- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (005)سورة المائدة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا بما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
كمال الخلق يدل على كمال التصرف :
أيها الأخوة المؤمنون، مع الدرس الخامس عشر من دروس سورة المائدة، ومع الآية التاسعة عشرة، وهي قوله تعالى:
﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
أيها الأخوة، كلمة
﴿عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ﴾
أي على انقطاع من الرسل، الله سبحانه وتعالى كامل في خلقه، وهذا الكون يدل على كمال خلقه، ومن لوازم كمال الخلق كمال التصرف، ومن أبرز كمالات التصرف ألا يدع الله عباده معطلين عن التوجيه، وعن الإرشاد، لذلك تقتضي رحمة الله وحكمته ومحبته لعباده أن يرسل إليهم رسلاً، وأن ينزل على رسله كتباً، والأمر ببساطة بالغة كما يلي، أب يجلس في غرفة الجلوس، فرأى ابنه يقترب من المدفئة وهو لا يدري ما سيكون من هذا الاقتراب، لا بد من أن يكلمه، لا بد من أن يقوم ويمسكه، إذاً التدخل الإلهي لإنقاذ الخلق من الكفر والشقاء حتمي، لأن الله رحيم، ولأن الله خلقنا ليرحمنا، وخلقنا ليسعدنا، هذه حقيقة دقيقة جداً؛ أن الله عز وجل ما خلقنا إلا ليسعدنا، وما خلقنا إلا ليرحمنا، لذلك كان ربنا، الحمد لله رب العالمين، والرب يعني المربي، ملخص هذا الشرح أن كمال الخلق يدل على كمال التصرف، وهذا الكون يدل على كمال خلق الله عز وجل، ومن لوازم كمال خلق الله كمال تصرفه، ومن أبرز كمالات تصرفه أنه يرسل رسلاً، وينزل كتباً، لكن هؤلاء الرسل متفرقون على امتداد الزمان، فبين الرسول والرسول والنبي وَالنبي حقب من الزمان، بين رسولين فترة، أي انقطاع، لكن لنعرف ما حكم هذه الفترة؟
الميثاق ثلاثة بنود العقل والفطرة والتشريع :
أيها الأخوة، الميثاق الذي واثقنا الله به هو ميثاق العقل، وميثاق الفطرة، وميثاق التشريع، فإذا لم يصل إلينا تشريع، ولم تبلغنا رسالة، فنحن محاسبون على ميثاق العقل وميثاق الفطرة، فالعقل كافٍ كي نعرف الله به، والفطرة كافية كي نعرف خطأنا بها، فتعرف الله بالعقل، وتعرف خطأك بالفطرة، إذاً الميثاق ثلاثة بنود: أهل الفطرة معفون من البند الثالث، لذلك أهل الفطرة معفون من تفاصيل الشريعة، لكن لو أن إنساناً ولد في جزيرة، ولم يتلقَ أية رسالة كائنة من كانت، وكان جائعاً، وكانت أمه جائعة، فجاء بطعام، فأكله وحده، ألا يشعر أنه مذنب بحق أمه؟ هناك ثوابت في الإنسان، أي إنسان في أي زمان ومكان، في أي قطر ومصر، في أي حقبة، في أي نظام، في أي ثقافة، في أي بقعة، الإنسان له خصائص، وله فطرة، لذلك من أروع ما استخدم القرآن الكريم من مصطلحات مصطلح المعروف، ما هو المعروف؟ أي أشياء كثيرة تعرفها الفطر السليمة بداهة، ما هو المنكر؟ أشياء قبيحة تنكرها الفطر السليمة بداهة، اعتمد القضاء الغربي على هذه الحقيقة، فيأتي برجال متفرقين من الطريق يسمون المحلفين، تعرض عليهم قضية بفطرتهم وبحسن إدراكهم يكتشفون الحكم الصحيح في هذه القضية، لذلك المعروف ما عرفته الفطر السليمة بداهة، والمنكر ما أنكرته الفطر السليمة بداهة، فالإنسان بفطرته يعرف أخطاءه، وبعقله يعرف ربه، فالميثاق الذي واثقنا الله به، ميثاق الفطرة وميثاق العقل وميثاق المنهج، المنهج قد يكون واضحاً جلياً في عصر، وقد تضعف ملامحه في عصر آخر، فكلما ضعف ضعفت ملامح منهج الله عز وجل، بعث الله على رأس كل مئة عام من يجدد لهذه الأمة دينها، طبعاً الأنبياء ليسوا مكلفين برسالة، الرسل هم أنبياء معهم رسالة، معهم منهج، فهناك رسل، وهناك أولو العزم من الرسل، وهناك أنبياء، وهناك دعاة صادقون ينوبون عن الأنبياء في تبليغ الحق للناس، وشاءت حكمة الله أن يبعث على رأس كل مئة عام من يجدد لهذه الأمة دينها، ( من ) لا تعني واحداً، تعني نوعاً، أي في كل بلد، في كل مصر، في كل مكان، هناك من يجدد المعاني الصحيحة لهذا الدين، هناك من يرجع الدين إلى أصوله الصافية، هناك من يكشف النقاب عن حقيقة الدين، هناك من يزيح غبار التقليد عن جوهر الدين، فعلى رأس كل مئة عام يبعث الله من يجدد لهذه الأمة دينها:
﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا ﴾
أي محمد صلى الله عليه وسلم:
﴿ يُبَيِّنُ لَكُمْ ﴾
ما اشتبه عليكم.
التجديد في الإسلام أن ننزع عن الدين كل ما علق به مما ليس منه :
كما تعلمون قد يقع حادث في مكان ما، الأخبار تتناقله، يصل بعكس ما أراد المتكلم، أنا فوجئت أحياناً أن بعض رؤوس الديانات الوثنية هم في الحقيقة كانوا أنبياء ثم أُلِّهوا وعبدوا من دون الله، هناك أشخاص كثيرون في البلاد البعيدة شرقاً يعبدون كآلهة، هم أنبياء كانوا ومعهم بعض الدلائل على نبوتهم، فحينما يطول الأمد على الرسالة تشوه معالمها، والإسلام كأي دين سماوي نزل صافياً نقياً واضحاً:
((تركتكم على بيضاء نقية ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.))
ما الذي حصل؟ أضيف على الدين ما ليس منه، وكأن نبعاً صافياً في أثناء مسيره كنهر جاءته روافد، بعد حين أصبحت المياه آسنة وسوداء، فنحن ينبغي أن نعود إلى الينابيع، أن نعود إلى الأصول.
((إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء))
لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، والآن نستمع كثيراً إلى كلمات كالتجديد في الإسلام، والتجديد أيها الأخوة له معنى دقيق جداً لا يجوز أن نحيد عنه قيد أنملة، معنى التجديد أن ننزع عن الدين كل ما علق به مما ليس منه، فقط، ولا يحتمل التجديد في الإسلام شيئاً آخر، إنه منهج الله، إنه كلام الله، إنه شرح المعصوم، أية زيادة على الدين يعني اتهاماً له بالنقص، وأي حذف من الدين تعني اتهاماً له بالزيادة، الحذف يعني اتهام الدين بالزيادة، والإضافة يعني اتهام الدين بالنقصان.
﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً ﴾
البدعة في الدين مرفوضة لكن الابتداع في الدين محمود :
الإتمام عددي، والإكمال نوعي، أي أن عدد القضايا التي عالجها الدين تامة عدداً، وأن طريقة المعالجة التي عالجها الدين لهذه القضايا كاملة نوعاً، والتجديد يعني أن ننزع عن الدين كل ما علق به كل مما ليس منه، كما قال عليه الصلاة والسلام:
((كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار))
البدعة في الدين مرفوضة، لكن الابتداع في الدين محمود، ومطلوب، ومندوب، أن نطور سبل معيشتنا، أن نطور حياتنا، أن نهيئ لشبابنا مساكن، أن نحل مشكلاتنا، هذا كله مطلوب، لكن المسلمين وللأسف الشديد طوروا في دينهم وقلدوا في دنياهم، والأولى أن يطوروا في دنياهم وأن يقلدوا في دينهم، النبي عليه الصلاة والسلام فيما يجري على لسانه في القرآن الكريم:
﴿ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ ﴾
سيدنا الصديق قال: إنما أنا متبع، فالإتباع من صفات المؤمن الصادق، لأنه يتبع منهج الله عز وجل، منهج الحكيم العليل:
﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ ﴾
الإنسان حينما قبل حمل الأمانة أعطاه الله مقومات هذه الأمانة :
الإنسان حينما كلف حمل الأمانة كما قال الله عز وجل:
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾
الإنسان حينما قبل حمل الأمانة أعطاه الله مقومات هذه الأمانة، أعطاه كوناً ينطق بوجود الله ووحدانيته وكماله، أعطاه عقلاً مبادئه متوافقة مع مبادئ الكون، أعطاه فطرة تدل على خطئه، أعطاه شهوة كقوة دافعة إلى الله عز وجل، أعطاه اختياراً ليثمن عمله، ثم أعطاه منهجاً، وكأن المنهج يعني مرجعية ليس غير، الإنسان إذا أعرض عن التفكر في خلق السماوات والأرض، فالمنهج يشير إلى آيات الله الدالة على عظمته، إذا طغى العقل وبغى المنهج يضع العقل عند حدوده المشروعة، الفطرة إذا طمست المنهج يصحح لها انطماسها، الشهوة إذا جمحت، مرجع، الشرع مرجع، مرجع للكون وللعقل وللفطرة وللشهوة وللاختيار، فلذلك لئلا يقول الناس يوم القيامة: يا رب أعطيتنا كوناً ولكن ما فكرنا به، أعطيتنا فطرة ولكنها طمست يا رب، أعطيتنا عقلاً ولكنه جمح بنا، أعطيتنا اختياراً ولكننا أسأنا استخدامه، أعطيتنا شهوة ولكنها طغت وبغت، لولا أنك أرسلت إلينا رسلاً، فجاء الرسول ليقطع حجة البشر، لذلك:
﴿ وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾
﴿ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى ﴾
﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ ﴾
الله عز وجل خلق الكون و نوّره بالعلم :
النبي والرسول معه منهج، معه تعليمات الصانع، فالذي يطبق هذا المنهج يلقى نتائجه في الدنيا قبل الآخرة، فكأنه بشير، والذي يخالف هذا المنهج يعاقب في الدنيا قبل الآخرة، فكأنه نذير، فمن صفات النبي الكريم أنه بشير لمن أطاعه، ونذير لمن عصاه، نقول للمريض: هذا الدواء مفيد فإن استعملته شفيت من مرضك فنحن نبشرك بالصحة، وإن أبيت إلا أن تتابع خطأك فنحن ننذرك بمضاعفات لهذا المرض، قد تحتاج معها إلى عمل جراحي، فنحن بهذا ننذره، أي لئلا تقولوا:
﴿ مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ ﴾
لئلا تقولوا:
﴿ مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ ﴾
لتقوم الحجة على الخلق:
﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
الله عز وجل فضلاً على أنه خلق الكون فقد نوّره بالعلم.
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ﴾
﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾
فقط للتقريب، تشق الطرقات، وبعد أن تشق الطرقات توضع الإشارات، منحدر خطر، تقاطع خطر، منزلق، منعطف، طريق صاعدة، هذه كلها إشارات تحذيرية تكون قبل أماكن الخطر، فكما أن الإنسان الحكيم يصنع شيئاً ويقدم له تعليمات، والآن في أكثر الآلات يأتي الجهاز معه تعليمات التشغيل والصيانة، معه تحذيرات، والتحذير دليل الحكمة والرحمة.
الله تعالى يشير في الآية التالية إلى أن بني إسرائيل وقفوا موقفاً لا يليق بهم من أنبيائهم :
ثم يقول الله عز وجل:
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ﴾
( إذْ ) أيها الأخوة بمعنى حين، أي اذكر يا محمد حين قال موسى لقومه:
﴿ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ﴾
واذكروا يا أتباع محمد حين قال موسى لقومه:
﴿ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ﴾
واذكروا يا قراء القرآن الكريم حين قال موسى لقومه:
﴿ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ﴾
ولكن متى يقال للإنسان: اذكر أنك ابن فلان؟ حينما يأتي بعمل منكر، حينما نقول لطالب: اذكر أنك ابن فلان، أي أن عملك الآن سيئ، لا يليق بك أن تفعل هذا العمل وقد نسبت إلى هذا الأب الكريم، لذلك الله عز وجل يشير في هذه الآية إلى أن بني إسرائيل وقفوا موقفاً لا يليق بهم من أنبيائهم، فسيدنا موسى يقول:
﴿ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ﴾
الأنبياء دليل الحرص الإلهي والرحمة الإلهية :
النعمة أيها الأخوة لعلها اسم جنسٍ، أي اذكروا كل نعم الله مطلقة، نعمة الإيجاد، نعمة الإمداد، نعمة الهدى والرشاد، نعمة السمع والبصر، نعمة النطق، نعمة الكلام، نعمة هذه الأجهزة التي تعمل بانتظام، نعمة الزوجة، نعمة الولد، نعمة الأمن، نعمة المال، هذه كلها نعم لا تعد ولا تحصى، وأما كلمة نعمة بمعنى اسم جنس هذه يؤيدها قول الله عز وجل:
﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ﴾
أي وأن تعدوا نعم الله لا تحصوها، أو المعنى الآخر أن النعمة الواحدة لو أمضيت كل حياتك في تعداد بركاتها ما انتهيت إلى نتيجة، " اذكروا نعمة الله عليكم ".
﴿ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ ﴾
أولاً:
﴿ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ ﴾
الأنبياء جاؤوكم يتبع بعضهم بعضاً، وهذا دليل رحمة الله بكم، كما لو عندك مريض، وهو غال عليك، فتأتيه بالطبيب، التحسن طفيف، تأتيه بطبيب آخر، صار في نكسة، تأتيه بطبيب ثالث، أن يأتي الأطباء تباعاً إلى مريض هذا دليل العناية الفائقة لولي هذا المريض، فكأن الله عز وجل أراد أن يذكر هؤلاء بنعمة الله عليهم إذ جعل فيهم الأنبياء، والأنبياء دليل الحرص الإلهي والرحمة الإلهية:
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ﴾
لماذا تعارضونني؟ لماذا لا تستجيبوا لي؟ هذه آيات بينات، بعصاه ضرب البحر فأصبح طريقاً عظيماً، نزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين، ألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين، معجزات جاء بها ليؤكد لهم أنه هو رسول الله.
الله عز وجل جعل بني إسرائيل مالكين وجعل فيهم الملوك :
من يستطيع من بني البشر أن يجعل البحر طريقاً يبساً؟ كيف أن سيدنا موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام كان مع قلة من بني إسرائيل؟.
﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ ﴾
أتبعهم فرعون، وصلوا إلى البحر، اليقين بالهلاك بالمئة مئة.
﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ*قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾
الأمل بالعقل، والواقع معدوم، فرعون بجبروته، وطغيانه، وحقده، ورجاله، وأسلحته وراء شرذمة من المؤمنين، فيهم سيدنا موسى، فقال موسى: " كلا "، ردعهم عن أن يقولوا: إنا لمدركون، فماذا فعل هذا النبي الكريم؟ ضرب البحر بعصاه فإذا كل طريق كالطور العظيم، هذه شهادة الله له أنه رسول، نزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين، ألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين، فهذه من نعم الله الكبرى:
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً ﴾
هناك مالك، وهناك ملك، قال بعض علماء اللغة: أنا أملك بيتي فأنا مالك، أملك مركبتي فأنا مالك، ولكن الذي يملك من يملك هو المَلِك، الذي يملك من يملك، الذي يملك يسمى مالك، أما الملك فيملك من يملك، لذلك الله عز وجل جعل في بني إسرائيل الملوك أيضاً، جعلهم مالكين، وجعل فيهم الملوك.
الميزة لا تقتضي الأفضلية :
في قصة سيدنا يوسف:
﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ﴾
طبعاً في مصر كان هناك فراعنة، ولكن في حقبة معينة كان فيها ملوك.
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ ﴾
الميزة كما قالوا لا تقتضي الأفضلية، " آتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين "، هذه ميزة لهم، ولكن هذه الميزة لا تقتضي أنهم مفضلون عند الله عز وجل، أنت أحياناً تشدد العناية بجهة حرصاً عليها، فإن لم تستجب ليس لها فضل على غيرها، أخذت ميزة، ولم تكن مفضلة على غيرها.
الأرض تطهر بطاعة الله وتنجس بمعصية الله :
قال تعالى:
﴿ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ﴾
الأرض المقدسة المطهرة، والأرض تطهر بطاعة الله، وتنجس بمعصية الله، بل الله عز وجل يقول:
﴿ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ﴾
لم يقل: نجسون، لأن النجس يُطهر، لكنهم عين النجاسة، أينما حلوا أساؤوا، وفتنوا، ونشروا الفتن، ونشروا المعاصي والآثام، الأرض المقدسة هي الأرض التي يعبد الله فيها، أرض مقدسة، والمؤمن حقيقته أنه ينبغي أن يعيش في أرض يعبد الله فيها، لأن علة وجوده عبادة الله عز وجل، وأي مكان حال بينك وبين عبادته ينبغي أن تغادره.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً﴾
لأن علة وجودك أن تعبد الله فأي مكان حال بينك وبين عبادة الله ينبغي أن تغادره.
أيّ مكان حال بينك وبين أن تعبد الله ينبغي أن تغادره :
ذهب أحدهم إلى بلد ليأخذ دكتوراه، جلس مع أصدقاء في غرفة، صرفوه عن الدراسة، لما صرفوه عن الدراسة صرفوه عن هدفه الأساسي في هذا البلد، ينبغي أن يغادرهم إلى مكان آخر، أما إذا بقي معهم يرجع خائباً خاسراً، فأي مكان حال بينك وبين أن تعبد الله ينبغي أن تغادره.
كنت في مؤتمر، وألقى بعض العلماء كلمة في هذا المؤتمر بيَّن أنه إن لم تضمن أن يكون ابن ابْن ابنك مسلماً في بلد ما ينبغي أن تغادره، ذكرت هذا في كلمة في عقد قران، وكان حضور هذا العقد أكثرهم من الجالية الإسلامية في بلد بعيد، فتقدم مني واحد، ورأيت دمعة تسيل على خده، قال: ابن ابْن ابني، ابني ليس مسلماً، لأن هناك ابني ليس مسلماً.
أيها الأخوة الكرام: أكرر وأعيد أن قصص بني إسرائيل في القرآن كثيرة، وأن الحديث عن أهل الكتاب كثير، والحكمة من ذلك أنهم أهل كتاب، وأن كل منزلقاتهم، وكل انحرافاتهم، وكل أمراضهم، نحن كوننا مسلمين معرضون لها، وقد قيل عن هذا الأسلوب: إنه أسلوب بليغ، إياك أعني، واسمعي يا جارة، وحينما قال عليه الصلاة والسلام:
((أَيّهَا النّاسُ إنّمَا أَهْلَكَ الّذِينَ قَبْلَكُمْ، أَنّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشّرِيفُ، تَرَكُوهُ وَإذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضّعِيفُ، أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدّ، وَأيْمُ اللّهِ لَوْ أَنّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا))
وفي مجتمعات المسلمين المتخلفة إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، من أسباب هلاك بني إسرائيل أنهم كانوا:
﴿ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ﴾
وقد تجد في أوساط إسلامية كثيرة أن المنكر لا يُنكر إطلاقاً يُرَحب به، تحت اسم مجاملات، ولباقة اجتماعية، وذكاء اجتماعي، ومرونة، وفهم عميق للدين، فالمنكر لا ينكر، فلذلك أكثر أمراض بني إسرائيل، أو أكثر أمراض أهل الكتاب أصبحنا مبتلين بها، فلذلك الحديث عن هؤلاء هو حديث عن أنفسنا، عن أخطاء، وعن منزلقات، وعن ترهات سلكها أهل الكتاب، ونحن معرضون لمثلها، حينما احتال بنو إسرائيل على ربهم في قضية صيد السمك، فحينما حرم عليهم الصيد يوم السبت، كانوا يبنون الترع والبحيرات لتأتي الأسماك يوم السبت شرّعاً، ثم تغلق أبواب هذه البحيرات، ويصطاد السمك يوم الأحد، فهذه كلها حيل، وما أكثر الحيل التي يتبعها المسلمون اليوم للتملص من أحكام دينهم، فلو ذهبت توازن بينما ما فعله أهل الكتاب وبين ما يجري بين المسلمين تجد شبهاً عجيباً.
الحديث عن أهل الكتاب في القرآن الكريم هو توجيه لطيف غير مباشر للمسلمين :
قال تعالى:
﴿ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ﴾
والمسلمون اليوم يتوهمون أنهم وحدهم يدخلون الجنة، وهذا خطأ كبير.
﴿ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ﴾
هذا الذي يدخل الجنة، أيضاً زعم اليهود أنهم إذا دخلوا إلى النار لن يلبثوا فيه إلا أياماً معدودات، تلك أمانيهم.
﴿ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾
والمسلمون اليوم يزعمون أنهم أمة محمد، أمة الشفاعة، فشفاعتي بفهم ساذج لأهل الكبائر من أمتي، تطابق عجيب بين ما اعتقده وما فعله أهل الكتاب، وبين ما نعتقده اليوم ونفعله نحن، لذلك الحديث عن أهل الكتاب في القرآن الكريم هو توجيه لطيف غير مباشر للمسلمين.
وفي درس قادم إن شاء الله نتابع هذه الآيات التي تتحدث عن بني إسرائيل.