَّارِ)
(( أوصيكُم بأصحابي، ثمَّ الَّذينَ يلونَهم، ثمَّ الَّذينَ يلونَهم ثمَّ يفشو الكذبُ حتَّى يحلِفَ الرَّجلُ ولا يُستَحلَفُ ويشهدَ الشَّاهدُ ولا يُستَشهَدُ ألا لا يخلوَنَّ رجلٌ بامرأةٍ إلَّا كانَ ثالثَهما الشَّيطانُ علَيكُم بالجماعةِ وإيَّاكم والفُرقةَ فإنَّ الشَّيطانَ معَ الواحدِ وَهوَ منَ الاثنَينِ أبعدُ مَن أرادَ بَحبوحةَ الجنَّةِ فلْيلزَمُ الجماعةَ. مَن سرَّتهُ حسنتُهُ وساءتْهُ سَيِّئتُهُ فذلِكم المؤمنُ ))
[ أخرجه الترمذي واللفظ له، وأحمد باختلاف يسير عن عمر بن الخطاب ]
(( ما مِن ثلاثةٍ في قريةٍ ولا بدوٍ لا تقامُ فيهمُ الصَّلاةُ إلَّا قدِ استحوذَ عليْهمُ الشَّيطانُ فعليْكم بالجماعةِ فإنَّما يأْكلُ الذِّئبُ القاصيةَ ))
[ أخرجه أبو داود، والنسائي واللفظ لهما، وأحمد عن أبي الدرداء ]
﴿فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَٰتِلَآ إِنَّا هَٰهُنَا قَٰعِدُونَ* قَالَ رَبِّ إِنِّى لَآ أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِى وَأَخِى﴾ هذا الكلام الدقيق يعلمنا أنك إذا كنت في مجتمع فاسد، وهذا المجتمع الفاسد استحق أن يتخلى الله عنه، وألا ينصره على أعدائه، بل استحق أن يُسلَّط عليه أعداءه فينتهكون حرماته، ويفقرونه، ويضلونه، ويفسدونه، ويذلونه، ماذا تفعل أنت أيها المؤمن؟ عليكم أنفسكم، يا أيها الذين آمنوا في وقت من الأوقات، في عصر من العصور، في ظرف من الظروف.
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهْتَدَيْتُمْ ۚ إِلَى ٱللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105)﴾
فإن كنت مع الله مستقيماً على أمره، لك معاملة خاصة.
﴿ فَٱسْتَجَبْنَا لَهُۥ وَنَجَّيْنَٰهُ مِنَ ٱلْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُۨجِى ٱلْمُؤْمِنِينَ (88)﴾
مهما كان الظرف صعباً، ومهما كان الوقت شديداً، سيدنا يونس -عليه السلام- حينما وجد نفسه فجأة في بطن الحوت، وهل من مصيبة أشد من أن تكون في بطن الحوت في ظلمة الليل الأليل، وفي ظلمة أعماق البحر، وفي ظلمة بطن الحوت.
﴿ وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَٰضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِى ٱلظُّلُمَٰتِ أَن لَّآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنتَ سُبْحَٰنَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ (87) فَٱسْتَجَبْنَا لَهُۥ وَنَجَّيْنَٰهُ مِنَ ٱلْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُۨجِى ٱلْمُؤْمِنِينَ(88)﴾
إذا كنت في مجتمع التفلت فعليك بالتوبة إلى الله وطاعته، أقول لك: لك معاملة خاصة؛ لأن زوال الكون أهون على الله من أن يذهب الطائع مع العاصي، الطائع إذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فإن الله ينجيه، أما إذا لم يأمر بالمعروف، ولم ينهَ عن المنكر وقال: علي نفسي، لذلك حينما أرسل الله الملائكة لإهلاك قرية قالوا: يا رب، إن فيها رجلاً صالحاً، قال: به فابدؤوا، قالوا: ولمَ يا رب؟ قال: لأنه كان لا يتمعر وجهه لمنكر رآه، الله -عزَّ وجلَّ- يبين أنه لا يُهلك إلا القرية التي ليس فيها من يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر.
أيها الإخوة الكرام؛ هذه حقائق ينبغي أن تكون مسقطة على واقعنا الإسلامي ﴿قَالُواْ يَٰمُوسَىٰٓ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَآ أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا ۖ فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَٰتِلَآ إِنَّا هَٰهُنَا قَٰعِدُونَ﴾ أيعقل أن يسأل خالد بن الوليد سيدنا الصديق أن يُمده بمدد وهو يتوقع خمسين ألفاً، بعد حين طويل جاءه صحابي واحد اسمه القعقاع، فسأله: أين المدد؟ أنا أنتظر المدد بفارغ الصبر، فقال: أنا المدد، قال: أنت! قال: أنا، ومعي هذا الكتاب فاقرأه، فقرأ الكتاب من أبي بكر، قال: يا خالد، لا تعجب أنني أمددك بواحد، فوالذي بعث محمداً بالحق إن جيشاً فيه القعقاع لا يهزم، واحد بمئة ألف، واحد بخمسين ألفاً، كان أصحاب النبي -عليه الصلاة والسلام- الواحد منهم بألف، والمسلمون في آخر الزمان الألف منهم بأُف-الألف بأُف- غارقون في شهواتهم، غارقون في نفاقهم، غارقون في مصالحهم، غارقون في التنافس على الدنيا، غارقون في ظلمهم للفقير، واحد كألف وألف كأُف، ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّى لَآ أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِى وَأَخِى﴾ ، وقد يأتي النبي يوم القيامة ومعه الرجل والرجلان فقط، فإذا كنت من القلة المؤمنة فهذه نعمة لا تقدر بثمن، وإذا كان الإنسان من الكثرة الكافرة فهذه مصيبة خطيرة: ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّى لَآ أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِى وَأَخِى ۖ فَٱفْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَٰسِقِينَ﴾ ، فقال الله -عزَّ وجلَّ-:
﴿ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِى ٱلْأَرْضِ ۚ فَلَا تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْفَٰسِقِينَ(26)﴾
فكيف إذا استحق هؤلاء الفاسقون أن ينتصروا على المؤمنين؟ لا بد أن هؤلاء أشد فسقاً منهم، فكيف إذا استحق هؤلاء القوم الفاسقون أن ينتصروا على المؤمنين؟ إنهم شرذمة قليلون، ومع ذلك انتصروا على مئتي مليون، إنهم مليونان انتصروا على مئتي مليون، أيها الإخوة، الله -عزَّ وجلَّ- لا يحابي أحداً، الله -عزَّ وجلَّ- لا ينصر عباده إلا بإيمانهم، ولا يتفاوت العباد عند الله إلا بتقواهم.
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٍۢ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْ ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)﴾
أيها الإخوة، من بعض الآيات المتعلقة بهذا الموضوع، والتي ينبغي أن تُذكر لاتصالها الشديد بهذا الموضوع.
﴿ وَقُلْنَا مِنۢ بَعْدِهِۦ لِبَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ ٱسْكُنُواْ ٱلْأَرْضَ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلْأٓخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)﴾
أنت في أي مكان تسكنه هو في الأرض، ما معنى هذه الآية؟ لفتة رائعة لأنهم جبنوا عن أن يدخلوا، قال: اسكنوا الأرض، هذه الآية تشير إلى أنهم شُتتوا في الآفاق حتى أنهم سموا شذّاذ الآفاق، ﴿ٱسْكُنُواْ ٱلْأَرْضَ﴾ تفرقوا في معظم البلاد، لكن لم يُهلكوا إهلاك استئصال، قال تعالى:
﴿ وَقَطَّعْنَٰهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ أُمَمًا ۖ مِّنْهُمُ ٱلصَّٰلِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَٰلِكَ ۖ وَبَلَوْنَٰهُم بِٱلْحَسَنَٰتِ وَٱلسَّيِّـَٔاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)﴾
فهم لم يذوبوا في المجتمعات الأخرى؛ لذلك أينما ذهبت في أي مكان في الأرض هناك حارة اسمها حارة اليهود، يحافظون على قوميتهم، وعلى دينهم، وعلى لغتهم، وحبذا لو قلد المسلمون هؤلاء إذا سافروا بعيداً عن وطنهم، لو أن كل جالية إسلامية اجتمعت في مكان، وأكلت الطعام الحلال، وأنشأت المدارس الإسلامية، وحافظت على لغة أبنائها، لكن الشيء المؤسف جداً أن أبناء الجالية الإسلامية لا يتكلمون العربية أبداً، كنت مرة في سدني في أستراليا، وطُلب إلي أن أجتمع مع طلاب الثانوية، والثانوية من أرقى الثانويات كلفت عشرة ملايين دولار، من أرقى ما رأيت في حياتي من أبنية تعليمية، جُمِع الطلاب في المسرح الكبير، الشباب في الأمام والبنات محجبات، والله دخل على قلبي من السرور ما لا يوصف، وأنا لا أعرف الحقيقة بعد، فلما أردت أن أبدأ الكلام همس في أذني أحد الأساتذة: إنهم لا يفهمون العربية أبداً، فلا بد من الترجمة، اليهود أينما ذهبوا يحافظون على لغة أبنائهم، يحافظون على هويتهم، يحافظون على دينهم، يحافظون على قوميتهم، فالله -عزَّ وجلَّ- يقول: ﴿وَقُلْنَا مِنۢ بَعْدِهِۦ لِبَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ ٱسْكُنُواْ ٱلْأَرْضَ﴾ هم مفرقون في شتى البلاد، ﴿وَقَطَّعْنَٰهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ أُمَمًا﴾
أيها الإخوة الكرام؛ لكن في الإسراء آيات، أنا أقول لكم بالضبط: أنا أذكر لكم خواطر إيمانية مع هذه الآيات، ولا أزيد على أن تكون خواطر إيمانية، فإن أصبت فمن توفيق الله، وإلا فمن تقصيري، الله -عزَّ وجلَّ- يقول بعد أن قال: ﴿ٱسْكُنُواْ ٱلْأَرْضَ﴾ ، وبعد أن قال: ﴿وَقَطَّعْنَٰهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ أُمَمًا﴾ ، قال: ﴿فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلْأٓخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا﴾ فتجمع اليهود في فلسطين من علامات قيام الساعة، ﴿فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلْأٓخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا﴾ والله -عزَّ وجلَّ- يقول:
﴿ وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ فِى ٱلْكِتَٰبِ لَتُفْسِدُنَّ فِى ٱلْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولَىٰهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَآ أُوْلِى بَأْسٍۢ شَدِيدٍۢ فَجَاسُواْ خِلَٰلَ ٱلدِّيَارِ ۚ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا(5)﴾
في بعض التفاسير يُشار إلى هؤلاء العباد بأنه بختنصر ومن معه، هؤلاء ليسوا عباداً لله هؤلاء عباد للشياطين، هؤلاء جبابرة، يقول: ﴿عِبَادًا لَّنَا﴾ ، لذلك استنبط بعض المفسرين أن الفساد الأول الذي كان في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام-، أرسل عليهم أصحاب النبي وقد قاتلوهم وأجلوهم عن أرض الحجاز، ﴿ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولَىٰهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَآ أُوْلِى بَأْسٍۢ شَدِيدٍۢ فَجَاسُواْ خِلَٰلَ ٱلدِّيَارِ ۚ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا﴾ هذا شيء وقع، بنو النضير وقينقاع وكل هؤلاء قد أُجلوا من الجزيرة العربية، ثم يقول الله -عزَّ وجلَّ- يخاطب اليهود:
﴿ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَٰكُم بِأَمْوَٰلٍۢ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَٰكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)﴾
لضعف المؤمنين، وتفلتهم، وتقصيرهم، ومعصيتهم، ونفاقهم، وبُعدهم عن ربهم سُمح لهؤلاء الشرذمة أن يقووا عليهم، ﴿ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَٰكُم بِأَمْوَٰلٍۢ وَبَنِينَ﴾ أموال الأرض بإدارة اليهود، ﴿وَأَمْدَدْنَٰكُم بِأَمْوَٰلٍۢ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَٰكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا﴾ ، الآن:
﴿ إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ۚ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلْأٓخِرَةِ لِيَسُـۥٓـُٔوا۟ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ ٱلْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍۢ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا (7)﴾
أي أخذتم المسجد من المسلمين، ﴿فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلْأٓخِرَةِ لِيَسُـۥٓـُٔوا۟ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ ٱلْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍۢ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا﴾ أخذوه أول مرة في عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ثم أخذه اليهود منهم، فإن بقوا على ظلمهم الذي ترونه كل يوم وفي كل نشرة أخبار، فإذا بقوا على ظلمهم ﴿وَلِيَدْخُلُواْ ٱلْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍۢ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا﴾ ، بعض العلماء لا يرى أن هذه الآيات متعلقة بما يجري، وبعضهم يسقطها أول مرة على بختنصر، وبعضهم -كما قلت قبل قليل- يسقطها على فساد اليهود بعد مجيء القرآن الكريم، في المرة الأولى فسدوا، ولم يؤمنوا برسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- فسلط الله عليهم عباداً لنا مؤمنين وأجْلوهم عن الجزيرة، لكنهم بعد ذلك لتقصير المؤمنين دخلوا المسجد مرة ثانية، وفي هذه الآيات بشارة إن شاء الله أن يسترد المسلمون هذا المسجد، وأن يفتحوه تحقيقاً لوعد الله -عزَّ وجلَّ-، وهذا ثابت أيضاً عندهم في كتبهم.
ما نزل بلاء إلا بذنب ولا يرفع إلا بتوبة:
مرة سُئل وزير دفاعهم وقد احتل قلعة في جنوب لبنان عن هذه الوقائع، فقال: هذا صحيح، سوف يأخذون منا كل ما أخذناه منهم، وسوف ينتصرون علينا ولكن ليس مع هؤلاء الذين حولنا، وله كلمة مشهورة: "إن هؤلاء حينما تكتظ مساجدهم على صلاة الفجر كما تكتظ في صلاة الجمعة ينتصرون علينا" ، فمن مسجد يتسع لعشرين ألف مصل لا تجد صفاً واحداً في صلاة الفجر، لذلك أيها الإخوة:
﴿ إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ۚ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلْأٓخِرَةِ لِيَسُـۥٓـُٔوا۟ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ ٱلْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍۢ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا (7) عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ ۚ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا ۘ وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَٰفِرِينَ حَصِيرًا (8)﴾
وهذه آية لكل المؤمنين ﴿وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا﴾ ، أيها المسلمون، أيها العرب، عودوا إلى الله يعود الله لنصركم، سيدنا صلاح الدين -كما ذكرت في الخطبة اليوم- بلغه أن أحد ملوك الفرنجة قطع الطريق على الحجاج وصار يقتل الرجال ويسبي النساء، ويقول: قولوا لمحمدكم أن ينتصر لكم، سمع صلاح الدين هذا الكلام فبكى، فقال: أنا سأنوب عن محمد في نصرة أمته، ومازال يسعى حتى استطاع أن يقبض على هذا الأمير الإفرنجي أرناط في الكرك ويقتله، قال له: أنا أدافع عن أمة محمد، القضية بيد الله، ولكن الله لا ينصر القوم الفاسقين، لا ينصر القوم المنحرفين، ولا القوم المنافقين، ولا القوم العصاة، إن الله ينصر عباده المؤمنين، فما نزل بلاء إلا بذنب ولا يرفع إلا بتوبة.
أيها الإخوة؛ ما يجري في الساحة العربية والإسلامية شيء مؤلم جداً، أحياناً يبالغ الطرف الآخر في إذلال المسلمين، وفي إفقارهم، وفي إضلالهم، وفي إفسادهم، يفقرونهم، ويضلونهم، ويفسدونهم، ويذلونهم، واللهُ مع الحقِّ، فإذا أردنا أن نسترجع ما لنا من مكانة عند الله فعلينا بطاعة الله: ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّى لَآ أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِى وَأَخِى ۖ فَٱفْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَٰسِقِينَ* قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِى ٱلْأَرْضِ ۚ فَلَا تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْفَٰسِقِينَ﴾
من أمثال العرب: إنَّ البُغَاثَ بأَرْضِنَا يَسْتَنْسِر، يستنسر: أي يتخلق بأخلاق النسر، والبغاث أضعف أنواع الطير، فهؤلاء الشرذمة القليلون، هؤلاء المشردون في الآفاق، هؤلاء كانت لهم الكرة علينا، وطموحاتهم لا تنتهي، وما يجري في العراق في أعلى التقديرات بتخطيطهم؛ إشاعة الفوضى، إشاعة الفقر، إشاعة الفساد، من أجل أن تُحقق شعاراتهم من الفرات إلى النيل، وما كنت أظن في حياتي أن هذا يحقق في المدى المنظور، لكنهم وصلوا إلى الفرات، وأرجو الله أن يبعث عليهم عباداً له أشداء يخرجونهم من هذه البلاد.
الملف مدقق