- تفسير القرآن الكريم / ٠1التفسير المختصر
- /
- (004) سورة النساء
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
أيها الإخوة الكرام ؛ في سورة النساء الآية السادسة والستون بعد المئة، يقول الله سبحانه وتعالى:
﴿لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً (166)﴾
كلكم يعلم أن إنساناً شهد حادثةً، ثم دُعِيَ لأداء الشهادة، يقول لك: نعم لقد حصل كذا وكذا، هذه شهادة الإنسان، تسمعها بأُذنك من فمه، فكيف نفسر هذه الآية ؟
إن الله سبحانه وتعالى يشهد لنا بما أنزل إليك يا محمد، أيْ يشهد لنا أنَّ القرآن كلامه، كيف يشهد الله لنا أن القرآن هو كلامه ؟ هل يعقل أن نستمع إلى الله مباشرةً.
قال تعالى:
﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ﴾
فكيف نفهم هذه الآية ذات الدلالة الواضحة ؟
الله سبحانه وتعالى هو بذاته يشهد لعباده أن القرآن كلامه.
أوضح لكم معنى هذه الآية بمثلٍ بسيط ؛ لو أن طلاب صف من الصفوف، دخلوا غرفة الصف في أحد الأيام، فإذا على السبورة العبارة التالية، "غداً الساعة الثانية مذاكرة رياضيات "، التوقيع: مدرس الرياضيات، الطلاب نظروا إلى هذه العبارة، يا ترى أهذا كلام المدرس ! أو أنَّ طالباً يداعبنا ؟.
كيف يشهد المدرس أن هذا الكلام كلامه ؟ غداً الساعة الثانية يدخل هذا المدرس ويقول: افتحوا الأوراق البيضاء عندكم مذاكرة، حينما تأتي الأحداث مطابقةً للأقوال، معنى ذلك أنّ هذا القول قول المدرس.
اتفق العلماء على أن وقوع الوعد والوعيد، هو شهادة الله لعباده بأنَّ القرآن كلامه.
يعني إذا قال الله عز وجل:
﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾
ورأيت إنساناً نمت أمواله بالربا، ثم أُتلِفتْ هذه الأموال فجأةً، ثم أحرق الله ماله، أو أتلف ماله، فإتلاف هذا المال شهادة الله لنا أن القرآن كلامه، لأن الله قال بالقرآن الكريم:
﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾
إذا رأيت إنساناً يتصدق، فإذا بأمواله تنمو شيئاً فشيئاً، فنمُّو أموال المتصدق شهادةُ الله لعباده أن القرآن كلامه، لأنه يقول:
﴿وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾
إنْ رأيت شاباً نشأ في طاعة الله، مستقيماً على أمر الله، ضبط جوارحه، وضبط دخله، وتزوج امرأةً مؤمنةً صالحةً، وكان هذا الشاب في سعادةٍ كبرى، هذه السعادة الكبرى التي يعيشها هذا الشاب شهادة الله لعباده أن هذا القرآن كلامه، لأن الله تعالى يقول:
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾
إن رأيت إنسانًا معه ألوف الملايين، وهو غير سعيد في حياته، بل يعاني مُرَّ الشقاء، وقال لك: أنا أشقى إنسان على الأرض وأقسم على ذلك، فشقاء هذا الإنسان الغني شهادةٌ من الله عز وجل لعباده أن القرآن كلامه، لأن الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) ﴾
لذلك إذا قرأت في القرآن أن الله يشهد لعباده أن القرآن كلامه، فشهادة الله غير شهادة العباد، حينما تأتي الأحداث، وهي أفعال الله مطابقة لما في القرآن، فهذه أكبر شهادة من الله سبحانه وتعالى أن القرآن كلامه.
فلما قال المدرس: افتحوا الأوراق، وإليكم الأسئلة، معنى الكلام أنّ الذي كتب على السبورة قبل يومين المدرسُ بخطَّه، وإن لم يكن بخطه فبأمره تمَّت الكتابة، حينما جاءت المذاكرة مطابقة للتصريح السابق فهذه شهادته.
فيا أيها الإخوة الأكارم ؛ قال الله تعالى في آية أخرى تؤكد هذا المعنى:
﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾
قال جمهور العلماء: تأويل القرآن في هذه الآية، وقوع الوعد والوعيد.
إذا رأيت الله سبحانه وتعالى، نصر المسلمين الأوائل، ومكنهم في الأرض، واستخلفهم على عباده، وبدل خوفهم أمنا، هذا مصداق قوله تعالى:
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً﴾
إذا رأيت المسلمين في هذه الأيام ليسوا كما يتمنى أحدُهم، وليس أمرهم بيدهم، فاذكرْ قوله تعالى:
﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً (59) ﴾
ولقد لقي المسلمون ذلك الغي، حينما تأتي الأحداث مطابقة للقرآن الكريم، فاعلمْ أن هذا القرآن كلامه، حينما قال الله عز وجل:
﴿غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ﴾
المعركة التي جرت بين الروم والفرس في غور فلسطين، وما كان أحد يعلم في حينه، ولا في عهد رسول الله، أن غور فلسطين أخفض نقطة في الأرض قال الله تعالى:
﴿غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ﴾
إذاً كل الحقائق التي تأتي الآن تؤكد أن هذا القرآن كلامه، حينما قال الله عز وجل:
﴿وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) ﴾
المنطق أنْ يقول ب سبحانه: "بعيد"، لكنه قال:
﴿عَمِيقٍ (27) ﴾
وهذا يعني أنَّ الأرض كرة، كلما ابتعدت عن نقطة الكرة، نشأ بُعد نحو الأسفل، بُعد غير بُعد المستقيم.
﴿ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)﴾
العمق يتنامى مع البُعد، على سطح الكرة، أجلْ العمق يتنامى مع البعد، فلو أخذت سنتيمترًا على سطح كرة يكوِّن خطًا مستقيمًا، أمّا لو أخذت خمسين سنتيمترا، وهي كرة كبيرة، صار الخط منحنيًا، إذاً العمقُ يتنامى مع البُعد، معناها الذي قال هذا الكلام خالق الكون.
هناك آيات كثيرة، فهناك إعجاز علمي، وهناك إعجاز تشريعي، وهناك إعجاز إخباري.
لكن الذي يعنينا في هذا اليوم، الإعجاز الذي هو من نوع تحقق الوعد والوعيد، فحيثما رأيت حالةَ إنسانٍ مثلاً ماله حرام، فقد ورد في الجامع الصغير حديث شريف أن النبي خاطب بعض القبائل حسب لهجتهم، قال:
(("من أصاب مالاً في مهاوش أذهبه الله في نهابر ))
المهاوش يعني بالاحتيال، والنهابر يعني يذهب نهباً، من أصاب مالاً في مهاوش أذهبه الله في نهابر، يعني إذا الإنسان ماله حرام، في الأعم الأغلب، يذهب هذا المال بشكل غير معقول، سلبًا أو نهبًا أو غصبًا إلخ....
إذاً أنت دائماً وأبداً دقِّق فيما يجري، عندما ترى مثلاً بلدًا تُرتَكب فيه المعاصي على قدم وساق، ليس فيه إلا الشهوات، والأموال الحرام، وانتهاك الأعراض، وسلب الأموال، ولقد أصابتها مصيبة كبيرة طحنتها طحناً في عشر سنوات، اقرأ قوله تعالى:
﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)﴾
كل حدث يقع في الأرض يدلُّك على أن يدَ الله تعمل، حينما ترى كيانًا عمره سبعون سنة تداعى كبيت العنكبوت، وكان قلعة عاتية من قلاع الأرض، فاقرأ قوله تعالى:
﴿إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً (81)﴾
فأنت إذا قرأت القرآن فإنّه يلقي ضوءًا ساطعاً على كل حدث، والأحداث تؤيد ما في القرآن، والقرآن يدلك على تفسير الأحداث، الأحداث دائماً تؤكد مضمون القرآن، ومضمون القرآن يلقي ضوءًا على ما في الأحداث.
لذلك أحد أنواع شهادة الله لعباده مِن أنَّ القرآن كلامه هو تحقُّقُ الوعد والوعيد، وتطابق الأحداث الكبرى مع ما في القرآن الكريم، أنا قلت: أحد أنواع الشهادة، لأن الله عز وجل يشهد لك شهادة أخرى، حينما تقرأ القرآن ترتاح نفسك، ويطمئن قلبك، قال تعالى:
﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) ﴾
إذاً أيضاً حينما تقرأ القرآن، وتشعر بالراحة والسعادة، فهذا مصداق قوله تعالى:
﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) ﴾
نعيد تلاوةَ الآية مرة ثانية:
﴿ لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ ﴾
يا محمد هو الذي يشهد لكم.
﴿أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً (166) ﴾
فكل شاب مؤمن مثلاً قرأ الآية:
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾
فأيّ شاب يستقيم على أمر الله، يُقبل على الله، يطلب العلم، يعلّم الناس، يأمر بالمعروف، ينهى عن المنكر، ينفق من ماله، يختار زوجة صالحة، تسأله عن حاله والناس في ضائقة وفي قلق وفي شك، يقول لك: الحمد لله، واللهِ أنا من السعداء، هذا الكلام مصداق قوله تعالى:
﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾
وقد تلتقي مع إنسان ماله حرام، بيته غير إسلامي، فيه مخالفات، فيه تجاوزات، يقول لك: ما هذه الحياة "، الموت أشرف، فكلامُه صحيح:
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)﴾
إذًا فاقرأ القرآن وأربط بينه وبين ما يجري، تجد أن كل الأحداث، تؤيده، وهو يكشف لك حقيقة الأحداث، فذات مرة قلت لإخواننا: إنَّ أحداث جيراننا، هناك من يفسرها تفسيرًا عربيًا، وتفسيرًا دوليًا، وتفسيرًا طائفيًا، حتى وصل الأمرُ إلى تفسير نسائي، أصابتْه عين مثلاً، لكن هناك تفسير إلهي، وهو الصواب:
﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) ﴾
هذا كلام الله عز وجل، وهذا التفسير الذي يصيب كبد الحقيقة.
يا أيها الإخوة الأكارم ؛ شهادة الله هي في وقوع الوعد والوعيد، الوعد والوعيد يتحقق، وبتحققه تكون شهادة الله لنا أنَّ هذا القرآن كلامه.