- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (009)سورة التوبة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
مضمون سورة التوبة :
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الأول من دروس سورة التوبة، هذا الدرس والدرس الذي يليه إن شاء الله سأتحدث عن مضامين هذه السورة، وبعدها ننتقل إلى شرح آياتها آيةً آية.
أولاً: مما يلفت النظر أن هذه السورة لم تبدأ بالبسملة، والحديث عن البسملة حديث طويل، إن شاء الله في الدرس القادم أتحدث عن البسملة.
لكن بسملة: هذه كلمة مشتقة، بسملة أي: بسم الله الرحمن الرحيم، وحوقل: لا حول ولا قوة إلا بالله، ودمعز: أدام الله عزك، وسبحل قال: سبحان الله، وحيعل قال: حيّ على الفلاح، وهلل قال: لا إله إلا الله، وكبّر قال: الله أكبر، هذا مما تنفرد به اللغة العربية، اشتقاق كبير، يعني خمس كلمات تُدمج في كلمة واحدة.
فهذه السورة لم تبدأ بالبسملة، وقال بعض العلماء: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحدد بداية كل سورة بالبسملة، ولم يحدد في هذه السورة بداية، هكذا قال بعضهم.
وفي قول آخر: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يحدد في هذه السورة البسملة، لأن الأمر كما يتصوره بعضهم ليس رتابة في القرآن، هناك تغييرات تلفت النظر، يعني مثلاً: في جزء عمّ السور كلها مكية، والسور كلها تتحدث عن الكون.
﴿ وَالْفَجْرِ(1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ(2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ(3)﴾
﴿ وَالضُّحَى(1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى(2)﴾
هذه السور تلفت النظر إلى عظمة الله من خلال الكون، ضمن هذا السياق الكوني الأخروي تأتي سورة المطففين.
﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ(1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ(2)﴾
قال بعض العلماء: مما يلفت النظر أن هذه السورة قطعت سياق السور الكونية وتوجهت إلى حكم شرعي تعاملي، بعضهم علق وقال: أنت إذا لم تؤمن بآيات الله فهذا شيء كبير جداً، لكنك إذا طففت بالمكيال فهذا شيء كبير جداً أيضاً.
نقص المعلومات شيء و الاعتداء على الآخرين شيء آخر :
لو أن إنساناً لم يتح له أن يعرف حقيقة الكون، لكنه آمن بالله، واستقام على أمره، وأدى ما عليه، أدى العبادات، أخذ ما له ولم يأخذ ما ليس له، هذا الإنسان ناجٍ عند الله، لأنه ما اعتدى على الآخرين، نقص المعلومات شيء، وأن تعتدي على الآخرين شيء آخر، فالتطفيف عدوان، التطفيف غش، التطفيف أن تأخذ ما ليس لك، فكأن الله سبحانه وتعالى أراد بقطع السياق الكوني بسورة في الجزء الثلاثين، في جزء الكونيات، في جزء السور المكية، قطع السياق، وجاءت سورة تتحدث عن التطفيف، وكأن التطفيف يشمل كل أنواع الغش ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ﴾
سورة التوبة لم تبدأ بالبسملة لأن القرآن الكريم توقيفي من عند الله :
أيها الإخوة، لكن يُرَدُّ على هذين الرأيين في أن هذه السورة سورة التوبة لم تبدأ بالبسملة؛ لأن القرآن الكريم بآياته، وبترتيب آياته، وبسوره، وبترتيب سوره، توقيفي من عند الله، ولا دور للنبي -صلى الله عليه وسلم- إطلاقاً في تحديد أسماء السور، أو في ترتيبها، أو في تحديد الآيات، أو في ترتيب الآيات.
أحياناً من حكمة الخالق أنك في بعض الأمور تنتقل من شيء إلى شيء، لكن أحياناً تجد فجوة، هذه الفجوة لعلها تلفت النظر، ما الذي حدث؟ هناك آيات كثيرة، يعني الكلمات متعاطفة بالرفع، يأتي حرف عطف، وتأتي كلمة منصوبة، هذا شيء يلفت النظر.
لذلك عند علماء القرآن شيء ما يُسمى بالنُّكات، جمع نكتة، النكتة: ظاهرة بلاغية، مثلاً قال تعالى:
﴿ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ
الضمير مفرد، وسياق الآيات ينبغي أن يكون والله ورسوله أحق أن يرضوهما، فلماذا جاءت الهاء المفردة بدل الهاء المثناة؟ كأن الله أراد أن يقول: إن إرضاء الله هو عين إرضاء رسول الله، وإن إرضاء رسول الله هو عين إرضاء الله، هذه نكتة بلاغية.
﴿ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا
قُدمت التجارة على اللهو، لأنه لا لهو من دون تجارة، اللهو يحتاج إلى أموال، يحتاج إلى دخل مفتوح لا دخل محدود.
﴿ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا ۚ قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ
هنا قدم اللهو على التجارة، لماذا قُدم؟ قال: لأن ترك الفرائض، أو ترك العبادات بسبب اللهو أعظم إثماً من تركه بسبب التجارة.
اللفتات البلاغية في القرآن الكريم شيء دقيق جداً :
على كلٍّ التقديم والتأخير:
﴿ قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ
قدم الآباء، في هذه الآية المعنى: الاعتزاز الاجتماعي، الإنسان يعتز بأبيه، بدأ الله بالأب، في موضع آخر بدأ بالمرأة:
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
لأن الآية في موضوع الشهوات، فالمرأة قُدمت على البنين، في موضع الاستعانة الإنسان لا يستطيع أحياناً أن يستعين بأبيه لتقدمه في السن، ولا بابنه لصغر سنه، يستعين بأخيه.
﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ(34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ(35)﴾
قدم الأخ، في مجال الافتداء أغلى شيء بالفدية الابن.
﴿ يُبَصَّرُونَهُمْ ۚ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ
إذاً مرة الله بدأ بالأب، مرة بالمرأة، مرة بالابن، مرة بالأخ، وموضوع التقديم والتأخير، موضوع اللفتات البلاغية في القرآن الكريم شيء دقيق جداً، لذلك نحن حينما نقف عند بعض هذه اللفتات، أو عند بعض هذه النكات، يزداد إيماننا أن هذا القرآن من عند خالق الأكوان.
الدين الإسلامي انضباط كلّه و نظام كلّه :
شيء آخر: في الحج نحن مكلفون أن نقبل حجراً، وفي الحج نفسه مُكلَّفون أن نرجم حجراً، لِمَ قبّلنا الأول، ولِمَ رجمنا الثاني؟ قال بعض العلماء: لا شيء في الكون مقدس لذاته بل إن التقديس من عند الله -عز وجل-، فإذا أمرنا ربنا أن نقبّل هذا الحجر أصبح هذا الحجر مقدساً، وإذا أمرنا أن نرجم هذا الحجر أصبح هذا الحجر مبتذَلاً.
إذاً التقديس والتدنيس بأمر الله -عز وجل-.
شيء آخر بالدين هناك عظمة، يعني بالنظام العسكري في أثناء الطعام يقول الضابط: سكوت، يجب أن توقف مضغ اللقمة، والذي يحرك فكيه يُعاقَب، هذا يبين عظمة النظام، هذا جيش سيحارب، فلابد من أن يكون الآمر مطاعاً، ولابد من أن تنفذ الأمر فهمته أو لم تفهمه، نفّذ ثم اعترض.
كذلك في الدين، هذا الدين فيه انضباط، أي تنفيذ هذا الأمر بحذافيره يتضح مثلاً في الصيام أمة بأكملها مع أذان المغرب لا تجد إنساناً واحداً في الطريق، أمة بأكملها تأكل في ثانية واحدة مع إطلاق المدفع، وأمة بأكملها توقف الطعام في ثانية واحدة مع أذان الإمساك، في صلاة التراويح قد يجتمع في الحرم ملايين، ومع ذلك كل هؤلاء يتحركون في وقت واحد، حركة متساوية، يقفون، يركعون، يسجدون، هذا الانضباط في هذا الدين من دلائل عظمة خالق السماوات والأرض.
أنا لا أعتقد أنه يوجد على وجه الأرض نظام كنظام الإسلام، أنت في الصيام، في أحد أشهر الصيف، وفي أحد أيام رمضان الطويلة، سبع عشرة ساعة، والحر لا يحتمل، والصائم يكاد وقت الظهيرة يموت من العطش، يدخل بيته لا أحد في البيت، وفي الثلاجة ماء عذب، زلال، بارد، ولا يراه أحد في الأرض، ولا يستطيع أن يضع في فمه قطرة من ماء، هذا الدين، هذا الدين يبين أنه لا ينجح أمر إلا إذا كان الآمر معك، أما الأمر الوضعي شيء آخر.
الإشارة حمراء، وراكب المركبة تجاوز الإشارة الحمراء، يكمن له شرطي أوقفه، قال له: ألم ترَ الإشارة حمراء، قال له: والله رأيتها حمراء، لكنني لم أرَك، لأن النظام مربوط بشرطي فقط.
أنت لاحظ أي شيء من وضع البشر، لا يطبق إلا إذا كان علم واضع القانون يطولك، وقدرته تطولك، فإن كان علمه لا يطولك لا يُطبق، إن كانت قدرته لا تطولك لا يطبق، علمه يطولك، وقدرته تطولك، أما نظام خالق الكون، لأن الله معك.
﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۚ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ
يستطيع إنسان مسلم يجد في وعاء الزيت في دكانه فأرة أن يبيع الزيت؟ إن كان مؤمناً لا يستطيع، يُحول هذا الزيت إلى الصابون، إن لم يكن مؤمناً يأتي بملقط يأخذ الفأرة ويبيع الزيت، أليس كذلك؟ بربكم هل تنتظم الحياة من دون إيمان بالله؟ والله قصص الأمانة والاستقامة والنزاهة والخوف من الله لا تصدق.
سائق سيارة وجد في مركبته بكيس أسود عشرين مليون ليرة، بحث عن صاحبها أربعة أيام حتى عثر عليه وقدم المبلغ له، ما الدافع؟ أن الله يراقبه.
الحياة لا تنتظم إلا بالإيمان :
صدق ولا أبالغ، لا يمكن أن تنتظم الحياة من دون إيمان بالله، هل يستطيع إنسان مؤمن وهو يعجن العجين أن يدخل إلى الحمام ولا يغسل يديه ويتابع العجين؟ لا يستطيع، أما غير المؤمن يستطيع، ما دام لا يوجد رقابة، ولا محاسبة، فلذلك النظام الوضعي هذا.
سيدنا عمر رأى راعياً أراد أن يمتحنه، قال له: بعني هذه الشاة وخذ ثمنها، قال: ليست لي، قال: خذ ثمنها، قال: والله إنني لفي أشد الحاجة إلى ثمنها، ولو قلت لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب لصدقني، فإني عنده صادق أمين، ولكن أين الله؟.
ما لم تقل كما قال هذا الراعي في كل ظرف يسمح لك هذا الظرف أن تأخذ ما ليس لك، ما لم تقل أين الله فأنت بعيد بعد الأرض عن السماء عن الإيمان، الإيمان استقامة.
(( الإِيمانُ قَيَّدَ الفَتْكَ، لا يَفْتِكُ مؤمِن ))
الأمانة بالإسلام شيء لا يصدق، قد يكون معك ملايين، أقسم لي بالله إنسان قال لي: معي عشرون مليوناً استثمار من صديق، لم يُعلِم أحداً بهذا المبلغ، وليس مع أهله إيصال، مات بحادث، فإذا أبقى هذا المبلغ له ليس هناك في الأرض من يسائله، ذهب إلى الورثة وقدم لهم المبلغ، هذا هو الإيمان، الحياة لا تنتظم إلا بالإيمان.
علامة عقل الإنسان خوفه من الله تعالى :
حينما تؤمن أن الله يعلم، وسيحاسب، وسيعاقب، لا يمكن أن تعصيه، والمثل واضح: راكب مركبتك، والإشارة حمراء، والشرطي واقف، وشرطي آخر على دراجة، وضابط مرور بالسيارة، وأنت مواطن عادي، هل من الممكن أن تمشي على الأحمر؟ مستحيل وألف ألف ألف مستحيل، لأن واضع قانون السير -وزير الداخلية- علمه يطولك من خلال هذا الشرطي، وقدرته تطولك من الشرطي الآخر الذي معه دراجة، وقد تُسحَب منك الإجازة، وتؤخذ منك المركبة، لو تعاملت مع خالق السماوات والأرض على أن علمه يطولك، وأن قدرته تطولك، والله لو كنت وحدك في الصحراء، لا تستطيع أن تدوس على نملة، شعوب تُقتل، مدن تُقصف، آلاف الأشخاص، مليون قتيل في العراق، خمسة ملايين مشرد، مليون معاق، خطأ توهمنا أنه يوجد سلاح شامل، والسبعة ملايين؟ والله صدقوا ولا أبالغ لا يوجد قطرة دم تراق في الأرض من آدم إلى يوم القيامة إلا وسيسأل عنها إنسان لِمَ قتلته؟.
﴿ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ(8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ(9)﴾
أنا أقول: علامة عقلك خوفك من الله.
(( ورأس الحكمة مخافة الله ))
أن تقول:
﴿ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ
والله مجتمع فيه إيمان، لا فيه سرقة، ولا فيه غش، يعني معمل يبيع لبناً مُصفّى، لا يوجد به نقطة حليب، كله مواد كيماوية، بنصف السعر، فكل معامل اللبن المصفى توقفت عن العمل، لأن السعر مئة ليرة، هذا الذي فعل هذا أُصيب بالجنون، وأفلس على خمسة و عشرين مليوناً، معقول أن تغش المسلمين و يتركك الله؟ معقول تبيع مادة كيماوية ليس لها علاقة بالحليب إطلاقاً تبيعها على أساس أنها مادة غذائية؟.
الغبي هو الإنسان الذي لا يدخل الله في حساباته :
إخواننا الكرام، من هو الغبي؟ الغبي هو الذي لا يدخل الله في حساباته.
بعني هذه الشاة وخذ ثمنها، قال: ليست لي، قل لصاحبها: ماتت، قال له: ليست لي، والله إنني لفي أشد الحاجة إلى ثمنها، ولو قلت لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب لصدقني، فإني عنده صادق أمين، ولكن أين الله؟.
والله مرة حدثني أخ أحترمه كثيراً، عنده معمل مواد غذائية للصغار، قال لي: هذا الطفل أخذ من والده عشر ليرات، معقول أبيعه بضاعة موادها الغذائية الأساسية منتهية الصلاحية؟ هناك مواد غذائية لها صلاحية، فإن لم تُبَع في وقتها من يشتريها؟ أصحاب المعامل، هذه لا تظهر في الأسواق، تدخل في تركيب هذه المادة، يقول لي هذا الأخ المؤمن: والله لا أستطيع، آتي بأفضل المواد، لأن الله يحاسبني.
إذا لم تدخل الله بحساباتك، إذا لم تقل في اليوم ألف مرة إني أخاف الله، أخاف أن أكذب، أخاف أن أغش، يمكن أن تبيع دواء منتهية صلاحيته؟ جاء طفل يحتاج إلى دواء ثمنه ثمانمئة ليرة، تحك تاريخ الصلاحية على أن الكلمة ليست واضحة وتبيعه إياه.
أنا أقسم لكم بالله الإنسان عندما يرتكب معاصٍ كبيرة جداً كهذه المعاصي كأن عباداته الراقية أُلغيت، من أين جئت بهذا الكلام؟.
أحياناً يكون هناك أشياء طبية، الجيدة غالية جداً، وهناك نوع سيئ جداً، ويُوضَع في القلب أثناء العملية، فالطبيب بعدما يفتح قلب المريض ويغلقه إن وضع له قطعة من أرخص نوع، وفي الفاتورة جاءت من أغلى نوع، هل يستطيع أن يتحقق؟ كان مغمى عليه.
لذلك إذا الإنسان لم يخف من الله، هلك في الدنيا قبل الآخرة.
أيها الإخوة، انظر إلى الإيمان، الصديق -رضي الله عنه- أبلغوه أن صاحبك ـ أي محمد -عليه الصلاة والسلام- يزعم أنه سافر الليلة إلى بيت المقدس وعاد، ولا يزال فراشه ساخناً، ماذا قال؟ قال: "إن قال هذا فقد صدق"، كيف تربى المؤمن؟ هذا نبي، لا يكذب، والإسراء والمعراج يعد معجزة الله أكرم النبي -عليه الصلاة والسلام- بها:
﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى
قال: "إن قال هذا فقد صدق".
عدم تناسب البسملة مع نقض العهود :
إخواننا الكرام، هذه السورة -سورة التوبة- سبقها سورة الأنفال، وفيها توزيع للغنائم، وسورة التوبة فيها توزيع للصدقات، واحدة توزيع الغنائم، والثانية توزيع الصدقات، إذاً السورتان متكاملتان.
وقد يقول قائل: لِمَ لم تبدأ بالبسملة؟ قال: لأن البسملة: بسم الله الرحمن الرحيم، في البسملة أمان ورحمة، وفي هذه السورة نقض للعهود، فلا تتناسب البسملة مع نقض العهود، هذه وجهة نظر متعلقة بأن هذه السورة ليس فيها بسملة.
التوبة حصن للمجتمع وهي طريق للسلامة :
أيها الإخوة، قد يسأل سائل: لماذا سميت هذه السورة بسورة التوبة؟ لأنها بدأت بأن الكفار نقضوا عهودهم مع رسول الله، ولما نقضوا عهودهم الله -عز وجل- تبرأ من هذه العقود والعهود، لذلك هذا الذي نقض عهده مع رسول الله فتح الله له باب التوبة.
﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ۖ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ ۖ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ
تصور ديناً ليس فيه توبة، الإنسان إذا اقترف معصية لا يُغفر له هذا الذنب أبداً، يقوم بألف معصية ما دام لا يوجد توبة، الإجرام يتفاقم، يتفاقم إلى درجة مذهلة، يصبح هناك شراسة بالإجرام، أما أي ذنب إذا تبت منه قَبِل الله توبتك، فالتوبة رحمة، التوبة حصن للمجتمع، التوبة حصن للمذنب، التوبة طريق للسلامة، والله لو ذهبنا لسنوات وسنوات نعدد حكمة التوبة لا ننتهي.
الحكمة من تسمية سورة التوبة بهذا الاسم :
الله -عز وجل- سمّى هذه السورة التي افتتحت بأن الكفار نقضوا عهدهم مع رسول الله سميت بسورة التوبة، لأن الله يغريهم بالتوبة، يدعوهم إلى التوبة، وإياك أن تقنط من رحمة الله وإياك أن تيئس، القنوط من رحمة الله كفر، واليأس من رحمة الله كفر.
(( إني والإنس والجن في نبأ عظيم ، أخلق ويُعبد غيري ، أرزق ويُشكر سواي ))
(( يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَأَزِيدُ ، وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَجَزَاؤُهُ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا أَوْ أَغْفِرُ ))
أيها الإخوة، بهذه السورة آيات تلفت النظر: تابوا فتاب الله عليهم، أي تابوا فقبل الله توبتهم، العبرة لا أن تتوب، العبرة أن يقبل الله توبتك، فالله -عز وجل- يقول: تابوا فتاب الله عليهم، وفي آية:
﴿ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا
بعضهم قال: شرع لهم التوبة كي يتوبوا، يعني هناك ذنب، والإنسان ضعفت نفسه، زلت قدمه، وهناك ذنب، فباب التوبة مفتوح، شرع لهم التوبة ليتوبوا، وبعضهم قال: ساق الله لهم من الشدائد ما يحملهم بها على التوبة.
الله عز وجل تواب يتوب عن أكبر و أكثر الذنوب :
أيها الإخوة، الله -عز وجل- سمّى ذاته العلية بالتواب، والتواب صيغة مبالغة لاسم الفاعل، ومعنى صيغة المبالغة أن الله يتوب على مليون ذنب، ويتوب على أكبر ذنب، المبالغة في أسماء الله الحسنى تعني مبالغة كم، ومبالغة نوع، أي أكبر ذنب له توبة، وأصغر ذنب مع مليون ذنب لها توبة، فالله -عز وجل- يتوب عن أكبر الذنوب، وعن أكثر الذنوب، لكن أهون توبة الأولى، الثانية أصعب، والثالثة أصعب، كلما تكرر الذنب أصبحت التوبة أصعب لا على قبولها بل على الإنسان نفسه.
وفي هذه السورة حوار مع المشركين، ومع أهل الكتاب، ومع المنافقين، المشرك واضح، والكافر واضح، معنى واضح يعني ما أخفى كفره، كفره ظاهر، قال لك: أنا لست مؤمناً لكن المنافق منافق، مزدوج، يظهر شيئاً ويخفي شيئاً.
والحديث في هذه السورة عن المؤمنين، هناك حديث طويل عن المؤمنين، وحديث طويل جداً عن المنافقين، وعن المشركين، وعن أهل الكتاب.
الدنيا مشتركة بين المؤمنين وبين غير المؤمنين أما الآخرة فللمؤمن فقط :
أيها الإخوة، وهناك حديث في هذه السورة عن الربوبية، وكيف أن رب العالمين يطعم كل مخلوقاته، كافراً أو مؤمناً.
﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ قَالَ وَمَن كَفَرَ
أي الله -عز وجل- يطعم المؤمن والكافر في الدنيا، لذلك الدنيا مشتركة بين المؤمنين وبين غير المؤمنين، أما الآخرة:
(( وعد صادق يحكم فيها ملك عادل قادر ))
وهذه السورة إن شاء الله سوف تشرح لنا معان دقيقة جداً عن اليوم الآخر، وعن الذات الإلهية، وعن تقسيمات البشر، وعن بعض الأحكام.
وفي درس قادم نتابع المقدمة.
والحمد لله رب العالمين
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضِنا وارضَ عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
الملف مدقق