وضع داكن
26-12-2024
Logo
الدرس : 43 - سورة البقرة - تفسير الآيات121 - 124 العلم والعمل هما المقياس يوم الفصل
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

تلاوة الكتاب حقّ تلاوته أي أن تُحسن قراءته وفهمه وتدبُّره والعمل به:


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثالث والأربعين من دروس سورة البقرة، ومع الآية الواحدة والعشرين بعد المئة وهي قوله تعالى:

﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)﴾

[ سورة البقرة ]

أي هؤلاء الذين آتيناهم الكتاب إذا تلوه حقّ تلاوته، إذا تلوه كما أُنزل عليهم من دون تحريفٍ أو تغيير، إذا تلوه حقّ تلاوته يؤمنون بمحمدٍ صلى الله عليه وسلَّم، لأن هذه الرسالات متتالية، وكل رسالةٍ تنسخ الرسالة السابقة، والذي آمن بالله عزَّ وجل ينصاع إلى أمره وإلى الإيمان بما جاءه مجدَّداً عن الله عزَّ وجل.
طبعاً قد تُفهم الآية وحدها بمعنىً آخر، تلاوة الكتاب حقّ تلاوته أن تُحسِن قراءته، وأن تُحسِن فهمه، وأن تُحسِن تدبُّره، وأن تعمل به، إن قرأته وفهمته وتدبَّرته معنى التدبر أي أين أنت من هذه الآية؟ هل أنت مطبقٌ لها؟ قد تفهمها ولكن يجب أن تقول: ما علاقتي بها؟ هل أنا مطبقٌ لها؟ هل أنا مقصرٌ في تطبيقها؟ هل أنا مغطَّى بهذه الآية؟ هل هذه الآية تعنيني؟ التدبر أن تنظر ما علاقتك بهذه الآية من أجل أن تأخذ موقفاً. 
القرآن الكريم من دقة نظمه أن الآية إذا نُزِعَت من سياقها لها معنى مستقل، فإذا وُضِعت في سياقها لها معنىً آخر، مثلاً حينما قال الله عزَّ وجل: 

﴿ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)﴾

[ سورة الطلاق ]

جاءت هذه الآية في سورة الطلاق، أي من يتقِ الله في تطليق زوجته يجعل الله له مخرجاً في إرجاعها، طلَّقها طلاقاً سُنياً، طلقها طلقةً واحدة، وطلقها في طهرٍ ما مسّها فيه، ولم يطلِّقها في حيض، ولم يطلقها في موضوعٍ لا علاقة لها به، فأبقاها عنده، هذه المشكلة بعد أيام تلاشت، فراجعها وحُلَّت المشكلة، فمن اتّقى الله في تطليق زوجته يجعل الله له مخرجاً إلى إرجاعها، هذا المعنى السياقي.
أما لو نزعت هذه الآية من سياقها هي قانون، من يتق الله في كسب ماله يجعل الله له مخرجاً من إتلافه، من يتقِ الله في اختيار زوجته يجعل الله له مخرجاً من الشقاق الزوجي، من يتقِ الله في تربية أولاده يجعل الله له مخرجاً من عقوق الأولاد، من يتقِ الله في الإيمان يجعل الله له مخرجاً من الكفر، فهذه الآية يمكن أن تُكتب عليها مجلَّدات، إذا نُزعت من سياقها قوانين، وإذا وضعت في سياقها لها معنى سياقي، هذا مثل طبعاً.
 

من تلاوة القرآن حقّ التلاوة أن نعرف معانيه وننظر أين نحن من آياته:


ربنا عزَّ وجل قال: ﴿يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ﴾ فكيف نتلو هذا القرآن حقّ تلاوته؟ حينما نُحسن قراءته، وبعد أن نُحسن قراءته نبحث عن معناه، ويمكن أن يكون حضور درس في تفسير كتاب الله نوعاً من أنواع تلاوته حقّ التلاوة، هل هناك كتابٌ في حياتك يعلو على هذا الكتاب؟ هل هناك كتابٌ يُحدِّد مصيرك الأبدي كهذا الكتاب؟ كلام الله عزَّ وجل، لا شيء يعلو على أن تفهمه كما أراده الله عزَّ وجل، فطلب العلم فريضةٌ على كل مسلم، فمن تلاوته حقّ التلاوة أن تعرف معانيه، ثم من تلاوته حقّ التلاوة أن تنظر أين أنا من هذه الآيات؟ هل تنطبق عليَّ آيات الذي يظلم نفسه أم آيات المُقتصد أم آيات السابق للخيرات؟ قال الله عزَّ وجل:

﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)﴾

[ سورة فاطر ]

أي هذا الذي يفعل ما أُمر وقد يقصِّر، ويدع ما نُهي عنه وقد يقع هذا ظالم لنفسه، والذي يفعل ما أُمر ولا يُقصر، والذي يدع ما نُهي عنه ولا يقع هذا مقتصد، والذي يدع المحرَّمات ثم ينتقل إلى ترك الشبهات، يدع المحرمات الكبيرة، ثم يدع المعاصي الصغيرة، ثم يدع الشبهات استبراءً لدينه وعرضه، ثم يدع المكروهات التنزيهية، ثم يدع الحلال إذا أفضى به إلى الحرام، ثم يفعل النوافل هذا سابقٌ بالخيرات، فإذا قرأ الإنسان هذه الآية أين أنت من هذه الآية؟ لا سمح الله ولا قدَّر هل أنت مع الذي ظلم نفسه أم أنت مع المقتصد أم أنت مع السابق بالخيرات؟
 

معنى التدبر:


نقطةٌ دقيقةٌ أيها الأخوة، دائماً اسأل نفسك هذا السؤال: أين أنا من هذه الآية؟ هل تنطبق عليَّ هذه الآية؟ اقرأ فواتح سورة البقرة فيها وصفٌ للمؤمنين الصادقين، وفيها وصفٌ للكافرين، وفيها وصفٌ للمنافقين، إن استبعدنا آيات الكافرين يا ترى هل تنطبق عليَّ بعض صفات المنافقين؟ هذا هو التدبُّر، قرأت الآية ما الذي ينبغي أن تفعله حينما تنتهي من قراءتها؟ هو أن ترى ما إذا كنت مطبقاً لها أو لست كذلك، فـ: ﴿يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ﴾ يقرؤونه قراءةً صحيحة، يفهمون معانيه كما أراد الله عزَّ وجل وفق علم الأصول، المعنى الدقيق، ثم ينظرون ما علاقتهم بهذه الآية؟ هذا هو التدبر، وبعدئذٍ يُطبقون هذا القرآن، أما هنا المعنى السياقي في هذه الآية أن فئةً من الذين أوتوا الكتاب يتلونه حقّ تلاوته، فحينما تلوه حقّ تلاوته آمنوا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلَّم: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ بمحمدٍ صلى الله عليه وسلَّم، وهناك نفرٌ من اليهود آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلَّم وكانوا من أصحابه الكبار كعبد الله بن سلام، وكانت أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق. 
 

المحتقر لنفسه هو من عُرِض عليه الحق ورفض دعوة الله عزَّ وجل:


﴿أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ﴾ من يكفر بمحمدٍ صلى الله عليه وسلَّم، أي من يكفر برسالته التي جاءته من عند الله عزَّ وجل: ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ .
يا أيها الإخوة الكرام؛ الإنسان مخيَّر، والإنسان حينما يرفض شيئاً من الدنيا يرفضه احتقاراً له، قد يُعرَض عليك بيتٌ لا يعجبك فترفض شراءه، وقد تُعرض عليك شراكةٌ لا تغنيك فترفض قَبُولها، طبعاً ترفض هذه التجارة وترفض شراء هذا البيت لأنه صغيرٌ في نظرك، حقير، أما حينما ترفض دعوة الله عزَّ وجل فأنت محتقرٌ لنفسك، تحتقر نفسك:

﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)﴾

[ سورة البقرة ]

الدين وحده إذا رفضته فأنت محتقرٌ لنفسك، ما عرفت قيمة نفسك، ولا عرفت حقها، ولا عرفت أنك الإنسان الأول الذي كرَّمه الله بهذا الدين. 
 

المعنى السياقي للآيات التالية:


﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ﴾ طبعاً حق التلاوة هكذا: ﴿أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ برسول الله صلى الله عليه وسلَّم، ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ﴾ برسول الله، ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ﴾ هذا المعنى السياقي: 

﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122)﴾

[ سورة البقرة ]

النعمة التي يقتضيها المعنى السياقي، هذه النعمة أن الله عزَّ وجل ذكر لهم في التوراة والإنجيل أنه سيأتي نبي من بعد سيدنا موسى وعيسى اسمه محمد: 

﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)﴾

[ سورة الصف ]

هو أحمد الخلق كافةً، فهذه نعمة أن الله طمأنهم بكتبهم أنه سيأتي نبي عظيم من بعد أنبيائهم، إذا آمنوا به فسيرقون إلى أعلى عليين: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ .
 

إن آمنت برسول الله واتبعته ووقَّرته ونصرته فأنت من المفلحين:


أيها الإخوة؛ آيةٌ نستأنس بها في هذا الموضوع، يقول الله عزَّ وجل:

﴿ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)﴾

[ سورة الأعراف ]

دقِّق: 

﴿ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)﴾

[ سورة الأعراف ]

بهذا النبي الأمي: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾ آياتٌ دقيقةٌ جداً، إن آمنت برسول الله؛ برسالته، بهذا القرآن الذي جاء به، بسُنته المبينة لهذا الكتاب، واتبعته، ووقَّرته، ونصرته، وعزَّرته فأنت من الفالحين. 
 

الله عزَّ وجل سيسألنا يوم الفصل عن كل أعمالنا صغيرها وكبيرها:


يا أيها الإخوة؛ ثم يقول الله عزَّ وجل: 

﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)﴾

[ سورة البقرة ]

أيها الإخوة؛ هذا هو اليوم الذي تُسوَّى فيه الحسابات، هذا هو يوم الدين، هذا هو يوم الفصل، هذا يوم القارعة، هذا يوم الحاقَّة، هذا يوم الطامَّة الكبرى، هذا هو النبأ العظيم، الناس مختلفون؛ أقوياء وضعفاء، أغنياء وفقراء، طلبوا العلم وزهدوا في العلم، استقاموا وانحرفوا، صدقوا وكذبوا، أكلوا المال الحلال أو أكلوا المال الحرام، عفّوا أو اعتدوا على أعراض بعضهم بعضاً، هؤلاء الناس بعجرهم وبجرهم، بانحرافهم واستقامتهم لابد من أن يقفوا يوماً بين يدي الله عزَّ وجل ليحاسبوا عن أعمالهم كلها، صغيرها وكبيرها. 

﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه(7)وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه(8)﴾

[ سورة الزلزلة ]

العاقل كل العاقل، والذكي كل الذكي، والفالح كل الفالح، والفائز كل الفائز، هو الذي يُعدّ لهذا اليوم عدته، هو الذي يدخل هذا اليوم في حساباته اليوميَّة، قبل أن ينطق بكلمة، قبل أن يعطي، قبل أن يمنع، قبل أن يعادي، قبل أن يقطع، قبل أن يصل، قبل أن يبتسم، قبل أن يعبس، قبل أن يغضب، قبل أن يرضى يجب أن يقول: ماذا سأجيب الله يوم القيامة؟ لذلك الأبوَّة مسؤوليَّة، والعمل مسؤوليَّة، والحرفة مسؤوليَّة، والله عزَّ وجل سيسألنا عن كل أعمالنا صغيرها وكبيرها.

﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)﴾

[ سورة الكهف ]

كتاب أعمال الإنسان: ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾ .
 

يوم القيامة يحاسب كل إنسان عن عمله:


نحن الآن في بحبوحة، نحن في الدنيا، لك أن تحسن ولك أن تسيء، لك أن تصدق ولك أن تكذب، لك أن تبالغ ولك أن تقلِّل من أهمية الشيء، هذا لا ينفعك عند الله شيئاً، لابد من أن تُسأل لماذا فعلت؟ لماذا قُلت؟ لماذا ضخَّمت؟ لماذا قلَّلت؟ لماذا اتهمت؟ لماذا اغتبت؟ لماذا أعطيت؟ لماذا منعت؟ ﴿وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً﴾ نحن في الدنيا، هناك تكتُّلات، فهناك جماعات، إنسان له أتباع، له مكانة، له سيطرة، غني كبير، قوي، يحتل منصباً رفيعاً، بإمكانه أن يفعل كل شيء، هذا في الدنيا؛ ولكن في الآخرة: ﴿لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً﴾ .
 

أدلة من القرآن الكريم والسُّنة الشريفة أنه لا تجزى نفس عن نفس شيئاً:


يقول الله عزَّ وجل: 

﴿ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)﴾

[ سورة الزمر ]

يا محمد يا سيد الخلق: ﴿أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ﴾ ..

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) قَالَ: (يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ -أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا-اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا. ))

[ رواه البخاري ومسلم  ]

لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم.

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: مَن سلَك طريقًا يطلُبُ فيه عِلمًا سهَّل اللهُ له به طريقًا مِن طُرقِ الجنَّةِ، ومَن أبطَأ به عمَلُه لَمْ يُسرِعْ به نسَبُه . ))

[  صحيح ابن حبان أخرجه في صحيحه ]

لو أنك استطعت أن تستخلص أو أن تأخذ من فم رسول الله وهو سيد الخلق وحبيب الحق فتوى لصالحك، حكماً لصالحك، ولم تكن محقاً، لا تنجو من عذاب الله:

(( عن أم سلمة أم المؤمنين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنَّما أنا بَشَرٌ وإنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، إنَّما أنا بَشَرٌ وإنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، ولَعَلَّ بَعْضَكُمْ أنْ يَكونَ ألْحَنَ بحُجَّتِهِ مِن بَعْضٍ، فأقْضِي علَى نَحْوِ ما أسْمَعُ، فمَن قَضَيْتُ له مِن حَقِّ أخِيهِ شيئًا، فلا يَأْخُذْهُ فإنَّما أقْطَعُ له قِطْعَةً مِنَ النَّارِ. ))

[ صحيح البخاري ]

 أيها الإخوة؛ هذه الآية دقيقة: ﴿وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ رقم هذه الآية ثلاثة وعشرون بعد المئة من سورة البقرة، واضحة، لنا وقفة معها بعد قليل.
 

لا تُقبل يوم القيامة شفاعة الشفيع ولا حتى الجزاء النقدي:


لكن هناك آية رقمها ثمانية وأربعون في البقرة نفسها، يقول الله عز وجل:

﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)﴾

[ سورة البقرة ]

تماماً كهذه: ﴿وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ﴾ هناك فرقٌ بين الآيتين، الآية التي نحن بصددها: ﴿وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ﴾ الآية الأولى: ﴿وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ﴾ لو أن ملكاً غضب على رجل -ولله المثل الأعلى-غضباً شديداً، وجاء إنسان ليشفع له، هذا الإنسان الذي أراد أن يشفع له عند هذا الملك قال: لا يُقبل منه شفاعة، شفاعته مرفوضة، فإذا أردنا أن نُقدِّم الجزاء النقدي وهذا الجزاء لا يُقبل، تُرفض في هذا اليوم شفاعة الشفيع، والبديل الذي هو الجزاء النقدي غير مقبول، أما في هذه الآية هذه النفس الظالمة لا يُقبل منها عدلٌ، أي لو أنها أيضاً عادت إلى الدنيا واستقامت: 

﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)﴾

[ سورة المؤمنون ]

قال: ﴿كَلا﴾ هذا هو العدل، لو بحثت عن شفيع لا تجد، آية تشير إلى النفس الجازية، والآية الثانية تشير إلى النفس المجزية عنها، النفس الظالمة لو بحثت عن عدلٍ ينجيها من عذاب هذا اليوم فقالت: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ﴾ قال: ﴿كَلا﴾ أمامها بديل آخر، لو بحثت عن شفيع ليس هناك من شفيع، أما النفس التي أرادت أن تتوسَّط وأن تشفع فشفاعتها غير مقبولة، ولو طالبنا بالجزاء النقدي فالجزاء النقدي مرفوض، هذا هو اليوم الصعب، هذا:

﴿ فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)﴾

[ سورة المدثر ]

 

المقاييس ووسائل التقييم كلها تتبدل يوم القيامة:


قد تقف البنت أمام ربها يوم القيامة تقول: يا رب لا أدخل النار حتى أُدخل أبي قبلي، فالإنسان قبل أن يفعل شيئاً، قبل أن يتجاوز، قبل أن يطغى، قبل أن يبغي على أخيه المؤمن، قبل أن يكذب، قبل أن يغتاب، قبل أن يطعن، قبل أن يتهم، قبل أن يُقلِّل من قيمة إنسان، قبل أن يضخِّم إنساناً يجب أن يسأل نفسه: ماذا سأجيب الله يوم القيامة لو سُئلت لمَ فعلت هذا؟ ﴿وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ﴾ نكرة، أي أية نفسٍ كائنةً من كانت: ﴿لَا تَجْزِي نَفْسٌ﴾ أي نفسٍ كائنةً من كانت ولو كانت نفس رسول الله: ﴿أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ﴾ وقال: ﴿لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ﴾ وهذه النفس التي استحقَّت العذاب مهما كانت مكانتها في الدنيا كبيرة:

﴿ إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ(1)لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ(2)خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ(3)﴾

[ سورة الواقعة  ]

كل المقاييس تُبدَّل، وسائل التقييم كلها تتبدَّل، الناس في الدنيا يُعَظمون الغني، ويُعظِّمون القوي، ولكن في الآخرة الذي استقام على أمر الله، والذي أحسن إلى خلق الله هو الذي يحتل مكانةً رفيعةً عند الله يوم القيامة.
 

الآية التالية من أدق آيات العدل:


هذه الآية أيها الإخوة من أدق آيات العَدل: ﴿وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً﴾ مهما كنت، ومهما توسَّطت، لا تستطيع نفسٌ أن تفعل نفعاً مع نفسٍ أُخرى:

﴿ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21)﴾

[ سورة الجن ]

الأبلغ من ذلك:

﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)﴾

[ سورة الأعراف ]

أبداً، لذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام يوم القيامة: 

(( عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة, فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين, وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أني قد رأيت إخواننا، فقالوا: يا رسول الله, ألسنا بإخوانك؟ قال بل أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد، وأنا فرطهم على الحوض، فقالوا: يا رسول الله, كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك؟ قال: أرأيت لو كان لرجل خيل غر محجلة في خيل دهم بهم ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فإنهم يأتون يوم القيامة غرًّا محجلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض، ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم: ألا هلم, ألا هلم, ألا هلم. فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول: سحقًا سحقًا. ))

[ صحيح مسلم  ]

﴿وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾ هناك مخالفات في الدنيا تسوَّى بمبلغ من المال، هذه المخالفة ثمنها فرضاً مئة ألف، مليون، لكن لو أن إنساناً ارتكب خيانة عظمى لابدّ من أن يُعدم مثلاً، فهذه مخالفة لا ينفع فيها الجزاء النقدي، الإنسان حينما يقف أمام ربنا عزَّ وجل، مهما كان شأنه كبيراً في الدنيا، ومهماً يكن الشفيع كبيراً، لا الشفيع ينفعه ولا التعويض المالي ينفعه: ﴿وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً﴾ .
 

الإيمان الحقيقي باليوم الآخر يعكس كل الموازين التي أمامك:


الإنسان الصراحة أيها الإخوة؛ أحد أكبر أركان الإيمانِ الإيمان باليوم الآخر، والله الذي لا إله إلا هو حينما تؤمن بهذا اليوم إيماناً حقيقياً تنعكس الموازين كلها أمامك، قبل الإيمان بهذا اليوم ترى ذكاءك في الأخذ، أما إذا آمنت بهذا اليوم ترى الذكاء في العطاء، قبل الإيمان بهذا اليوم ترى إذا استفدت من جهود الآخرين هذا مكسب كبير، أما بعد أن تؤمن بهذا اليوم هذا هو الفوز، الناس الآن يفرحون بمكسب حرام، بمال حرام، يعد نفسه ذكياً وشاطراً حينما يأخذ ما ليس له، حينما يوهم الناس أنه على شيء وهو ليس على شيء، هذا نوعٌ من ضعف التوحيد وضعف الإيمان بالله، اتقوا هذا اليوم، هذا اليوم: 

﴿ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ(18)﴾

[ سورة الحاقة ]

كل شيء مكشوف، وكل شيء له حساب:

﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه(7)وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه(8)﴾

[ سورة الزلزلة ]

المؤمن دائماً عنده هاجس مستمر، هل هذا العمل شرعي؟ هل يرضى الله به عني؟ هل موقفي غير صحيح؟ هل أنا مؤاخذ؟ هل أُعدّ ظالماً؟ هل أُعدّ متجاوزاً لحدودي؟ هذا الصراع اليومي، الساعي، بين المؤمن ونفسه دليل قوة إيمانه، لذلك يتقلَّب المؤمن باليوم الواحد بأربعين حالاً، بينما المنافق يستقر بأربعين سنة على حال واحد.
 

لا يوجد شيء يكافئ دخول النار:


﴿وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾ أي لا يوجد شيء يكافئ، لو أراد الإنسان أن ينقذ نفسه من النار بملء الأرض ذهباً، لو أن الأرض كلها ذهب وكانت بيد إنسان استحق النار، لو أنفقها كلها لا ينجو من عذاب الله، ﴿وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾ أي شيء يكافئ دخول النار، ﴿وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ﴾ لو أنه ابن نبي:

﴿ وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)﴾

[ سورة هود ]

﴿وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ .
 

عدل الله مطلق والخلق كلهم سواسية عنده سبحانه:


عمُّ سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام عمه أبو لهب:

﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ(1)﴾

[ سورة المسد ]

حينما تؤمن بعدل الله المُطلق، وحينما تؤمن أن الخلق كلهم عند الله سواسية، قال سيدنا عمر كلمات بليغات لسيدنا سعد، من هو سيدنا سعد؟ هو من أقرب أصحاب رسول الله إلى قلب النبي، النبي عليه الصلاة والسلام ما فدَّى أحداً من أصحابه إلا سعداً، فقال له: 

(( عَنْ عَلِيٍّ   قَالَ: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ يُفَدِّي رَجُلًا بَعْدَ سَعْدٍ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي».   ))

[ صحيح البخاري ]

أن يقول نبي عظيم لصحابي جليل: فداك أبي وأمي: ((ارم سعد فداك أبي وأمي)) وكان إذا دخل على النبي عليه الصلاة والسلام يداعبه من شدة محبَّته له، يقول: 

(( عن جابر بن عبد الله:  أقْبَلَ سَعْدٌ ، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : هذا خالي فليُرِني امرُؤٌ خالَه. ))

[ صحيح الترمذي ]

ماذا قال له عمر بعد وفاة رسول الله؟ "يا سعد –دقِّقوا-لا يغرَّنك أنه قد قيل خال رسول الله فالخلق كلهم عند الله سواسية، ليس بينه وبينهم قرابةٌ إلا طاعتهم له" أي لا يوجد شيء بينك وبين الله إلا طاعتك له، فبطاعتك له ترقى إلى أعلى عليين، ومهما يكن نسبك، ومهما تكن مكانتك، ومهما تكن شهادتك، ومهما يكن حجمك الاجتماعي فإن عصيت الله عزَّ وجل تهوي إلى أسفل سافلين. 
 

مقياس ربنا عزَّ وجل يوم القيامة هو العلم والعمل:


﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)﴾

[ سورة الحجرات ]

هذا مقياس ربنا عزَّ وجل، ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ ، ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ أين النسب؟ عم النبي القرشي الهاشمي: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ هذا المقياس الدقيق، يوجد عندنا مقياس واحد العلم والعمل:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)﴾

[ سورة المجادلة ]

وقال: 

﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)﴾

[ سورة الأنعام ]

ليس في القرآن من قيمة معتمدة في الترجيح بين خلقه إلا العلم والعمل أبداً، ترقى بعلمك، رتبة العلم أعلى الرتب، وترقى بعملك، ما سوى ذلك؛ نسب، مكانة، وسامة، ذكاء هذه مقاييس الدنيا.
 

أدوات اللغة واستعمالاتها:


قال تعالى: 

﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)﴾

[ سورة البقرة ]

لدينا كلمة (إذا) وكلمة (إذ)، (إذ) ظرف فقط، أي واذكر حين فقط، وإذ ابتلى أي واذكر حين ابتلى إبراهيم ربه بكلمات، أما (إذا) ظرف متضمنٌ معنى الشرط:

﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ(1) ﴾

[ سورة النصر ]

(إذا) تعني إن، وتعني حين، وتعني سوف، ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾ إعرابها التفصيلي ظرفٌ لما يستقبل من الزمن، خافضٌ لشرطه، منصوبٌ بجوابه، مبني على السكون، في محل نصب مفعول فيه ظرف زمان. 
(إذا) فيها معنى الشرط، ومعنى الظرف، ومعنى الاستقبال، الفرق بين (إذا) وبين (إن)، (إن) لشيءٍ محتمل الوقوع:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)﴾

[ سورة الحجرات ]

هذا الفاسق قد يأتي وقد لا يأتي، أما (إذا) لتحقق الوقوع: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ أي لابّد من أن يأتي نصر الله، أدوات اللغة دقيقة جداً، (إذا) لتحقق الوقوع، (إن) لاحتمال الوقوع، (إذ) غير (إذا)، (إذ) حين، أي واذكر يا محمد حين ابتلى إبراهيم ربه بكلمات، طبعاً ابتلى من الابتلاء، والابتلاء ليس شراً، الابتلاء امتحان، إذا إنسان دارس ودخل الامتحان، ونال الدرجة العُليا، وصار طبيباً كبيراً، أو مهندساً كبيراً، أو له مكانة اجتماعيَّة عالية، فكلمة ابتلاء لا تعني أنها مصيبة، ابتلاء امتحان، أي مطلق الامتحان قد تنجح وقد لا تنجح: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ﴾ وقال:

﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)﴾

[ سورة العنكبوت ]

لابد من أن تُبتلى، سُئل الإمام الشافعي: "أندعو الله بالابتلاء أم بالتمكين؟ فقال رضي الله عنه: لن تُمكَّن قبل أن تُبتلى"
 

امتُحن النبي الكريم بامتحانات عدة فصبر وتواضع لله سبحانه:


وطِّن نفسك أيها المؤمن أنه لن يُسمح لك بدخول الجنة إلا إذا امتُحنت الامتحانات كلها، هناك امتحان الضعف، النبي امتحن بالضعف بالطائف قال: 

(( اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وهواني على الناس، أرحم الراحمين أنت أرحم الراحمين إلى من تكلني إلى عدو يتجهمني أم إلى قريب ملكته أمري، إن لم تكن غضبان عليّ فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بوجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي غضبك أو يحل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ))

[  قال الهيثمي في "مجمع الزوائد": وفيه ابن إسحاق وهو مدلس ثقة، وبقية رجاله ثقات ]

هذا امتحان القهر، كذَّبوه، وسخروا منه، وأساؤوا إليه وقال: 

(( عن عبد الله بن مسعود:  كَأَنِّي أنْظُرُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الأنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فأدْمَوْهُ، وهو يَمْسَحُ الدَّمَ عن وجْهِهِ ويقولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي؛ فإنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ. ))

[ صحيح البخاري ]

امتحن امتحان القهر فصبر، امتحن امتحان النصر فتواضع، دخل مكَّة فاتحاً، دخلها مطأطئ الرأس حتى كادت ذؤابة عمامته تُلامس عنق بعيره تواضعاً لله عزَّ وجل، بينما التاريخ يشهد أن كل الفاتحين يتغطرسون، يسفكون الدماء، يستبيحون الحُرمات، هو قال: 

(( عن العباس رضي الله عنه: مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ دَارَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فهوَ آمن. ))

[ صحيح أبي داود ]

ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
هذه واحدة. 
الآن امتُحن امتحان الفقر، دخل بيته صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: أعندكم شيء نأكله؟ قالوا: لا، قال: فإني صائم. 
هل هناك بيت من بيوتات المسلمين لا يوجد فيه شيء إطلاقاً تأكله؟ مستحيل. 
امتحن امتحان الفقر فصبر، امتحن امتحان الغنى فشكر. 
لمن هذا الوادي يا رسول الله؟ قال: هو لك ، قال: أتهزأ بي؟ قال: لا والله هو لك، قال: أشهد أنك رسول الله تعطي عطاء من لا يخشى الفقر.
امتحن بموت الولد فقال: 

(( عن أنس بن مالك:  دَخَلْنَا مع رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى أَبِي سَيْفٍ القَيْنِ، وكانَ ظِئْرًا لِإِبْرَاهِيمَ عليه السَّلَامُ، فأخَذَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إبْرَاهِيمَ، فَقَبَّلَهُ، وشَمَّهُ، ثُمَّ دَخَلْنَا عليه بَعْدَ ذلكَ وإبْرَاهِيمُ يَجُودُ بنَفْسِهِ ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تَذْرِفَانِ، فَقالَ له عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْه: وأَنْتَ يا رَسولَ اللَّهِ؟ فَقالَ: يا ابْنَ عَوْفٍ إنَّهَا رَحْمَةٌ، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بأُخْرَى، فَقالَ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، والقَلْبَ يَحْزَنُ، ولَا نَقُولُ إلَّا ما يَرْضَى رَبُّنَا، وإنَّا بفِرَاقِكَ يا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ. ))

[  صحيح البخاري ]

امتحن امتحان فقد الولد، امتحن امتحاناً قد لا يحتمله معظمكم؛ أن يقال عن زوجته إنها زانية، هذا امتحان الإفك، وانقطع الوحي أربعين يوماً وهو صابر، هذا امتحان شديد. 
امتحن امتحان الهجرة، امتحن بمؤامرات حيكت ضدَّه، وبشعراء هَجَوْهُ، قال عليه الصلاة والسلام: 

(( عن أنس رضي الله عنه: لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، وأخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أتت علي ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال. ))

[ صحيح الجامع الصغير ]

 

الثواب على قدر المشقة:


قال تعالى:

﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ(142)﴾

[ سورة آل عمران  ]

وقال: 

﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)﴾

[  سورة العنكبوت  ]

هل هناك جامعة في الأرض تقدِّم لها طلباً من سطرين: يرجى منحي درجة الدكتوراه بمرتبة امتياز وشكراً، توقيع، طابع بليرة وربع، في اليوم الثاني تأخذ دكتوراه؟ هل هناك جامعه تعطيه إياها؟ يقول لك: مت مليون ميتة حتى أخذت الشهادة، ثلاث وثلاثون سنة دراسة، ثلاث وثلاثون سنة حتى الساعة الثانية ليلاً، كم كتاباً قرأ؟ كم كتاباً ألَّف؟ كم موضوعاً أعدَّ؟ كم ساعة داوم؟ هل هناك جهة بالأرض تعطي شيئاً بلا امتحان؟ هل هناك مدرسة في الأرض لا يوجد فيها امتحانات؟ هذه الجنة التي عرضها السماوات والأرض تريدها بلا عمل؟ بركيعاتٍ جوفاء، بدريهماتٍ تلقيها في يدي فقير وانتهى الأمر وأنت مقيم على كل الشهوات؟!
 

الجنة تفرض علينا مراجعة حساباتنا لأننا الآن في دار امتحان:


إخواننا الكرام؛ نحتاج إلى مراجعة حسابات، هذه الجنة: 

﴿ أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ(59)وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ(60)وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ(61)﴾

[ سورة النجم ]

كلام مُخيف، مصير أبدي، الآن الطائع والعاصي يعيشان، ويأكلان، ويشربان، وينامان، ويسكنان في بيوت، ولهما مراكز، وعندهما تجارة، الآن الأوراق مختلطة لأننا نحن في دار امتحان، أما يوم القيامة: 

﴿ وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)﴾

[ سورة يس ]

قفوا في مكان واحد، نحن في الدنيا أثناء العام الدراسي كل الطلاب يرتدون اللباس النظامي، ويدخلون الصفوف، ويستمعون، ويلعبون، ويضحكون، أما عند النتائج فطالب يكاد يرقص من الفرح، وطالب يبكي من شدة الألم، في الدنيا يوجد امتحانات لذلك: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ﴾ ، ﴿ابتلى﴾ هو الامتحان ولابد من أن نُمتحن، ودقِّق، قُل ما شئت، أعطِ نفسك الحجم الذي تريد، لكن الله متكفِّلٌ أن يُحَجِّمك، أن يضعك في ظرفٍ دقيق دَقيق يكشف لك عن حجمك الحقيقي. 
 

يمتحن الإنسان في اليوم مئات المرات فإما أن ينجح وإما أن يرسب عند الله تعالى:


أنا لا آخذ درهماً حراماً، صح، ترفض الألف والألفين، والخمسة آلاف، والعشرة آلاف، جاءك مليونان تفكِّر، عندي أولاد، رسبت في الامتحان، فالإنسان يُمتحن والدنيا كلها امتحان، وأنت ممتحن في اليوم مئات المرات، باليوم الواحد، ممتحن بالغنى، ممتحن بالفقر، ممتحن بالزوجة، ممتحن بالولد.
قال لي أخ: عندي قطعة بمبلغ ضخم، ثمنها خمسة وعشرون ألفاً ما كانت تباع السنة الأولى، والثانية، والثالثة، والرابعة، والخامسة، من جرد إلى جرد، بعد ذلك جاء إنسان وطلبها، قال لي وأنا على السلَّم أريد أن أعطيه إياها: أصليَّة؟ هي ليست أصليَّة، قال لي: أنا تزلزلت ولكنني قلت له: لا ليست أصليَّة. قال له: أنزلها، نجح في الامتحان، تكلَّم الحقيقة ونجح، مادام الشاري عرف أنها ليست أصليَّة وقَبِلها صار البيع شرعياً، أما لو كذب عليه، قال لي: والله أعلم علم اليقين أنه لن يعلم حقيقتها، لو قلت له: أصليَّة، لا يوجد عنده وسيلة تكشف أنها ليست كذلك، ولكنه خاف من الله، فأنت ممتحن في اليوم آلاف المرَّات.
قال لي أخ من إخواننا الكرام: عندي موظَّف مهندس دخله أقل من حاجته بكثير، عشرة آلاف، ثمانية آلاف، سبعة آلاف، وجد ثمانمئة ألف في كيس أسود في أحد أحياء دمشق، قال لي: ما زال يبحث عن صاحبها حتى أعطاها له، وهو بأمس الحاجة لهذا المبلغ، هذا امتحان، دقِّق أنت ممتحنٌ كل يوم، إما أن تنجح وإما أن ترسب عند الله عزَّ وجل، أنت قُلْ عن نفسك ما شئت، أعطِ نفسك أكبر هالة لكن الله متكفِّل أن يعيدك إلى حجمك الحقيقي.
يضعك في ظرف تغضب، قد تحدّث الناس عن الحلم سنوات وسنوات، أنت لماذا غضبت؟ قد تُحدِّث الناس عن الورع، لماذا ارتكبت؟ قد تُحدّث الناس عن السخاء، لماذا بخلت؟ قد تُحدّث الناس عن التواضع، لماذا استعليت؟ الله عزَّ وجل يضع الإنسان في ظرف يُحجِّمه فيه.
 

الكلمة في القرآن تعني الأمر أو تعني الجُملة أما الكلمة في اللغة فتعطي معنىً ناقصاً:


﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ﴾ ما هي هذه الكلمات؟ المفسِّرون لهم في هذه الكلمات بعض التوجُّهات:
أولاً: باللغة عندنا مفرد وعندنا جملة، المفرد لا يفيد معنى تاماً، تقول مثلاً: تفاحة، هذا معنى غير تام، تفاحة حلوة المذاق، معنى تام، تفاحة كبيرة، معنى تام، أي الصفة والموصوف، المبتدأ والخبر، الفعل والفاعل، هذه جملة. 
المفرد لا يفيد معنى تاماً، وإن كان هناك مفارقة أنا كنت أضربها للطلاب كمثل، مثلاً كان عندنا مؤسَّسة اسمها: إعادة تسيير الخط الحديدي الحجازي، لو قلت مثلاً: المدير العام لمؤسَّسة إعادة تسيير الخط الحديدي الحجازي في القطر العربي السوري، كم كلمة؟ ثلاث عشرة كلمة ولكنها في اللغة مفرد، ماذا به؟ ما أفدت معنىً، ثلاث عشرة كلمة جاءت متتابعةً وهي في اللغة مفرد، ماذا حلَّ به؟ عُزِل؟ كُوفئ؟ عُوقب؟ أما حرف القاف جملة، قِ، من وقى، يقي، قِ، فِ، الفاء فقط جملة من وفى، يفي، فِ، يوجد أمر والفاعل ضمير مستتر، فالجملة تعطي معنىً تاماً، أما المفرد فيعطي معنىً ناقصاً، كلمة ما لها؟ أما مبتدأ وخبر جملة، فعل وفاعل جملة، أما كلمة لو جئت بعشرات الأوصاف لها ما حلَّ بها؟ المدير؛ مدير رئيس مجلس إدارة مؤسَّسة إعادة الخط الحديدي الحجازي في القطر العربي السوري، كم كلمة؟ باللغة مفرد  لم تفد معنىً تاماً، أما كلمة ( قِ ) تفيد معنىً تاماً، هذا في اللغة، أما في القرآن فالكلمة تعني الجملة، أو تعني الأمر، مثلاً:

﴿ وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً(4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِباً(5)﴾

[ سورة الكهف ]

وقال: 

﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)﴾

[ سورة البقرة ]

هذه عند الله كلمة واحدة، إذاً الكلمة في القرآن تعني الأمر أو تعني الجُملة.
 

في كل سورة من السور الأربعة التالية عشر صفات للمؤمنين:


﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ﴾ الكلمات قالوا: هناك أربع سور: 

﴿ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)﴾

[ سورة التوبة ]

هذه كلمات عَشرة، وفي سورة المؤمنون: 

﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ(1)الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ(2)وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ(3)وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ(4)وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ(5)إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ(6)فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ(7)وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ(8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ(9)أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ(10)الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(11)﴾

[  سورة المؤمنون ]

وهذه عشر كلماتٍ أُخَر. 

﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً(35)﴾

[ سورة الأحزاب ]

هذه العشرة الثالثة، والعشرة الرابعة: 

﴿ إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)  ﴾

[ سورة المعارج ]

يقول ابن عبَّاس رضي الله عنهما: "إن هذه الكلمات في هذه السور الأربعة، وكل سورة فيها عشر صفات للمؤمنين"
 

الإمام يجب أن يكون قدوة لمن حوله ومثلاً أعلى يُحتذى:


﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ﴾ أو بأوامر، أو بامتحانات، أُلقي في النار هذا ابتلاء، أُمِر أن يضع زوجته وابنه في وادٍ غير ذي زرع، هذا امتحان ثانٍ، أُمر أن يذبح ابنه،  امتحان ثالث: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾ بعد أن أتمَّهن: ﴿قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ معنى الإمام أنه أمام، إذا كان أماماً صار إماماً، إذا كان أمام من حوله في الورع، والاستقامة، والإخلاص، والتقوى، والحب صار إماماً، فالإمام يجب أن يكون أمام كل من حوله، أن يكون قدوةً لهم، ومثلاً أعلى يحتذى.
 

محبة الله عزَّ وجل دليلها اتباع الرسول الكريم:


إخواننا الكرام؛ ما دام الموضوع طُرِق: 

﴿ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)﴾

[ سورة يس ]

وقال: 

﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)﴾

[ سورة الإنسان ]

﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾ عقب الابتلاء والنجاح بالابتلاء تكون إماماً.
آياتٌ كثيرة تبيِّن أن هذا الذي ينبغي أن تتبعه يجب أن يكون مُتبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم، الله عزَّ وجل ما قَبِل دعوى محبَّته إلا بالدليل، محبة الله عزَّ وجل دليلها اتباع النبي:

﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)﴾

[ سورة آل عمران ]

وقال: 

﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)﴾

[ سورة آل عمران ]

حينما يشهد لك إنسانٌ أن الله قائمٌ بالقسط هذا إنسان يعرف الله.
 

تبليغ رسالة الله تعالى تقتضي أن تخشى الله وحده:


قال تعالى:

﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)﴾

[ سورة الأحزاب ]

لدينا صفات اسمها: صفات مترابطة مع الموصوف ترابطاً وجودياً، قد تقول: الطائرة كبيرة، والقرية كبيرة، والمعمل كبير، والأرض كبيرة، وقد تكون غالية الثمن، وهناك شيء آخر غالي الثمن، أما إذا قلت: هذه الطائرة تطير، الطيران صفةٌ ملازمةٌ للطائرة، وهذه الصفة مترابطة مع الطائرة ترابطاً وجودياً، لو ألغي طيرانها أُلغيت الطائرة، وصف الله عزَّ وجل هؤلاء الذين يدعون إلى الله: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ﴾ هم لهم آلاف الصفات، هم صادقون، هم يصلون، يصومون، يحجون، يزكون، لهم صفات كثيرة أغفلها الله كلها، أبقى على صفةٍ واحدة، لأنه إن لم تكن هذه الصفة فلا قيمة لدعوتهم، تسقط دعوتهم، ما هذه الصفة؟ ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ﴾ تصوَّر أن إنساناً يبلِّغ رسالة الله، خَشِي غير الله فسكت عن الحق إرضاءً له، أو تكلَّم بالباطل إرضاءً له، فإذا سكت الذي يُبلِّغ رسالات الله عن الحق أو تكلَّم بالباطل ماذا بقي من رسالته؟ وماذا بقي من دعوته؟ 
 

آيات تبيِّن أن الله لا يسمح لك أن تدعو إليه إلا إذا امتُحنت ونجحت في الامتحان:


هذه بعض الآيات التي تبيِّن أن الله عزَّ وجل لا يسمح لك أن تدعو إليه إلا إذا امتُحنت ونجحت في الامتحان: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ وقال: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ﴾ فلذلك ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ لذلك:

﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)﴾

[ سورة النور ]

 

النوع الأول للظلم هو ظلم النفس:


﴿قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾ طبعاً شيء طبيعي جداً هذه من فِطَرِ البشر، يتمنَّى الإنسان أن يكون ابنه استمراراً له، الإنسان الدَّيِّن يتمنى أن يكون ابنه دَيِّنَاً، هذا من فِطَر البشر ولكن الله عزَّ وجل قال له: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ كلمةٌ خطيرةٌ جداً من هو الظالم؟ هناك ظلمان؛ ظُلمٌ للنفس وظلمٌ للخلق، فإذا أشرك الإنسان ظلم نفسه، فكل مُشرك ظالم لنفسه، أشدُّ أنواع الظلم أن تُبعِد نفسك عن الله، وأن تسير في طريقٍ مناقضٍ للطريق إلى الله، مثلاً الخير كله من جهة اليمين وأنت اتجهت نحو الشمال، هذا أشد أنواع الظلم، هذا الذي حرم نفسه الدار الآخرة واستحق العذاب الأبدي هذا أكبر ظالم لنفسه، لو لم يؤذ نملة، هذا أشدّ أنواع الظلم:

﴿ فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15)﴾

[ سورة الزمر ]

أكبر نوعٍ من أنواع الظلم أن تظلم نفسك بالشرك بالله، أن تتجه إلى مخلوق، أن تُعلِّق الأمل على مخلوق، أن ترجو مخلوقاً، أن تخاف مخلوقاً، أن تتضعضع أمام مخلوق، أنت الآن أشركت، وهذا من أشد أنواع الظُلم.
كنت أضرب مثلاً ذكرته كثيراً: لك مبلغ ضخم جداً في حلب، ركبت القطار المتجه إلى حلب، قد ترتكب وأنت في هذا القطار آلاف الأخطاء، لكن القطار يمشي في طريقه إلى حلب، وسوف تأخذ هذا المبلغ، أما هناك خطأ لا يُغفر أن تركب قطار درعا، هنا لا يوجد شيء، مبلغك في حلب فرضاً، والقبض في حلب، فالشرك أن تصرف نفسك عن الله عزّ وجل، أن تتجه إلى غير الله، أن تعقد الأمل على غير الله، أن تخاف غير الله، أن ترجو غير الله، فالظالم لنفسه هو المشرك وهذا من أشد أنواع الظلم.
 

النوع الثاني للظلم هو ظلم الآخرين:


الظالم لنفسه لن يكون إماماً إطلاقاً لأنه مشرك يوجِّه الناس إلى غير الله، ييئِّسهم من رحمة الله، يغريهم بالدنيا، والظالم للآخرين بالبغي والعدوان لا يمكن أن يكون إماماً: ﴿قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ .
يوجد شيء ثان: من هو الإمام؟ قالوا: إمامٌ في الرسالة الأنبياء، وإمامٌ في الخلافة  الذين ينوبون عن الأنبياء في إلقاء العلم، والإمامة الثالثة في الصلاة، أي إماماً في الرسالة إمامة رسالة، وإمامة خلافة، وإمامة صلاة، في كل هذه الأحوال: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ فلذلك وضع القرآن الكريم حواجز، مثلاً: العلم والعمل مقياسان أساسيَّان، إذا وجد في الأسرة الواحدة ابن مؤمن وعمله طيِّب، وابن ثانٍ كافر وعمله منحرف فهذا حاجز بينهما، الحواجز التي أرادها القرآن أن تكون بين أهل الإيمان والكفر هذه حواجز مهمة جداً، لو أزلناها لاختلط الأمر، تماماً كما لو جئنا بكأس ماء نقي طاهر مع كأس ماء مجرثم ملوَّث وخلطناهما من الذي يتضرَّر وحده؟ المؤمن، المؤمن نقي مستقيم فإذا اختلط بأهل الشرك، والكفر، والانحراف، والمعاصي فهذا مما يفسد عليه دينه، فالظالم لنفسه لا يمكن أن يكون إماماً، والظالم لغيره لا يمكن أن يكون إماماً لأنه لا أحد يحبه.
والشيء الثاني: الإسلام وضع حواجز بين أهل الإيمان والكفر، ينبغي ألا تتراءى مناراتهما، فحينما يختلط المسلمون بأهل البغي والعدوان والفسق والفجور، حينما يختلطون هم  يتلوَّثون، هم يضيع عليهم دينهم، هم يفقدون الصلة بربِّهم، أما هؤلاء فهم هم لم يتأثروا.
 

ليس وارداً إطلاقاً أن يخلف الإنسان إنساناً آخر إلا إذا كان الأول أهلاً والثاني أهلاً:


﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ بحكم فطرته ومحبَّته لأولاده قال: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ بموضوع الدعوة إلى الله عزَّ وجل حصراً ليس وارداً إطلاقاً أن يخلف الإنسان إنساناً آخر إلا إذا كان الأول أهلاً والثاني أهلاً، قد يأتي، سيدنا إبراهيم كان ابنه نبياً أيضاً: ﴿قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ .
وفي درسٍ قادم إن شاء الله نتابع هذه الآيات:

﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)﴾

[ سورة البقرة ]


الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور