- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (005)سورة المائدة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا بما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا إتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
لكل قوم هاد لأن طبيعة الحياة من قبل لم يكن فيها تواصل بين الأمم والشعوب:
أيها الأخوة المؤمنون؛ مع الدرس الرابع والعشرين من دروس سورة المائدة، ومع الآية الرابعة والأربعين، وهي قوله تعالى:
﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) ﴾
أيها الأخوة؛ طبيعة الأمم والشعوب قديماً أن كل قوم مستقل عن القوم الآخر، ليس هناك تواصل، لذلك جعل الله لكل قوم هاد، وقد يتعاصر الأنبياء، لأن كل نبي لقوم، ولأن كل قوم لهم مشكلات، ولهم سقطات، ولهم زلات، ولهم مخالفات، فالنبي الذي يرسله الله لقوم يرسله ليعالج مشكلات هؤلاء بالذات وتحديداً، فلكل قوم هاد، طبيعة الحياة من قبل لم يكن فيها تواصل بين الأمم والشعوب، لذلك قال الله عز وجل: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ﴾ .
الهدى: هو الطريق إلى الله عز وجل.
والنور: هو النور الذي يضيء الطريق.
وشيء طبيعي جداً أننا إذا شققنا طريقاً لا بد من أن ننوره، فقد يعبَر الطريق ليلاً ونهاراً، فتنوير الطريق من لوازم شقّه، فالله سبحانه وتعالى يبين أنه رسم طريقاً إليه، وأنه نوّره بنوره، ففي حياة الإنسان طريق يستوعبه بفكره، ونور يقذف إلى قلبه، فهناك معالم للطريق، وهناك نور يقذفه الله في قلب المؤمن يهتدي به في الطريق إذا أظلمت الأمور، لكن هذه التوراة كما قلت قبل قليل متعلقة ببني إسرائيل، باليهود حصراً.
من لوازم كمال الله عز وجل أنه خلق كل شيء فأحسن خلقه:
قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ﴾
أولاً: لأن الله سبحانه وتعالى خلقنا لنعرفه، وخلقنا لنعبده، ولا بد من أن ينزل كتباً، وأن يرسل رسلاً، هذه حقيقة. لكن الإنسان حينما يغفل عن الله عز وجل، حينما لا يتبع طريق الهدى، وحينما يعمى قلبه فلا يستنير بنور الله، يضل سواء السبيل، وقد قال الله عز وجل:
﴿ قَالَ ٱهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَاىَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ (123)﴾
﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ﴾ هذا الكون يدل على عظمة ما بعدها عظمة، يدل على علم، وعلى حكمة، وعلى رحمة، وعلى لطف، فكل أسماء الله الحسنى يشفّ عنها الكون، كمال الخلق يدل على كمال التصرف، وكمال الخلق يدل على كمال التشريع.
من لوازم كمال الله عز وجل أنه خلق كل شيء فأحسن خلقه، ولا يعقل، ولا يقبل أنه ترك خلقه معطلين عن التوجيه وعن الإرشاد، لذلك بعثة الأنبياء متواصلة، وإرسال الرسل متواصل، وإنزال الكتب متتابع، لأن الله سبحانه وتعالى خلقنا لنعرفه، وخلقنا لنعبده، وخلقنا لنسعد به في الدنيا والآخرة، وبشكل مبسط جداً لا يمكن لأب على وجه الأرض جالسٍ في غرفة الجلوس وابنه يقترب من المدفأة دون أن يقول كلمة، أو أن يتحرك، لأن من لوازم الرحمة أن ترشد الضال، ومن لوازم الرحمة أن تربي الذي شرد عنك.
الله عز وجل ألزم نفسه ذاتياً بهداية الخلق:
إذاً: أن يرسل الله رسلاً، وأن يبعث أنبياء، وأن ينزل الكتب، هذا شيء يتناسب مع كماله، ومع علة وجودنا، أوجدنا الله كي نعرفه، إذاً يقول الله عز وجل:
﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) ﴾
وكلمة (على) إذا جاءت مع لفظ الجلالة تعني الإلزام الذاتي، أي أنّ الله عز وجل ألزم نفسه ذاتياً بهداية الخلق
﴿
أي: وعلى الله بيان سبيل القصد.
الإنسان إذا شرد عن الله عز وجل يسوق له من الشدائد ما يحمله على التوبة:
قال تعالى:
﴿
أنت مطلوب شئت أم أبيت، بل إن هدايتك ليست صدفةً، إنها فعل إلهي مقصود لذاته، أراد الله أن يهديك، لذلك نصب لك هذه الآيات في الكون، هو طريق إليه، منحك عقلاً متوافقاً مع الكون، أنزل كتباً فيها إعجاز، أرسل أنبياءً جعلهم معصومين، أرسل رسلاً حملهم أمانة لينقلوها للناس، هذه كلها سبل الهداية، ثم تولى الله تربيتنا مباشرةً، فالإنسان إذا شرد عن الله عز وجل يسوق له من الشدائد ما يحمله على التوبة.
﴿ وَعَلَى ٱلثَّلَٰثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰٓ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ ٱلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوٓاْ أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ ٱللَّهِ إِلَّآ إِلَيْهِ
﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) ﴾
﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) ﴾
إن دخلت إلى مسجد، ورأيت جمعاً غفيراً فاعلم علم اليقين أن هؤلاء جميعاً قد وفَّر الله لهم تربية عالية جداً، ساق لهم بعض الشدائد، رغبهم، خوفهم، جمعهم مع أهل الحق، أسمعهم كلمة الحق، أنت مطلوب لمعرفة الله، مطلوب لعبادته، مطلوب كي يرحمك الله عز وجل، وهذا هو الحق.
المعنى الواسع والضيق للإسلام:
إذاً: هذه الآية
الرباني هو الذي يتوخى مرضاة الله عز وجل في كل حركاته وسكناته:
كما قلت قبل قليل: هؤلاء الأنبياء لأقوامهم حصراً، ولكن
أيها الأخوة؛ هناك حقيقة دقيقة، وهي أن الأنبياء السابقين كانت الكتب التي أنزلت عليهم قد أوكل إليهم حفظها بأمر تكليفي، وكتبهم شيء والمعجزات شيء آخر.
ليست معجزات الأنبياء السابقين منطبقة على كتبهم:
ليست معجزات الأنبياء السابقين منطبقة على كتبهم. إن سيدنا عيسى عليه وعلى سيدنا أفضل الصلاة والسلام، معجزته إحياء الموتى وكتابه الإنجيل. سيدنا موسى معجزته العصا، وكتابه التوراة.
فالمعجزة ليست عين الكتاب، والكتاب ليس عين المعجزة، الكتب السابقة كالتوراة والإنجيل أوكل حفظها إلى الأنبياء، وإلى الذين من بعدهم من المؤمنين، فالأنبياء قطعاً قاموا بحفظها، لكن الذين جاؤوا من بعدهم لم يحفظوها كما أراد الله عز وجل، لأنه أمر تكليفي، والأمر التكليفي غير الأمر التكويني، الأمر التكليفي يعصى، الأمر التكليفي قد لا يطبق، تماماً كما لو رأيت لوحةً كتب عليها: ممنوع المرور، على طريق، لكن الطريق مفتوح، وبإمكانك أن تخالف، وأن تسير، نقول: هذه اللوحة التي كتب عليها: ممنوع المرور، هذا أمر تكليفي، يطاع أو يعصى، أما إذا عصي هذا الأمر فهناك تبعات تلحق الذي عصى، لكن الأمر التكويني أن ترى أن الطريق مسدودة بمكعبات من الاسمنت المسلح، ارتفاع المكعب متران، هذا أمر تكويني، وليس أمراً تكليفياً. إلا أن الله جل جلاله لأن معجزة النبي هي القرآن اتحدت المعجزة مع الكتاب، فلأن النبي لا لقوم محددين، بل لكل الأمم الأرض مجتمعين، لذلك كانت معجزته وهي القرآن محفوظة بأمر تكويني من قبل الله.
﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) ﴾
هذا يفسر أن الكتب السماوية السابقة أُمر الأنبياء وأتباعهم من بعدهم بحفظها، فالأنبياء حفظوها، لكن أتباعهم لم يحفظوها، لأن الأمر بحفظها كان أمراً تكليفياً، بينما حفظ القرآن تولاه الله بذاته، قال:
القرآن الكريم تولى الله حفظه بذاته بأمر تكويني:
لذلك الشيء الذي لا يصدق مع أن الناس تفلتوا من أحكام القرآن، لكنّ القرآن حُفِظ كما أنزِل، وبأساليب وبأشكال لا تعد ولا تحصى، شيء يلفت النظر، ففي كل بلاد الأرض هناك طبعات من كتاب الله، بكل الأحجام والألوان والأشكال والتوضيحات والتيسيرات، ومطبوع بطرائق رائعة جداً، لأن الله تولى حفظه، تجد معظم الناس لا يطبقون أحكامه، ولكن إذا علم أن تغيراً طرأ عليه تقوم الدنيا ولا تقعد، فحفظ القرآن شيء يلفت النظر، تطبيقه شيء، وحفظه شيء آخر، لأن الله تولى حفظه، لا تجد في العالم الإسلامي احتمالاً طفيفاً أن تغير كلمة، أو أن يعدل حرف، بل إن هناك دراسات تتعلق بالحروف القرآنية، وبقضايا في الرياضيات بالغة الدقة تؤكد أنه لو بدلت حركة مكان حركة لاختل النظام الرياضي للقرآن الكريم، هذا قد يكون نوعاً من أنواع الإحكام والإعجاز.
على كلٍ القرآن الكريم تولى الله حفظه بذاته بأمر تكويني، هذه قضية إيمانية فإذا ما آمن الإنسان بهذه الآية، وأراد أن يناقش القضية مناقشة عادية فقد لا يصل إلى نتيجة، لكن هذه القضية قضية إيمانية مسلم بها الإنسان أن الله تولى حفظه، وأن القرآن الذي نزل على قلب النبي عليه الصلاة والسلام، والذي قرأه الصحابة الكرام هو القرآن نفسُه الذي بين أيدينا، ودقة حفظه وضبطه شيء لا يصدق، في كل العالم الإسلامي إن هو إلا انعكاس لتولي حفظ الله له بنفسه. إذاً:
فضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الله على خلقه:
ما ضر السحابَ نبحُ الكلاب، وما ضر البحرَ أن ألقى فيه غلام بحجر، ولو تحوّل الناس إلى كناسين ليثيروا الغبار على هذا القرآن، ما أثاروه إلا على أنفسهم، ويبقى القرآن قرآناً هو كلام الواحد الديان
من لا يثق بتشريع الله وحكمه فهو كافر:
هذه الآية أيها الأخوة؛
أيها الأخوة؛ هذه الآية تبين أن النبوة في الأرض موجودة، لأن الله خلقنا لنعرفه، لكن كانت هناك مرحلة أقوام متباعدين، ولكل قوم هاد، ولكل قوم معجزة، وهي كعود الثقاب تألقت، ثم انطفأت، وأصبحت خبراً، وكان كل تشريعٍ يعالج قضايا الأقوام الذين جاء التشريع من أجلهم، أما حينما كان التواصل بين الأمم والشعوب كما هي الحال الآن كان عليه الصلاة والسلام آخر الأنبياء، ولأنها اتحدت معجزته بكتابه، لذلك تولى الله بذاته حفظ كتابه بأمر تكويني لا بأمرٍ تكليفي .
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين