- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (004)سورة النساء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا بما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
هناك معركة أزلية أبدية بين الحق والباطل :
أيها الأخوة المؤمنون، مع الدرس السادس والثلاثين من دروس سورة النساء، ومع الآية السابعة والسبعين، وهي قوله تعالى:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ﴾
أيها الأخوة الكرام، لأن هناك معركة أزلية أبدية بين الحق والباطل، ولأن الإنسان مخير، ولأنه أودعت فيه الشهوات، ولأنه أعطي منهجاً، هو مخير أودع فيه الشهوات ومعه منهج، فلو تحرك بدافع شهواته وفق المنهج فلا شيء عليه، وعم السلام العالم، لكن بعض الناس رفض المنهج واتبع الهوى، فصار عدواً حكماً لمن طبق المنهج واتبع الحق.
إذاً: هناك في الأرض نموذجان، إنسان عرف الله، فانضبط بمنهجه، وأحسن إلى خلقه، فسعد في الدنيا والآخرة، وإنسان غفل عن ربه، وتفلت من منهجه، وأساء إلى خلقه، كنتيجة حكمية لجهله ولغفلته عن ربه ولإتباعه الهوى أساء إلى خلقه فشقي في الدنيا والآخرة. لا بد أن تقوم معركة بين هؤلاء وبين هؤلاء، هذه المعركة قديمة قدم وجود البشر، ومستمرة مادام على سطح الأرض بشر، وهذا شيء طبيعي.
الإنسان حركي فكلما وصل إلى شيء يريد شيئاً أكبر :
لذلك أيها الأخوة، لو أن نبياً كريماً جاء بمنهج إلهي، ودعا الناس إليه فالذين استجابوا له مؤمنون به، خيرون، محسنون، منضبطون، مستقيمون، والذين رأوا أن هذا المنهج يقيد حريتهم، ويعيق ملذتهم، ويحد من نشاطهم الاستمتاعي في الحياة لا بد أن يكذبوا هذا النبي، والإنسان حركي، أي ديناميكي، بالتعبير المعاصر حركي، فكلما وصل إلى شيء يريد شيئاً أكبر، وكلما زلت قدمه في طريق تابع الزلل، وكلما سار في طريق الإيمان تابع سيره في طريق الإيمان، إذاً هذا تمهيد، لأنه لا بد من وجود معركة في الحياة الدنيا بين الحق والباطل، يقول الله عز وجل:
﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً* وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً ﴾
وفي آية أخرى:
﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ﴾
الجهاد القتالي إنما هو تمهيد للجهاد الدعوي :
لكن أيها الأخوة، إن أحكام القتال دقيقة جداً فلا بد أن يكون هناك تكافؤ نوعاً ما بين الفريقين، أما إذا كان أحد الفريقين صفراً والثاني مليوناً فهذا ليس قتالاً ولكنه انتحار، لذلك أمر القتال لا يشرع إلا عن أولي الأمر، المسلمون في مكة مُنعوا أن يقاتلوا، تقتضي الحكمة ألا يقاتلوا، يقول الله عز وجل:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ﴾
متى يقال لإنسان: كف يدك؟ إذا مد يده، مع أن الظلم الذي كان في مكة لا يحتمل، الظلم، والقهر، والقسوة، والمقاطعة، والإفقار، والإذلال شيء لا يحتمل، ومع ذلك لو سمح الله جلت حكمته بالقتال في مكة لكانت حرباً أهلية تأكل الأخضر واليابس، ففي البيت الواحد شباب مؤمنون وشباب غير مؤمنين، ولانتقلت المعركة من بيت إلى بيت، ومن حي إلى حي، لكن حكمة الله جل جلاله تقتضي في مكة منع أن تمد يدك إلى الكافر، أو أن تقاتله، أما في المدينة فحينما كان هناك كيان للمؤمنين وقوة وقيادة سُمح للنبي عليه الصلاة والسلام أن يقاتل الكفار والمشركين في المدينة، فلذلك أيها الأخوة، فيما أرى أن مشكلة المسلمين هذا الاندفاع غير المنضبط اندفاع عاطفي، فقد تندفع اندفاعاً عاطفياً من دون تطبيق لمنهج الله، ومن دون تخطيط فقد تسبب الويلات للمسلمين، لعل الاندفاع العشوائي العاطفي يسبب فرحاً من قبل المؤمنين، ولكن قد تكون عواقب هذا الاندفاع خطيرة جداً على مجموع المؤمنين، فليست العبرة بعمل فردي طارئ يعقبه ألم شديد، العبرة بهذا الشأن الخطير؛ أن نتبع منهج الله عز وجل، فالله عز وجل يقول:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ﴾
حينما يسمح الله لك تقدم، وإذا منع امتنع، لكن المشكلة اليوم أيها الأخوة طبيعة الحياة تسمح بجهاد دعوي، وحينما تتعمق في مفهوم الجهاد ترى أن الجهاد القتالي إنما هو تمهيد للجهاد الدعوي، فإذا كان الجهاد الدعوي متاحاً لنا جميعاً، ألم يقل عليه الصلاة والسلام:
(( بلغوا عني ولو آية ))
لا نستطيع تحقيق الجهاد الدعوي إلا إذا تحقق جهاد النفس والهوى :
ألا تعتقد أن هؤلاء المسلمين الذين يعدون ثلث سكان الأرض هم في أمس الحاجة إلى أن يعرفوا الحقيقة، ذكرت لكم قبل أسبوعين فيما أذكر أن خطيباً من دمشق ذهب إلى بلد أوربي، وألقى خطبة في أكبر مسجد هناك، ولولا أنني سمعت القصة من فمه لشككت في القصة، اعتلى المنبر، وخطب خطبة رائعة جداً، بكى كل من في المسجد، ومن شدة تأثرهم بما ألقاه الخطيب أخذوا من جيوبهم زجاجات خمر فشربوا وهم يبكون، ألا ترى أن هؤلاء المؤمنين يحتاجون إلى توعية، يحتاجون إلى تعليم، الجهاد الدعوي سماه الله الجهاد الكبير.
﴿ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً ﴾
مسموح لك أن تختار جامعاً تثق بخطيبه، وبعلمه، وباستقامته، وورعه، وإخلاصه، اختر جامعاً تظن بخطيبه هذا الظن الحسن، ثم استمع إلى خطبته بإتقان ووعي، ثم حاول أن تنقل هذا الذي سمعته إلى من حولك، إلى أهلك، إلى أولادك، إلى أصدقائك، إلى زملائك، إلى جيرانك، تكون قد ساهمت بتوسيع دوائر الحق وتضييق دوائر الباطل، فهذا الذي يتحرك لكي يقاتل نقول له: هل جاهدت نفسك جهاد النفس والهوى؟ لماذا حينما نذكر جهاد النفس والهوى لا نصغي إليه؟ هل تصدقون أنه مستحيل وألف ألف ألْف مستحيل أن تنهزم أمام نفسك، أن تنهزم أمام شهوتك، أن تنهزم أمام مصلحتك، مستحيل أن تواجه نملة بعد ذلك، هذه المشكلة، هذا الذي هزم أمام شهواته، أو هزم أمام مصالحه، أو أمام ملذاته، أو نزواته، أنى له أن يواجه عدواً؟! فلذلك أول جهاد يجب أن نندفع إليه جهاد النفس والهوى، وهذا جهاد متاح لكل مسلم في أي مكان وزمان، أول جهاد ينبغي أن نسارع إليه، وهذا لا يكلفنا إلا الصدق في طلب الحقيقة، فإذا استطعت أن تحمل نفسك على طاعة الله، أن تلزمها حدود الله، أن تقيم الإسلام في بيتك، أن تعتني بأولادك، أن تربي أولادك، أنا أتكلم الآن كحل واقعي لما يعاني منه المسلمون، أنا أتكلم الآن لما ينبغي أن يكون عليه المسلمون في هذا الظرف الراهن البالغ التعقيد، يستطيع كل مسلم أن يحمل نفسه على طاعة الله، ويحمل من حوله من زوجة، أو ولد، أو بنت، أو صديق، أو جار، أو زميل، هذا هو المطلوب الأول؛ جهاد النفس والهوى، والحديث الذي قاله عليه الصلاة والسلام وربما لا ينظر الناس إلى هذا الحديث على أنه الحل الأمثل، رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر؛ جهاد النفس والهوى، إن تحقق هذا الجهاد فينبغي أن تنتقل إلى مرحلة ثانية، إلى مرحلة الجهاد الدعوي، لأن الله عز وجل يقول:
﴿ قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾
الدعوة إلى الله فرض عين على كل مسلم :
والله أيها الأخوة، أخ كريم لا يحسن أن يدعو إلى الله لا يحسن، لم يحصل من العلم ما يمكنه من أن يكون داعية، لكنه وزع بعض الأشرطة التي هو قانع بها، ومتأثر بها، فشكل دعوة وحده، وسائل الدعوة الآن ميسرة جداً، أن تنقل للإنسان فكرة سمعتها، أو كتيباً قرأته، أو شريطاً سمعته، أو ندوة حضرتها، يمكن أن تكون داعية، والدعوة إلى الله فرض عين على كل مسلم في حدود ما تعلم، ومع من تعرف، وحينما يتاح لنا إن شاء الله الجهاد القتالي نبادر إن شاء الله جل جلاله لكسر شوكة العدو، لكن قبل أن تحضر الدكتوراه خذ الشهادة الابتدائية أولاً، وقبل أن تتحدث عن موضوع الأطروحة التي ينبغي أن تعالجها خذ الشهادة الإعدادية أولاً، وقبل أن تفتخر أنك أخذت هذه الدكتوراه من جامعة تنتمي إلى دولة عظيمة، أو إلى دولة أخرى خذ الشهادة الثانوية، أما أن تتحدث عن الدكتوراه وعن الأطروحة التي ينبغي أن تعالجها، وعن الجامعة التي ينبغي أن تنتسب إليها، وعن اللقب الذي ينبغي أن تحمله، وأنت لا تزال أمياً، فهذا شيء مضحك، هناك مليون مرحلة، مليون عمل قبل أن تقول: أريد أن أجاهد جهاداً قتالياً، أنا لا أثبط العزائم، ولكنني أحب أن أكون واقعياً:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ﴾
لحكمة أرادها الله، ولحكمة مطلقة راجحة أرادها الله عز وجل منع المسلمين من القتال في مكة، وكلمة:
﴿ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ﴾
أي بعض المسلمين لا يحتملون، لا يحتملون القهر والضغط، مَدوا أيديهم، فلما مدوا أيديهم أو هموا بمد أيديهم جاءهم التوجيه القرآني:
﴿ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ﴾
الصحابة الكرام في مكة المكرمة نُهوا عن أن يقاتلوا :
ليست العبرة أن أعمل عملاً تعود تبعته على المسلمين ألف ضعف، ليس هذا هو العمل الطيب، أن أعمل عملاً يتحمل جميع المسلمين نتائج لا تحتمل، العبرة أن يكون العمل وفق منهج الله، والصحابة الكرام في مكة المكرمة نُهوا عن أن يقاتلوا:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ﴾
لم يقاتلوا، ماذا ينبغي أن يفعلوا؟ الإنسان حركي ما دامت قد كفت يده عن أن يقاتل فينبغي أن يقيم الصلاة، وأن يؤتي الزكاة، والحقيقة حينما تأتي الصلاة بديلاً للقتال، معنى ذلك أنها شيء عظيم، لأن المسلمين حينما فرَّغوا الصلاة من مضمونها، وحينما ظنوا أن الصلاة ركعتان تؤديان هكذا، أما حينما نفهم معنى الصلاة أن تستطيع أن تتصل بالله، أن تستطيع، ولن تستطيع أن تتصل بالله إلا إذا آمنت به، إلا إذا آمنت بأسمائه الحسنى وصفاته الفضلى، إلا إذا آمنت أن الأمر كله بيده، إلا إذا آمنت ـ طبعاً لئلا يقول أحدكم: حينما نواجه العدو يجب أن تحرق المراحل، ليس هذا الكلام مطبقاً في كل بلد إسلامي، حينما يقتحم العدو علينا فلا بد أن نقاتله من دون أي مراحل تسبقه، هذا شيء مفروغ منه، أما في بلد لا نقاتل فيه الأولى أن نجاهد أنفسنا وأهواءنا أولاً، ثم أن نتبع الجهاد الدعوي ثانياً، وحينما يتاح للمسلمين أن يجاهدوا الجهاد القتالي يكرمهم الله جل جلاله بأعلى مراتب الإسلام، فالجهاد ذروة سنام الإسلام.
﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ﴾
أي بشكل جريء من دون مجاملة، هذا الذي يأكل مالاً حراماً لا يستطيع أن يصلي الصلاة التي أمر الله بها، يصلي كما يصلي عامة الناس، بإمكانك بكل بساطة أن تتوضأ، وأن تصلي، وأن تقف في الصلاة، وتقرأ القرآن، وأن تركع، وأن تسجد، ولكن أن تصلي الصلاة التي أمرت بها، على النحو الذي ينبغي أن تكون هذا يحتاج إلى أن تعرف الله أولاً، وإلى أن تستقيم على أمره ثانياً.
المعنى الحقيقي لكلمة وأقيموا الصلاة :
كلمة:
﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ﴾
أي ينبغي أن تعرف أنك تصلي لمن؟ قد تكون الصلاة عادة من عوائد المسلمين، قد تكون الصلاة عملاً لا معنى له عند معظم المسلمين، ولكن حينما يقال لك:
﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ﴾
أي ينبغي أن تعرف لمن تصلي، ينبغي أن تعرف أن الذي تصلي له بيده مقاليد السماوات والأرض، ينبغي أن تعرف أن الذي تصلي له عنده مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ينبغي أن تعرف أن الذي تصلي له يعاقب بنار إلى أبد الآبدين:
﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ﴾
أي ينبغي أن تعرفوا الله وأن تطيعوا أمره، وأن تنتهوا عما عنه نهى، وأن تحكموا اتصالكم بالله عز وجل:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ﴾
من هنا ورد في بعض الأحاديث القدسية:
(( ليس كل مصلٍّ يصلي، إنما أتقبل صلاة ممن تواضع لعظمتي، وكف شهواته عن محارمي، ولم يصر على معصيتي، وأطعم الجائع، وكسا العريان، ورحم المصاب، وآوى الغريب كل ذلك لي، وعزتي وجلالي إن نور وجهه لأضوأ عندي من نور الشمس على أن أجعل الجهالة له حلماً، والظلمة نوراً يدعوني فألبيه، ويسألني فأعطيه، ويقسم علي فأبره، أكلؤه بقربي، وأستحفظه ملائكتي، مثله عندي كمثل الفردوس لا يتسنى ثمرها ولا يتغير حالها ))
الدين بمجمله حركتان حركة نحو الخالق وحركة نحو المخلوق :
قال تعالى:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ﴾
إيتاء الزكاة دفع المال لمعاونة أخوانك المؤمنين، سمى الله الزكاة صدقة لأنها تؤكد صدق إيمانك، فلا بد من حركتين، حركة نحو الله، وحركة نحو الخلق، وكأن الدين بمجمله حركتان: حركة نحو الخالق، وحركة نحو المخلوق، حركة نحو الخالق عبادة، وحركة نحو المخلوق إحساناً:
﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ﴾
ثم يقول الله عز وجل:
﴿ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ ﴾
الآن كانوا يتحرقون على أن يقاتلوا، وكل شيء تتشوق إليه إذا كان بعيداً عنك، والتشوق سهل جداً، هؤلاء الذين أرادوا مد أيديهم، أرادوا القتال في مكة، وجاءهم توجيه الله عز وجل:
﴿ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ﴾
بدل أن تقاتلوا:
﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ﴾
أي طبقوا المنهج بحذافيره، وكونوا من أهل الإحسان.
على الإنسان أن يخشى الله أكثر من أي شيء آخر :
قال تعالى:
﴿ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ ﴾
لما جاء الأمر بالقتال لما سمح الله بالقتال، وقد أصبحوا في المدينة، ولهم كيان، ولهم قيادة، والأمل بالانتصار صار مقبولاً ومعقولاً:
﴿ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ﴾
معنى ذلك أن الله سبحانه وتعالى رسم لنا في هذه الآية معالم شخصية، الشيء إذا كان بعيداً عنا هناك تشوق إليه، فإذا وصل إليه ابتعد، ما بال هؤلاء الذين يتشوقون إلى القتال وإلى الانتصار، وإلى مقاومة العدو لما قيل له: تعال تفضل، تعال قاتل إذَا:
﴿ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ﴾
وينبغي أن تخشى الله أكثر من أي شيء آخر.
﴿ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ ﴾
الله عز وجل هو الجهة الوحيدة التي بيدها كل شيء والتي ينبغي أن تخشاها :
الحقيقة الجهة التي تملك كل شيء هو الله عز وجل، يملك وجودك، يملك سمعك وبصرك، يملك حركتك، يملك عقلك، يملك ما حولك، يملك من حولك، يملك من فوقك، يملك من تحتك، فهذه الجهة التي بيدها كل شيء ينبغي أن تخشاها، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام:
((فَوَ اللَّهِ إِنِّي أَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً))
فكيف أيها الإنسان الذي كنت قبل حين تتشوق إلى القتال، وإلى مقارعة الكفار، لماذا ترى أن قوتهم لا تقابل، وأنك أضعف من أن تقف أمامهم، هذا نموذج، يتشوق إلى ما هو بعيد عنه، فإذا وصل إليه فر منه، هذا نموذج يتكلم كثيراً ولا يفعل شيئاً، يتشوق ولا يسعى، يقول ولا يفعل، يتمنى وليست همته بمستوى أمنياته:
﴿ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ ﴾
دققوا في هذا الحكم الموضوعي، لم يقل كلهم، قال:
﴿ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ ﴾
الآن حينما يقول الله عز وجل:
﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ ﴾
الحقيقة الآن هناك قطب قوي جداً، بإمكانه رصد كل حركة في الأرض، وبإمكانه أن يقصف كل مكان في الأرض بأسلحة فتاكة لا نظير لها.
ثقة الإنسان المطلقة بالله تزيد إيمانه :
قال تعالى:
﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً ﴾
زادهم إيماناً لأن الله فوقهم، زادهم إيماناً أنهم في قبضة الله، زادهم إيماناً أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، زادهم إيماناً أنه إليه يرجع الأمر كله، زادهم إيماناً أن الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل، زادهم إيماناً أن الله له الخلق والأمر، زادهم إيماناً أنه ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده، زادهم إيماناً أن الكفار حينما يعتقدون خطأً أنهم سبقوا، أي فعلوا شيئاً ما أراده الله، أو تفلتوا من عقاب الله هم واهمون.
﴿ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ ﴾
زادهم إيماناً:
﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ* فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ* إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ ﴾
أي يخوفكم من أولياءه.
﴿ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ ﴾
يستحيل أن يسلم الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين للأقوياء الظالمين :
أيها الأخوة الكرام، هذا هو القرآن، ونحن في امتحان، حينما يصدر تهديد من هذا القطب القوي لبلد من البلدان فأهل ذاك البلد بحسب إيمانهم، إن كان إيمانهم ضعيفاً:
﴿ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ﴾
وإذا كان إيمانهم قوياً يخشون الله، ويعدون للعدو ما استطاعوا من قوة، أما أن يسلم الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين للأقوياء الظالمين فهذا مستحيل، وألف ألف مستحيل أن يسلمك الله إلى عدوك؟ حر فيما يفعله معك، يقتل، ويهدم، ويبطش، والله عز وجل لا علاقة له بهذا؟!
﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ ﴾
﴿ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدً ﴾
﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾
أي يخوفكم بأوليائه:
﴿ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾
علامة الإيمان أن تخشى الله وعلامة النفاق أن تخشى الناس :
أيها الأخ الكريم، علامة إيمانك أن تخشى الله، وعلامة النفاق أن تخشى الناس ولا تخشى الله، أو أن تكون خشية الناس أشد من خشية الله، هذه علامة نفاق، فالمؤمن لا يخشى إلى الله، والمؤمن موقن أن الأمر بيد الله، وأن أحداً في الكون لا يستطيع أن يفعل شيئاً من دون إذن الله، وأن أمرك بيد الله ولا يسلمه لجهة أخرى، وأن الله حينما يسلمك لجهة أرضية عدوة ماكرة حقيرة منتقمة كيف تعبده، ما أمرك أن تعبده إلا بعد أن طمأنك أن الأمر كله عائد إليه.
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾
إذاً:
﴿ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ ﴾
كأن هؤلاء الضعاف ما أحبوا أن تكتب عليهم هذه الفريضة، تمنوا أن يموتوا على فرشهم.
الحياة الدنيا التي يحرص عليها الناس متاعها قليل جداً :
سيدنا خالد يقول: خضت مئة معركة أو زهاءها، وما في جسمي موضع شبر إلا وفيه ضربة بسيف، أو طعنة برمح، وهاأنذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء.
﴿ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ ﴾
أي نتمنى أن نموت على فرشنا، نتمنى لا أن نموت قتلاً، أن نموت موتاً طبيعياً، فالله سبحانه وتعالى أجابهم إجابة رائعة:
﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ ﴾
هذه الحياة الدنيا التي تحرصون عليها متاعها إلى متاع الشهيد قليل جداً، لا شيء، لأن الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾
أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر:
﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ ﴾
هذا الذي تحرصون عليه عند الله قليل.
الله عز وجل عادل لا يظلم أحداً :
دقق في قوله تعالى:
﴿ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ﴾
وفي قوله تعالى:
﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ ﴾
﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً* نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ ﴾
﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى ﴾
لمن اتقى أن يعصي الله، لمن أعطاه، لمن آمن به، لمن أحبه، لمن أقبل عليه:
﴿ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ﴾
ما من شيء لا وزن له ولا قيمة له كالفتيل، خيط رفيع جداً بين فلقتي نواة التمرة:
﴿ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾
لا قيمة له.
ينبغي ألاّ تكون أفعال المسلمين ردود فعل غير مدروسة وعشوائية :
قال تعالى:
﴿ وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾
أيها الأخوة، هذه آية دقيقة جداً، ينبغي ألاّ تكون أفعال المسلمين ردود فعل غير مدروسة وغير مخطط لها وعشوائية، وانطلاقاً من نزوة طائشة، من انفعال شديد، وقد يجر هذا الاندفاع والانفعال على المسلمين ويلات لا يعلمها إلا الله، فلا بد من تطبيق منهج الله.
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ ﴾
أرجو الله سبحانه وتعالى أن ننطلق جميعاً إلى مجاهدة النفس والهوى، الآن يسمونه التعليم الأساسي، هذه المرحلة الأساسية، فإن تمكنا من جهاد النفس والهوى، وعرفنا ربنا المعرفة الكافية التي تحملنا على طاعته فلننتقل إلى الجهاد الدعوي، وهذا الجهاد الدعوي سماه الله جهاداً كبيراً، فإذا أتيح لنا، ونرجو الله أن يتاح لنا الجهاد القتالي بادرنا إلى كسر شوكة عدونا.