وضع داكن
28-03-2024
Logo
سبل الوصول - الدرس : 50 - الزهد لا أن يكون ترك الدنيا بل ملك الدنيا مع تركها
رابط إضافي لمشاهدة الفيديو اضغط هنا
×
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.

الزهد :


أيها الأخوة الأكارم، لا زلنا في موضوعٍ يتصل أشد الاتصال بـ: "سبل الوصول وعلامات القبول" ألا وهو "الزهد".
وبادئ ذي بدء: لابدّ من توضيح الفرق الدقيق بين اللذة وبين السعادة، اللذة شيء والسعادة شيءٌ آخر، اللذة حسية طابعها حسي مادي، تأتيك من الخارج لا من الداخل، تحتاج إلى مالٍ وفير، وإلى وقتٍ مديد، وإلى صحةٍ عالية.
ولحكمةٍ بالغةٍ بالغة الإنسان يفتقد أحد الشروط الثلاث دائماً، ففي البدايات الصحة جيدة والوقت مديد لكن لا يوجد مال وفير، إذاً اللذائذ ليست محققة، وفي منتصف الحياة المال وفير والصحة جيدة لكن لا يوجد وقت، انغماسٌ في العمل إلى أقصى الحدود، وفي خريف العمر المال وفير والوقت مديد لكن لا يوجد صحة، اللذة طابعها حسي، مصدرها خارجي، تحتاج إلى وقتٍ، وإلى مالٍ، وإلى صحة، ولحكمةٍ بالغة أحد هذه الشروط يفتقده الإنسان دائماً.

اللذة و السعادة :

السعادة تنبع من الداخل، لا تحتاج إلى شيءٍ خارجي، وهي مستمرةٌ ومتنامية، وقد تتصل بنعم الآخرة.
السعادة تأتي من الاتصال بالله، السعادة تأتي من الإقبال على الله، السعادة تأتي من محبة الله، السعادة تأتي من معرفة الله، فرقٌ كبيرٌ كبير بين اللذة والسعادة، الزهد في الدنيا يحقق السعادة، بينما اللذائذ تتناقض مع الزهد، الآن القرآن الكريم ينصح المؤمنين:

﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ ﴾

[ سورة النساء الآية : 77 ]

خالق السموات والأرض يخبرنا أن:

﴿ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ﴾

[ سورة النساء ]

آيةٌ ثانية تؤكد على المعنى نفسه.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾

[ سورة التوبة ]

من رحمة الله بالإنسان إن اتخذ قراراً خاطئاً أن يتولى الله عز وجل تربيته :

الله عز وجل لأنه ربنا، ويحبنا، ويرعانا، وخلقنا، لذلك وعدنا:

﴿ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ ﴾ 

[ سورة آل عمران الآية : 133 ]

 

﴿ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾

[ سورة التوبة ]

من رحمة الله بنا إن اتخذنا قراراً خاطئاً فالله عز وجل يتولى تربيتنا، وحينما وصف الله الذين شردوا عنه فقال:

﴿ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾

[ سورة الأعلى ]

بربكم لو خيرنا إنساناً أن نعطيه سيارةً لساعةٍ واحدةٍ ودراجةً لوقتٍ مديد دائماً يختار الدراجة، فلو خيرناه بين دراجةٍ لوقتٍ مديد وسيارةٍ لوقتٍ مديد يختار السيارة، فإذا خيرناه بين دراجةٍ لوقتٍ قصير وسيارةٍ لوقتٍ مديد من الحمق أن يختار الدراجة.

﴿ وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى ﴾

[ سورة الضحى ]

﴿ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾

[ سورة الأعلى ]

سحرة فرعون قدموا أروع المثل عندما آمنوا بسيدنا موسى أمام فرعون :

أخواننا الكرام، سحرة فرعون قدموا أروع المثل، آمنوا بسيدنا موسى، فرعون صُعق، جاء بهم ليدعموه، فإذا هم يؤمنون.

﴿ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ﴾

[ سورة طه ]

فرعون صُعق:

﴿ قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى * قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾

[ سورة طه ]

كلامٌ دقيقٌ جداً.

﴿ إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا*وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا*جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى ﴾

[ سورة طه ]

بالمصطلح الحديث: هؤلاء السحرة أحرقوا المراحل، أحياناً تأتيك ومضة، إشراقة، قفزة، فإذا أنت في أعلى درجات الإيمان، وهؤلاء السحرة يمثلون هذا النموذج النادر

﴿ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ ﴾

لمن يقتل الناس بثانية ، قتل الناس عند فرعون سهل جداً.

﴿ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ﴾

[ سورة القصص الآية : 4 ]

﴿ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾

ما خيرٌ بعده النار بخير وما شرٌ بعده الجنة بشر :

أخواننا الكرام، سيدنا علي ـ رضي الله عنه ـ يقول مخاطباً ابنه: "يا بني ما خيرٌ بعده النار بخير" ـ ارتقيت لأعلى منصب، جمعت أكبر ثروة، استمتعت بالحياة إلى قمة رأسك ـ وما شرٌ بعده الجنة بشر، وكل نعيمٌ دون الجنة محقور، وكل بلاءٍ دون النار عافية". 

﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾

 

[ سورة آل عمران ]

القرآن الكريم يخاطب المؤمنين:

﴿ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾

[ سورة طه الآية : 131 ]

أي إذا كنت مؤمناً ولك صديقٌ بعيدٌ عن الدين، لكنه في غنىً كبير، لمجرد أن تقول: هنيئاً له فأنت لا تعرف الله، كان عليه الصلاة والسلام إذا رأى شيئاً جميلاً من متاع الدنيا يقول:

(( اللهم لا عيشَ إِلا عيشُ الآخرةِ ))

[أخرجه البخاري ومسلم والترمذي عن سهل بن سعد الساعدي ]

من تأوه و تحسر إذا رأى شيئاً جميلاًفهذا إنسانٌ عند الله جاهل :

أوضح مثل قارون.

﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ﴾

[ سورة القصص الآية : 79]

الآن قد تجد بيتاً، مركبات أمامه، حدائق.

﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴾

[ سورة القصص ]

استمع إلى التعليق:

﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾

[ سورة القصص ]

الإنسان أيها الأخوة، إذا تأوه، وتحسر، وتمنى إذا رأى شيئاً جميلاً، ونسي أن الله أعدّ له.

﴿ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ ﴾

[ سورة آل عمران الآية : 133]

هذا إنسانٌ هو عند الله جاهل.

 

الله عز وجل خلق الإنسان ليسعده في الدنيا و الآخرة :

أيها الأخوة الكرام، هناك آية دقيقة جداً يقول الله فيها:

﴿ وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾

[ سورة الزخرف الآية : 33 ]

أي هم جميعاً مدعوون للجنة، هم جميعاً مدعوون لرحمة الله، لسعادة الدارين:

﴿ وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ﴾

[ سورة الزخرف ]

الكافر مدعوٌ للجنة، مدعوٌ إلى رحمة الله.

﴿ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى*فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾

[ سورة طه ]

والدليل:

﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ﴾

[ سورة هود الآية :119 ]

أدق آية:

﴿ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾

[ سورة هود الآية : 119 ]

خلقنا ليرحمنا، خلقنا ليسعدنا في الدنيا والآخرة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(( الدنيا دار من لا دار له، ولها يجمع من لا عقل له ))

[أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن عائشة أم المؤمنين ]

إن أسعد الناس في الدنيا أرغبهم عنها، وأشقاهم فيها أرغبهم فيها.

(( مَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ وَمَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ ))

[أخرجه ابن ماجه عن زيد بن ثابت ]

المؤمن لأنه تعلق بالآخرة وأراد أن يكون من أهلها أهم شيءٍ في حياته أن يعطي :

أخوتنا الكرام، لمجرد أن تؤمن بالآخرة الإيمان الذي أراده الله تنعكس مقاييسك، تنعكس مئة وثمانين درجة، إن آمنت في الدنيا ترى الذكاء، والعقل، والبطولة في الأخذ، إن آمنت بالآخرة ترى الذكاء، والعبقرية، والبطولة في العطاء.
لذلك الأنبياء أعطوا ولم يأخذوا، الأقوياء أخذوا ولم يعطوا، والناس جميعاً تبعٌ لقوي أو نبي، ما الذي يسعدك أن تعطي أم أن تأخذ؟ المؤمن لأنه تعلق بالآخرة وأراد أن يكون من أهلها، أهم شيءٍ في حياته أن يعطي لا أن يأخذ، وأهل الدنيا يأخذون ولا يعطون.
مرة أخ كريم جاء من أمريكا، وأنا علمت أنه اشترى بيتاً، فباركت له، فقال لي: لم أشترِه، استأجرته حتى الموت، هو اشتراه، لكن هذا البيت مثوى مؤقت، والدليل: اقرؤوا جميع النعوات، وسيشيع إلى مثواه الأخير، معنى ذلك أنت في بيتٍ هو في الحقيقة مؤقت، والبطولة أن تعد للبيت الأخير.
أحد رعاة الإبل معه قطيع إبل سُئل لمن هذا القطيع؟ قال علماء البلاغة: أجاب أبلغ إجابة في اللغة العربية، قال: هي لله في يدي، فأنت آمن كإيمان هذا الراعي، وبيتك لله في يدك، ومركبتك لله في يدك، ومكتبك التجاري لله في يدك، كل شيء في حوزتك هو لله، الآن بيدك وفي أية لحظة يؤخذ منك.

بطولة الإنسان أن يعيش المستقبل :

أخواننا الكرام، هؤلاء السلف الصالح كانوا عقلاء، سيدنا عمر بن عبد العزيز كان إذا دخل دار الخلافة يتلو هذه الآية، والله هذه الآية تقشعر منها الأبدان، كان يقول الآية الكريمة:

﴿ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ﴾

[ سورة الشعراء ]

هؤلاء الطغاة عاشوا حياة ناعمة جداً، البلاد كلها لهم، الأموال كلها لهم، المتع كلها لهم، القصور كلها لهم ، فإذا ماتوا أين النعيم؟

﴿ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ﴾

البطولة أن تعيش المستقبل، الأغبياء يعيشون الماضي، والأقل غباءً يعيشون الحاضر، أما الأذكياء والعقلاء فيعيشون المستقبل.
يا ترى ما هو أخطر حدثٍ مستقبليٍ ينتظرنا جميعاً وأنا واحدٌ منكم؟ مغادرة الدنيا من بيتٍ إلى قبر، بيت أربعمئة متر بعده القبر، منصب رفيع بعده القبر، أموال طائلة بعدها القبر، زوجة وأولاد وأقارب وأتباع بعدهم القبر.
أيها الأخوة، بحسب ما يُرى الإنسان يجمع الدنيا لَبِنةً لبنة ثم يخسرها في ثانيةً واحدة، يخسر كل شيء، لا يأخذ معه إلى القبر إلا الكفن، وأنا بحسب ما سألت من أرخص أنواع الأقمشة.

 

الغنى الحقيقي غنى العمل الصالح والفقر الحقيقي فقر العمل الصالح :

أيها الأخوة، القرآن الكريم مملوءٌ بالتزهيد في الدنيا، والإخبار بخستها، وقلتها، وانقطاعها، وسرعة فنائها، مملوءٌ في الترغيب بالآخرة، والإخبار بشرفها ودوامها، وإذا أراد الله بعبدٍ خيراً أقام في قلبه شاهداً يعاين به حقيقة الدنيا والآخرة، هناك آية دقيقة جداً قد لا ننتبه إليها:

﴿ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ﴾

[ سورة ص الآية : 46 ]

مرة سألوا طالباً نال الدرجة الأولى في الشهادة الثانوية: كيف نجحت هذا النجاح الباهر؟ قال: لأن لحظة الامتحان لم تكن تغادر مخيلتي ولا ثانية طوال العام الدراسي.
وأنا أقول لكم: لحظة مغادرة الدنيا من بيتٍ إلى قبر ينبغي ألا تغادر أذهاننا ولا دقيقة في الحياة لماذا؟ لأنك إن فعلت هذا عملت للآخرة، الغنى الحقيقي غنى العمل الصالح، والفقر الحقيقي فقر العمل الصالح.

﴿ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾

[ سورة القصص]

سيدنا علي يقول: "الغنى والفقر بعد العرض على الله".
العلماء لهم أقوال في الزهد، قال بعضهم: "الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة"، أنت اجعل هذا المقياس الدقيق، أي شيءٍ لا يدخل معك في القبر فهو من الدنيا.
والله أعرف رجلاً له أذواق في الدنيا تفوق حدّ الخيال، بيته، مركبته، سفرياته، طعامه، شرابه، أذواق عالية جداً، توفي ـ رحمه الله ـ فجاء أحدهم ليلقي كلمة وهو في النعش، قال: كان أخوكم ـ أبو فلان ـ مؤذن ترحموا عليه، أنا صعقت، كلمة واحدة، فكرت هل يمكن الحديث عن بيته؟ لا، عن مركبته؟ لا، عن سفره؟ لا، عن أناقته؟ لا، عن أثاث بيته؟ لا، الحديث عن أعماله الصالحة، كان مؤذناً فقط، قال: ترحموا عليه، أنا لا أنسى هذا الموقف السريع، تأبين بكلمة واحدة، قلت بنفسي: اعمل عملاً يتحدثون بعد الموت دقيقة، أو خمس دقائق، هناك أشخاص لهم أعمال كالجبال، هذا هو الغنى الحقيقي.

 

حجم الإنسان عند الله بحجم عمله الصالح :

إن لم تترك أثراً في الدنيا فأنت زائدٌ عليها، حجمك عند الله بحجم عملك الصالح، قال: "الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما تخاف ضرره في الآخرة، الزهد في الدنيا قصر الأمل، وليس بأكل الغليظ من الطعام، ولا لبس الخشن من الثياب".
والله مرة حدثني أخ عن مشاريعه لعشرين سنة قادمة، بتفاصيل مملة خلال ساعة، وفي المساء قرأت نعوته.
لذلك قالوا: من عدّ غداً من أجله فقد أساء صحبة الموت، والله لي صديق أو هو في الأصح صديق أخي، عندهم كل سبت سهرة، واحد من هؤلاء الأعضاء في هذه السهرة رشيق، وسيم الصورة، ذكي جداً، وهو أستاذ فلسفة، قال: أنا لن أموت في وقت باكر، أي قال كلاماً غير مألوف، سألوه لماذا؟ قال أنا وزني مناسب جداً، وأتابع الرياضة يومياً، كل طعامي خضراوات وفواكه، وهو عنده روح دعابة ومرح، هذا الكلام قاله السبت مساءً، السبت الثاني كان تحت أطباق الثرى.
حقيقة قصة مؤثرة جداً، بحسب قواعد الصحة، بحسب رشاقته، واعتنائه بالرياضة، أنا مع الرياضة لست ضد الرياضة، لكن لا تؤله الرياضة، بشكل دقيق لك عند الله ثلاث وسبعون سنة، وأربعة أشهر، وثلاثة أسابيع، وخمسة أيام، وأربع ساعات، وثلاث دقائق، وثماني ثواني، هذا العمر إما أن تمضيه في السرير إذا ما اعتنيت بجسمك، أو تمضيه واقفاً، فالرياضة أن تمضي العمر الذي أعدّه الله لك واقفاً، الرياضة مهمة جداً ولكن لا تطيل العمر ولا تقصره، الرياضة أن تستمتع بصحتك، وأن تبقى نشيطاً طوال حياتك، أما أن تتوهم أن الرياضة لها علاقة بالعمر فهذا شيء مستحيل.
أيها الأخوة، قصص أحياناً تترك أثراً كبيراً، مرة هناك جامع إلى جانب جامع النابلسي، دُعيت إلى حضور احتفال بإلحاح شديد، والله لبيت الدعوة، استقبلني رجل في مدخل المسجد و رحب بي ترحاباً منقطع النظير، جلست في المكان المقرر، بعد دقائق وجدت أن هناك اضطراباً في المسجد، هناك متكلم لكن يوجد اضطراب، بعد أن انتهت كلمته سألت؟ هذا الذي استقبلني وقع ميتاً، والله ذهبنا إلى المستشفى و لكنه مات لتوه قبل دقيقة، الموت يأتي بغتةً والقبر صندوق العمل.
والله هناك قصص خلال الأشهر الستة الماضية، أخوة كرام، صلى الفجر في جماعة والظهر في المسجد والعصر كان مدفوناً، هناك علماء ماتوا في المسجد لا يشكون شيئاً، هذه من نعم الله الموت في المسجد أيضاً.

أقوال في الزهد :

أيها الأخوة، الإمام الجنيد قال:

﴿ لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾

[ سورة الحديد ]

هذه الآية متعلقة بالزهد، قال: "الزاهد لا يفرح من الدنيا بمولود ولا يأسف منها على مفقود".
قال: "الزاهد هو الذي ينظر إلى الدنيا بعين الزوال فتصغر في عينيه، فيسهل عليه الإعراض عنها".
قال: "الزاهد عزف قلبه عن الدنيا بلا تكلف".
قال الجنيد: "الزهد خلو القلب مما خلت منه اليد"، أي لم يتح لك زوجة كما تتمنى، لابأس الحياة مؤقتة، "الزهد أن يخلو القلب مما خلت منه اليدان"، هذا تعريف دقيق، "الزهد في الدنيا قصر الأمل"، "الزهد في الدنيا عدم الفرح بإقبال الدنيا ولا بالحزن عليها".
ُسئل: الرجل يملك آلافاً مؤلفة هل يكون زاهداً؟ قال: نعم بشرط ألا يفرح إذا زادت وألا يحزن إذا نقصت.
بعضهم قال: "الزهد ترك ما يشغل عن الله عز و جل".
بعضهم قال: "الزهد استصغار الدنيا ومحو آثارها من القلب".
وقال بعضهم: "لا يبلغ أحدٌ حقيقة الزهد حتى يكون فيه ثلاث خصال: عملٌ بلا علاقة، وقولٌ بلا طمع، وعزٌ بلا رئاسة".

 

أنواع الزهد :

آخر شيء أخوتنا الكرام، الزهد على ثلاثة أوجه، ترك الحرام وهذا زهد العوام، وترك الفضول من الحلال وهذا زهد الخواص، وترك ما يشغل عن الله وهذا زهد العارفين.
وبعضهم قال: الزهد سفر القلب من الدنيا إلى الآخرة، قال تعالى:

﴿ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾

[ سورة النور]

أخوتنا الكرام، موضوع الزهد لا أن تكون فقيراً، ولا أن تكون يدك هي الدنيا، ولا أن تكون متضعضعاً أمام قويٍ ولا أمام غني، ولكن الزهد أن يكون المال بيديك لا في قلبك، أن يكون العمل الصالح هدفك الأول، والذي بيدك من الدنيا في خدمة هذا الهدف الكبير. 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور