وضع داكن
26-12-2024
Logo
الدرس : 49 - سورة النساء - تفسير الآيات 105-110 ، علاقتنا مع الله وحده
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا بما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

ملخص لما ورد في الدرس الماضي :

 أيها الأخوة الكرام، مع الدرس التاسع الأربعين من دروس سورة النساء ومع الآية الخامسة بعد المئة وهي قوله تعالى:

﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً ﴾

 أيها الأخوة الكرام، تحدثت في الدرس الماضي عن هذه الآية تحدثت عن أن الله سبحانه وتعالى حينما يتحدث عن ذاته العلية يأتي ضمير المفرد، قال تعالى:

﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي ﴾

[ سورة طه: 14 ]

 وإن تحدث عن أفعاله فكل أسماءه الحسنة منطوية في أفعاله:

﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ﴾

 أما قوله تعالى:

﴿ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ ﴾

 هذا الكتاب يسع المؤمنين وغير المؤمنين وأنت حينما تتعامل مع الخلق ينبغي أن تكون معاونتك وفق منهج الله، بصرف النظر عن هويتهم، وعن انتمائهم، وعن إسلامهم، أو عن أي شيء آخر، ووقفت وقفةً متأنيةً عند قوله تعالى:

﴿ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً ﴾

 وذكرت أن الأحداث التي تقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مقصودة لذاتها لتكون متكئاً لتشريع حي، فهناك قيمة هي قيمة العدل، هذه القيمة تبدو واضحةً جليةً في هذه القصة.

 

قصة الدرع المسروقة :

 أيها الأخوة الكرام، كان في بني ظفر واحد اسمه طعمة بن أبيرق، بنو ظفر قوم من الأنصار يسكنون المدينة، وقد بينت في الدرس الماضي أن الأنصار نصروا رسول الله، آووه، نصروه، آمنوا به، عزروه، أكرموه، هم أهله، ومن أدعية النبي عليه الصلاة والسلام:

(( اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار))

[ أحمد عن أبي سعيد الخدري ]

(( وما سلك الناس شعباً وسلك الأنصار شعباً آخر إلا سلكت شعب الأنصار))

[ البخاري والنسائي عن أبي هريرة ]

 هناك أحاديث كثيرة تتحدث عن الأنصار، وعن فضلهم، وإيمانهم، وسبقهم.
 شاءت حكمة الله عز وجل أن واحداً من الأنصار من بني ظفر اسمه طعمة بن أبيرق سرق درعاً، وهذا الدرع كان لقتادة بن النعمان، أنصاري، كان هذا الدرع في كيس فيه دقيق، وهذا الكيس فيه ثقب بسيط، هذا الثقب رسم خطاً من ساحة المعركة إلى بيت طعمة بن الأبيرق، فلما تفقد صاحب الدرع قتادة بن النعمان تفقد درعه، أشير بإصبع الاتهام إلى الأبيرق من آثار الطحين، لكن ابن الأبيرق خاف أن يحتفظ بالدرع في بيته فيعرف الناس أنه سرق الدرع، يبدو أنه كان منافقاً، ويبدو أنه كان سارقاً، فذهب إلى يهودي وأودع عنده الدرع، وتروي القصة أن الدرع كما قلت قبل قليل كان في جراب دقيق، وحينما خرج به طعمة بن الأبيرق وحمله صار الدقيق ينتثر من خرق في الجراب، وتكوَّن من الدقيق أثراً في الأرض إلى بيت اليهودي، وهذا اليهودي اسمه زيد بن السمين، وعندما تتبعوا أثر الدقيق وجدوه إلى بيت طعمة، ولكنه حلف بالله أنه ما أخذها وما له بها من علم فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهى الأثر إلى منزل اليهودي، فأخذوها وقالوا: لقد سرق ابن السمين.
 الآن التهمة وجهت إلى اليهودي لأن الدرع وجدت في بيته، ولأن أثر الدقيق انتهى إلى بيته، وهنا قال ابن السمين: أنا لم أسرق الدرع ولكن أودعه عندي طعمة بن الأبيرق، وذهبوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام في قضية، قضية درع مسروقة ويبدو أنها ثمينة، والتهمة بين اليهودي التي وجدت عنده الدرع وبين ابن الأبيرق الذي انتهى الخط إلى بيته، وجاء بن ظفر وهم أهل ابن الأبيرق وجاءوا بني ظفر وهم مسلمون ومن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام وطعمة بن الأبيرق منهم وقالوا يا رسول الله لو حكمت على المسلم ضد اليهودي فستكون المسألة ضد المسلمين وسيوجه العار للمسلمين دافعوا عن قريبهم ولعلهم ظنوا أنه لم يسرق.
 قضية شائكة في دليل يؤكد أنه عند اليهودي ودليل آخر أن خط الدقيق يصل إلى طعمة بن الأبيرق قضية شائكة. لو حكمت يا رسول الله على المسلم ضد اليهودي فستكون المسألة ضد المسلمين وسيوجه العار إليهم.

 

أسباب هلاك الأمم :

 أيها الأخوة، والله الذي لا إله إلا هو لو أن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام فهموا الإسلام كما يفهمه المسلمون اليوم والله ما خرج الإسلام من مكة إلى المدينة، لا يصل، ولأنه وصل إلى أصقاع الدنيا وصل بقيم إنسانية رفيعة.
 الآن هناك إنسان ينتمي إلى أشد القوم عداوةً لرسول الله، إنسان ينتمي إلى أشد القوم عداوةً لرسول الله، ائتمروا على قتله وفعلوا الأفاعيل وهو بريء من هذه التهمة بالذات، وهناك إنسان ينتمي إلى قوم النبي، إلى الأنصار الذين نصروه وأيدوه وآمنوا به وصدقوه وعزروه، والأنظار تتجه إلى اليهودي، فإذا كان اليهودي هو السارق فهذا نصر للمسلمين وتبريئاً لهم ورفع لرؤوسهم، وإذا كان الأنصاري هو السارق فهذه وصمة عار بحق الأنصار واليهودي يرفع رأسه عالياً، هل تصدقون أيها الأخوة أنه إذا سرق الشريف ترك وإذا سرق الضعيف أقيم عليه الحد، هذا من أسباب هلاك الأمم لو تتبعتم أسباب هلاك الأمم.

((عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ قُرَيْشاً... يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا ضَلَّ مَنْ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ الضَّعِيفُ فِيهِمْ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ((

[ متفق عليه عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا]

 إن من أسباب هلاك الأمم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، إن من أسباب هلاك الأمم قوله تعالى:

﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً ﴾

[سورة الإسراء: 16]

 من أسباب هلاك الأمم ترك الأمر بالمعروف وترك النهي عن المنكر، من أسباب هلاك الأمم الظلم، وإن الله ينصر الأمة العادلة الكافرة على الأمة المسلمة الظالمة.

 

معظم أسباب هلاك الأمم موجودة في المسلمين اليوم :

 قال بعض العلماء: الدنيا تصلح بالكفر والعدل ولا تصلح بالإيمان والظلم، يؤيد هذا قول الله عز وجل:

﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾

[ سورة الأنعام: 81-82 ]

 أما إذا ألبس المؤمن إيمانه بالظلم ليس آمناً، وليس ناجياً، وسوف يعذب أشد العذاب، قال تعالى:

﴿ وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا﴾

[سورة الكهف: 59]

 ما قولكم أيها الأخوة، أن معظم أسباب هلاك الأمم موجودة في المسلمين، وأنا أعني ما أقول، الأقوام السابقون كان الله عز وجل يهلك الأمة لمعصية واحدة، فإذا اجتمعت كل المعاصي في المسلمين فشيء طبيعي جداً أن يتخلى الله عنا، لا يلتفت إلى دعوانا، قال تعالى:

﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾

[ سورة آل عمران: 31 ]

 ما قبل الله دعوى محبته إلا بالدليل، والذين قالوا:

﴿ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ﴾

[سورة المائدة: 18]

 رد الله عليهم وقال:

﴿ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ﴾

[سورة المائدة: 18]

عدل الله المطلق :

 إذا قال المسلمون اليوم: نحن أمة محمد عليه الصلاة والسلام، نحن أمة سيد الخلق، نحن أمة حبيب الحق، نحن أمة خاتم الأنبياء، نحن أمة سيد الرسل، الجواب نفسه:

﴿ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ﴾

[سورة المائدة: 18]

 لا قيمة لكم إطلاقاً، أنتم مع دهماء الأمم، وأنت أيها المسلم إن لم تكن مطبقاً لمنهج الله عز وجل أنت مع دهماء الناس ولا يلتفت إليك، كل انتماءاتك لا قيمة لها، قال تعالى:

﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾

[ سورة الحجرات: 13 ]

 ما الذي يحصل؟ موقف عصيب واحد ينتمي إلى أقرب الناس إلى رسول الله، ينتمي إلى الذين نصروه وعزروه وآمنوا به وصدقوه وبذلوا له كل شيء، وواحد ينتمي إلى ألد أعداء رسول الله، وفي أدلة متقاربة، اليهودي رفض هذه التهمة، والأبيرق جاء قومه إلى النبي، بني ظفار: يا رسول الله نحن قومك أيعقل أن يسرق هذا؟ لعل النبي عليه الصلاة والسلام مال إلى تصديق الأنصار واتهام اليهودي، الآن ينزل من السماء وحي يعاتب النبي على أنه مال إلى دعوة الأنصار، ويبرئ اليهودي ألد أعداء رسول الله، هذا هو العدل.
 وأنا عقبت على هذا في الدرس السابق أنه والله الذي لا إله إلا هو لا يمكن أن نشم رائحة النصر إذا كان بعضنا يظلم بعضنا الآخر، دعك من الذين فوق الناس، خذ الناس، خذ عامة الناس، كم من زوج يظلم زوجته؟ وكم من رب عمل يظلم عماله؟ وكم من صاحب أرض يظلم فلاحه؟ وكم من قوي يأكل الضعيف؟ وكم من غني يستغل الفقير؟ وكمْ؟ وكم؟ حينما يظلم بعضنا بعضاً لا يمكن أن نشم رائحة النصر، أرأيت إلى هذا الدين العظيم، أرأيت إلى قرآن الله يبرئ عدواً لرسول الله ويلوم النبي على أنه مال إلى دعوى الأنصار.

 

حينما يفهم الناس الدين فهماً صحيحاً يستحقون نصر الله عز وجل :

 قال تعالى:

﴿ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً ﴾

 لا تكن مدافعاً عنهم، لا تحكم لصالحهم، الإسلام لا يرتفع بهذا، يرتفع الإسلام إذا أقيم الحق، يقول عليه الصلاة والسلام:

((... يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا ضَلَّ مَنْ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ الضَّعِيفُ فِيهِمْ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وأيم اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرَقَتْ لَقَطَعَ مُحَمَّدٌ يَدَهَا ))

[ متفق عليه عن عائشة]

 تروي الأخبار أن حد الرجم أقيم على ولد أحد أصحاب رسول الله خاطبه وقال: إذا انتقلت إلى الدار الآخرة قل للنبي الكريم إن أبي أقام علي الحد. هذا هو الإسلام، هذا هو الدين، الدين عدل وما لم يرجع المسلمون إلى دينهم حقيقةً، وما لم يكونوا صادقين، وما لم يكونوا أمناء، وما لم يكونوا أعفة، فإن النصر لا يأتي، لعل الناس يغترون بعباداتهم، العبادات التي تؤدى من دون استقامة ومن دون التزام لا قيمة لها عند الله، رب تال للقرآن والقرآن يلعنه، قم فصلِ إنك لم تصلِ:

((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه))

[البخاري عن أبي هريرة]

﴿ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ ﴾

[ سورة التوبة: 53 ]

((من حج بمال حرام فقال: لبيك اللهم لبيك، قال الله له: لا لبيك ولا سعديك وحجك مردود عليك))

[الشيرازي في الألقاب وأبو مطيع في أماليه عن عمر]

 قال بعض العلماء: والله ترك دانق من حرام خير من ثمانين حجة بعد حجة الإسلام، هذا هو الدين، درء المفاسد مقدم على جلب المنافع، حينما يفهم الناس هذا الفهم يستحقون نصر الله عز وجل.

 

لا يعقل ولا يقبل أن تنكشف الحقيقة ويحكم النبي بخلاف العدل :

 حينما جاء ابن رواحة إلى اليهود ليقدر تمرهم أغروه بحلي نسائهم فقال لهم: جئتكم من عند أحب الخلق إلي ولأنتم أبغض إلي من القردة والخنازير ومع ذلك لن أحيف عليكم، فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض وبهذا غلبتمونا.
هذا هو الدين، الدين أن تعامل هذا الشاب الذي في محلك التجاري كما تعامل ابنك تماماً، الدين أن تعامل هذه الفتاة التي هي زوجة ابنك كما تعامل ابنتك تماماً، أما هذه التفرقة وهذا الكيل بمكيالين هذا يفقدنا كل ميزة نستحق بها النصر.
 أيها الأخوة الكرام، لا أجد من درس بليغ أدق من هذا الدرس الذي لقنه الله لأصحاب رسول الله، قال تعالى:

﴿ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً ﴾

 لا يعقل ولا يقبل أن تنكشف الحقيقة ويحكم النبي بخلاف العدل، ولكن النبي قال:

((إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع ، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار))

[البخاري عن أم سلمة]

 أي مال إلى تصديق الأنصار وهو بشر، ورغب أن تكون التهمة محققةً في اليهودي، فجاء العتاب الإلهي:

﴿ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً ﴾

النبي بشر ولولا أنه بشر تجري عليه كل خصائص البشر لما كان سيد البشر :

 أيها الأخوة الكرام:

﴿ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً ﴾

[ سورة النساء: 64]

((كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ))

[الترمذي عن أنس بن مالك]

 حينما يعاتب الله سيد الخلق وحبيب الحق هذا العتاب من أجل أن يكون هناك فرق بين مقام النبوة ومقام الألوهية، مقام النبوة مقام عصمة، وقد ترك للنبي الكريم هامشاً اجتهادياً طفيفاً، فإذا أصاب باجتهاده أيده الوحي في ذلك، وإن لم يصب صحح الوحي له اجتهاده.

﴿ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً ﴾

 النبي بشر ولولا أنه بشر تجري عليه كل خصائص البشر لما كان سيد البشر، قال تعالى:

﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ﴾

[ سورة الكهف: 110]

 أي إذا انتزعت من فم النبي الشريف فتوى لصالحك أو حكماً لصالحك ولم تكن محقاً لا تنجو من عذاب الله، فما بال أولئك المسلمون الذين يتكئون على فتوى ضعيفة لإنسان منتفع، أو موظف، أو جاهل، يعتمدون على هذه الفتوى وهم آمنون مطمئنون، لو أن النبي الكريم أفتى لك ولم تكن محقاً لا تنجو من عذاب الله.

﴿ وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً ﴾

 علمنا النبي هذه الحقيقة: الحق أحق أن يتبع، لا تتصور أنك إذا اتهمت مسلماً وبرأت كافراً هذا يضع من شأن المسلمين، لا، هذا يرفع من شأن المسلمين، وما أهلك الناس إلا التعصب الأعمى.

وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت  وإن ترشد غزية أرشد
* * *

 مع قومه، كم من أب وكم من أم مع ابنها ولو كان على باطل، كم من أب وكم من أم على زوجته ولو كان ظالماً لها، وكم من إنسان مع شريكه ولو كان ظالماً، إذا ضاعت الحقوق فقد تودع من هذه الأمة.

 

الذي يخون الناس يخون نفسه لأنه يوردها موارد الهلكة :

 أيها الأخوة الكرام، النبي عليه الصلاة والسلام بشر، وتجري عليه كل خصائص البشر، إذاً هو سيد البشر.

﴿وَلَا تُجَادِلْ ﴾

 أي لا تدافع، الجدل غزل الخيوط كي تصبح حبلاً مفتولاً قوياً، والجدال إظهار الحجج وإحكام الرأي دفاعاً عن جهة ما.

﴿وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ ﴾

 من أدق المعاني لهذه الآية أن الذي يخون الناس يخون نفسه لأنه يوردها موارد الهلكة، الذي يخون الناس يخون نفسه بادئ ذي بدء لأنه يوصلها إلى الشقاء، إن أشد أنواع الظلم أن يظلم الإنسان نفسه، وإن أشد أنواع الخيانة أن يخون نفسه لذلك.
 ولا تجادل يا محمد عن الذين أي لا تدافع عن الذين يختانون أنفسهم، يختان لمَ لمْ يقل يخون؟ يخون من خان ثلاثي، أما يختانون من أختان، أختان خماسي وكل زيادة في المبنى زيادة في المعنى، في افتعال، إذا قلنا: فلان كتب، أي كتب مرة واحدة، أما إذا قلنا: فلان اكتتب، هو كاتب يعمل في الكتابة، فالإنسان حينما يخون الناس عن قصد، وعن تصميم، وعن تكرار، وعن معاودة، ويكذب ويحتال هذا يختان، أما إذا أخطأ مرةً واحدة نقول له: خان، أما إذا كانت الخيانة طبعاً وأسلوباً في حياته هذا يختان، الفعل مزيد وفي الزيادة معنى الافتعال والمبالغة.

 

من علامات الإخلاص :

 يروى أن سيدنا عمر جاءه رجل سارق فقال: أقيموا عليه الحد: قال: والله يا أمير المؤمنين إنها المرة الأولى قال: كذبت إن الله لا يفضح من المرة الأولى، فكانت الثامنة.
 يختان أي أَلِف الخيانة، عاودها، كررها، جعلها طبعاً فيه، جعلها أسلوباً متميزاً في حياته.

﴿وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً ﴾

 مع الخيانة في أثم، مستحيل وألف ألف مستحيل أن تقترف معصية دون أن تظلم إنساناً، لو أنك طبقت منهج الله عز وجل بالذي لك والذي عليك، أما عندما تأخذ ما ليس لك ظلمت إنساناً، حينما تعتدي على عرض فتاة ظلمت فتاةً، فلذلك إن الله لا يحب من كان خواناً شديد الخيانة، وخوان صيغة مبالغة، وصيغة المبالغة تعني مبالغةً في الكم أو مبالغة في العدد، إما أنه يرتكب خيانات كثيرة، أو أنه يخون أمته، يخون دينه.

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً ﴾

 في كل أنظمة الأرض الخائن يعدم، يقولون: خيانة عظمى، فالذي يخون المسلمين أو الذي يتعاون مع أعداء المسلمين أو الذي يسلم المسلمين إلى أعدائهم أو يعطيهم الأخبار التي تضعفهم هذه خيانة عظمى، هو في الحقيقة يخون نفسه، يوردها موارد الهلكة.

﴿ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ ﴾

 هذا من ضعف التوحيد، من ضعف التوحيد ورد أن الله سبحانه وتعالى في بعض الأحاديث القدسية يقول: طهرت منظر الخلق سنين أفلا طهرت منظري ساعة.
 هذا الذي يستخفي من الناس ولا يستخفي من الله ليس مخلصاً، من علامة إخلاصك أن عملك لا يختلف إذا كنت في جلوة أو كنت في خلوة، من علامة إخلاصك أن عملك لا يتأثر بمديح الناس أو بذمهم، بمكافأتهم أو بعقابهم، من عرف نفسه ما ضرته مقالة الناس به.

﴿ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً ﴾

أفضل إيمان المرء أن يعلم أن الله معه حيث كان :

 أيها الأخوة الكرام، أفضل إيمان المرء أن يعلم أن الله معه حيث كان، لمجرد أن تشعر أن الله معك تستحي منه، تستحي أن تقول قولاً لا تفعله، تستحي أن تعظ بما لست متعظاً به، تستحي أن تبيت خطةً فيها إساءةً لمسلم أو لغير مسلم والله مطلع عليك.
 شخص سأل شيخاً عن معصية الله عز وجل، فقال له الشيخ مقولة غير مقبولة إطلاقاً، قال: اعصِ الله ما شئت ولكن إذا عصيت الله فاحرص على أن لا تسكن أرضه، قال له: وأين أسكن؟ إذاً قال له: أتسكن أرضه وتعصيه، قال له: هات الثانية، قال: إذا عصيته فلا تأكل شيئاً من نعمه، قال: وماذا آكل؟ إذاً قال: تسكن أرضه وتأكل نعمه وتعصيه، قال: هات الثالثة، قال: إن أردت أن تعصيه فاعصه في مكان لا يراك فيه، قال: هو معنا أين ما كنا، قال: تسكن أرضه وتأكل خيره وتعصيه وهو يراك، قال: هات الرابعة، قال: إذا عصيته وجاءك ملك الموت فلا تذهب معه لا ترضى، قال: لا أستطيع، قال: تسكن أرضه وتأكل خيره وتعصيه وهو يراك ولا تستطيع أن تمتنع عن ملك الموت، قال: هات الخامسة، قال: إذا عصيت الله عز وجل وجئت يوم القيامة فلا تدخل النار أيضاً لا ترضى، قال: لا أستطيع، قال: تسكن أرضه وتأكل خيره وتعصيه وهو يراك ولا تستطيع أن تمتنع عن ملك الموت ولا عن زبانية جهنم أين عقلك؟!!
 فلذلك بعض العلماء قرأ حديثاً قال: استغنيت به عن مئة ألف حديث، اعمل للدنيا بقدر بقاءك فيها، واعمل للآخرة بقدر مقامك فيها، واعمل لله بقدر حاجتك إليه، واتقِ النار بقدر صبرك عليها.

مقام الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك :

 قال تعالى:

﴿ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴾

[سورة البقرة: 175]

﴿يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنْ الْقَوْل ِ﴾

﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً * وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ﴾

[سورة الإسراء: 79-80]

 ثم يقول الله عز وجل:

﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ * وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ ﴾

[سورة الشعراء: 213-218 ]

 لذلك مقام الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

 

كل إنسان مؤمن يجب أن يهيئ جواباً لله عز وجل عن كل أفعاله :

 قال تعالى:

﴿ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً ﴾

 أنت إذا جادلت عن هؤلاء من يجادل الله عنهم يوم القيامة، علاقتك مع الله ولا ينفعك بشر كائن من كان: والدليل قل لهم يا محمد:

﴿ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَرّاً ﴾

[ سورة الأعراف: 188]

 في أبلغ:

﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَرّاً ﴾

[سورة الأعراف: 188]

 فإذا كان عليه الصلاة والسلام لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فلئن لا يملك لأحد من باب أولى.

﴿ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً ﴾

 موظف له عمل حساس يستطيع أن يوقع الأذى بأناس كثيرين ضمن عمله، فمرةً استنصحني، قلت له: افعل ما تريد ولا تعبأ، ضع الناس في السجن، قال: هكذا تقول؟ قلت: هكذا أقول، ولكن إذا كنت بطلاً تهيئ لله جواباً عن كل فعل تفعله وكلهم عباده. المشكلة أن تهيئ لله جواباً لمَ فعلت كذا؟ لمَ ظلمت فلان؟ لمَ أعطيته؟ لمَ حرمته؟ لمَ ابتسمت في وجهه؟ لمَ عبست في وجهه؟ لمَ وصلته؟ لمَ قطعته ما السبب؟ فكل إنسان مؤمن يجب أن يهيئ جواباً لله عز وجل عن كل أفعاله وإلا فالله شديد العقاب، وإن بطش ربك لشديد.

﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً ﴾

 أيها الأخوة الكرام، في درس قادم إن شاء الله نتابع تفسير هذه الآية.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور