- تفسير القرآن الكريم / ٠1التفسير المختصر
- /
- (004) سورة النساء
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
أيها الإخوة الكرام ؛ الآيات السابعة والسبعون والثامنة والسبعون والتاسعة والسبعون من سورة النساء، تشير إلى موضوع دقيق، قد يفهمه المسلمون على غير ما أراده الله عز وجل.
مثلاً، إذا خاطبتَ إنسانًا متلبساً بمعصية الله، ألا تتق الله يا أخي، يقول لك، هذا قدري، بالتعبير الدارج، يقول: طاسات معدودة في أماكن محدودة، ليس بيدنا شيء، هذا ترتيب سيدك، يعني الله، هذا كلام ليس له أساس من الصحة.
سيدنا عمر في عهده، جيء له برجل شارب للخمر، فلما أمر أن يقام عليه الحد قال هذا الرجل: والله يا أمير المؤمنين، إن الله قدر عليَ ذلك، فقال رضي الله عنه، وهو الذي فهم حقيقة الدين، قال: أقيموا الحد عليه مرتين، مرة لأنه شرب الخمر، ومرة لأنه افترى على الله، ثم قال له: ويحك يا هذا، إن قضاء الله لم يخرجك من الاختيار إلى الاضطرار، إن الله أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلف يسيراً ولم يكلف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يُعصَ مغلوباً، ولم يطع مكرهاً، ولم يرسل الأنبياء لعباَ.
لو أن الله سبحانه وتعالى، أجبر الإنسان على طاعته لبطل الثواب !! ولو أجبره على معصيته لبطل العقاب !! ولو تركه هملاً لكان عجزاً في القدرة !!.
فالإنسان حينما يتوهم أن الله قدر عليه أن يعصيه، فقد وقع في ذنبٍ بنص القرآن الكريم، هو أكبر ذنبٍ على الإطلاق.
الله عز وجل، ذكر الذنوب، ذكر الإثم والعدوان، ذكر الفحشاء والمنكر، ذكر الشرك، ذكر النفاق ذكر... ذكر... ثم قال:
﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)﴾
أن تقول على الله ما لا تعلم، هذا أكبر ذنبٍ يقترفه الإنسان، فأن تتوهم أن الله عز وجل خلق الإنسان وقدر عليه أن يعصيه، ولا يستطيع إلا أن ينفذ قدر الله عز وجل، ثم يأتي ليحاسَب ويدخل جهنم إلى أبد الآبدين، فهذا افتراء على الله، قال الله عز وجل:
﴿الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ﴾
وقال عز وجل:
﴿وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77)﴾
وقال:
﴿لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ﴾
وقال سبحانه:
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾
وقال تعالى:
﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ (8)﴾
﴿وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)﴾
ماذا نفعل بهذه الآيات:
﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾
﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾
﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3)﴾
﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا ﴾
ويقولون: هذا ترتيبه ! ! ! فهذا كلام مَن، كلام المشركين:
﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)﴾
حينما تتوهم، أن الله سبحانه وتعالى أجبرك على معصيته، فقد وقعت في أكبر ذنب، وهو سوء الظن بالله عز وجل.
فالإمام الغزالي يقول: لأنْ يرتكبَ العوامُ الكبائرَ أهون من أنْ يقولوا على الله ما لا يعلمون، حسن الظن بالله ثمن الجنة.
وبعد ؛ فأنت مخير فيما كلفت، لن تحاسب لماذا ولدت عام 1940، لماذا ؟ لأنك لست مخيرًا في تاريخ ميلادك، لست محاسبًا لماذا كان أبوك فلانًا، فلست مخيّراً في اختيار أبيك، أنت مخير في ماذا ؟ فيما كلفت، أمرك أن تصلي، بإمكانك أن تصلي وألاّ تصلي، أمرك أن تكون صادقاً، فبإمكانك أن تكذب، وبإمكانك أن تصدق، أمرك أن تكون مخلصاً، فبإمكانك أن تخون، وبإمكانك أن تخلص، أمرك أن تغض البصر، فبإمكانك أن تطلق البصر وأن تغض البصر، إذًا أنت مخير في ماذا ؟ فيما كلفتَ، في دائرة التكليف أنت مخير، فإذا فعلت شيئاً محرماً، فإياك أن تقول: اللهُ قَدَّرَ عليَّ، هكذا ترتيب سيدك، وهكذا أراد الله، حتى يشاء الله، لا أتوب حتى يريد الله، هذا كله كلام باطل، كلام تُحاسب عليه، كلام لا أصل له من الصحة، وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى، الإنسان مخير فيما كلف، أما هو مسير في شؤون كثيرة، أنْ يكون فلان والده فهو مسير، فلانة والدته مسير، ولد عام كذا مسير، طويل مسير، قصير مسير، كل صفاته الحسية والجسمية وقدراته العقلية، ولادته، ومحيطه، وبيئته، في كل هذا هو مسير، لكن هو مخير فيما كلِّف.
ويجب أن تعلموا أيها الإخوة ؛ أنّ الذي سيرت به هو محض خيرٍ، ولصالحك، محض خير، اختار لك أنسب أب، وأنسب أم، وأنسب زمن، وأنسب إمكانات، وأنسب شكل، وأنسب قدرة، وأنسب زوجة، وأنسب أولاد، كل شيء أنت مسير به فهو لصالحك.
لذلك الإمام الغزالي عبّر عن هذه الحقيقة فقال: ليس في الإمكان أبدع مما كان، يعني ليس في إمكاني أبدع مما أعطاني.
ما أنت مسير به فهو لمصلحة إيمانك، ولمصلحة آخرتك.
التخيير من أجل أن تدخل الجنة بعملك.
وبعد ؛ فها هنا نقطة دقيقة، فبعد أنْ عرفتَ أنك مخير فأنت مسير، كيف ؟.
لو أن إنسانًا اختار أن يغش الناس، وأن يأكل أموالهم بالباطل، فربنا الآن يسيره،ويدفع ثمن اختياره، إذا أراد ربك إنفاذ أمر أخذ من كل ذي لبٍّ لبَّه، يورطه في قضية يُفلس فيها ويحار، يا رب أنا حائر تائه، لأنّ كل مالك حرام.
بعد أن تختار فالله عز وجل يسيرك لدفع ثمن اختيارك، فإذا اخترت الإحسان للآخرين، فالله يسيرك لعمل مريح، وإذا اخترت إيذاء الآخرين، فالله يسيرك بعمل يزعجك، فأنت بالأساس مخير، ثم تسير لدفع ثمن اختيارك، وإذا أراد ربك إنفاذا أمر أخذ من كل ذي لب لبه، ولا ينفع من ذي الجد منك الجد، فمهما كنت ذكيًا وعاقلاً، ولديك خبرات متراكمة ؛ ثمانين سنة مثلاً، يُؤتى الحَذِرُ من مأمنه، عند الله ليس هناك ذكي، وعنده ليس هناك خبرات، كل الخبرات تضيع، وإذا أراد ربك إنفاذا أمر أخذ من كل ذي لب لبه يا رجل أين عقلك ؟ فيقول: هذا ما حدَث معي، الله سيرك لتدفع ثمن اختيارك، لمَ اخترت أن تفعل المعاصي والآثام، وأن توقع الأذى بالعباد، فالله سلبك لُبَّك، وفعلت شيئاً دفعت فيه ثمن اختيارك، وهذه هي المقدمة، من أجل قوله تعالى:
﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾
هنا دقة الآية، من حيث التنفيذ، من حيث الفعل.
﴿قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾
وبعد قليل:
﴿فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً (79)﴾
قد يبدو لبعض الناس، أن بين الآيتين تناقضاً، لا
الفعل له عنصران ؛ عنصر كسبي.. وعنصر تنفيذي..
العنصر الكسبي: منك والعنصر التنفيذي: من الله .
فلو أردت أن تقوم للصلاة، أنت أردت أن تصلي، هذا الجانب الاختياري الكسبي، أما من يعطيك القوة على أن تقف، وأن تقرأ وأن تركع وأن تسجد، فهو الله سبحانه وتعالى.
أنت صليت اكتساباً، وصليت بقضاء الله وقدره، من حيث الفعل، الفعلُ فعلُ الله، أمَّا الاختيار والكسب فاختيارك وكسبك.
﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾
فإذا أشار الله عز وجل إلى أن الفعل كله لله، إلى أن عمل الإنسان من عند الله، فهذا يعني المعنى التنفيذي.
إليك مثلاً آخر أوضح.
لو كتب مدير المدرسة على جلاء الطالب، لقد تم ترسيب الطالب في صفه، فمَن أصدر قرار الترسيب ؟ المدير، لكنْ مَن سبب الرسوب ؟ إنّه الطالب، فالرسوب كسبٌ من الطالب، أما كتنفيذ، وكقرار أُصدر ووُقِّع وخُتِم مِن المدير، فالرسوب مَن سببه ؟ الطالب الكسول، مَن نفذه ؟ المدير المسؤول.
فالرسوب له جانبان... سبب.. وفعل..
التوقيع وإصدار القرار من المدير، فإذا قلنا: المدير رسب الطالب، كلام صحيح، لأنه كسول، أشرنا الآن إلى فعل الرسوب، إذا قلنا هذا الطالب رسب، مسكين، صحيح أيضا، فتنفيذ القرار صدر عن المدير، هذه صحيحة، وهذه صحيحة.
إذا قلنا هذا الطالب رسب فقد أشرنا إلى الجانب الكسبي الاختياري.
وإذا قلنا المدير رسبه، أشرنا إلى الجانب التنفيذي، فليس ثمّة غلط، ولا تناقض العبارتين.
﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ﴾
لا، أنتم غالطون.
﴿قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾
الأفعال كلها من قَبَل الله، أما الآن الاختيار.
﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾
لو أنت فعلت معروفًا، فالله لمّا أعطاك الخير، فهو منه، وليس لك عنده شيء.
ذات مرة ضربت مثلاً، لو أن أبًا قال لابنه: إذا نجحت فسأشتري لك دراجة، هذا الابن أخذ الجلاء، وركض رأساً إلى بائع الدراجات، وقال له: هات دراجة، أعطِني دراجة، وانظرْ إلى الجلاء، فقد نجحتُ، فهل يعطيه دراجة ؟لا، بل يقول له: ما الذي يعنيني في نجاحك، قالوا: العطاء محض فضل.
﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾
( فمن نفسك)، يعني أنت الذي تسببت في ذلك، وحينما يُعزَى العمل إلى الله نقصد به الفعل، وحينما يُعزَى العمل إلى الإنسان، نقصد به الكسب، والآية في آخر سورة البقرة:
﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾
أمّا هنا في سورة النساء:
﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً (79)﴾
ملخص الدرس: إذا توهّم الإنسان أنه هكذا ترتيب ربه، هكذا خلقه، وهكذا جعله لا يصلي، وتركه يشرب الخمر، وتركه يعمل أعمالاً خارج طاقته وإرادته، فهذا تدليس مِن الشيطان، وهذا كلام لا أصل له، والإنسان محاسب لا محالة.
﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)﴾
وما وجدتُ واحدًا في حياتي قال: إذا فعلت أعمالاً صالحةً، هكذا أراد الله، لا !!! يقول لك: بالخيرات وبالصلوات وبالصدقات، أنا فعلت، وأنا تصدقت، أنا صليت، بينما عند فعل الموبقات والأثام يقول: هكذا أراد الله، هذا كلام فيه تناقض، الخيرات تعزوها إلى نفسك، أما إذا وُجِدَ تقصير، وأكل مال حرام، هكذا شاء الله، وهذا قدري، لا، ليس قدرك، هذا وهم، وهذا جهل، وهذه الفكرة إذا شاعت بين الناس شلّت حركتهم، فانتهوا يا عباد الله، وانتبهوا:
﴿فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78)﴾
الخير من الله، والشر من الله فعلاً، ومِن الإنسان كسباً.
العمل له جانبان.. كسب.. وفعل.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وأكرمنا ولا تهنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وأرض عنا، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه أجمعين..