الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
ربنا عزَّ وجل لحكمةٍ أرادها اتّخذ بيتاً له هو البيت الحرام:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الرابع والأربعين من دروس سورة البقرة، ومع الآية الخامسة والعشرين بعد المئة وهي قوله تعالى:
﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)﴾
أيها الإخوة الكرام؛ ربنا عزَّ وجل لحكمةٍ أرادها اتّخذ بيتاً له هو البيت الحرام، هذا البيت من قصده ابتغاء وجه الله يلقى فيه شعوراً لا يعرفه إلا من ذاقه، هذا الشعور المُسعد يجعله يتمنَّى أن يعود إليه، ما معنى ثاب؟ أي رجع، ما من إنسانٍ زار بيت الله الحرام حاجاً أو معتمراً، لأنه قصد وجه الله، لأنه زار بيت الله، لأنه أراد أن يلبِّي دعوة الله، لأنه آثر أن يلبي دعوة الله على بلده، وعلى مصالحه، وعلى بيته، وعلى زوجته، وعلى أولاده، لأنه آثر أن يلبي دعوة الله على دنياه فقصد البيت الحرام حاجّاً أو معتمراً، لأنه تفرَّغ لهذه العبادة البدنية، المالية، الشعائرية التي لا تؤدَّى إلا في مكانٍ خاص، وفي زمانٍ خاص، وبمناسك خاصة، لذلك ربنا عزَّ وجل بشكلٍ استثنائي يُلقي في قلب الحاج أو المعتمر سعادةً وسكينةً وأمناً ورضاً لا يعرفه إلا من ذاقه، إلا من زار هذا البيت مخلصاً.
معنى قول الحاج لبيك اللهم لبيك:
إذا أراد الإنسان أن يحج بيت الله الحرام ولم يكن مستقيماً، وكان ماله حراماً وقال: لبيك اللهم لبيك. يناديه منادٍ أن لا لبيك ولا سعديك وحجك مردودٌ عليك.
لكن من يلبي هذه الدعوة مُخلصاً لا يبتغي الرياء ولا السمعة، يبتغي وجه الله الكريم، يُلقي الله في قلبه من السعادة ما يحمله على أن يعود إليه مرة ثانية، ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً﴾ إذا زار الإنسان مكاناً جميلاً جداً وسَعِد في هذا المكان أيَّما سعادة يقول: إن شاء الله نعيد الكرَّة في العام القادم، هذه قاعدة، فكلمة ﴿مَثَابَةً﴾ أي هذا البيت لما يلقي الله في قلب حاجِّه ومعتمره من السعادة يتمنى أن يعود إليه دائماً،وضع استثنائي، لأن الإنسان يصلي في بلده، يصوم في بلده، البلد متاعب وأعمال ومشاغل ومشكلات، أما حينما يترك بيته، ومكتبه، وعمله، وتجارته، ويدفع الأموال، ويمشي في الطرقات، ويركب السيارات، ويتحمل المشاق، ووعثاء السفر، يبتغي وجه الله، لا يعقل إلا أن يكرمه الله إكراماً لا يعرفه إلا من ذاقه، والإنسان عندما يأتي إلى بيت من بيوت الله في بلده: إن بيوتي في الأرض المساجد وإن زوارها هم عمارها فطوبى لعبدٍ تطهر في بيته ثم زارني وحُقّ على المزور أن يُكرم الزائر.
الإنسان إذا زار بيت الله في بلده لذلك التجلي الإلهي في بيت الله الحرام تجلّ مركَّز جداً، عندما فرَّغ الإنسان نفسه لهذه العبادة يتولى الله تفريغ قلبه -نقطة دقيقة-هو فرَّغ قلبه مادياً؛ ترك بيته، ترك وطنه، ترك مكتبه، ترك تجارته، ترك زوجته، ترك أولاده، وهذا الذي فعله، أنت حينما تُفرِّغ جسمك ونفسك من متاعب الدنيا يتولى الله تفريغ قلبك من سواه، واسأل أي حاجٍ أو معتمر كان مُخلصاً في حجَّته أو عمرته يقول لك: والله وأنا هناك ما ذكرت شيئاً من هموم دنياي، كلها نُزعت مني، أنت فرَّغت نفسك لطاعتنا ونحن نفرغ قلبك لمشاهدة كمالنا، هذا معنى قول الحاج: لبيك اللهم لبيك، تعال كي تذوق طعم القُرب، تعال كي تذوق طعم الأمن، تعال كي تذوق جمال المُناجاة، الإنسان ذاق الدنيا، ذاق طعامها وشرابها، ونساءها، وعزَّها، وسلطانها، والمناظر الجميلة، والحدائق الغنّاء، والبيوت الفارهة، والمركبات الأنيقة، تعالَ ذق شيئاً آخر، تعالَ اتصل بأصل الجمال، تعال اتصل بأصل الكمال، تعال اتصل بأصل النوال، الذي سعد بحجةٍ مقبولةٍ أو عمرة مقبولةٍ يعرف معنى هذا الكلام، أنت هناك في عالم آخر.
الحج دعوة من الله وأنت تلبي هذه الدعوة والعمرة زيارة:
﴿وَإِذْ جَعَلْنَا﴾ كيف أن الله عزَّ وجل جعل بين الزوجين المودة والرحمة؟ كيف أن الله عزَّ وجل جعل بين المؤمنين هذا الود:
﴿ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)﴾
هذا الود بين المؤمنين، وتلك المودة بين الزوجين من خَلْق الله عزَّ وجل، وهذه السعادة التي تَعْمر قلب الحاج والمعتمر من خلْق الله عزَّ وجل، أما حينما يحج الناس للسمعة والرياء وللتجارة وللمصالح وللتباهي وللتسوّق فقط، هذا لا يذوق طعم الحج، لذلك الحج دعوة من الله وأنت تلبي هذه الدعوة، والعمرة زيارة، الله عزَّ وجل في الحج دعاك وأنت في العمرة زرته.
﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً﴾ هذا الأمن أيها الإخوة قد يفقده أغنى الأغنياء، وقد يفقده أقوى الأقوياء، لكنه عطاءٌ إلهي خاصٌ بالمؤمن.
﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)﴾
المشرك من شأنه الخوف والقلق والمؤمن من شأنه الأمن والاطمئنان:
بالمناسبة الله عزَّ وجل قادر أن يخلق الأمن في أخطر الظروف؛ وقادر أن يخلق الخوف في آمن الظروف، فالأمن من خلق الله يلقيه في قلب المؤمن، ﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وحدهم ﴿وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ أنا ضربت مرة مثلاً للتوضيح: ممكن أن تسافر إلى بلد مضطراً في وقت مبكر، والعجلة الاحتياطية معطوبة، تسير ساعتين وأنت في أشدّ حالات القلق، لأنه لو عُطبت عجلة من إحدى العجلات الأربعة لوقفت، لو أن ابنك أصلح هذه العجلة المعطوبة ولم تدرِ أنت فأنت لا يوجد عندك مبرر للقلق لكنك تقلق، معنى هذا أن القلق لا علاقة له بالوضع المادي، العجلة جيدة وجاهزة ولكنك لم تعلم أنها جاهزة فكنت قلقاً جداً، والعكس صحيح لو أن العجلة معطوبة وأنت لا تدري فأنت في راحة كبيرة، الله ممكن أن يخلق أمناً في ظرف يدعو للقلق، وممكن أن يخلق قلقاً في ظرف يدعو للأمن، معنى هذا أن الأمن بيد الله عزَّ وجل، فأنت عندما تكون معه يكون هناك أخبار سيئة جداً، تكون الطرق كلها مغلقة، أخطار تهدد الإنسان، وتجد أحياناً خمسين سيفاً مسلَّطاً على رقبة الإنسان، رغم هذه الظروف الصعبة جداً يخلق الله عزَّ وجل أمناً في قلبك تسعد به، وأحياناً تكون قوياً جداً معك ملايين مملينة، وقوياً جداً من نواحٍ أخرى وصحتك بأعلى درجة، والقلب فارغ من الأمن.
﴿ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)﴾
فالله يخلق الأمن:
﴿ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)﴾
وأحياناً يلقي في قلب الإنسان الخوف، أما القانون أنه لمجرد أن يُشرك الإنسان بالله يلقي الله في قلبه الخوف، يقذف الله الرعب في كل قلبٍ أشرك به. فالمشرك من شأنه الخوف والقلق؛ والمؤمن من شأنه الأمن والاطمئنان.
التوحيد هو الذي يحمل على الأمن والاستقرار والتوازن والسعادة:
في الجسم جهاز مناعة، هذا جهاز المناعة المكتسب أخطر جهاز في الجسم مع أنه ليس له مركز قيادي، جهاز الدوران قائده القلب،
وجهاز الأعصاب قائده الدماغ،
وجهاز التصفية قائده الكلية، بينما جهاز المناعة المكتسب ليس له قيادةٌ داخل الجسم، له رعايا عناصر فقط الكريات البيضاء،
هذه الكريات البيضاء بعضها استطلاعي، بعضها تصنيعي، بعضها قتالي، بعضها خدمي، مهمة بعض هذه الكريات أن تستطلع بنية الجرثومة الداخلة، تأخذ شفرتها الكيماوية، وتعود بها إلى مركز العُقَد اللمفاوية كي يُصنّع المصل المضاد لهذه الجرثومة،
وبعضها يحمل هذا السلاح ويقاتل،
وبعضها ينظِّف أرض العركة من الجثث.
إذاً هناك عنصر استطلاعي، وعنصر تصنيعي -معامل الدفاع-عنصر قتالي، عنصر خدمات سلاح الهندسة، الهندسة خدمات، القيادة ليست في داخل الجسم، هذا كتاب أُلِّف عن هذا الجهاز الخطير، وذكر المؤلف هذه الحقيقة، لكن ماذا يقول المؤمن؟ قيادة هذا الجهاز بيد الله، أي إذا أراد الله أن يشفيك من مرضٍ ما قوَّى هذا الجهاز، وإذا أراد أن يُصاب الإنسان بمرض ضعَّف هذا الجهاز، ما الذي يقوي هذا الجهاز؟ الأمن، الطمأنينة، الاستقرار، التوازن، السعادة، ما الذي يحمل على الأمن والاستقرار والتوازن والسعادة؟ التوحيد.
﴿ فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنْ الْمُعَذَّبِينَ(213)﴾
أتحب أن تكون معذباً؟ أتحب أن يكون قلبك منخلعاً من الخوف؟ أتحب أن تكون متشائماً سوداوي المزاج تخاف من كل شيء؟ سبيله الشرك، أتحب أن تكون آمناً مطمئناً واثقاً بالمستقبل واثقاً من عطاء الله؟ إذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان عليك فمن معك؟
إخواننا الكرام؛ كلمة لعلها خطيرة: هذا الذي تعبده إن لم تره قادراً على أن يحميك من كل شيء لا تعبده، يجب أن تعبد من يقدر أن يحميك من كل شيء، هذه العبادة، تعبد الله وتخاف غيره؟! تعبد الله وينخلع قلبك لتهديد إنسانٍ لا يقوى على نصرة نفسه ولا على نفع نفسه ولا ضرها؟! هذا الذي تعبده ينبغي أن تثق أنه يحميك، الآمر ضامن، ﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ أنت حينما تؤمن أن:
﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)﴾
لا يوجد شيء مخيف يتحرك كيفما يشاء إلا بأمر الله، لا يوجد شيء يخيفك وهو طليق، ما معنى التوحيد؟ ما معنى عندها لا بها؟ كلمةٌ جامعةٌ مانعة قالها علماء التوحيد، أي لا يقع شيء إلا عند إرادة الله لا عند الشيء الفعَّال في الشيء، أي النار لا تحرق بذاتها، تُحرق إذا أراد الله لها أن تُحرق، الأفعى لا تلدغ بذاتها، تلدغ إذا أراد الله لها أن تلدغ، كل شيءٍ ولو توهَّمت أن فيه قوةً فاعلة، هذه القوة الفاعلة لا تفعل شيئاً إلا إذا أراد الله عزَّ وجل، أي لا يليق بالله عزَّ وجل أن يقع في ملكه ما لا يريد.
لا يمكن أن يفعل الكافر شيئاً ما أراداه الله ولا أن يتفلَّت من عقاب الله:
الكافر يجب أن يعلم علم اليقين أنه لن يسبق الله، ما معنى:
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ(4)﴾
ما معنى يسبقونا؟ لا يمكن أن يفعل الكافر شيئاً ما أراداه الله، ولا يمكن أن يتفلَّت الكافر من عقاب الله، لا يستطيع الكافر أن يسبق الله، لا بفعل شيءٍ ما أراده، ولا بالتفلَّت من عقاب الله، فإذا وجدت كافراً يقصف ويدمِّر كيف تفسِّر ذلك؟ يجب أن تقول: إن خطة الله عزَّ وجل استوعبت خطة هذا الكافر، أي الله عزَّ وجل سمح له أن يفعل شيئاً لحكمةٍ أرادها فقط، إن رأيت كافراً يفعل كما يتوهِّم هو ما يريد، لا، هو يفعل ما يريد الله، الله عزَّ وجل وظف له جريمته، وظف له شره، وظف له قسوة قلبه في الخير المُطلق، لذلك الآية الكريمة:
﴿ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)﴾
الإنسان مخيَّر أن يفعل ما يشاء لكن لا على من يشاء، على من يشاؤه الله، فالإنسان حينما يريد أن يأخذ مالاً بغير حق يُسَلَّط على إنسانٍ يأخذ ماله لحكمةٍ أرادها الله.
مثل يوضح ذلك: أرادت امرأة غير ملتزمة أن تتوظف، طُلِب منها شهادة صحية، ذهبت كي تصور صدرها، فإذا بالنتيجة أنها مصابةٌ بمرض السل، بكت وأبكت، ويئست، إلى أن تابت إلى الله وتحجَّبت وصلَّت، ثم ذهب أخوها إلى المستشفى ليتأكد من هذه النتيجة فإذا هي قد أُعطيت خطأً لها، خطأ الموظف وظَّفه الله لتوبة هذه المرأة.
سمعت عن امرأة مختصة بالرياضيات، ألزمتها مديرة مدرسةٍ في إحدى دول الخليج أن تُدرِّس مادة التربية الإسلامية، ولا تفقه من الدين شيئاً، فإن لم تستجب ألغت عقدها فاستجابت، فتحت كتاب التربية الدينية أول صفحة آيات الحجاب، فلما قرأتها بكت، وكانت توبتها عن طريق هذه الآيات التي ألزمتها بها المديرة التي لا تعرف من أمر التربية شيئاً، أيعقل أن تُكلِّف مديرة إنسانة تحمل ليسانس رياضيات بتدريس التربية الدينية؟!
آيات من القرآن تؤكد أن كل مخلوقٍ بيد الله:
أنت مخير أن تفعل ما تشاء لكن لا على من تشاء، على من يشاؤه الله عزَّ وجل، اطمئن هذا أكبر باعث للطمأنينة والأمن، لا يوجد أحد حر، كل مخلوقٍ بيد الله.
﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ(62)﴾
وقال:
﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)﴾
وقال:
﴿ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)﴾
وقال:
﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)﴾
حينما لا تملك علماً كعلم الله ينبغي أن تعلم أن الله عادل:
أنت حينما ترى أن يد الله تعمل وحدها في الخفاء، حينما ترى أن كل شيءٍ تسمعه هو من فعل الله عزَّ وجل:
﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)﴾
من الصعب أن تصل إلى إثبات عدالة الله بعقلك إلا في حالة واحدة مستحيلة أن يكون لك علمٌ كعلم الله، هذا مستحيل، أما حينما لا تملك علماً كعلم الله ينبغي أن تعلم أن الله عادل.
في قصة سيدنا موسى مع الخضر يوجد شواهد على ذلك، هذه السفينة التي خُرقت خرقت ظلماً، خُرِقت لتنجو من المُصادرة، وهذا الجدار الذي بُني مجاناً بما يبدو أنه حُمق، لكنه بُنِي ليحفظ ثروة طفل يتيمٍ كان أبوه صالحاً، وهذا الطفل الذي قُتِل مبكِّراً قُتِل ليرحم الله أبويه لأنه سيكون شقياً، فالأب يشقى بشقاء ابنه، فالله عزَّ وجل علمك أن هناك شيئاً ظاهراً وشيئاً باطناً، ونعم الله عزَّ وجل طائفتان؛ طائفةٌ من النعم الظاهرة وطائفةٌ من النعم الباطنة وهي المصائب.
﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ طبعاً هذه الآية تُفهم فهماً بسيطاً أن سيدنا إبراهيم صلى في هذا المكان صلّوا أنتم في هذا المكان، الذي تجده في الحج ازدحاماً غير معقول، والطواف منسجم، أُناس يُصرون على أن يصلوا في مقام إبراهيم، يعرقل السير، ويؤذي المسلمين إيذاءً شديداً، مع أن كل مسلمٍ يحج بيت الله الحرام أو يعتمر في هذا البيت بإمكانه أن يصلي هاتين الركعتين في أي مكانٍ من الحرم، ولكن لعدم التفقُّه في الدين يزعج هؤلاء المسلمين، المعنى الأبعد: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ بماذا قام إبراهيم؟ قام بالإخلاص، اجعل من الإخلاص سبباً لاتصالك بالله.
الإخلاص هو أحد خصائص النبي إبراهيم عليه السلام:
ماذا فعل سيدنا إبراهيم؟ بنى البيت، اجعل من عملك.
﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)﴾
وقال:
﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)﴾
فهذا الإخلاص هو أحد خصائص هذا النبي الكريم، فاتّخذ من الإخلاص سبب اتصالٍ لك بالله عزَّ وجل، بنى البيت، بناؤه للبيت عمل شاق يبتغي به وجه الله، اجعل من عملك الصالح سبباً لاتصالك بالله عزَّ وجل، سيدنا إبراهيم عبد الله عبادة مطلقة، أكثر الأوامر معقولة، قال لك الله عزَّ وجل: كن اصدق، لمصلحتك، كن أميناً، كن عفيفاً، كن متقناً، كل أمر إلهي يعود نفعه عليك بشكلٍ واضح، إلا أن يقول الله لإنسان: اذبح ابنك وابنه نبي؟! والله هذه غير واضحة، وغير مقبولة، ولا تنسجم لا مع الرحمة، ولا مع العدل، ولا مع المنطق، لكن هذا النبي الكريم تلقى هذا الأمر بالانقياد لثقته المطلقة بحكمة الله.
﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)﴾
الذي يعجب لهذا الأب العظيم، النبي الكريم، أبو الأنبياء، المستسلم لأمر الله، والذي لا يقل عن هذا إعجاباً ابنه: ﴿قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ الله عزَّ وجل يقول لك: اصدق، لا تصدق، كن أميناً، لا تكون كذلك، صلِّ، أمره بذبح ابنه، هذه أعلى درجة في العبودية.
لن يكون الإنسان عبداً لله عزَّ وجل إلا إذا رضي بقضاء الله وقدره:
بالمناسبة أيها الإخوة؛ كلما اتّضح الأمر ضَعُفت فيه قيمة العبودية، وكلما غمُض الأمر ارتقت فيه قيمة العبودية، إذا قال أب لابنه: نظف أسنانك، إنها قِوام وجهك وابتسامتك، وأسنانك الطبيعية لا يعدلها شيء، هذا الأمر واضح جداً، يا بني لا تتأخر عن عملك يصغُر حجمك، تُلام، أعطى الأب ابنه آلاف الأوامر كلها منطقية ومعقولة، لكن قال الأب لابنه مرة: لا تأكل معنا، والابن جائع، والطعام لذيذ، وطعام والده طعام طيب، والطعام لوالده والابن ابن، وهو جائع، فلثقة هذا الابن بأبيه المطلقة قال له: سمعاً وطاعةً يا أبي، حاضر، هذا دليل الثقة.
ألا يحق لله عزَّ وجل -في التعبير الدارج-أن يعطيك أمراً وأنت لا تفهم حكمته؟ أو يسوق لك شيئاً، أنت مستقيم وطاهر ولكن حصلت مشكلة، اقبلها من الله، هذه المصيبة مصيبة العبودية لله عزَّ وجل، أيعقل أن يُعذّب النبي في الطائف؟ أيعقل أن يُسخر منه؟ أن يُكذَّب؟ وقيل: إنه ضُرب، قال:
(( اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وهواني على الناس، أرحم الراحمين أنت أرحم الراحمين إلى من تكلني إلى عدو يتجهمني أم إلى قريب ملكته أمري، إن لم تكن غضبان علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بوجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي غضبك أو يحل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ))
[ قال الهيثمي في "مجمع الزوائد": وفيه ابن إسحاق وهو مدلس ثقة، وبقية رجاله ثقات ]
أنت لن تكون عبداً لله عزَّ وجل إلا إذا رضيت بقضاء الله وقدره، إذا رضيت، أي بطولتك أن ترضى عن الله وأنت بالفقر وأنت بالمرض لا سمح الله، يوجد مشكلة، هذه المشكلة هي امتحان، هناك إنسان يحضر مجالس علم من عشرين سنة مات ابنه ترك الصلاة، لم يرض عن الله، لكن العظمة أن تكون في المصيبة وأنت راضٍ عن الله: يا رب لك الحمد.
مرتبة الصبر هي أعلى المراتب:
لي صديق توفي رحمه الله، أصيب بمرض عضال سنتين، تقول زوجته: والله ما سمعت منه إلا يا رب لك الحمد على ما ابتليت، وتوفي على هذا الحال، مرتبة الصبر لا تعدِلها مرتبة.
﴿ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)﴾
هنا: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ المعنى العميق أي اتخذْ من هذا النبي اجعله قدوةً لك، اجعله قدوةً لك بإخلاصه، اجعله قدوةً لك بتوحيده:
﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)﴾
هذا كلام سيدنا إبراهيم، كان موحداً، وكان مخلصاً، وكان له عمل طيب، عمل شاق، بنى البيت الحرام، سيدنا إبراهيم صبر على حكم الله:
﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)﴾
إن أردت أن تصل إلى الله فاجعل من خصائص النبي إبراهيم سبباً إلى الله:
توكل سيدنا إبراهيم توكلاً مطلقاً، عندما يسافر الإنسان يهيئ في البيت كل شيء، كل ما لذّ وطاب موجود، والهاتف موجود، والأعوان موجودون، يا رب توكلت عليك، جيِّد التوكل، لكن سيدنا إبراهيم أُمِر أن يضع زوجته وابنه في وادٍ غير ذي زرع، قالت: يا إبراهيم إلى من تدعنا؟ ألله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً فلن ينسانا، هل لديك إمكانية أن تضع زوجة وابناً في العراء لا ماء ولا طعام ولا شراب ولا نبات ولا ظل وتمشي؟ إلى أين أنت ذاهب، توكل إبراهيم عليه الصلاة والسلام التوكل المطلق، وعبد الله العبادة المطلقة، فإن أردت أن تصل إلى الله فاجعل من هذا النبي الكريم، من إخلاصه، ومن أعماله، ومن توكله، ومن تعبُّده، ومن صدقه طريقاً إليه.
فكر سيدنا إبراهيم في الكون، رأى النجم أولاً فلما أفل قال: لا أحب الآفلين، رأى القمر بازغاً قال: هذا ربي، ورأى الشمس، ثم قال:
﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)﴾
مقام إبراهيم تعبُّده لله عزَّ وجل، مقام إبراهيم توكُّله، مقام إبراهيم تفكُّره، مقام إبراهيم عمله الصالح، إن أردت أن تصل إلى الله فاجعل من خصائص هذا النبي سبباً إلى الله عزَّ وجل.
﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ الطائفون: الإنسان يطوف، فلما وصل إلى بغيته يعكف، فلما عرف قيمة عظمة الله عزَّ وجل ركع له وسجد، الطواف ثم العكوف ثم الركوع والسجود، هذه أحوال السالكين إلى الله عزَّ وجل، يطوف حول كمالات الله ثم يستقر على تعظيم الله وعبادته، ثم يرى في النهاية أنه يجب أن يخضع وأن يستعين به:
﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)﴾
القرآن كله جُمع في الفاتحة، والفاتحة جُمعت في: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ ، بالنهاية يجب أن تعبده، ويجب أن تستعين به على عبادته.
قصة جانبية عن أحد الإخوة الذين يخدمون بيوت الله ، أنا ما رأيت في الشام كلها مسجداً بنظافة هذا المسجد، أنا أتحدَّى أن يكون في بيوت الشام كلها بيت أنظف من هذا المسجد، شيء عجيب؛ نظافة السجاد، المرافق، الرخام كأنه قد رُكِّبَ حديثاً، قال لي هذا الإنسان الذي يخدم هذا البيت بيت الله عزَّ وجل: أنا شعاري هذه الآية: ﴿وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ﴾ فهؤلاء الذين يقومون على خدمة بيوت الله هذا عمل عظيم، أنتم لا تنتبهون، ترون السجاد نظيفاً، الأرض نظيفة، الجدران نظيفة، البلور ممسوحاً، كل شيء جميل بالمسجد، المرافق العامة جميلة، هناك جنود مجهولون يخدمون هذا البيت، خدمة من أعلى مستوى لوجه الله تعالى، هؤلاء من قدوتهم؟ هذا النبي الكريم: ﴿وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ والدليل هذه الآية: ﴿وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ .
مراحل السلوك إلى الله عزَّ وجل:
هناك أُناسٌ لهم شأن عند الله كبير قد لا تعلمونهم أنتم، يعملون ساعاتٍ طويلة في خدمة بيوت الله، في تنظيفها، في ترتيبها، في العناية بها، هؤلاء قدوتهم في هذا العمل هذا النبي الكريم.
أريد أن يتحمَّس كل الناس لخدمة بيوت الله، جعلها في أعلى درجة من الراحة كي تجذب الناس إليها.
والله كنت مرة عند طبيب قال لي: والله أنا أحبّ سماع دروسك إلى أعلى درجة، ولكنني مرة سجدت وراء إنسان له جوارب رائحتها لا تحتمل، قال لي: والله تركت الدروس من أجل هذا، أنا تألمت أشد الألم، إذا لم يكن الإنسان نظيفاً، كان معطراً، أنت تقطع إنساناً عن الله عزَّ وجل، فكل إنسان يأتي إلى بيتٍ من بيوت الله يجب أن يكون بأعلى درجة كي يجذب الناس إليه، حتى الأطفال يجب أن يكونوا مكرَّمين في بيوت الله حتى ينشأ عندهم محبة للمسجد، هذا الكلام تعليق على قول الله عزَّ وجل: ﴿وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ﴾ هذا البيت نُسِبَ إلى الله عزَّ وجل، إلى ذات الله: ﴿بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ طاف، وعكف، وركع، وسجد، مراحل السلوك إلى الله عزَّ وجل.
﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)﴾
إذا نقضنا عهدنا مع الله ورسوله سلط علينا عدواً يأخذ ما في أيدينا:
هنا يوجد نقطة دقيقة قال تعالى:
﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)﴾
قال العلماء كلاماً رائعاً: هذه الآية ليست أمراً تكوينياً، بل هي أمرٌ تكليفي، أي الله عزَّ وجل أمرنا أن نجعله آمناً، قال: ينبغي أن يكون آمناً، اجعلوه آمناً يا عبادي، أوكل أمنه إلينا، ماذا يُستنبط من هذا الحكم؟ هذا بيتٌ من بيوت الله إياك أن تفعل شيئاً تجرّ لهذا البيت شبهة، أو استفهام، أو مشكلة، لأن هذا البيت:
﴿ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً(18)﴾
لا تعمل عملاً تسبب إشكالاً لرواد المسجد، لا تثر شبهة، لا تعمل فيه عملاً لا يرضي الله عزَّ وجل، ادخله وأنت مخلص، لذلك: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً﴾ أي مكة المكرَّمة، ﴿وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ هذه دعوة سيدنا إبراهيم.
إذا ذهب أحدنا إلى الكعبة لبيت الله الحرام ورأى ما يُعرض في المحلات من أنواع الفواكه يُصدِّق هذه الآية: ﴿وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ هناك أنواع من الفواكه لا تعلم اسمها، فواكه العالم كله تُساق إلى بيت الله، حتى إن هذه الثروات التي أوجدها الله في بلادهم هذه من إكرام الله لحجاج بيت الله الحرام، جعلهم أغنياء ليعتنوا بالحجاج.
وجود بلد آمن من نعم الله الكبرى:
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً﴾ هذا أعظم دعاء أن يكون البلد آمناً، الحروب مدمرة، والحروب الأهلية مُهلكة، فإذا كان هناك بلد آمن هذا من نعم الله الكبرى، بل إن الحكم الشرعي: لا يجوز أن تقيم في بلدٍ لا أمن فيه، هذا حكم شرعي.
كلمة أقولها لكم والله لا أبتغي بها شيئاً: لي صديق جاء بطائرة إلى دمشق، قال لي: سمعت رسالة في الطائرة باللغة الإنكليزية موجهة للركاب، يقولون: إنكم قدمتم إلى أأمن بلد في العالم -أي سوريا-بإمكانك أن تتجول أنت وزوجتك إلى ساعةٍ متأخرة من الليل دون أن تخشى شيئاً، هذه النعمة نعرفها جميعاً، بلدنا آمن والحمد لله، فنرجو الله أن يديم علينا هذا الأمن.
﴿اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ لكن سيدنا إبراهيم: يا رب هؤلاء عبادك المؤمنون هم يستحقون هذا الإكرام: ﴿وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ المؤمنون فقط.
ليس الملك مقياساً ولا المال مقياساً المقياس أن تكون طائعاً لله:
قال الله عزَّ وجل: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ أي إذا وجدت كافراً غنياً جداً، قوياً جداً، يتمتع بصحة من أعلى درجة وهو يعصي الله، وينتهك حرمات الله، ويؤذي الناس لا يختل توازنك، هذا الجواب: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ﴾ لكن الآن دقق ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ انظر أمتعه قليلاً؛ ساعات، سنوات، بضع سنوات، متَّعه بها ثم قصمه، فالله عزَّ وجل يعطي كل إنسان، لكن لا يُقبل على قلب كل إنسان، يعطي كل إنسان لكن الله يحب المؤمنين، يرزق كل إنسان ولكنه يتجلى على الصادقين، يعطي المال لكل إنسان ولكنه يقرِّب الطائعين، العطاء ليس مقياساً، أعطى الله المُلك لمن لا يحب أعطاه لفرعون، أعطى المال لمن لا يحب أعطاه لقارون، حتى أكون دقيقاً: أعطاه لمن لا يحب ولمن يحب، سيدنا عثمان وسيدنا عبد الرحمن من أغنياء الصحابة، يعطي المال لمن يحب ولمن لا يحب، ويعطي الملك لمن يحب سيدنا سليمان، ولمن لا يحب فرعون، إذاً ليس الملك مقياساً ولا المال مقياساً، المقياس أن تكون طائعاً لله، إن الله يعطي الصحة والذكاء والمال والجمال للكثيرين من خلقه، ولكنه يعطي السكينة بقدرٍ لأصفيائه المؤمنين.
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً﴾ أمتِّعه أيضاً، خالق الكون يقول: قليلاً:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)﴾
ألا يوجد ملوك مثل ملوك الحديد والصلب بأمريكا، ملوك البترول، ملوك ملوك ملوك ماتوا وتركوا كل شيء؟ هذا المتاع القليل: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنْ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾ إذا خالق الكون يقول لك: يا عبدي متاع الدنيا قليل.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)﴾
الدنيا دار من لا دار له ولها يسعى من لا عقل له:
دقق الآن: ﴿أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ أتقبل؟ أترضى أن تأخذ من ملك الملوك درهماً واحداً؟ أترضى؟ ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾ لا تعبأ بالدنيا، والله إنّ أسعد الناس بها أرغبهم عنها، وأشقاهم فيها أرغبهم فيها، والله الذي لا إله إلا هو، الدنيا تغر، وتضر، وتمر، هي دار من لا دار له، ولها يسعى من لا عقل له.
وقفت دابة –حمار-في أيام الحر الشديد في مكان، وإنسان لم يحتمل الحر ولا أشعة الشمس المحرقة جلس في ظلّ هذا الحمار استمتع بظله، قام ليشرب فجاء رجل جلس مكانه، فتنازع معه قال له: هذا محلي، فأجابه الآخر: لا ليس محلك، تلاسنا، وبعد ذلك تشادّا، ثم تضاربا، ثم سار الحمار، يختصمان على ظلّ الحمار!
اسأل إخواننا القضاة كم دعوى شطبت بموت أحد الطرفين؟ استمرت الدعوى ثماني عشرة سنة، ثم مات أحد الطرفين فانتهت الدعوى، لا أحد ينتبه للموت، الموت ينهي كل شيء؛ ينهي غنى الغني، وقوة القوي، ووسامة الوسيم، وفقر الفقير، وضعف الضعيف، وقهر المقهور، كله ينتهي بالموت، لذلك الدنيا دار من لا دار له ولها يسعى من لا عقل له، قال: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ .
آيات من القرآن الكريم تظهر أن متاع الدنيا قليل:
انتبه أيها الأخ:
﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)﴾
وقال:
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)﴾
وقال:
﴿ فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)﴾
وقال:
﴿ فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)﴾
هذا كلام ربنا، لا يختل توازنك إن رأيت شخصاً قوياً كافراً، هؤلاء الذين يقصفون العالم وهم يأخذون بنواصي الشعوب، يدمرون الشعوب، يسلبون ثروات الشعوب، يُفقرون العالم، هؤلاء لا يمكن أن تنجح خططهم إلى ما لا نهاية، نجاح خططهم إلى ما لا نهاية يتناقض مع وجود الله، وما رفع الناس شيئاً إلا وضعه الله عزَّ وجل.
خطّ المؤمن البياني صاعد صعوداً مستمراً إلى الأبد عكس خط الكافر البياني:
هناك تجارب سابقة؛ هناك قلاع الكفر تهاوت كبيت العنكبوت، أليس كذلك؟ فأنت كن مع الله:
كن مع الله ترَ الله معك واترك الكل وحاذر طمعك
وإذا أعطاك من يمنعــه ثم من يعطي إذا ما منعك؟
أنا أريد من إخواننا الكرام معنويات عالية:
﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)﴾
أنت مع خالق الكون لا تخشَ أحداً، لا تخضع، لا تيئس، لا تخنع، اليأس كفر، والقنوط من رحمة الله كفر، قال: ﴿قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ خط المؤمن البياني صاعد صعوداً مستمراً إلى الأبد، والموت نقطة على هذا الخط ولا يزال صاعداً؛ أما خط الكافر البياني فصعود حاد، سقوط مريع، صعود وسقوط.
العبرة لا بعظم العمل بل بقبوله عند الله:
قال تعالى:
﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)﴾
العبرة لا بعِظَم العمل بل بقبوله عند الله:
﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً (23)﴾
يوجد إنجازات حضارية يشيب لهولها الولدان، ومع ذلك لا قيمة لها عند الله، ما ابتغي بها وجه الله عزَّ وجل. والله أيها الإخوة هناك حديثٌ شريف يقصم الظهور:
(( عن ثوبان رضي الله عنه: لأَعْلَمَنَّ أَقْوَاماً مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضاً فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُوراً، قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا؟ جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لا نَعْلَمُ؟ قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ أخوانكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا. ))
لا يوجد إخلاص، له موقف مُعلن، موقف خاص، له خلوة وله جلوة، له سريرة وله علانية، وله باطن وله ظاهر.
فيا أيها الإخوة؛ ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ .
العبرة بعملٍ يقبله الله، والله عزَّ وجل يقبل من الأعمال ما كان خالصاً له، أحد كبار العلماء يقول: "العمل لا يقبل إلا بشرطين؛ إلا إذا كان خالصاً وصواباً، خالصاً ما ابتغي به وجه الله، وصواباً ما وافق السنة" فإذا كان خالصاً ومخالفاً للسنة لا يُقبل، وإذا كان موافقاً للسنة وليس خالصاً لا يُقبل، لا يقبل إلا إذا كان خالصاً وصواباً، ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ والعبرة بالقبول، ورب درهمٍ سبق ألف درهم، ودرهمٌ تنفقه في حياتك خيرٌ من مئة ألف درهم يُنفق بعد مماتك، والعبرة بالإخلاص، ويا معاذ أخلص دينك يكفك القليل من العمل.
(( عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ». ))
الله وحده يعلم الحقيقة ويعاملك لا بحسب أقوالك بل بحسب علمه للحقيقة:
يوجد نقطة دقيق إخواننا الكرام؛ أنت، أي إنسان بإمكانه أن يتكلم ما فوق الحقيقة وما دون الحقيقة أو الحقيقة، يوجد حقيقة، الحقيقة ما طابقت الواقع، هذا كأس ماء، قد تقول: هذا كأس من أرقى أنواع الزجاج، كريستال، كلام غير صحيح، وقد تقول: هذا من أردأ أنواع الزجاج، أيضاً غير صحيح، وسط، زجاج وسط، فأنت قد تقول الحقيقة وقد تزيد وقد تنقص، لكن الله وحده يعلم الحقيقة، ويعاملك لا على أقوالك بل على علمه بالحقيقة، يجب أن تعلم علم اليقين أن الله وحده يعلم الحقيقة ويعاملك لا بحسب أقوالك بل بحسب علمه للحقيقة.
﴿إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ﴾ إذا تكلمنا قل ما شئت الله سميع، اسكت الله عليم، تحرك الله بصير، سميع عليم بصير.
الاستسلام لخالق الأكوان أعلى درجة بالإيمان:
﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)﴾
هذه أعلى درجة بالإيمان أن تستسلم لخالق الأقوام:
﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)﴾
﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ أي أعلى درجة نهاية النهاية أن تستسلم لله عز وجل، هذا الاستسلام فوق الإحسان.
عندنا إسلام، عندنا إيمان، عندنا إحسان، عندنا استسلام: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ .
سعادة الإنسان أن يكون أولاده على شاكلته:
﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا﴾ والإنسان والله لا يسعد إلا إذا كان أولاده على شاكلته: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا﴾ لو كنت أغنى الأغنياء وأقوى الأقوياء ولم يكن ابنك كما تتمنى فأنت أشقى الأشقياء، ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا﴾ لذلك اعتنوا بأولادكم، ربوا أولادكم، إن هذا يسعدكم في كل دنياكم:
﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)﴾
﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ الطرق السالكة إليك ﴿وَتُبْ عَلَيْنَا﴾ فيما مضى ﴿إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ .
﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)﴾
الملف مدقق