- التربية الإسلامية
- /
- ٠9سبل الوصول وعلامات القبول
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
التوبة :
أيها الأخوة الكرام، مع موضوعٍ جديد من موضوعات: "سبل الوصول وعلامات القبول"، هذا الموضوع هو "التوبة"، بل إن الحقيقة أن عنوان الموضوع ينبغي أن يكون استئناف التوبة، أو استمرار التوبة، فالمؤمن مذنبٌ تواب:
(( كُلُّ بَني آدمَ خطَّاءٌ وخيرُ الخَطَّائينَ التَّوابونَ ))
فكرحمة من الله عز وجل امتن بها علينا أنه دعانا إلى التوبة، وهناك نصوص كثيرة جداً قرآنية، ونبوية، تؤكد:
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ﴾
﴿ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ﴾
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً﴾
من طبق سنة النبي الكريم في حياته فلن يعذبه الله أبداً :
لذلك قال النبي صلى الله عليه و سلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى:
(( يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا الذي أغفر الذنوب ولا أبالي فاستغفروني أغفر لكم ))
وحينما قال الله عز وجل:
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾
أي ما دامت سنة النبي قائمة في حياتنا، فنحن في مأمنٍ من عذاب الله، أما الشيء اللطيف:
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾
فأنت أيها الأخ الكريم في بحبوحتين، بحبوحة أن تكون مطبقاً لمنهج الله، وبحبوحة أنك إن لم تكن مطبقاً لمنهج الله أن تستغفر، وفي الأثر القدسي:
(( وعزتي وجلالي، إن أتاني عبدي ليلاً قبلته، وإن أتاني نهاراً قبلته، وإن تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، وإن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً، وإن مشى إليًّ هرولت إليه، إن استغفرني غفرت له، إن استقالني أقلته، إن تاب إلي تبت عليه، من أقبل عليًّ تلقيته من بعيد، ومن أعرض عني ناديته من قريب، ومن ترك لأجلي أعطيته فوق المزيد، ومن تصرف بحولي وقوتي ألنت له الحديد، ومن أراد مرادي أردت ما يريد، أهل ذكري أهل مودتي، أهل شكري أهل زيادتي، أهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبهم وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب، لأطهرهم من الذنوب والمعايب، الحسنة عندي بعشرة أمثالها وأزيد، والسيئة بمثلها وأعفو، وأنا أرأف بعبدي من الأم بولدها ))
أخطر شيءٍ يواجهه الإنسان أن يكتشف الحقيقة بعد فوات الأوان :
أيها الأخوة، أكبر مشكلة تواجه الإنسان أن يكون بعيداً عن الله، غافلاً عن سرّ وجوده، عن غاية وجوده، غافلاً عن المهمة التي أُنيطت به، عن الرسالة التي ينبغي أن يحملها، أن يكون غافلاً عن الدار الآخرة، أن يكون غافلاً عن أنه خُلق لجنةٍ عرضها السماوات والأرض، وأن هذه الدنيا جيء به إليها كي يدفع ثمن الجنة، فغفل عن الجنة وانغمس في ملذاتها، وعندما جاءه ملك الموت قال:
﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ ﴾
قال:
﴿ كَلَّا ﴾
أيها الأخوة، أخطر شيءٍ يواجهه الإنسان أن يكتشف الحقيقة بعد فوات الأوان:
﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي* فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ* وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ﴾
﴿ لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ﴾
﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ﴾
﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾
الغافل عن الله يتمتع كما تتمتع الأنعام و النار عاقبته :
أيها الأخوة، الذي غفل عن الله يتمتع كما تتمتع الأنعام:
﴿ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ﴾
الغافل عن الله:
﴿ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ﴾
الغافل عن الله:
﴿ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ ﴾
الغافل عن الله عز وجل:
﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً ﴾
السلامة والسعادة مطلبٌ ثابت لكل إنسان على وجه الأرض :
أيها الأخوة، قال تعالى:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
أدق شيء في موضوع التوبة أنك ينبغي أن تعرف سرّ وجودك في الدنيا، إن عرفت سرّ وجودك صحّ عملك، وإن صحّ عملك سلمت وسعدت، والسلامة والسعادة مطلبٌ ثابت لكل إنسان على وجه الأرض، والذي يشقي الإنسان هو الجهل والجهل أعدى أعداء الإنسان، والجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوه أن يفعله به، الآية الدقيقة جداً التي تبين علة وجودك:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
العبادة غاية المحبة لله و الطاعة له :
والعبادة كما تعلمون طاعةٌ طوعية، ممزوجةٌ بمحبةٍ قلبية، أساسها معرفةٌ يقينية، تفضي إلى سعادةٍ أبدية.
(( يا عبادي! إني ما خلقتكم لأستأنس بكم من وحشة، ولا لأستكثر بكم من قلة، ولا لأستعين بكم على أمرٍ عجزت عنه، إنما خلقتكم لتعبدوني طويلاً، وتذكروني كثيراً، وتسبحوني بكرةً وأصيلاً ))
خلقك له، الجماد للنبات، والنبات للحيوان، والحيوان للإنسان، وأنت لمن؟ أنت للواحد الديان.
أيها الأخوة، حينما تختار الدنيا تلغي إنسانيتك، حينما تختار الدنيا تلغي المهمة التي أنيطت بك، فلذلك أن تعرف سرّ وجودك، وغاية وجودك، وعلة وجودك، وأن تعرف أنك مخلوقٌ للجنة، عندئذٍ تسعى إليها.
(( ابن آدم خلقت لك ما في السماوات والأرض من أجلك فلا تتعب، وخلقتك من أجلي فلا تلعب، فبحقي عليك لا تتشاغل بما ضمنته لك عما افترضته عليك ))
(( إذا رجع العبد العاصي إلى الله، نادى مناد من السماوات والأرض أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله ))
السعادة التي يدركها التائب من ذنبه :
أيها الأخوة الكرام، ما من سعادةٍ تغمر قلب الإنسان حينما يدركها كالسعادة التي تغمر قلبه حينما يتوب، والله كأن جبالاً أزيحت عن صدره.
(( التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ ))
(( لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي))
﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً ﴾
من تاب إلى الله نجا من عذابه و لكنه لا يقطف ثمار التوبة الجماعية :
أيها الأخوة الكرام، هناك نقطة دقيقة تتضح من خلال هذه الآية، قال تعالى:
﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً ﴾
ماذا تعني كلمة جميعاً؟ للتوضيح: لك خمسون صديقاً، ومعك هاتف جوال، و هم لا يملكون هذا الهاتف، ما قيمة هاتفك؟ أما حينما يكون مع أصدقائك هواتف جوالة كما هو معك تشعر بقيمة هذا الهاتف، أنت بإمكانك أن تتصل مع كل واحدٍ منهم في أي لحظة.
نحن ماذا يحصل؟ إذا الإنسان تاب وحده ينجو، لكن لا تقطف ثمار هذا الدين، اجلس في مكان جميع النساء محجبات، تعرف ما معنى الحجاب، ما معنى أن الإنسان ينصرف إلى عمله؟ والطالب إلى دراسته؟ والتاجر إلى تجارته؟ والموظف إلى عمله؟ حينما ينصرف الناس إلى بناء أمتهم ترقى الأمة، أما إذا أشغلناهم بالجنس صباحاً ومساءً، وظهراً، وعصراً، وليلاً، وفي أثناء العمل هناك جنس، ما الذي يحصل؟ تفسد الحياة فلذلك:
﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾
أحياناً هناك من يكون في بيئة فيها تفلت شديد، ويستقيم، وله أجر كبير، وينجو عند الله، ولكن لا يقطف المجتمع ثمار التوبة الجماعية، التوبة الجماعية أن الناس صادقون، أن الناس أمناء، أن الناس طيبون، أن الناس منصفون، لا يغدرون، العيش في هذا المجتمع شيء جميل جداً، لذلك قيل:
(( إذا كانَت أُمراؤُكم خيارَكم، وأغنياؤُكم سُمحاءَكم، وأمورُكم شورَى بينكم فَظَهْرُ الأَرضِ خَير لكم من بطنها، وإذا كانت أمراؤُكم شِرارَكم، وأغنياؤُكم بُخَلاءَكم، وأُمورُك إلى نسائكم، فبطنُ الأَرض خير لكم من ظهرها ))
الله عز وجل ما أمرنا أن نتوب إليه إلا ليتوب علينا :
أيها الأخوة،
﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً ﴾
أمر، وكل أمرٍ في القرآن الكريم يقتضي الوجوب، والمؤمن كثير التوبة، أي كمنهج للنبي الكريم يأمرنا أن نأخذ به:
(( إني لأتوب إلى الله في اليوم مئة مرة ))
عن كل خاطر، عن كل شيء، فالله عز وجل تواب رحيم، بل:
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾
بل ينتظرنا أن نتوب إليه، بل إن بعضهم قال: ما أمرنا أن نتوب إليه إلا ليتوب علينا، وما أمرنا أن نستغفره إلا ليغفر لنا، وما أمرنا أن ندعوه إلا ليجيبنا،
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾
أحاديث دقيقة جداً متعلقة بالتوبة :
والحقيقة من الأحاديث الدقيقة جداً المتعلقة بالتوبة:
(( لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتوبةِ عَبدهِ المؤمن مَنْ رجلٍ نزلَ في أرض دَوِّيَّةٍ مُهلِكَةٍ، معه راحلتُهُ فَطلبها، حتى إذا اشتدَّ عليه الحرُّ والعطشُ أو ما شاءَ اللّه، قال: أرْجِعُ إلى مكاني الذي كُنْتُ فيهِ فأنامُ حتى أموتَ ))
مرة حدثنا أستاذ في الجامعة، في كلية الآداب، قال: إنكم لن تتذوقوا الشعر الجاهلي إلا إذا عشتم في الصحراء عشرة أيام، أي إذا فقد إنسان ناقته في الصحراء، موته محقق مئة بالمئة، فهذا حينما فقد ناقته أيقن بالموت:
(( قال : أرْجِعُ إلى مكاني الذي كُنْتُ فيهِ فأنامُ حتى أموتَ، فوضعَ رأسهُ على ساعدِهِ ليمُوتَ فاستيقظَ، فإذا راحلتُهُ عندهُ، عليها زادُهُ وشَرابُهُ، ثم قال من شِدَّة الفرح: اللهم أنت عَبْدي وأنا ربكَ، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: فاللّهُ أَشدُّ فَرحا بتوبةِ العبد المؤمنِ من هذا بِراحلتهِ وزادِهِ ))
أرأيتم إلى وصفٍ دقيق يعبر عن محبة الله لك حينما تتوب؟.
(( فاللّهُ أَشدُّ فَرحا بتوبةِ العبد المؤمنِ من هذا بِراحلتهِ وزادِهِ ))
لذلك هناك حديث دقيق جداً، يقول عليه الصلاة والسلام:
(( إن الله أفرح بتوبة عبده من الضال الواجد، والظمآن الوارد، والعقيم الوالد ))
الذي لم ينجب لمدة عشرين عاماً، ثم حملت زوجته، وأنجب، كم فرحه؟
(( إن الله أفرح بتوبة عبده من الضال الواجد، والظمآن الوارد، والعقيم الوالد ))
التوبة علمٌ وحالٌ وعمل :
أيها الأخوة، الموضوع دقيق، التوبة علمٌ، وحالٌ، وعمل، علم: الذي لم يحضر مجالس العلم، لا يعرف الحلال والحرام، ممَ يتوب؟ يقول لك: لا نعمل شيئاً، لأنه يقترف الكبائر ولا يدري، ما الذي يخبرك أنه ينبغي أن تتوب؟ العلم، أنت حينما تجلس في مجلس علم، وتعرف الحق والباطل، والخير والشر، والحرام والحلال، يمكن أن تتوب، أي أنت حينما تدرس قواعد اللغة العربية، يمكن إذا استمعت إلى من يقرأ نصاً من كتاب، يمكن أن تكشف أنه أخطأ، أو أصاب، أما إذا كنت لم تدرس هذه اللغة، وارتكب مئة خطيئة لا تدري، فأنت لن تكشف خطأك إلا إذا طلبت العلم.
مثلاً إنسان معه ارتفاع ضغط، متى يعالج هذا الارتفاع؟ جواب بسيط جداً: إذا علم أن ضغطه مرتفع، إن لم يعلم كيف يعالج هذا الضغط المرتفع؟
وهذا الإنسان إن لم يعلم الحلال والحرام كيف يتوب؟ فالتوبة أساسها علم، اطلب العلم كي تتوب، كي تتوب من هذه العلاقة المالية المشبوهة، اطلب العلم كي تتوب من هذه العلاقة الاجتماعية الخاطئة، هناك علاقات اجتماعية خاطئة، هناك صفقة محرمة، هناك بضاعة محرمة، هناك طريقة في البيع والشراء محرمة، متى تكشف الحقيقة؟ إذا طلبت العلم.
لذلك من دخل السوق من دون فقهٍ أكل الربا شاء أم أبى، أنا أستغرب أحياناً الإنسان يجعل طلب العلم من نوافل العمل، إذا وجد وقت فراغ، الأصل أن تطلب العلم، إنك إن طلبت العلم عرفت الحق والباطل، والخير والشر، والحلال والحرام، عرفت سرّ وجودك، وغاية وجودك، الجهل أعدى أعداء الإنسان، والجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوه أن يفعله به، هذا العلم، اطلب العلم من أجل أن تتوب، من أجل أن تعرف أين الخلل؟ أين الخطأ؟ أحياناً الخطأ في كسب المال، عقاب المال الحرام إتلاف المال، فأنت في حيرة، يقول لك إنسان: أينما ذهبت الطريق مسدود، طبعاً، عندك علة كبيرة جداً ما عرفتها، هذا العلم.
أما الحال، لابد من توضيح: إنسان يمشي في بستان، وجد ثعباناً، علاقته مع الثعبان وفق قانون، إدراك، انفعال، سلوك، أما إذا قال إنسان لآخر: على كتفك عقربٌ شائلة، بقي هادئاً، مرتاحاً، مبتسماً، وقال له: شكراً لك على هذه الملاحظة، أرجو الله سبحانه وتعالى أن يُمكنني أن أثيبك عليها، هل سمع ماذا قلت له؟ ما سمع، لو سمع، أو فهم، لقفز، ورفع صوته، وخلع معطفه، لكن لم يفهم، فإن لم يكن هناك انفعال شديد، لم يكن هناك إدراك صحيح، فليس هناك سلوك، السلوك أساسه الانفعال، والانفعال أساسه الإدراك، إدراك، انفعال، سلوك، هذا نظام وقانون، ذكره أحد كبار علماء الاجتماع، تدرك، فتنفعل، فتتحرك، أدرك أن هذا ثعبان، الإدراك جعله يضطرب ويخاف، واضطرابه وخوفه حمله على أن يهرب، أو أن يقتله، حينما لا ترى سلوكاً المعنى أنه لا يوجد انفعال، وحينما لا ترى انفعالاً حقيقياً لا يوجد إدراك، وهذه مشكلة، فاجعل هذا القانون ديدنك، لذلك التوبة علمٌ، وحالٌ، وعملٌ، العمل متعلق بالماضي، والحاضر، والمستقبل، بالماضي ندم وعزم على أن يصحح الخطأ الماضي، والحاضر إقلاعٌ عن هذا الذنب، والمستقبل عزيمةٌ ألا يعود إليه، فالتوبة علم، وحالٌ، وعمل، وقد لخصها النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة واحدة، فقال:
(( الندم توبة ))
أي أدرك فندم، فلما ندم تحرك، أدرك، فندم، فتحرك، علمٌ، وحالٌ، وعمل.
الإسلام في حقيقته امتناع عن الخطأ و خدمة للناس :
أيها الأخوة، أنت حينما تؤمن أن:
(( ترك دانقٍ من حرام خيرٌ من ثمانين حجةً بعد الإسلام ))
الإسلام في حقيقته امتناع عن الخطأ، والإسلام في حقيقته خدمة للناس، لذلك سيدنا ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ كان معتكفاً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأى رجلاً كئيباً، قال له: ما لي أراك كئيباً؟ قال له: ديون لزمتني، لا أطيق سدادها، قال له: لمن؟ قال له: لزيدٍ أو عبيد، قال له: أتحب أن أكلمه لك؟ قال له: إذا شئت، فقام من معتكفه، فقال له أحدهم: يا بن عباس أنسيت أنك معتكف؟ قال: لا والله، ولكنني سمعت صاحب هذا القبر ـ والعهد به قريب، وبكى ـ والله لأن أمشي مع أخٍ في حاجته، خيرُ لي من صيام شهرٍ، واعتكافه في مسجدي هذا، أي الدين امتناع.
(( ترك دانقٍ من حرام خيرٌ من ثمانين حجةً بعد الإسلام ))
والدين عمل صالح، لأن أمشي مع أخٍ في حاجته، خيرٌ لي من صيام شهرٍ واعتكافه في مسجدي هذا:
(( الخلق عيال الله فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله ))
أيها الأخوة، سيدنا عمر كان مع عبد الرحمن بن عوف في المدينة، فرأى قافلةً، فقال سيدنا عمر لعبد الرحمن: تعال نحرس هذه القافلة، طفل بكى، عندما بكى، قال لأمه: أرضعيه، بكى ثانيةً، قال لها: أرضعيه، بكى ثالثةً، فغضب سيدنا عمر، قال: أرضعيه، هي غضبت، قالت له: وما شأنك بنا، إني أفطمه، فسألها لِمَ تفطميه؟ قال: لأن عمر لا يعطي العطاء إلا بعد الفطام، ليس مع الولادة، تروي الروايات أنه بكى، وضرب جبهته، وقال: ويحك يا بن الخطاب كم قتلت من أطفال المسلمين؟ وحينما صلى الفجر، لم يستطع أصحابه أن يسمعوا قراءته من شدة البكاء، وهو يقول: "ربي هل قبلت توبتي فأهنئ نفسي، أم رددتها فأعزيها؟".
فالإنسان حينما يدرك أن هناك حساباً دقيقاً، و سؤالاً، و دقة بالغة في الحساب، والله ما من قطرة دمٍ تراق في الأرض، من آدم إلى يوم القيامة، إلا ويتحملها إنسان يوم القيامة:
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ﴾
﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ﴾
التوبة رحمة الله بالإنسان :
الإنسان يا أخوان، ما دام القلب ينبض، ما دام هناك بقية في الحياة، لنبادر إلى التوبة، والتوبة رحمة الله:
(( لو جئتني بملء الأرض خطايا عفرتها لك ولا أبالي ))
والله ينتظرنا، و
﴿ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ﴾
﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً ﴾