الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أن تحكم على نفسك أنك على حق وأن الجنة لك وحدك فهذا من باب التألِّي على الله:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثاني والأربعين من دروس سورة البقرة، ومع الآية الحادية عشرَة بعد المئة وهي قوله تعالى:
﴿ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)﴾
هذا هو كما قال عنه العلماء التألِّي على الله، أما أن تحكم على نفسك أنك على حق وحدك، وأن الجنة لك وحدك فهذا من باب التألِّي على الله.
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)﴾
وكأن الله ذمَّهم حينما وصف فِعْلَهُم بأنهم يزكُّون أنفسهم، هذا في النصوص الإسلاميَّة: ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى﴾ أي أن اليهود قالت: لن يدخل الجنَّة إلا من كان يهودياً، وأن النصارى قالت: لن يدخل الجنَّة إلا من كان نصرانياً، والمقصِّرين من المسلمين يقولون مثل قولهم: والجنَّة للمسلمين وحدهم، فهذا افتراءٌ على الله، أو تألٍّ على الله عزَّ وجل، ردَّ الله عزَّ وجل عليهم فقال: ﴿تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ﴾ والأماني بضاعة الحمقى، تمنَّ ما شئت.
رَبَطَ الله جلَّ جلاله الرجاء بالسعي أما التمني فلا يقدِّم ولا يؤخِّر:
قال تعالى:
﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)﴾
رَبَطَ الله جلَّ جلاله الرجاء بالسعي، أما التمني فلا يقدِّم ولا يؤخِّر ولا يرقى بالإنسان عند الله أبداً، بل إن كل إنسانٍ كائناً من كان يتمنَّى أن يكون غنياً جداً، بل إن كل طالبٍ كائناً من كان يتمنى أن يكون ناجحاً، إذا تمنى النجاح ولم يدرس، وإذا تمنى الغنى ولم يعمل، وإذا تمنى أن يكون عالماً ولم يطلب العلم، هذه بضاعة الحمقى: ﴿تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ﴾ والله جلَّ جلاله لا يتعامل مع التمنِّيات، بل إن الله عز وجل ذم الذي يتمنَّى، المؤمن يطلب ويسعى، علامة صدقه في طلبه سعيه، علامة صدقه في طلبه عملُه الطيِّب، علامة صدقه في عمله إخلاصه.
تقييم الناس من أقوالهم هو تقويمٌ باطل لأن الإنسان لا يقيَّم إلا من أعماله:
﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى﴾ دمج ربنا عزَّ وجل القولين في قولٍ واحد، هذه أساسها وقالت اليهود لن يدخل الجنَّة إلا من كان يهودياً، وقالت النصارى: لن يدخل الجنَّة إلا من كان نصرانياً، فدُمج القولان في قولٍ واحد: ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى﴾ وكل إنسان يتوهَّم أنه هو على حقّ وحده وما سواه على باطل، وأن الجنَّة له وحده وأن ما سواه إلى جهنَّم، فهذا ضيقٌ في الأفق، وهذا تحجيرٌ لرحمة الله عزَّ وجل.
﴿تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ إذا قال الإنسان: أنا مؤمن، عليه أن يقدِّم بُرهاناً، إذا قال: أنا ملتزم، أين التزامك؟ أنا ورع، أين ورعك؟ أنا مسلم، أين إسلامك؟ أنا تقي، أين تقواك؟ أنا محسن، أين إحسانك؟
بالمناسبة من السهل جداً أن يقيَّم الناس من أقوالهم، بل هذا تقويمٌ باطل، الإنسان حقيقةً لا يُقيَّم إلا من أعماله، قد يكون له كلامٌ كالعسل وفعلٌ كالأثل، كالصبر، وهذه الازدواجيَّة عند معظم الناس، إذا حدَّثك تُؤخذ بكلامه فإذا عاملك يسقط كلامه عندك، وحينما يكون الناس بكلامهم الطَيِّب وفعلهم القبيح يسقطون من عين الله، اجلس الآن في أي مجلس تجد فيه تبادل مديح، فإذا تفرَّق هؤلاء من في المجلس طعن بعضهم ببعض، نفاق، هذا الذي تمدحه في وجهه لماذا تذمُّه في غيبته؟ لماذا تمدحه وأنت تعلم أنه ليس على حق؟ لماذا تمدحه وتعلم أنه فاسق؟ إن الله ليغضب إذا مدح الفاسق، ومن وقَّر مبتدعاً فقد أعان على هدم الدين.
الازدواجية والنفاق من أمراض المسلمين اليوم:
إنسان مبتدع جاء بشيء ليس من الدين لماذا تبجِّله وتُعظِّمه وتُبدي أعلى درجات الاحترام له؟ أنت بهذا كنت مِعْوَلاً هدم الدين، هذه الازدواجية، هذا النفاق، هذا من أمراض المسلمين اليوم، ﴿تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أنا أحياناً أُصَدِّق طبيباً إذا نصحني أن أدع الملح مثلاً منعاً لارتفاع الضغط، لمَ لا تنصاعُ لنصيحة خالق الأكوان؟ قال الإمام الغزالي: "يا نفسُ لو أن طبيباً منعكِ من أكلةٍ تحبينها لا شكَّ أنكِ تمتنعين، أيكون الطبيب أصدق عندكِ من الله؟ إذاً ما أكفركِ! أيكون وعيد الطبيب أشد عندكِ من وعيد الله؟ إذاً ما أجهلكِ!" .
كأن الله عزَّ وجل يقول: هذه دعوى أين البرهان؟ تدَّعون أن الجنَّة لكم وحدكم؟ جيد، ما برهانكم على ذلك؟ ما العمل الذي إذا فعلتموه ارتقيتم عند الله عزَّ وجل؟ وأنت لاحظ عندما يكون الإنسان شارداً تائهاً غافلاً عن الله يناقش مؤمناً، يقول له: أنا إيماني أقوى من إيمانك، أنا إيماني بقلبي، خير إن شاء الله، بالسلوك لا يوجد انضباط أبداً، لكن إيمانه بقلبه، أخرج ديناً جديداً، العبرة بالقلب، والإنسانة الساقطة تقول كذلك، لا يوجد إنسان ساقط بسلوكه إلا ويدّعي أن إيمانه بقلبه، هذه دعوى، كأن لسان حال هؤلاء يقول: يا رب لا أحد يدخل الجنة؟! هؤلاء تمنوا دخولها ولا يدخلونها، هؤلاء تمنوا دخولها ولا يدخلونها، ألا يدخل الجنَّة أحد؟ قال الله عزَّ وجل:
﴿ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)﴾
أي طبَّق أمر الله مخلصاً، الوجه يُعَبَّر به عن الذات، أنا أبتغي بهذا العمل وجه الله، أي أبتغي ذات الله عزَّ وجل، أشرف شيء بالإنسان وجهه.
وجدته مطيعاً لله، وجدته وقَّافاً عند كلام الله، وجدته مؤتمراً بما أمر الله، منتهياً عما نهى الله عنه، يرتاد بيوت الله، يبتعد عن أماكن اللهو، يجعل دخله حلالاً، يبتعد عن الدخل الحرام، يُقيم الإسلام في بيته، أي من فرقه إلى قدمه ينطق بإسلامه، إذا حدَّثك فبالقرآن والسنة، إن نظر ضبط بصره وغَضَّه عن محارم الله، إن استمع لا يستمع إلى منكر، إن نطق لا ينطق إلا بالحق، إن تكلَّم ذكر الله، وإن سكت فكَّر في خلق الله، وإن رأى أدرك العبرة مما يرى.
أحياناً يقول لك إنسان: والله مؤمن ورب الكعبة؛ بكلامه، بجلسته، بمشيته، بنظرته، بحديثه، بمواقفه، بعلاقاته، بمعاملاته، ببيته، بعمله، أي مسلم إسلامه صارخ كيف أن السيدة عائشة سئلت عن خلق رسول الله فقالت:
(( عن عائشة رضي الله عنها: كان خُلُقُه القرآن. ))
المؤمن وقَّاف عند كتاب الله، يأتمر بما أمر، وينتهي عما عنه نهى وزجر، لا يفعل إلا ما يرضي الله.
﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ فالمحسن هذه مطلقة، محسن في كل شيء ؛ محسن في عمله المهني، محسن في بيته، محسن في أفراحه، الفرح لا يستخفُّه، محسن في أحزانه، الحزن لا يسحقه، محسن في إنفاقه ولو كان غنياً يُنفق الدرهم في مكانه الصحيح، محسن في كسب ماله لا يُخادع الناس، لا يغشُّهم، لا يحتال عليهم، لا يأكل المال بالخِداع، كلمة مطلقة ﴿مُحْسِنٌ﴾ لذلك حينما يموت المؤمن تبكي عليه السماء والأرض، والكافر إذا مات لا تبكي عليه السماء ولا الأرض:
﴿ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29)﴾
الاستسلام لأمر الله هو الاستقامة والإحسان هو العطاء:
محسن، متقن بعمله، صادق بكلامه، إذا وعد وفى، إذا حدَّث صدق، إذا عامل أنصف، قال: هذا الذي أسلم وجهه لله وهو محسن هذا الذي يدخل الجنَّة، الجنَّة لمثل هؤلاء، هذا درس لنا، أخلص لله عزَّ وجل، وطبِّق أمر الله عز وجل، وأحسن.
يوجد في هذه الآية شيء تطبيقي وشيء إنشائي، أنت مستسلم لأمر الله، طبَّقت أمر الله، لكن محسن أي هناك عطاء، أنت قدَّمت شيئاً معنى محسن أي قدَّمت شيئاً، الاستسلام هو الاستقامة، والإحسان هو العطاء، وكل واحد منا لو سأل هذا السؤال: يا نفس ماذا قدَّمتِ ليوم القيامة؟ ماذا قدَّمت للمسلمين؟ ما العمل الذي يمكن أن تعرضيه على الله عزَّ وجل؟ سؤال دقيق.
إنسان يعيش لذاته، إنسان يعيش للآخرين، أي حجمك عند الله بحجم عملك الصالح، وأنت في الدنيا هنا من أجل العمل الصالح، ﴿أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ﴾ استقام على أمر الله، نفَّذ الأمر وانتهى عما عنه نهى الله عزَّ وجل، هذه الاستقامة، وهو محسن أعطى؛ أعطى من ماله، أعطى من وقته، أعطى من علمه، أعطى من جهده، أعطى من خبرته، أعطى المسلمين، نصحهم ما غشَّهم، ما كذب عليهم، ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ﴾ إسلام الطاعة وإسلام الإخلاص، أي أطاع الله مخلصاً ثمَّ أعطى مما أعطاه الله، هل هناك إنسان ليست له ميِّزة؟ هل هناك إنسان ليست له حرفة؟ هل هناك إنسان لا يتقن شيئاً؟ المؤمن الصادق يقدِّم جزءاً من اختصاصه، من حرفته، من خبرته، مما مكَّنه الله منه لوجه الله عزَّ وجل، فالطبيب يعالج مرضى فقراء لوجه الله، والمحامِي المؤمن يتولَّى قضايا لأُناس فقراء لوجه الله، والتاجر المؤمن يؤدي زكاة ماله وينصح المسلمين، وما من حرفةٍ تستعصي عن أن تكون لوجه الله، ما من حرفةٍ تستعصي عن أن تعمل من خلالها العمل الصالح.
من فضل الله تعالى علينا أنه لا يغيِّر إن لم نغيِّر:
﴿فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ يا لطيف!! ﴿وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ دقِّق، لا خوفٌ عليهم في المستقبل لا يوجد شيء مقلق، المستقبل لصالحك، خطَّك البياني صاعد:
﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)﴾
من فضل الله إن لم تغيِّر لا يغيِّر، هذه:
﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)﴾
أي إذا كنت مرتاحاً بالتعبير الدارج لا تغيِّر لا يُغيِّر. وإذا كنت غير مرتاحٍ غيِّر ليغيِّر.
والله هذه الآية تكفي أيها الإخوة، إذا أنت مرتاحاً في بحبوحة، ليس لديك أي مشكلة، أما عندك قلق أن هذا الواقع المريح يزول عنك، لا تغيِّر لا يُغيِّر، على أحسن، أما إذا كنت تعاني من مشكلة غيِّر ليغيِّر.
أي عملٍ صالحٍ هو قرضٌ لله والذي سيرُدُّ لك هذا القرض هو خالق الأكوان:
أما هذا الذي: ﴿أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ له أجره عند ربه، ماذا تفهم منها؟ إذا قال لك طفل صغير: أجرك عندي، ماذا يعطيك؟ ما الذي معه حتى يعطيك؟ أما إذا قال لك ملك: أنا سأكرمك، الملك لا يعطي مئة ليرة ولكنه يعطي أقل شيء بيتاً، يعطي مركبة فخمة جداً أقل شيء، يعطي منصباً رفيعاً أقل شيء، فإذا قال لك الله عزَّ وجل ملك الملوك: ﴿فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ .
أي عملٍ صالحٍ على الإطلاق ؛ لأي إنسان، لأي حيوان، لأي نبات، لو سقيت نباتاً، لو أطعمت عصفوراً، لو أطعمت هرَّةً، لو رحمت إنساناً أي إنسان، لو تكلَّمت كلمةً طيِّبةً، لو ابتسمت في وجه أخيك، أي عملٍ صالحٍ على الإطلاق هو قرضٌ لله عزَّ وجل، والذي سيرُدُّ لك هذا القرض هو خالق الأكوان: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً﴾ .
أجمل ما في المؤمن أنه لا يندم على شيءٍ فاته قط:
هناك إخوان كرام تعاملوا مع الله بالإحسان إلى خلقه فرأوا من الله عزَّ وجل إكراماً لا يُصَدَّق، أنت تكرم عبادي، والله عزَّ وجل يجزيك على إكرامك هذا أعظم الجزاء، ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ في المستقبل: ﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ على الماضي.
أجمل ما في المؤمن أنه لا يندم على شيءٍ فاته قط، سيدنا الصدِّيق فيما يوصف به أنه ما ندم على شيءٍ فاته من الدنيا قط، لأنه يا رب ماذا فقد من وجدك؟ إذا وجد العبد الله عزَّ وجل وجد كل شيء، وإذا فقد الله فقد كل شيء، فإذا وصلت إلى الله يصبح كل شيء سهلاً.
﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)﴾
والكتاب واحد، ﴿وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ بربكم أليس هذا واقع المسلمين؟ كتاب واحد، نبي واحد، سُنَّةٌ واحدة، هدفٌ واحد، منهج واحد، إله واحد، والمسلمون فِرَق وطوائف، كل يدّعي أنه وحده على الحق، وكل يطعن بالآخرين.
شيءٌ ذكرته قبل دروسٍ كثيرة: أن هدف قصة بني إسرائيل في القرآن أن نأخذ حذرنا، من أن كل مرضٍ وقع فيه بنو إسرائيل نحن مرشَّحون أن نقع به، وهذا مرض من الأمراض؛ الفرقة، والمنازعة، والطعن، والتكفير، والاتهام بالشرك: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ كتابٌ واحد، نبي واحد، منهجٌ واحد، والناس متفرِّقون.
فلذلك أيها الإخوة؛ ذكرت هذا مرَّاتٍ كثيرة هناك اختلافٌ أساسه نقص المعلومات، هذا الاختلاف سهل جداً يُعالج بالمعلومات، إذا كان الاختلاف أساسه نقص المعلومات ينتهي الخلاف إذا توافرت هذه المعلومات.
وهناك اختلافٌ أساسه الحَسَد، والبَغي، وتنازع المصالح والمراكز، هذا الاختلاف أساسه الحَسد.
﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)﴾
والاختلاف الثالث اختلاف محمود، اختلاف التنافُس:
﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)﴾
إذا كانت القضيَّة أن نصل إلى أعلى درجة في الجنة، وأنا اعتقدت أن العمل الصالح وحده، وهذا اعتقد أن طلب العلم وحده، وهذا اعتقد أن تعليم العلم وحده، وهذا اعتقد أن حفظ السنة وحدها، كلام طيِّب، هذا التنافس محمود، فتنافس طبيعي لا يُحمد ولا يُذم، وتنافسٌ مذموم تنافس الحسد، والبغي، والعدوان، وتنازع المصالح والمراكز، وهناك تنافس محمود هو التنافس على بلوغ أعلى درجات الجنَّة.
الله عز وجل هو الحكم يوم القيامة وكلمته هي الفاصلة:
﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ﴾ اختلفوا وهم جميعاً ضمن الحق، أي جانبٍ في الدين أقوى، أي جانبٍ أقرب إلى الله عزَّ وجل يلزمه.
﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ لم يكن عند كفَّار العرب في الجاهليَّة توراة، ولا إنجيل، ولا أنبياء، يعبدون الأوثان، وهؤلاء قالوا مثل قول هؤلاء، شيء محيِّر أحياناً، إن أهل كتاب معهم كتاب وجاءهم رسول يتهمون الآخرين كما يتهم الذين لا يعلمون أنهم ليسوا على شيء، ﴿كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ﴾ من الذي سيحكم بينهم؟ هو الله عزَّ وجل، من الذي كلمته هي الفاصلة؟ من الذي يقول: أنتم على حق وأنتم على باطل وانتهى الأمر؟ هو الله عزَّ وجل، فلذلك لنا وقفةٌ يوم القيامة، أنت ادّعِ ما شئت، وامدح نفسك بما شئت، وأسبغ على شخصك كل صفات القداسة، كلام بكلام، لكن الله متكفِّل أن يفصل بينك وبين الآخرين يوم القيامة، جعل الله عزَّ وجل يوم القيامة يوم الفصل، يوم الدينونة، يوم الحق، ﴿فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ الله عزَّ وجل هو الحكم، وهو يعلم السرَّ وأخفى، يعلم حقيقة العمل، الإنسان أحياناً يأخذ مظهراً استعراضياً، يبدو أمام الناس أنه ولي وهو ليس كذلك، من يكشف الحقيقة؟ الله جلَّ جلاله.
أظلم الناس من يمنع الناس عن أن يصلوا إلى الله ويعبدوا ربهم:
﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)﴾
هذا اسمه استفهام إنكاري، أي ليس في الأرض إنسانٌ أشدّ ظلماً من هذا الذي يفعل كذا، أشدّ ظلماً لنفسه وأشدّ ظلماً للخلق، يظلم نفسه ويظلم الآخرين، من هو؟ ﴿مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا﴾ أي كل إنسان يمنع الناس عن أن يصلوا إلى الله، يمنع الناس عن أن يصلُّون، يمنع الناس عن أن يعبدوا ربهم، يمنع الناس عن أن يستقيموا، أي مساجد الله عز وجل قال بعضهم هذه متعلِّقة ببيت الله الحرام حينما منعوا المسلمين من أداء العمرة، وقال بعضهم: للذي خرَّب بيت المقدس بختنصَّر، وبعضهم قال: أي مسجد، وبعضهم قال: أي منعٍ لدعوةٍ إلى الله، ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام:
(( عن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: نُصِرْتُ بالرعبِ، وأُوتيتُ جوامعَ الكَلِمِ، وجُعِلَتْ لي الأرضُ مسجدًا وطهورًا، وبينا أنا نائمٌ أُتِيتُ بمفاتيحِ خزائنِ الأرضِ فَتُلَّتْ في يدي. ))
فأي مكان في الأرض مسجد، فالذي يمنع الناس عن أن يسجدوا لله عزَّ وجل، أن يخضعوا لله، أن يطبِّقوا أمر الله عزَّ وجل، إما أن تؤخذ بمعناها الواسع أي كل إنسان حال بين الناس وبين ربهم، منعهم أن ينطقوا بكلمة الحق، منع دعوةً إلى الله عزَّ وجل.
حينما يحول الإنسان بين الناس وبين طاعتهم لله فهو بذلك يحارب الله ورسوله:
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ أن نجعل هذه المساجد لله وحده:
﴿ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً(18)﴾
هذا المكان لله وحده، لا ينبغي لمن في المسجد أن يطرح فيه موضوعاً آخر، موضوعاً متعلِّقاً بالدنيا، هذا المسجد بيت الله عزَّ وجل، وما دام الإنسان جعله لله وحده لا شيء عليه أبداً، لا أحد يحاسبك إذا كنت تدخل هذا المسجد تبتغي به وجه الله، وإذا كانت كل الموضوعات متعلِّقة بالدين فقط، ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ هذا الذي يمنع مساجد الله أن يُذكر فيها اسمه، إذا اعتبرنا أن الأرض كلها مسجد أي هذا أن الذي يمنع أن يُذكر الله، يمنع أن يُقرأ القرآن، يمنع أن يصلي الإنسان، يمنع أن يُحجِّب الإنسان امرأته، هذا الذي يمنع أن تطبَّق أحكام الشريعة، مَنْ يحارب هذا الإنسان؟ يحارب خالق الأكوان.
هل يستطيع الآن جندي غِر أن يحارب أكبر دولة في العالم الآن بمنطق العصر؟ حينما يحول الإنسان بين الناس وبين طاعتهم لله يحارب من؟ يحارب الله ورسوله، من هو الطرف الآخر؟ خالق الأكوان.
بالمناسبة إذا وقف إنسان أمامكم باتجاه الشمس ونفخ نفخةً متوِّهماً أنه سيطفئها، الشمس التي يزيد حجمها عن حجم الأرض بمليون وثلاثمئة ألف مرَّة، وحرارتها على السطح ستة آلاف درجة، وطول لسان لهبها مليون كيلو متر، وحرارة مركزها عشرون مليون درجة، توجَّه إنسان على الأرض نحو الشمس ونفخ عليها نفخةً ليطفئها، ألا يحتاج إلى مستشفى للأمراض العقليَّة؟!!
الذي يحاول أن يلغي الدين هذا يريد أن يطفئ نور الله بفمه:
﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)﴾
آية بليغة جداً، أي أن هذا الذي يحاول أن يلغي الدين، أن يحارب الدين، أن يحارب الله ورسوله، أن يمنع الناس من دخول مساجد الله عزَّ وجل، أن يمنع الصلاة مثلاً، أن يمنع أن تُقام شعائر الله عزَّ وجل، هذا ماذا يفعل؟ هذا يريد أن يُطفئ نور الله بفمه، أراد آلاف الأشخاص إلغاء الدين فماتوا والدين باقٍ، الدين دين الله، وأنا أقول لكم أيها الإخوة: لا تقلق على دين الله أبداً، لا تقلق عليه أبداً، إنه دين الله، والله عزَّ وجل قادر أن ينصره على يد أي إنسان، الله سبحانه قادر أن ينصر دينه على يد أعدائه وهم لا يشعرون، لكن ما الذي ينبغي أن تقلق له؟ ما إذا سمح الله لك أن تنصره أو لا، ما إذا منحك الله شرف نصره أم لا، فقط اقلق على هذا.
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا﴾ آتيكم بمثل بسيط: قد يكون عندك صانع في المحل طلب أن يصلي فلم تسمح له وقلت له: لا يوجد صلاة عندنا، وهذه يفعلها معظم الناس، معظم المسلمين لا يسمح له أن يصلي، لا يوجد صلاة عندنا لأن لدينا أعمالاً ونحن في موسم، هذا تنطبق عليه الآية، وكذلك الأب الذي يمنع ابنه من حضور درس علم كذلك تنطبق عليه الآية: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا﴾ قالوا: خرابها إما هدمها أو تعطيل الصلاة فيها، البلاد التي تؤمن بلا إله ليس لا إله إلا الله بل لا إله هدمت بيوت الله كلها.
قبلة المريض جهة راحته وقبلة الخائف جهة أمنه وقبلة المسافر جهة دابَّته:
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ لأنهم حاربوا الله ورسوله، يعاقبهم الله عزَّ وجل بخزي في الدنيا، وعذابٍ عظيمٍ في الآخرة.
من هو الشقي؟ الشقي الذي حارب الله ورسوله، من أنت حتى تحارب الله ورسوله؟ بمنطق الأحداث هل من الممكن لإنسان أعزل أن يحارب أقوى جيش في العالَم؟ الله عزَّ وجل بثانية يجعله جثَّة هامدة، يقول لك: توقَّف قلبه فجأةً، خثرة في الدماغ:
﴿ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)﴾
إنسان سواءٌ اتجهت إلى بيت الله الحرام ﴿فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ أو حينما اتجه المسلمون إلى بيت المقدس ﴿فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ وإذا صليت في ليلةٍ غائمةٍ ولم تهتدِ إلى القبلة، فصليت باجتهادك، ثم تبيَّن لك أن هذا الاجتهاد غير صحيح الصلاة مقبولة، فثم وجه الله، لو كنت مسافراً فقبلتك جهة دابَّتك، لو كنت خائفاً فقبلتك جهة أَمْنِكَ، لو كنت مريضاً لا سمح الله فقبلتك جهة راحتك، قبلة المريض جهة راحته، وقبلة الخائف جهة أمنه، وقبلة المسافر جهة دابَّته، يمكن أن تركب طائرة من الجنوب إلى الشمال، وتصلي صلاة النفل وأنت على المقعد باتجاه الشمال، لأن قبلتك جهة الطائرة، الدين يسر، ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ﴾ أي اتجهتم إلى بيت الله الحرام أم إلى بيت المقدس، وما كان النجاشي يتجه إلى بيت الله الحرام حينما كان يصلي، فلما أراد النبي أن يصلي عليه صلاة الغائب، قالوا: أتصلي على إنسان لا يتجه إلى القبلة؟ فجاءت الآية: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ﴾ الآية لها معانٍ كثيرة، أنت اجتهدت ولم يكن معك بوصلة، لا تعرف أين القبلة، اجتهدت اجتهاداً، ثم تبيَّن لك أن الاجتهاد غلط، الصلاة مقبولة، ﴿فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ هناك إجابات كثيرة من خلال هذه الآية.
مُلْكُ المشرق والمغرب لله عزَّ وجل:
اليهود أعجبهم أن يتجه المسلمون إلى بيت المقدس، فلما أُمروا أن يتوجَّهوا إلى بيت الله الحرام نعوا عليهم ذلك، فجاءت الآية الكريمة: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ .
﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ﴾ هذا اختصاص، أي مُلْكُ المشرق لله عزَّ وجل، من الذي خلق الشرق؟ لولا أن هناك شمساً تشرق لما كان هناك شرق، من الذي خلق الشمس أساساً؟ كلمة مشرق من أين جاءت؟ من أرض تدور حول الشمس، من خلق الشمس؟ الله جلَّ جلاله فله المشرق، ومن خلق الغروب؟ الله جلَّ جلاله فله المغرب، وبعد ذلك هناك مشارق ومغارب، في كل ثانية هناك شروق في الأرض، وفي كل ثانية هناك غروب، إذا ركب الإنسان طائرة وكانت سرعتها ألفاً وستمئة كيلو متر بالساعة يبقى مع الشمس دائماً، لم يبق هناك غروب، سار بسرعة الأرض حول الشمس، والذين يسافرون إلى أمريكا يجدون أن الوقت طويل جداً على الساعات لأنه يسير مع الشمس، أحياناً تخرج من دمشق الساعة الثانية تطير خمساً وعشرين ساعة فتصل قبل المغرب لأميركا لأنك تسير مع الشمس، بالعكس طبعاً يوجد نظام ثان بالعكس، فمن الذي خلق المشرِق؟ هو الله عزَّ وجل، من الذي خلق المغرب؟ هو الله عزَّ وجل، من الذي خلق المشرقين؟ فإذا كان بيت أحدنا مرتفعاً يلاحظ أن الشمس تشرق في الشتاء من مكان وفي الصيف من مكان آخر، النهاية القصوى في الشتاء والنهاية القصوى في الصيف هذان المشرقان، وإذا كان بيته على البحر يلاحظ كذلك أن غروب الشمس في أيام الصيف من مكان وفي الشتاء من مكان آخر، فالمكان الأقصى في الصيف مغرب والمكان الأقصى في الشتاء مغرب، صار هناك مغربان ومشرقان، وكل مكان في الأرض فيه شروق وفيه غروب، صار عندنا مشرق أي جهة الشرق، ومغرب أي جهة الغرب، وصار عندنا مشرقان الحد الأقصى والأدنى بالشرق، والأقصى والأدنى بالمغرب، ومغربان، وكل يوم يوجد مشرق خاص، وكل مكان له شروق خاص.
شروق الشمس في دمشق غير بيروت هناك فرق خمس دقائق، غير بغداد، غير القاهرة، غير تونس، هذا في الأساس هو فرق الساعة، الخمس ساعات فرق شروق معنى هذا كل يوم يوجد شروق وكل مكان له شروق، هذه رب المشارق والمغارب.
القبلة ليست نقطة ولكنها خط:
هناك نهاية أي مكان أقصى للشروق، ومكان أدنى للشروق، هذه مشرقان، وهناك جهة الشرق وجهة الغرب هذا مشرق ومغرب: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ رحمته واسعة، وعلمه واسع، وأحياناً يخلق الإنسان مشكلة بلا مبرِّر، يقول لك: الجامع مائل ثلاث درجات فالصلاة فيه باطلة، من قال لك ذلك؟ لا يقول هذا إلا جاهل، الكعبة ليست نقطة ولكنَّها جهة، الكعبة نحو الجنوب، أما عين الكعبة لمن كان في بيت الله الحرام، تلاحظون أن هناك خطوطاً زرقاء دائريَّة حول الكعبة، ما دمت في بيت الله الحرام فقبلتك عين الكعبة، ينبغي أن تكون الصفوف دائريَّة، أما في مكة بيت الله الحرام هو القبلة، أما أنت في الشام فالقبلة في جهة الجنوب، انتهى الأمر، فالقبلة ليست نقطة ولكنها خط، هذه تلغي كل المشكلات، وخصومات في بعض بلاد الغرب وفي أمريكا بالذات لوجود طريقين للكعبة، طريق من هنا، وطريق من هنا، وفرق درجات بسيطة، وخصومات، وجدال، وعداوات من أجل: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ ﴾.
العقل له مهمة قبل النقل أن يتأكَّد من صحة النقل ومهمَّة بعد النقل أن يفهم النقل:
هناك من يُعَقِّد الأمور والدين يحتاج إلى تبسيط.
ذكرت لكم مرَّة أن إنساناً أسلم وجلس على يد شيخ يُعلِّمه أحكام الفقه، أبقاه في أحكام المياه ستة أشهر حتى خرج من جلده وترك الدين، التقى بعالم آخر قال له: الماء الذي تشرب منه توضَّأ منه، لخَّص له ستة أشهر بكلمة واحدة، نحن بحاجة إلى تبسيط للدين، وإلى عقلنة، وإلى تطبيق، تبسيط وعقلنة وتطبيق، أي ألا تحتقر العقل، العقل أساس، وألا ينفرد العقل بالدين، العقل له مهمة قبل النقل ومهمَّة بعد النقل، قبل النقل أن يتأكَّد من صحة النقل، بعد النقل أن يفهم النقل.
﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)﴾
سبحانه أن يتخذ ولداً، هو غني عن الصاحبة والولد، الإنسان يتخذ ولداً ليكون استمراراً له بعد الموت، الله عزَّ وجل حيّ باقٍ على الدوام:
﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)﴾
وهن العظم أي ترقُّق العظام، هذا يحتاج إلى مشي ويحتاج إلى مواد كلسيَّة، أما الإنسان في النهاية فيترقَّق عظمه، يصبح هشاً، الإنسان يتخذ ولداً، أو ينجب ولداً كي يعينه إذا تقدَّمت به السن، والله عزَّ وجل منزَّه عن أن تكون له صاحبة، الإنسان مفتقر إلى زوجته، وهي مفتقرةٌ إليه، ومفتقر إلى ولد يعينه إذا كبر، ويكون استمراراً له إذا مات، الله عزَّ وجل منزَّه عن كل هذه المعاني: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ﴾ هو منزَّه عن هذا، والتسبيح هو التنزيه والتمجيد والخضوع، وأنت متى تسبِّح الله عزَّ وجل؟ إذا نزَّهته ومجَّدته وخضعت له: ﴿بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ﴾ .
هناك أقوامٌ كثيرون رأوا معجزاتٍ حسيَّةً فلم يؤمنوا فالذي لا تهزُّه آيات الكون لا يهزُّه خرقُها:
أيها الإخوة؛
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)﴾
أي علامة تثبت أنه رسول الله، وهذا القرآن المعجز؟ أي يطالبون بشيء، نبي كريم معه كتابٌ معجز، ومعه شرحٌ لهذا الكتاب، وهناك معجزات كثيرة جاء بها: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ﴾ هل يحتمل الإنسان أن يكلِّمه الله؟
﴿ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)﴾
﴿كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ الأقوام السابقة رأوا البحر أصبح طريقاً يبساً:
﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)﴾
هناك من رأى ناقةً خرجت من الجبل، هناك من رأى نبياً كريماً وهو سيدنا إبراهيم عليه السلام أُلقي في النار فلم يحترق، هناك من رأى يد سيدنا موسى أصبحت مصباحاً منيراً:
﴿ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)﴾
هناك أقوامٌ كثيرون رأوا معجزاتٍ حسيَّةً فلم يؤمنوا، فالذي لا تهزُّه آيات الكون لا يهزُّه خرقُها.
قلوب الشاردين عن الله ومواقفهم وأقوالهم متشابهة:
﴿وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ أي قلوب الشاردين عن الله متشابهة، وأقوالهم متشابهة، مواقفهم هيَ هي، والكافر هو هوَ، والمنافق هو هوَ في كل زمان ومكان:
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)﴾
أي الحق لابس رسالته، الحق الشيء الثابت والهادف، الحق شيء ثابت إلى أبد الآبدين، وهادف نبيل، فأنت يا محمد أُرسلت بالحق، الشيء المُستقر، الشيء الثابت، الشيء الهادف، الشيء النبيل، الشيء المقدَّس، ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً﴾ ، للمؤمنين: ﴿وَنَذِيراً﴾ للكافرين، ﴿وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ﴾ أنت مبلِّغ فقط، أما المنحرف فلا تحاسب عنه، هو يحاسب عن نفسه فقط.
ليس في الإسلام مجاملات ولا أنصاف حلول فالحق حق والباطل باطل:
﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)﴾
أي ليس في الإسلام مجاملات، ولا يوجد مداهنة، ولا يوجد أنصاف حلول، ولا يوجد بالتعبير الدارج حكّ لي لأحك لك، هذا ليس وارداً أبداً، مداهنة لا يوجد، أنصاف حلول لا يوجد، حل وسط لا يوجد، تجميد مشكلة لا يوجد، الحق حق والباطل باطل: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى﴾ هدى الله الذي جاءني هو وحده الهدى: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ أحياناً يجتهد الإنسان اجتهاداً خاطئاً أن يجامل الشاردين عن الله عزَّ وجل، آخذ شيئاً مما عندهم، أستفيد منهم.
كلمة دقيقة ومثل بليغ: إذا بلعت السفينة من ماء البحر شيئاً فالبحر سوف يبتلعها كلَّها، فليحافظ المؤمن على استقامته، وعلى طهارته، وعلى صفاء قلبه، وعلى طاعته لله عزَّ وجل، والله هو الفعَّال، لا يقدِّم شيئاً من دينه أبداً، إذا كان من الممكن أن تبذل دنياك هذا شيء جيد، هذه مداراة، إذا كان من الممكن أن تبذل دنياك لدينك هذه مداراة مقبولة ومرغوب بها، أما إذا لزم الأمر أن تبذل دينك لدنياك فأنت الخاسر الأكبر، ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ .
﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ هم ليس عندهم علم، عندهم أهواء، أن المرأة نصف المجتمع يجب أن تكون في أي مكان، بأبهى زينة، هذه ليست علماً، أهواء: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾ .
الملف مدقق