- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (004)سورة النساء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا بما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الذي خلق الإنسان وأمدّه بكل شيء وسيَّره هو ذاته سيحاسبه :
أيها الأخوة الكرام، مع الدرس الواحد والأربعين من دروس سورة النساء، ومع الآية السابعة والثمانين، وهي قوله تعالى:
﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً ﴾
هناك معنىً دقيق مستفاد من مقطعين في الآية:
﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾
أي هو الواحد، هو الفرد المتصرف، إليه يُرجع الأمر كله، منهجه واحد، هداه واحد، الحق واحد، الإله الذي خلق، والذي سيَّر هو نفسه سيسأل، وسيحاسِب، وسيعاقِب، تكون في بلد، وقوانينه تطولك بعقاب أليم، فتنتقل إلى بلد آخر، في البلد الآخر قوانينه لا تطولك، لكن المعنى المستفاد هنا في هذه الآية هو أن الذي خلق الإنسان، والذي أمده بكل شيء، وأن الذي بيده كل شيء، وسيَّره هو ذاته سيحاسبه، لذلك ما من عاصٍ يعصي الله وهو يعصيه يرى العقاب فيعصيه، لكن الذي يعصي الله يتوهم أن الله لا يعاقبه، وأنه سيتفلت من عقابه، ولن يسبق أحد الله عز وجل:
﴿ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا ﴾
معنى سبقوا أي تفلتوا من عقاب الله عز وجل.
التلازم بين الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر :
أيها الأخوة، الشيء الذي يلفت النظر هو أنه ما من ركنين من أركان الإيمان تلازما في القرآن تلازماً كثيراً كتلازم الإيمان بالله واليوم الآخر، لا يكفي أن تؤمن بالله، خالق هذا الكون، رب هذا الكون، إله هذا الكون، لا بد أن تضيف إلى إيمانك بالله إيماناً باليوم الآخر، الإيمان باليوم الآخر هو الذي يضبط الناس، هو الذي يحجزهم عن معاصي الله، هو الذي يمنعهم أن يأكلوا المال الحرام، هو الذي يمنعهم أن يعتدوا على أعراض الناس، هو الذي يمنعهم أن يحتالوا، أن يغشوا، أن يكذبوا، أن ينتقموا، أن يظلموا، ما من إنسان تراه يعتدي على أموال الناس، أو على أعراضهم، أو يظلمهم، أو يكذب عليهم، أو يحتال عليهم، إلا وهو ضعيف الإيمان باليوم الآخر، لو أن الإيمان باليوم الآخر كان دقيقاً ومحققاً لما عصى إنسان ربه، إنك مع قوي في الدنيا إذا أيقنت أن علمه يطولك، وقدرته تطولك لا يمكن أن تعصيه، وربما لا تحبه، لكنك تحب نفسك، فلا يمكن أن تضع نفسك في مجال عقابه، هذا مع إنسان قوي في الدنيا فكيف مع خالق الأكوان؟ الرحمن الرحيم ذي الجلال والإكرام.
أيها الأخوة الأحباب:
﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾
هذه كلمة الإسلام الأولى، هذه كلمة التوحيد، لا رافع ولا خافض، ولا معطي ولا مانع، ولا معز ولا مذل، ولا شافي ولا قابض ولا باسط إلا الله، هذا الإله العظيم الذي بيده كل شيء له منهج، افعل ولا تفعل، وأنت محاسب يوم القيامة على منهج الله وحده، أي منهج أرضي لا تحاسب عليه، تحاسب على منهج السماء، لذلك قال تعالى:
﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾
الفوز أن تفوز بالجنة، والخسارة أن تخسر آخرتك.
كل مقاييس الأرض معطلة يوم القيامة ولا قيمة لها :
قال تعالى:
﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ ﴾
هو الذي منحكم الوجود، ومنحكم الإمداد، هداكم وأرشدكم، أعطاكم تشريعاً، هو نفسه سيسألكم عنه، أحياناً في التعليم تدرس في مدرسة، وتقدم امتحاناً عامّاً، الذي أعطاك الدروس لن يسألك، ستسألك جهة أخرى، لا يمكن أن يكون هناك ازدواجية في المناهج، منهج واحد؛ منهج الخالق عنه تحاسب يوم القيامة.
﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾
﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾
وقد تعلمنا من القرآن الكريم أن تأخذ إخبار الله على أنك تراه، لأن الله سبحانه وتعالى أصدق القائلين:
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ﴾
ترَ أي ينبغي أن تستقبل إخبار الله لك على أنك تراه، فلذلك:
﴿ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾
لا ريب في وقوعه، ولا ريب في أحقيته، ولا ريب في أنه في هذا اليوم يكرم المحسن ويعاقب المسيء، وأن كل مقاييس الأرض معطلة يوم القيامة، هناك ألقاب عالية اخترعها الإنسان، هذه يوم القيامة لا قيمة لها، هناك أشخاص أغنياء الغنى لا ينفعهم يوم القيامة، لو أنه يملك ما في الأرض جميعاً لافتدى بما يملك من سوء العذاب، هناك أقوياء جداً، قوتهم لا تمنعهم من عذاب الله يوم القيامة:
﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾
جئتمونا فرادى، لا يأتي القوي بجمعه يوم القيامة، لا يأتي القوي بمن حوله يوم القيامة، القوي يأتي فرداً ضعيفاً، الغني يأتي فقيراً.
أخطر شيء في حياة الإنسان رؤيته :
أيها الأخوة الكرام، إله واحد، خالق واحد، رب واحد، منهج واحد، يوم حساب واحد، هذه حقيقة هذه الآية:
﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾
أي إنسان أقدم على معصية لو أنه استحضر عظمة الله، لو أنه استحضر أنه سيوقف يوم القيامة ليُسأل لمَ عصيت؟ لم أكلت أموال الناس بالباطل؟ لم غششتهم؟ لم احتلت عليهم؟ لم أفسدتهم؟ الإنسان بنيان الله، وملعون من هدم بنيان الله، ما من إنسان يستحضر يوم القيامة في كل حركاته وسكناته إلا استقام على أمر الله، والويل لمن لا يستحضر هذه العظمة يوم القيامة، لمن لا يستحضر عظمة يوم القيامة في الدنيا، المجرم لماذا يرتكب الجريمة؟ لأنه يغلب على ظنه أنه سيسلم من العقاب، وأنه سيتمتع بهذا المال، ولو أنه استحضر الإعدام لما أقدم على هذه الجريمة، سارق، لماذا يقدم على السرقة؟ لأنه يغفل عن العقاب، يستحضر الجانب الذي يتوهمه صحيحاً، أنه سيستمتع بهذا المال، ولو استحضر أنه يلقى القبض عليه ويودع في السجن لما سرق، لذلك ضعف رؤية، وأخطر شيء في حياة الإنسان رؤيته، ماذا ترى أنت؟ ألم يدعو اللهم أرنا الحق حقاً، لماذا دعا بهذا الدعاء؟ لأن من الناس من يرى الحق باطلاً، ومن الناس من يرى الباطل حقاً، من الناس من يرى كسب المال الحرام غنيمة، وإيقاع الأذى بالناس غنيمة، والاحتيال على الناس مغنم كبير، ما من خطأ يقع من الإنسان إلا لخطأ في رؤيته، لو رأى الحق حقاً فاتبعه، ورأى الباطل باطلاً فاجتنبه لما شقي لا في الدنيا ولا في الآخرة، قضية الرؤيا، مرة أقول: لا تحب أحداً أحب نفسك. إن كنت مفرطاً في حب ذاتك فلا بد أن تستقيم على أمر الله، لأن الخير كله في طاعة الله، ولأن الشر كله في معصية الله، ومستحيل وألف ألف مستحيل أن تطيعه وتخسر، وأن تعصيه وتربح، صحح رؤيتك، الناس يعيشون لحظتهم ولا يعيشون مستقبلهم، يريد مالاً وفيراً، بيتاً كبيراً، زوجةً رائعةً، مركبة فارهة، يعيش لحظته، فإذا جاء يوم الحساب نـدم أشد الندم.
البطولة أن ترى مستقبلك قبل أن تصل إليه :
إذا جاء يوم الحساب يقول:
﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي*فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَد* وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ﴾
كل بطولتك أن ترى مستقبلك قبل أن تصل إليه، أن ترى العقاب قبل أن تناله، أن ترى الثواب قبل أن تأخذه، أن تعيش المستقبل:
﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾
ألا ترون ما يجري في العالم؟ ألا ترون ما يجري من انتهاك لحقوق الإنسان؟ من قتل وتدمير؟ من إذلال وتقتير؟ من إفقار وتجهيل؟ هؤلاء الذين يفعلون هذا ليس لهم رؤية صحيحة أبداً، يرون الفوز في السيطرة، يرون القوة في الغطرسة، أما حينما ترى أن لهؤلاء إلهاً سوف يحاسبك عن كل قطرة دم أريقت، وعن كل دمعة هطلت من عين بائس، وعن كل طفل، لو رأى الطاغية الذي يفعل هذه الأفعال ما ينتظره من عقاب لصعق ومات.
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾
﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ* مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾
كلما ازداد علمك بالله صحت رؤيتك وصحّ عملك فسعدت في الدنيا والآخرة :
قضية رؤية أيها الأخوة، أنت حينما ترى الحق حقاً تتبعه، وحينما ترى الباطل باطلاً تجتنبه، قضية رؤية فقط، إن صحت الرؤية صح العمل، وإن فسدت الرؤية فسد العمل، سيدنا يوسف هذا النبي الكريم حينما دعته امرأة العزيز ماذا رأى حتى قال: معاذ الله، إني أخاف الله رب العالمين؟ مليون إنسان يوضع في مثل ظرفه فيرى الإقبال على الأمر مغنماً كبيراً، ماذا رأى؟ رؤيا!! صحح رؤيتك، كلما ازداد علمك تصح رؤيتك، لماذا يأتي إنسان يأكل فاكهة دون أن تغسل ولا يشعر بشيء، أما الطبيب الذي يرى الأمراض الفتاكة والأمراض الإنتانية، وعدوى الأمراض والجراثيم، وما تفتك بالإنسان، لا يأكلها قبل أن يغسلها؟ علم الطبيب أكسبه رؤية، فغسل كل شيء وعقمه قبل أن يأكله، والجاهل بأمور الجراثيم والعدوى والأمراض جهله جعل رؤيته منطمسة، فأكل فاكهة دون أن يغسلها، فمرض!! مشكلة الرؤية، قد يأتي إنسان يجهل القانون فيرتكب حماقة تدمره، يـأتي إنسان متمكن من القوانين فيمشي وفق القوانين فيسلم في دنياه، قضية رؤية، قد يرى هذا الإنسان أنه أنجب هذا الولد وانتهى الأمر، ولن يكون عبئاً عليه، أما حينما يكتشف بعد حين أنه خسر ولده وأن ولده غارق في الموبقات والمعاصي والآثام، يندم ندماً لا حدود له، أما إذا رأى أنه لا يسعد إلا بسعادة ابنه، ويشقى بشقائه، هذه رؤية، كلما ازداد علمك بالله صحت رؤيتك، وإن صحت رؤيتك صح عملك، وإن صح عملك سعدت في الدنيا والآخرة، وكلما ضعف علمك فسدت رؤيتك، وإن فسدت رؤيتك فسد عملك، وإن فسد عملك شقيت في الدنيا والآخرة.
الله وحده يحاسب الناس يوم القيامة :
قال تعالى:
﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾
ليس في الكون إلا الله، وليس في الأرض إلا الله، وليس من متصرف إلا الله، وليس من معطٍ إلا الله، وليس من مانع إلا الله، أما هذه القوى التي تتبجح وتهدد وتتغطرس هي بيد الله، هي في قبضة الله، لا ترى الوحش الكاسر لكن انظر من يملك زمامه، إليه يرجع الأمر كله.
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾
﴿ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ*إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾
أيها الأخوة، أبرز ما في هذه الآية أن الذي خلق، ومدَّ، وسيَّر، ووضع لك منهجاً هو وحده سوف يحاسبك يوم القيامة، ليس من إله آخر يحاسبك حساباً آخر، ليس من إله آخر يسوي مشكلات الناس تسوية أخرى، إله واحد، خالق، مربٍ، مشرع، واضع المنهج، يعلم وسيحاسب وسيعاقب، هذا معنى الآية:
﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً ﴾
الله عز وجل إن أخبر عن شيء فينبغي أن يؤخذ وكأنه وقع :
طبعاً كلكم يعلم إن درستم علم البلاغة أن الكلام خبرٌ وإنشاء، فالإنشاء كالأمر، والنهي، والتمني، والترجي، والاستفهام، والحض، هذا كلام، لو قلت لأحدهم: كم الساعة؟ هل يمكن أن تقول له: كذاب؟ الكلام الذي لا يحتمل الكذب والصدق يقال له كلام إنشائي، أي كلام لم يقع بعد، أسألك: ما اسمك؟ كم الساعة؟ السؤال، والاستفهام، والتمني، والترجي، والحض، هذه أساليب الإنشاء، لأنها لا تحتمل الصدق والكذب، أما هناك نوع آخر من الجمل هي الجمل الخبرية، مثال: سافر أخي، قد يكون سافر، أو يكون لم يسافر، هذا الكلام الخبري يحتمل الصدق والكذب، لكن إذا كانت الآية خبرية الصيغة مثل هذه الآية:
﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾
هو كلام خبري بحسب علم البلاغة، يحتمل الصدق والكذب، لكن لأنه كلام الله عز وجل:
﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً ﴾
يجب أن تأخذه وكأنك تراه، يجب أن تأخذه وكأنه وقع، ألم يقل الله عز وجل:
﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾
معنى هذا أنه لما يأت بعد، يجب أن تأخذ أمر الله الذي لم يأت وكأنه أتى.
﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ ﴾
هذا القول سيكون يوم القيامة، لأن الله عز وجل إن أخبر عن شيء فينبغي أن يؤخذ وكأنه وقع.
لولا الإيمان باليوم الآخر لكان بطن الأرض خيرٌ لنا من ظهرها :
قال تعالى:
﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾
لا ترتاح النفوس أيها الأخوة إلا بالإيمان باليوم الآخر، والله الذي لا إله هو إن ما يجري في العالم اليوم لولا أن هناك يوماً آخر، يوماً تسوى فيه الحسابات، يوماً يعاقب فيه الظلمة، يوماً يكافأ فيه المحسنون، يوماً يؤخذ للمظلوم من الظالم، وللضعيف من القوي، لكان بطن الأرض خيراً من ظهرها، لولا الإيمان باليوم الآخر، لولا الإيمان أن هؤلاء الذين يتجاوزون الحدود ويذلون الشعوب، لولا أننا نؤمن أنهم خاسرون يوم القيامة، لكان بطن الأرض خيرٌ لنا من ظهرها.
﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً * فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ﴾
(ما لكم) استفهام تعجبي، لماذا أنتم هكذا؟ ما لك لا تدرس؟ ما لك لا تستجيب؟ ما لك لا تأخذ بالأسباب؟ ما لك لا تدرس؟ أنا أعجب من عدم دراستك، الأمور كلها ميسرة، أنت في ثانوية جيدة، ولك أب ينفق عليك، ويتمنى أن تكون من الأوائل، والكتب بين يديك، والأساتذة متفوقون، والمدرسة رائعة جداً، ما لك لا تدرس؟ ما لكم استفهام تعجبي.
﴿ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ ﴾
لماذا تعددت رؤيتك للمنافقين؟ لماذا وقعتم في حيرة من موقفكم منهم؟ لماذا ذهب فريق إلى رأي وفريق إلى رأي آخر؟ لمَ لمْ توحدوا موقفكم منهم؟ لمَ لمْ تكن لكم رؤية واحدة تجاه المنافقين؟
﴿ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ ﴾
المنافق مكانه في الدرك الأسفل من النار لأن إيمانه شكلي :
ثم يقول الله عز وجل:
﴿ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا ﴾
أركسهم بمعنى أعادهم، كانوا كفاراً فأسلموا، ونافقوا، وقد أعادهم الله كفاراً، بل إن عذابهم يوم القيامة أشد من عذاب الكفار، لقول الله عز وجل:
﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ﴾
أركسهم بالعدل، أركسهم بما ظلموا، أركسهم بما كسبوا، هذا الذي يقطف ثمار المؤمنين وهو ليس مؤمناً، ويقطف ثمار التفلت من منهج الله، وهي مكاسب الكفار كما يتوهمون، هذا الذي يجمع بين مكاسب المؤمنين وهو ليس مؤمناً، وبين ما يتوهمه الكافر أنه مكاسب وهو كذلك، هذا مكانه في الدرك الأسفل من النار.
﴿ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا ﴾
أي أعادهم إلى سيرتهم الأولى، هم أرادوا بالنفاق أن يغنموا لا أن يوحدوا، أحياناً الإنسان يرى مصلحته أن يكون مع أهل الإيمان، قد يرى مصلحته التجارية فقط، وقد يرى مصلحته الأسرية فقط، فكم من إنسان أسلم ليتزوج من امرأة رائعة؟ ولا ينعقد العقد إلا إذا أسلم، فالمنافق بالتعبير المعاصر وصولي يبرر الوسائل غير الشريفة لأهداف غير شريفة، المنافق همه المصلحة، همه الهوى والدنيا، إذا آمن إيماناً شكلياً فلمصلحة راجحة تتحقق عنده.
الإضلال إذا عُزي إلى الله فهو الإضلال الجزائي المبني على ضلال اختياري :
قال تعالى:
﴿ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا ﴾
أي أن نفاقهم مكشوف عند الله عز وجل:
﴿ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ﴾
﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ*اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾
﴿ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ ﴾
أقول دائماً أيها الأخوة: إن الإضلال إذا عزي إلى الله عز وجل فهو الإضلال الجزائي المبني على ضلال اختياري، كقوله تعالى:
﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾
الإنسان حينما يختار طريقاً آخر كي يصل إلى الله فلن يصل إليه :
الإضلال إذا عزي إلى الله في بعض الآيات قال العلماء: إنه الإضلال الجزائي، الذي يبنى على ضلال اختياري، تماماً كما لو أن طالباً في الجامعة لم يدرس، ولم يداوم، ولم يشتر الكتب، ولم يحضِّر، ولم يذاكر، ولم يؤدِّ الامتحان، وجاءه إنذارٌ تلو الإنذار كي يعود إلى الجامعة، فيداوم، ويدرس، وهو يرفض أشد الرفض، ثم صدر قرار بترقين قيده، أليس هذا القرار تجسيداً لرغبة الطالب؟ هذا الضلال الجزائي المبني على ضلال اختياري، المنافق أراد الدنيا، لكن أراد الدنيا من خلال اندساسه في صفوف المؤمنين، أراد الدنيا من خلال المؤمنين، هو منافق إذاً:
﴿ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ ﴾
قد يفهم من الآية أنه أضل نفسه عن الله عز وجل، أراد الدنيا، أراد أهل الدنيا، أراد مال الدنيا، أراد متع الدنيا، أراد شهوات الدنيا، أعرض عن الدين، وعن بيوت الله، وعن تلاوة كتاب الله، وعن طلب العلم، وعن الاستقامة والعمل الصالح، أراد الدنيا:
﴿ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ﴾
أي أن الله عز وجل رسم طريقاً إليه، لا يمكن أن تصل إليه إلا من خلال هذا الطريق، كيف أن الدولة اليوم رسمت طريقاً للطبيب، لا بد من شهادة ثانوية بمجموع عالٍ، لا بد من سنة في العلوم، وسنة في التشريح، وسنة في الفيزيولوجيا، وسنة في علم الأمراض، وسنة في الأدوية، هذا هو الطريق، لا يمكن لإنسان كائنٍ من كان أن يزاول مهنة الطب إلا من خلال هذا الطريق، فالذي أراد أن يكون طبيباً من خلال قراءة بعض المجلات الطبية يودع في السجن، لا يمكن أن تفتح عيادة وتقول: أنا طبيب، وثروتك في الطب قراءة بعض المجلات الطبية، فلذلك الله عز وجل رسم طريقاً إليه، لا يمكن أن تصل إليه إلا عن هذا الطريق، وهذا معنى قوله تعالى:
﴿ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ﴾
أي أن الإنسان حينما يختار طريقاً آخر كي يصل إلى الله فلن يصل إليه.
أيها الأخوة الكرام نتابع هذه الآيات في درس قادم إن شاء الله.