- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (004)سورة النساء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا بما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الله عز وجل إن تحدث عن أفعاله العظيمة كان الحديث بضمير الجمع :
أيها الأخوة المؤمنون، مع الدرس الثامن والأربعين من دروس سورة النساء ومع الآية الخامسة بعد المئة وهي قوله تعالى:
﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً ﴾
أيها الأخوة الكرام، الله جل جلاله إذا تحدث عن أفعاله جاء ضمير الجمع:
﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى ﴾
﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ﴾
﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾
حيث ما كان الحديث عن أفعال الله جاء ضمير الجمع، لأن كل أسماءه من قدرة وعلم وخبرة ورحمة ولطف كل هذه الأسماء لها نصيب من أفعاله، فالفعل الواحد من قبل الله عز وجل فيه علم وفيه رحمة وفيه حكمة وفيه خبرة وفيه عدل، فالذي نجده في القرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالى مرة يتحدث عن نفسه بضمير الجمع " إنا " ومرة يتحدث عن نفسه بضمير المفرد:
﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾
الله تعالى إن تحدث عن ذاته العلية كان الحديث بضمير المفرد لأنه واحد أحد فرد صمد:
قال علماء التفسير: إذا تحدث الله عن ذاته العلية كان الحديث بضمير المفرد، وإذا تحدث الله عن أفعاله العظيمة كان الحديث بضمير الجمع، الحكمة المستقاة من استخدام ضمير الجمع تارةً ومن استخدام ضمير المفرد تارةً أن الله إذا تحدث عن ذاته العلية كان الضمير ضمير مفرد لأنه واحد أحد فرد صمد، وإذا كان الحديث عن أفعاله العظيمة كان الضمير ضمير جمع لأن كل أسمائه الحسنة تشترك في أفعاله، هذا عن كلمة: "إِنَّا أَنْزَلْنَا" الحقيقة أن كلمة أنزلنا لا تعني النزول المادي ولكن تعني أن في الكون جهة خالقة كاملة واحدة واجبة الوجوب علمها مطلق، رحمتها مطلقة، خبرتها مطلقة، وفي الأرض ما سواه من مخلوقات، حينما يقول الله عز وجل: " إِنَّا أَنْزَلْنَا " أي هذه رحمة السماء إلى الأرض، هذا علم السماء إلى الأرض، هذه خبرة الله إلى الأرض، أي هناك اتصال بين الأرض والسماء، نحن بشر والحديث عن البشر، فالأرض تعني هذا الإنسان الذي جُبِل من الطين، هذا الإنسان الذي فيه نوازع نحو الأرض، نوازع نحو الشهوات، هذا الإنسان أودعت فيه الشهوات، وسوف يتحرك، قد يتحرك بدافع من شهواته، وقد تكون هذه الشهوات مدمرة لصاحبها، لذلك الله سبحانه وتعالى أنزل كتباً، أنزل وحياً، أي هذا من عند الله عز وجل:
﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ ﴾
فهناك المنزِل وهو الله عز وجل، وهناك المنزَل إليه وهو النبي عليه الصلاة والسلام، وهناك الذي نزل، الذي نزل هو الكتاب، والإنسان الذي أُنزل عليه هو رسول الله، أنزل عليه بالحق، يعني هو مؤهل أن يتلقى هذا الوحي، كماله وصدقه ومحبته وإخلاصه وعبادته تقتضي أن يتنزل عليه هذا الكتاب، والكتاب منهج يضبط حركة الناس، في حركة كما تشاهدون في العالم قوي وضعيف، حركة عدوان، حركة شهوات، حركة احتيال، الحركات التي يتحركها الإنسان لا تعد ولا تحصى.
المنهج الإلهي هو الذي ينبغي أن يحكم حركة الحياة :
قال تعالى:
﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ﴾
أي آلاف، مئات الألوف، ملايين، ملايين الملايين من حركات الناس في الأرض، مهمة الكتاب الذي هو من عند الله من السماء، من الكمال المطلق ليحكم حركة الأرض، فما دام الناس في الأرض يحكمهم منهج السماء هم في خير، هم في خير عميم، أما حينما يتحركون كما يتحركون الآن بلا منهج، بلا ضابط، بلا ميزان يتحركون بحسب ما عندهم من قوة، فالقوي يعتدي على الضعيف، والغني يبني غناه على إفقار الفقير، والذكي يجمع مالاً ويستخدم ذكاءه ليبقي الفقير فقيراً، حركة الحياة من دون منهج إلهي ظلم ما بعده ظلم، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنه سوف تمتلئ الأرض ظلماً وجوراً لأن حركة البشر لا يحكمها وحي السماء، لا يحكمها هذا المنهج لماذا هذا المنهج؟ من أجل ألا يعتدي أحد على أحد، من أجل ألا يستغل أحد أحد، من أجل ألا يكون المال دولة بين الأغنياء، من أجل ألا يبني الإنسان مجده على أنقاض الناس، هذا المنهج هو الذي ينبغي أن يحكم حركة الحياة:
﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ ﴾
هو حق وهو من عند الحق، وإنما أنزل على النبي عليه الصلاة والسلام بالحق، الحق الشيء الثابت، الشيء الثابت والهادف.
صفة الباطل أنه زهوق سواء أكان باطلاً اعتقادياً أو باطلاً سلوكياً :
قد ننشئ جناح في معرض لأسبوعين من القماش، أما حينما ننشئ جامعة هذه الجامعة بنيت لتبقى مئات السنين، فرق كبير بين إنشاء جناح في معرض وبين إنشاء جامعة في بلد، الحق هو الشيء الثابت، والحق هو الشيء الهادف، أي هذا الجدار حينما يبنى على الشاقول بناء ثابت، أما حينما لا يبنى على الشاقول يبنى جزافاً لا بد من أن يقع، فالباطل زهوق، ألصق صفة بالباطل أنه زهوق، سواء أكان باطلاً اعتقادياً أو باطلاً سلوكياً، إن كان اعتقادياً سينهار وسيسقط، وإن كان سلوكياً سيفتضح وينتهي، لأنه باطل، لأنه لا يستمر.
﴿ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ﴾
في تاريخ العالم كل الحركات الباطلة تلاشت وانهارت وأصبحت في مزبلة التاريخ، أما الدين ففي نمو دائم، هذا الدين الذي جاء به عليه الصلاة وأتم التسليم يتنامى كالطود الشامخ، بل إنه كلما قاومته يزداد شموخاً لأنه دين الله، وهذه معركة البشر اليوم بين الحق وبين الباطل، بين وحي السماء وبين تنظيمات الأرض، بين من يعمل لآخرة أبدية سرمدية وبين من يعمل للدنيا:
﴿ وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً*وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ﴾
كلمة الحق وردت في القرآن مئات المرات، الحق الشيء الثابت، أي الجامعة حق لأنها تخرج قادة، لأنها تعلم العلم، هكذا ينبغي أن تكون، لكن الملهى أنشئ ليفسد الأخلاق، ليحرف الناس عن الطريق القويم، ولو كان بناء الملهى قوياً إلا أن رسالته حقيرة تعطي المتعة العاجلة، تعطي شيئاً لم يشرع في منهج الله عز وجل، على كلٍ الحق شيء ثابت وشيء هادف، والباطل شيء زائل وشيء ساقط، زائل مع السقوط وثابت مع الخلود ومع السمو، إذا قلت فلان على الحق يعني على مبدأ ثابت، وهذا المبدأ أخلاقي، فلان على الباطل ليس معه حجة، حجته قوته، حجته احتياله، وهدفه مادي محض، الكافر على الباطل لأن هدفه مادي، هدفه استغلال، هدفه العلو، هدفه الغطرسة والسيطرة، نعم، فكلمة حق كبيرة جداً، الله هو الحق، الشيء الثابت والهادف، أي ثبات وسمو، والباطل زوال وانحطاط، الله عز وجل وصف الحق بأنه ثابت، من أين عرفنا هذا الوصف؟ من الباطل.
اللعب لا يتماشى مع الحق :
قال تعالى:
﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ﴾
﴿ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾
﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ﴾
فاللعب لا يتماشى مع الحق، إذاً:
﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ ﴾
هذا الكتاب فيه حدود، كل إنسان له حدود، أية علاقة بين جهتين يضبطها الكتاب، العلاقات المادية يضبطها الكتاب:
﴿ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ﴾
النبي قمة البشر والكتاب أُنزِل بالحق :
أما الربا فيه استغلال:
﴿ لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً ﴾
الله عز وجل توعد آكل الربا بحرب من الله ورسوله، فالربا باطل لأنه فيه استغلال، فيه منفعة على مضرة، أما التجارة فيها منافع متبادلة، وهذا الذي يضبط العلاقات المالية بين الناس، المنافع المتبادلة مباحة بل هي من الحلال، أما إذا بنيت منفعة على مضرة هذا محرم بالإسلام:
﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ﴾
أي أنت مؤهل أن ينزل عليك هذا الكتاب، لكمالك ولطاعتك ولعبوديتك ولمحبتك ولإخلاصك، والنبي قمة البشر، والكتاب وفق الحق، وقد قال الله عز وجل في وصفه:
﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً ﴾
قال علماء التفسير: هذا الكتاب من دفته إلى دفته لا يزيد عن أن يكون أمراً أو خبراً، فأمره عدل وخبره صدق:
﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً ﴾
منهج الله لبني البشر فإذا طبق بين الناس سعدوا في الدنيا :
قال تعالى:
﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ﴾
أنت على حق، والذي أنزله هو الحق، وهذا الكتاب الذي أنزل عليك هو الحق، لذلك العالم كله الآن مع معركته مع هذا الكتاب، يكاد يكون الصراع في العالم كله بين الحق والباطل، بين منهج الله وبين منهج البشر، بين الشهوة وبين الحقيقة، بين الدنيا وبين الآخرة.
﴿ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ ﴾
دققوا أيها الأخوة لم يقل الله عز وجل لتحكم بين المؤمنين:
﴿ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ ﴾
أي أنت في أمور الحق ينبغي ألا تفرق بين مسلم وغير مسلم، هذا منهج الله لبني البشر فإذا طبق بين الناس سعدوا في الدنيا، فإن طبقوه تعبداً لله سعدوا في الدنيا والآخرة، وقد تأتي جهات لا تؤمن بالله أصلاً فتأخذ منهج الله وتطبقه فتقطف ثماره يانعة في الدنيا، بل إن هذا المنهج الذي بين أيدينا منهج موضوعي بمعنى أن الكافر لو طبقه لا تعبداً بل منفعة قطف ثماره، والدول القوية أحد أسباب قوتها أنها بدافع من عقلها تطبق أحكام هذا المنهج لمصالحها فإذا هي قوية، منهج موضوعي لو طبقه ملحد لقطف ثماره، العدل أن تعطي الإنسان حقه، أن تصون له كرامته، أن تهيئ له أسباب العيش أي إلى ما هنالك، إذاً:
﴿ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ ﴾
ما صرف الناس عن الدين إلا لأنهم فرقوا بين مسلم وغير مسلم :
قال تعالى:
﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾
((من غش فليس منا ))
من غش مطلقاً، ولو غششت كافراً، ولو غششت عابد صنم فلست من المسلمين، هذا الكتاب لتحكم بين الناس، فلذلك أيها الأخوة حينما أرسل النبي عليه الصلاة والسلام عبد الله بن رواحة ليقيم تمر خيبر أراد اليهود أن يغروه بحلي نساءهم لعله يخفض التقييم فيفوز بربح وفير، فقال هذا الصحابي الجليل: جئتكم من عند أحب الخلق إلي من عند محمد بن عبد الله ولأنتم أبغض إلي من القردة والخنازير ومع ذلك لن أحيف عليكم، فقال اليهود: بهذا قامت السماوات والأرض وبهذا غلبتمونا، والآن والله الذي لا إله إلا هو لا يمكن أن ننتصر على أعدائنا إلا إذا كنا على حق، إلا إذا كنا منصفين، إلا إذا أزلنا المظالم فيما بيننا، خذ الطبقة التحتية تعبير مصطلح جديد، الناس يظلمون بعضهم بعضاً، خذ الطبقة التحتية، مسلمون موحدون يتجهون إلى قبلة واحدة، يشهدون أنه لا إله إلا الله، ومعظمهم يأكل حقوق بعضهم البعض، فهذا الإنسان حينما يعتدي على أخيه الإنسان يسقط من عين الله، ولئن يسقط الإنسان من السماء إلى الأرض أهون من أن يسقط من عين الله، حينما يهون أمر الله على المسلمين نهون على الله عز وجل:
﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ ﴾
لك جار مسلم، غير مسلم، مستقيم، غير مستقيم، هو إنسان ويجب أن تعامله بالحق وبالعدل وبالصدق، وما صرف الناس عن الدين إلا لأنهم فرقوا بين مسلم وغير مسلم.
﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ﴾
أنت وإراءة الله للإنسان أرقى إراءة، العلم المطلق، الحكمة المطلقة، العدل المطلق بما أراك الله.
الآية التالية نزلت في قصة وقعت في عهد رسول الله لتُظهر عدل الإسلام :
الآن أيها الأخوة حول قوله تعالى ولا تكن يا محمد:
﴿ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً ﴾
هذه الآية نزلت في قصة وقعت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجب أن تعلموا أن كل الأحداث التي وقعت في عهد رسول الله وقعت بشكل مركز من الله، لتكون هذه الأحداث سبباً للتشريع، تشريع حيوي، لم يأتِ التشريع كلاماً مجرداً في كتاب بل جاء التشريع عقب حوادث، القصة لا يعنينا التفاصيل والجزئيات يعنينا منها المغزى، كان عليه الصلاة والسلام في المدينة، من هم الذين استقبلوه وأكرموه ونصروه ورفعوا راية هذا الدين، وفدوه بأرواحهم وأموالهم؟ الأنصار، فالنبي عليه الصلاة والسلام مدين لهم بالفضل.
أما والله لو شئتم لقلتم، فلصَدَقتم ولصُدِّقتم: "أتيتنا مكذباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك ". هكذا قال النبي، هؤلاء الأنصار استقبلوه ونصروه وآمنوا به وصدقوه ومنعوه من أعدائه، في أنصاري له درع ثمينة سرقت، وسرقها منه إنسان منافق، إلا أنه محسوب على المسلمين، وكان يصوغ أبياتاً في هجاء أصحاب رسول الله وينسبها إلى الأعراب ليشفي غليله منهم، هذا المنافق سرق هذا الدرع، ووضعه في البيت، تفقد الدرع فلم يجده صاحب الدرع فبحث عنه، خاف هذا المنافق أن يكتشف أمره ويفتضح فهو من الأنصار من قوم نصروا رسول الله، فوضعه في كيس فيه دقيق ونقله إلى بيت يهودي من يهود المدينة، لكن هذا الكيس مثقوب والدقيق نزل منه ورسم الطريق من بيت هذا الذي سرق الدرع إلى بيت اليهودي، ثم اتهم اليهودي بأنه هو السارق بدليل أنه عنده، أما هذا الأنصاري المنافق رجاه أن يضعه عنده وديعة فلما بلغ اليهودي أنه متهم بسرقة الدرع علا صوته وأنكر أشد الإنكار، تتبع الناس الخيط الذي رسمه الدقيق من بيت هذا الأنصاري إلى بيت اليهودي وقع الناس في التباس شديد من السارق؟ في طريق مرسوم من بيت الأنصاري إلى بيت اليهودي، واليهودي ينكر أشد الإنكار، من هم اليهود؟ الذين ائتمروا على قتل النبي، الذين كادوا للنبي، الذين تآمروا مع أعداء النبي، الذين تمنوا أن تزول هذه الدعوة، الذين ركبوا رؤوسهم وكابروا بما يعتقدون من أجل أن يكذبوا دعوة النبي، تصور في إنسان ينتمي إلى الأنصار، وفي إنسان ينتمي إلى أعداء رسول الله، وفي درع مسروقة، هي في بيت اليهودي وديعة وقد أشيرت إليه الأصابع سرقةً، وهذا الأنصاري له أهل من أصحاب رسول الله، ولهم مكانة عند رسول الله، فما كان من أهل هذا الأنصاري إلا أن قابلوا النبي عليه الصلاة والسلام واسمه أريقط، وقالوا للنبي عليه الصلاة والسلام: يا رسول الله نحن أهلك ونحن أنصارك ونحن أتباعك وهذا اليهودي سرق، هكذا أوحى إليهم السارق، فلا ينبغي أن تسكت عنه، ولا أن تفضح هذا الذي اتهم بالسرقة، تكلموا مع النبي عليه الصلاة والسلام والنبي لأنه بشر، قال: إنني بشر، وكما قال عليه الصلاة والسلام:
(( لَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ فَلَا يَأْخُذْهَا ))
لولا أنه بشر وتجري عليه كل خصائص البشر لما كان سيد البشر، مشكلة كبيرة سرقة، هناك جهتان واحد متهم بها ظلماً وهو ينتمي إلى أعداء النبي، وواحد يدافَع عنه من قبل أحباب النبي، والنبي بشر، فكاد النبي أن يميل إلى الأنصار لأن الدرع موجودة عند اليهودي وهذا دليل، أما تفاصيل الدليل أنه أخذت من بيت أريقط إلى بيت اليهودي والطحين رسم خطاً بين البيتين، هذا لم يرفع إلى النبي عليه الصلاة والسلام، على كلٍ أراد الله من هذه القصة أن يظهر عدل الإسلام، فقال الله عز وجل يعاتب نبيه عليه الصلاة والسلام:
﴿ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً ﴾
من هم الخائنون؟ الذين هم من أتباع النبي، هذا من أتباع النبي لكنه منافق، على من يدافع القرآن؟ عن اليهودي لأنه لم يسرق، أرأيت إلى هذا الدين، أرأيت إلى هذه الآية:
﴿ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً ﴾
لا تدافع عنهم، لا تنتصر لهم يا محمد، لا تأخذ بأقوال من حولك، هذا اليهودي لم يسرق، والقرآن نزل ليدافع عنه لأنه لم يسرق، الآن يضج بالظلم، تكون صاحب حق لانتمائك يذهب حقك، أما هنا هذا هو العدل عدل الإسلام:
﴿ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً ﴾
علينا إقامة الحق فيما بيننا حتى نستحق أن ننتصر :
أيها الأخوة، الحقيقة هذه القصة مؤثرة جداً، وذات دلالة كبيرة جداً، وأن هذا الدين دين الله، وأنه دين الحق، وأنه دين العدل، وأنه دين الإنصاف، فما معنى أن ينزل الوحي على رسول الله ليدافع عن يهودي، وما معنى أن يسمى هذا الذي حسب على النبي أنه ممن يخونه، هذا هو العدل والعدل يسع الجميع، ولا يمكن أن نرى رائحة النصر إذا كنا نظلم بعضنا بعضاً، لا نروح رائحة النصر حتى نقيم الحق فيما بيننا ودعك من أي جهة أخرى، الطبقة التحتية الطبقة الأولى في المجتمع فيها ظلم شديد، القوي يظلم الضعيف، والغني يأكل حق الفقير، والذكي يستغل محدودية الغبي ويأخذ ما عنده، وحينما نفعل هذا فيما بيننا نسقط جميعاً من عين الله، أما حينما نؤدي الحقوق لا نكذب ولا ندلس ولا نغش ولا نبخس الناس أشياءهم، مثلاً إنسان يصلي بالصف الأول استطاع بطريقة أو بأخرى أن يشتري بيتاً ثمنه سبعة ملايين بسبعمئة ألف، بعدة طرائق، ما قيمة صلاته؟ السيدة عائشة تقول ـ إنسان في عهدها ارتكب مخالفة في التعامل ـ فقالت: قولوا لفلان إنه أبطل جهاده مع رسول الله، أصل الدين أن تستقيم على أمره، أن تقول الحق ولو على نفسك، أن تنصف الناس من نفسك، أن تعطي كل ذي حقٍ حقه، حينما نتظالم، حينما يظلم بعضنا بعضاً، حينما يأكل بعضنا حقوق بعضنا الآخر، حينما نعتدي على حقوق الآخرين وندعي أننا مؤمنون مسلمون، نصلي بالمساجد، ونحج بيت الله الحرام، ونعتمر، ونضع اللوحات في بيوتنا، هذه اللوحات لا تقدم ولا تؤخر، فالله عز وجل بوحي منه يعاتب نبيه أنه دافع عن أنصاري محسوب عليه، والأنصار لهم مكانتهم الكبيرة في الإسلام، والدفاع عن يهودي ينتمي إلى أمة تكيد للنبي منذ أن ظهرت هذه الدعوة وحتى الآن، هذا هو العدل، العدل أن تقف موقفاً نزيهاً.
يروى أن قاضياً طُرق بابه، فتح الغلام الباب فإذا بطبق من الرطب، والرطب التمر في بواكيره، والقاضي يحب هذا التمر كثيراً فسأله ممن؟ قال: من رجل دفعه إلي، قال: صفه لي، قال: صفته كيت وكيت، فعرف أنه أحد المتخاصمين، فقال: رده، في اليوم التالي التقى بالخليفة وطلب منه أن يعفيه من منصب القضاء، قال: ولمَ؟ قال: والله طُرق بابي البارحة وقُدم لي طبق من الرطب في بواكيره وأنا أحب الرطب في بواكيرها، فعلمت أن الذي قدمها أحد المخاصمين، رددته في اليوم التالي وتمنيت أن يكون الحق مع الذي قدم لي طبق الرطب، فلهذا أطلب أن تعفيني من هذا المنصب.
على كلٍ موضوع الحق، الله هو الحق، وهذا الدين دين الحق، والقرآن حق، والنبي حق، والأوامر حق، والنواهي حق، وحينما نعتدي على بعضنا بعضاً ينبغي ألا نطمع أن ينظر الله لنا، أو أن يرحمنا، والمظالم في بلاد المسلمين لا تعد ولا تحصى، أي الضعيف يُستَغل، ضعيف التفكير يُستَغل، ضعيف القوة يُستَغل، فإذا أردنا أن ننتصر يجب أن نقيم الحق فيما بيننا حتى نستحق أن ننتصر.
﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً*وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً ﴾