- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (009)سورة التوبة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
القرآن علمنا الموضوعية و عدم التعميم:
أيها الإخوة الأكارم، مع الدرس التاسع والعشرين من دروس سورة التوبة، ومع الآية الرابعة والثلاثين وهي قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(34)﴾
أيها الإخوة الكرام، أول ملمح في هذه الآية الموضوعية الرائعة التي نلمحها في القرآن، لم يقل الله -عز وجل- يا أيها الذين آمنوا إن الأحبار والرهبان، هذا تعميم، والتعميم دائماً يجانب الحقيقة، والتعميم من العمى، وأنا أنصح إخوتي الكرام ألا تُعمِّم، ألا تطلق حكماً عاماً على كل الناس، قل: إن بعض الناس.
مثلاً زار إنسان مدينة فانزعج من بعض المعاملات، يقول: كلهم كذابون، كلهم غشاشون، علامة الأمية والجهل التعميم، والإنسان المؤمن والمثقف لا يعمم، والقرآن علمنا الموضوعية.
التعميم من العمى وهو من خصائص الجهلاء:
أيّ منفعة بنيت على مضرة فهي حرام وأي منفعة بنيت على منفعة فهي حلال:
أيها الإخوة،
لكن أوضح مثل السرقة، المنتفع هو السارق وصاحب المال هو الخاسر، إنسان انتفع وإنسان خسر، وكأن الحرام منفعة يقابلها خسارة، مضرة، منفعة قامت على مضرة، لو تتبّعت الأموال الحرام، الربا، السرقة، الاحتيال، الغش، لوجدت أن مالاً أُخِذ بغير حق، منفعة انتفع بها البائع بناها على مضرة، ضُرّ بها الشاري، أي منفعة بُنيت على مضرّة في الأعمّ الأغلب هذه الطريقة في كسب المال تُصنَّف تحت الحرام، وأي منفعة بنيت على منفعة في الأعمّ الأغلب هذه العلاقة التي من شأنها أنها تنطوي على منفعتين أو على منافع متبادلة تنضوي تحت الحلال.
الطرائق لكسب المال الحرام لا تعد ولا تحصى وكلها مبنية على الوهم والتضليل:
لذلك:
لذلك البطولة أن يكون دخلك حلالاً، إن كان الدخل حلالاً أنت من أسعد الناس، دائماً وأبداً الدخل الحرام له نتائج سيئة جداً، هذا اللحم الذي ينبت من حلال يبارك الله فيه، هناك لحم ينبت من سُحت، من مال حرام، فهذا الأب الذي يأكل المال الحرام ويطعم أولاده هناك مشكلة في حياته كبيرة.
والله التقيت بإنسان، قال لي: عمري ست و تسعون سنة، البارحة أجريت تحليلاً كاملاً للدم والبول، سبحان الله! كله طبيعي، لا يوجد شيء خلاف النسبة الطبيعية، ثم قال لي: والله ما أكلت بحياتي قرشاً حراماً، ولا أعرف الحرام، أول حرام حرام المال، وثاني حرام حرام النساء.
الاستقامة عين الكرامة:
لذلك:
(( استقيموا ولن تُحْصُوا ))
الاستقامة عين الكرامة، كما أنه في التجارة يمكن أن تُضغَط التجارة بكل نشاطاتها، والله فيها أكثر من مئة ألف نشاط، نشاط متنوع، شراء، مبيع، دعاية سفر، أخذ وكالات، إنشاء معارض، ترويج بضاعة، طبع فواتير، شراء مستودعات، أكثر من مئة ألف نشاط، كل هذه النشاطات تُضغَط في كلمة واحدة، إنها الربح، فإن لم تربح فلست تاجراً، قياساً على هذا وكل نشاطات الدين، تؤلف كتاباً، تلقي محاضرة، تنتسب لمعهد شرعي، تذهب للحج و للعمرة، لو هناك مئة ألف نشاط ديني، كل هذه النشاطات يمكن أن تُضغَط بكلمة واحدة إنها الاستقامة، فإن لم تستقم لن تقطف من ثمار الدين شيئاً، دين من دون استقامة ثقافة، فلكلور،عادات، تقاليد، خلفية إسلامية، أرضية إسلامية، طموحات إسلامية، اهتمامات إسلامية، مشاعر إسلامية، بطاقة إسلامية، زخرفة إسلامية، أقواس إسلامية، الدين شيء والإسلاميات شيء آخر، الآن الدول مهما انحرفت، مهما انتشر فيها الفسق والفجور، يقال لك: بلد إسلامي، لأن فيه أبنية إسلامية، وبطاقات إسلامية، ومعالم إسلامية، وآثار إسلامية، الدين شيء آخر، الدين منهج يومي، لذلك لا تهتم كثيراً بما يقال، أرضية إسلامية، خلفية إسلامية، اهتمامات إسلامية، مؤلفات إسلامية، مشاعر إسلامية، فن إسلامي، الإسلام شيء آخر، الإسلام منهج مُطبَّق، إن لم يُطبَّق أصبح الدين ثقافة، وأصبح الدين تراثاً، وأصبح الدين من منجزات الأمة الفكرية.
تحري الحلال وغض البصر عن محارم الله حصنان يقيان المؤمن من أخطر انحرافين:
لذلك:
فلذلك المؤمن حينما يحصّن نفسه من موضوع المال الحرام، والعلاقة الآثمة المحرمة مع النساء، نجا من أكبر مطبات الإنسان، أكبر مطبَّين ينتظران الإنسان مطب المرأة ومطب المال، ولو استعرضت الفضائح في تاريخ البشرية لا تزيد عن نوعين من الفضائح، فضيحة مالية اختلاس، فضيحة جنسية زنى فقط.
لذلك تحرّي الحلال وغض البصر عن محارم الله حِصنان يقيان المؤمن من أخطر انحرافين في الحياة، أما أكل المال بالحق، درست اختصاصاً، صرت طبيباً، جاءك مريض عالجته، تقاضيت الأجرة، هذه تأخذها بالحلال، درست هندسة، أنشأت مخططاً لبناء، تلقيت الأجر، درست صيدلة، فتحت صيدلية، بعت الدواء، تلقيت ربحاً، كل حرفة مقبولة مادامت مشروعة، لذلك في الإسلام بدائل، ما حرم الله عليك شيئاً إلا جعل لك بدائل له.
مثلاً يقول لك: نحن بحاجة إلى التأمين، هناك تأمين محرم، التأمين التجاري مُحرَّم، والتأمين التعاوني مندوب، تصور مئة تاجر أقمشة، عملوا صندوقاً للتأمين، وضع كل واحد بهذا الصندوق مئة ألف، مئة ألف أربع أصفار ضرب مئة يعني عشرة ملايين، عشرة ملايين هذا مال لهم وظفوه بمشاريع، إن صار هناك عطب لأحد التجار، أخذ من هذا الصندوق تعويضاً، تأمين تعاوني، هذا من أرقى أنواع التأمين، أنت مالك محفوظ لك، وقد يُستثمَر، وإذا أصاب أحد زملائك مصيبة يُدفَع من هذا الصندوق، لا يوجد أروع من التأمين التعاوني، والآن بدأ ينتشر، هذا حلال، بل مندوب، لا تصدق شيئاً حرمه الله ليس له بديل حلال.
أنواع المال الحرام لا تعد ولا تحصى:
لذلك هذا الإنسان الذي يغير الواقع في البيع والشراء لا يظن نفسه ذكياً، أحياناً إنسان يجمع مالاً حراماً خلال عشر سنوات، يذهب بمصادرة واحدة، يذهب بكارثة واحدة، أنت جمعتهم خلال عشر سنوات و ذهبوا بليلة واحدة.
والله إنسان أظنه صالحاً ولا أزكي على الله أحداً، احترق محله التجاري، فأنا أمامه والمحل يحترق، لكن أظنه صالحاً، قال لي: أنا أعمل بهذا العمل منذ ثلاثين سنة، لعلي أكلت مالاً حراماً بهذه السنوات، فجمع الله لي إياهم بهذا الحريق، وجدته راضياً، هناك عدل إلهي، لعلي أكلت مالاً حراماً خطأ بالبيع والشراء، عنده معمل نسيج، وعنده محل للبيع، محل البيع احترق، فخسر حوالي عشرة ملايين ليرة بضاعة، قال لي: هناك خطأ مني، لعلي أكلت مالاً حراماً بثلاثين سنة.
ما نزل بلاء إلا بذنب ولا يرفع إلا بتوبة:
يجب أن تعتقد يقيناً أنه لا يوجد مصاب ينزل بلا سبب، ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا يرفع إلا بتوبة، حاول ألا تجامل نفسك، حاول ألا تحابي نفسك، الله -عز وجل- يقول:
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً(147)﴾
أي مستحيل وألف ألف ألف مستحيل أن تجد خيراً في المعصية، ومستحيل وألف ألف ألف مستحيل أن تجد سوءاً في الطاعة، الطاعة كلها خير، والمعصية كلها شر، لكن لحكمة بالغة قد يكون الشر غير واضح، لكن الواضح هو المبلغ الكبير، هذا المبلغ الكبير قد يُدفَع على صحة الإنسان، بتعبير آخر الله -عز وجل- عنده ملايين الخيارات، تجمع مالاً كثيراً بطريق غير صحيح مرض واحد يمنعك من التمتع بهذا المال.
كان عندي طالب له قريب صاحب دار سينما، فهو يأتي بالأفلام الساقطة كي تروج مشاهدتها عند الناس، وهذه السينما من الدرجة الخامسة أو العاشرة، وانحرافات، وهو في الأربعينات صار معه ورم خبيث، فزاره طالبي لأن هذا الشخص يكون خاله، بكى وقال له: أنا حاولت عن طريق الأفلام أن أجمع ثروة طائلة لأتمتع فيها بخريف عمري، ها قد وافتني المنية بوقت مبكر.
أي لا تظن أنه يمكن أن تقوم بعمل لإيذاء الناس وتنجو من عذاب الله.
من صفات المجتمع المنحرف أكل أموال الناس بالباطل وصدّ عن سبيل الله:
أيها الإخوة الكرام،
على الإنسان أن ينطلق في كسب المال لا من حاجته بل من قدرته:
ثم يقول الله -عز وجل-:
فدائماً يجب أن تنطلق في كسب المال لا من حاجتك بل من قدرتك، مادام الإنفاق واجباً، إذاً ينبغي أن تكسب المال بطريقة تزيد عن حاجتك كي تعطي الفقراء والمساكين.
الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق:
أيها الإخوة، الله -عز وجل- جعل من الذهب والفضة أصلَين للعُملات، الآن حتى العملة الورقية أصلها ذهب أو فضة، أي مغطاة في المؤسسات النقدية بعدد من الأوزان الذهبية تكافئ هذه الأوراق الورقية المطبوعة.
مرة لفت نظري إنسان عنده بنت كلما جاءها خاطب لا يرجع وهي صالحة جداً وحافظة لكتاب الله، فاشترى لها بيتاً وجعل هذا البيت لها، فجاءها خُطّاب كثر، شاب بمقتبل حياته لا يوجد عنده بيت، وهذه فتاة معها بيت، فهذه الفكرة راقت له فأنشأ بناء، وكل فتاة ممن يعرفها صالحة، حافظة لكتاب الله، محجبة، يكتب لها بيتاً صغيراً فتتزوج سريعاً، انظر هذا العمل لا يأتي ببال إنسان، هيّأ زواجاً لفتيات مؤمنات، طاهرات، عفيفات، حافظات لكتاب الله.
والله الأعمال الصالحة لها طرائق، وأساليب، وأنواع، وصور، لا تعد ولا تحصى، أنا أجمعها بهذه الكلمة، الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق، والله لا يوجد إنسان من الحاضرين وأنا معكم، إلا بإمكانه ضمن عمله أن يعمل عملاً صالحاً، ضمن بيئته، ضمن بيته، ضمن إمكانيته، ضمن أوضاعه العامة، له أن يعمل عملاً صالحاً.
من عاش تقياً عاش قوياً:
البطولة في خريف العمر، فالذي نشأ بصلاح وورع وتقى له عند الله خريف عمر كبير.
إخواننا الكرام، لا تبتعدوا كثيراً، مرة أقيم حفل لعلماء الشام، عدد كبير منهم تجاوز المئة، ويتمتع بأعلى درجات الصحة، سبحان الله! من علامات التوفيق أن يطول العمر، ويحسن العمل.
مهمة الإنسان أن يربي ابناً صالحاً يحسن إدارة المال من بعده:
النار عاقبة من كنز الذهب و الفضة:
﴿
إنسان فقير سألك سؤالاً، فقلت له بجبهتك: لا يوجد معي، هذه الجبهة، وأحياناً تعطيه طرف جسمك، الجنب، وأحياناً تُدير له ظهرك، فالأجزاء الثلاث من الجسم التي عبرت على عدم الإنفاق الجبهة والجنب والظهر:
المال أحد أكبر الأشياء التي سوف يحاسب عليها الإنسان يوم القيامة:
إخواننا الكرام، أحد أكبر الأشياء التي سوف تحاسب عليها المال من أين اكتسبته؟ وفيمَ أنفقته؟ معك جواب؟.
يُروى أن إنساناً من كبار أثرياء مصر توفي، وأولاده سمعوا درساً من عالم يقول فيه أن أصعب ليلة للميت هي أول ليلة، فخافوا عليه، فخطر في بالهم أن يكلفوا إنساناً لينام معه أول ليلة، أحضروا إنساناً فقيراً جداً ليس لديه سوى كيس خيش يرتديه بعد أن ثقبه وأخرج رأسه من الفتحة ومن طرفيه أخرج يديه، ويربطه بحبل، هذا كل ما يملك، فأعطوه عشرة جنيهات لينام في هذه الليلة مع أبيهم في القبر، فاختل توازنه من الفرح، ينام لا مشكلة عنده، -هذه القصة طبعاً رمزية- جاء الملكان فرأيا شخصين قال أحدهما للآخر: عجيب، هناك اثنان في القبر، وليس واحد، يبدو أن الحي خاف فتحرك، فقال أحدهما للآخر: هذا حي وليس بميت، بدؤوا به فأجلسوه، فلما أجلسوه بدؤوا بالحبل، هذا الحبل من أين أتيت به؟ قال لهم: من البستان، كيف دخلت للبستان؟ لم يعرف الجواب فضربوه ضرباً مبرحاً، هذا فقط للسؤال عن طريقة دخوله للبستان، لم يسألوه بعد كيف أخذها، هناك فرق، فهذا عندما خرج من القبر، قال: أعان الله أباكم.
والله الذي لا إله إلا هو سوف نحاسب عن كل شيء، والله عن ابتسامة بغير محلها، إنسان صديقك قال لك: ماذا نفعل إذا الإنسان لا يغش لا يعيش؟ إن قلت له: والله معك حق، أو هززت برأسك أن هذا الكلام صحيح، فهذا إثم كبير، والله لا أبالغ سوف نحاسب عن كل شيء، ما لم نستغفر، ونتوب، القضية ليست سهلة.
أشقى الناس من عاش فقيراً ليموت غنياً:
لذلك التوجيه القرآني أن الذي يستحق منك صدقة:
﴿ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ
إخواننا الكرام، الآيات:
والحمد لله رب العالمين.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تُهنّا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضِنا وارضَ عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
الملف مدقق