الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
القرآن الكريم يعلِّمنا الوصف الدقيق:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الواحد والأربعين من دروس سورة البقرة، ومع الآية التاسعة بعد المئة، وهي قوله تعالى:
﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)﴾
أيها الإخوة الكرام؛ ﴿وَدَّ كَثِيرٌ﴾ تفيد كلمة كثيراً أنهم ليسوا جميعاً كذلك، هذه دقَّة، وهذا وصفٌ موضوعي، والقرآن الكريم يعلِّمنا هذا الوصف الدقيق، لا تقل: أهل هذه المدينة كلُّهم كاذبون، هذا كلام الجُهَّال.
لا تقل: أهل هذه الصنعة كلهم منافقون، دقِّق في أحكامك، لو قلت: إن أهل هذه الصنعة كلُّهم منافقون، كلُّهم يكذبون، وقعت في خطأ كبير، إن قلت: أكثرهم كذا، كلام دقيق، فدقق في هذه الكلمة: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ أي أكثرهم هكذا، لكن هناك استثناءاتٌ قليلة.
بحث الكافر عن التناقض عند المؤمن ليكبِّره وليشكِّكه في دينه:
﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً﴾ أي الطرف الآخر يبحث عن نقاط الضعف عند المؤمنين، يكتشف تناقضاً وهمياً في أفكارهم، يكتشف بعض الأخطاء غير المقصودة في سلوكهم فيكبِّرها ويقيم النكير عليها، ويودُّ أن يشكِّك المؤمنين في أصل دينهم.
حينما توجَّه المسلمون إلى بيت المقدس، ثم عادوا بقبلتهم إلى بيت الله الحرام، قال اليهود: إذا كانت القبلة إلى بيت المقدس هي الحق فلماذا عُدتم إلى بيت الله الحرام؟ وإن كانت القِبلة إلى بيت الله الحرام فحينما توجَّهتم إلى بيت المقدس فصلاتكم باطلة.
دائماً وأبداً الطرف الآخر يبحث عن التناقض ليكبِّر هذا التناقض، ليشكِّك المؤمن في أصل دينه، وقد ردَّ الله عليهم بأنه:
﴿ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)﴾
وقد بيَّنت في درسٍ سابق أن النسخ هو تدبير مرحلي، حكمٌ مرحلي يأتي بعده حكمٌ يتناسب مع المرحلة الثانية، فالطرف الآخر ينتظر بالمرصاد، يبحث عن تناقض، يبحث عن خطأ، هذا المعنى يقودنا إلى آيةٍ مناسبةٍ جداً يجب أن تُشرح الآن، الآية الكريمة:
﴿ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)﴾
أي حينما يُقصِّر المؤمن في عمله، حينما يتناقض في كلامه، حينما يكتب تصريحاً كاذباً للحج فرضاً، حينما يُهمل عمله، حينما يَعِد ولا يفي، ماذا يفعل؟ يفعل جريمةً. ما هي الجريمة؟ الطرف الآخر يتمسَّك بكفره، يتشبَّث به، يقول: أنا الصح، وأنت الخطأ، أنا على حق وأنت الباطل لأنك قصَّرت معه، أي مؤمن يُعدّ سفيراً للمسلمين: أنت على ثغرة من ثغر الإسلام فلا يؤتين من قبلك.
أنت مسلم وتُمثِّل هذا الدين العظيم، فحينما تُدلي بتصريحٍ كاذب فقد كذبت والمؤمن لا يكذب، يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلالِ كُلِّهَا إِلا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ.
تمسُّك المؤمن بالقيم ووضوحه في الفكر يحدث عند الطرف الآخر خللاً:
أنت حينما تعد ولا تفي بوعدك أنت جعلت الطرف الآخر يتشبَّث بكفره، ويحتقر ما أنت عليه، وينتقل احتقاره إلى دينك، فقبل أن تُدلي بتصريح،
قبل أن تُخلف الوَعد، قبل أن تُقدِّم صنعةً غير متقنة، قبل أن تُقدِّم شيئاً تافهاً، قبل أن تسلُك سلوكاً غير صحيح عدَّ للمليون لأن الطرف الآخر يبحث عن خطأ، يضع أعمالك تحت إضاءةٍ شديدة، الأضواء كلُّها مسلَّطة على المؤمن، فإذا أخطأ كُبِّرَ هذا الخطأ وصار خطأً يمسُّ هذا الدين العظيم.
دقِّق أنك لو تعاملت مع غير المسلم وأخطأت، لا يقول: فلان أخطأ معي، يقول: هكذا الإسلام؟! يُغفل اسمك ويُظهر الإسلام، لو أنك لا سمح الله ولا قدَّر أخطأت في حق مسلم يقول: فلان أخطأ معي، لا يذكر الدين، يقول: فلان أخطأ معي.
فربنا عزَّ وجل يَعرِض علينا نموذجاً من تمنيِّات هؤلاء القوم، يتمنون أن يردوكم بعد إيمانكم كافرين، ماذا يفعلون؟ يشكِّكونكم في أصل دينكم، الوحي أصل الدين، فكيف تؤمرون أن تتجهوا إلى بيت المقدس ثم ترجعون إلى مكة المكرَّمة أيهما هو الأصح؟ إن كان الصواب أن تتجهوا إلى بيت المقدس فلماذا تحوَّلتم عنه إلى بيت الله الحرام؟ وإذا كان الصواب أن تتوجَّهوا إلى بيت الله الحرام لماذا تحوَّلتم عنه إلى بيت المقدس؟ الجواب: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾ ماذا يفيدنا هذا الدرس؟ لو وسَّعنا هذا الموضوع يُفيدنا أن الطرف الآخر يُعادي الحق، ويبحث عن ثغرات ليُكبِّرها ويجعل منها قضيَّة، فأنت كمؤمن لا ينبغي أن تعطي الطرف الآخر حُجَّةً عليك، لا ينبغي أن تعطي الطرف الآخر شيئاً يتمسَّك به، لذلك المؤمن الصادق يُحدث اختلال توازن عند الطرف الآخر، مؤمن، صادق، أمين، مُتقن، متفوِّق في عمله، يفي بعهده، لا يخون ولا يكذب، هذا التمسُّك بالقيم وهذا الوضوح في الفكر وهذا الالتزام في السلوك يحدث عند الطرف الآخر خللاً لعلَّه يؤمن بهذه الطريقة.
إذا ابتعد الإنسان عن الحق وعصى الله يختل توازنه وهناك ثلاث حالات لاستعادة توازنه:
هناك معركةٌ أزليَّةٌ أبديَّةٌ بين الحق والباطل، فالمؤمن حينما يُخطئ على مرأى من كافر، يدعو الكافر إلى التشبُّث بكفره، يُعين الشيطان على الكافر، المؤمن حينما يخطئ مع الكافر يعطي الدليل للكافر أن يبقى كافراً، أما حينما يرى الكافر من المؤمن صدقاً، وأمانةً، واستقامةً، ودقَّةً، وإتقاناً، وورعاً يختل توازنه فيُسلم.
متى يدخل الناس في دين الله أفواجاً؟ حينما يرقى المؤمنون، ومتى يخرج الناس من دين الله أفواجاً؟ حينما يقصِّر المؤمنون، بتقصيرنا يخرج الناس من دين الله أفواجاً، وبصدقنا واستقامتنا وقوة حجَّتنا يدخل الناس في دين الله أفواجاً، والمؤمن مقرِّب وليس مبعِّداً، محبِّب وليس منفِّراً، هذه مهمة المؤمن، هناك من يدعو إلى الله، وهناك من ينفِّر الناس من الله عزَّ وجل، وهذه الكلمة التي يقولها معظم الناس دائماً: هؤلاء أصحاب الدين هكذا، هناك من يقول: إن كل إنسان له صلة بالدين مثلاً يُخطئ حتى يشفي غليله، والحقيقة هذا يقودنا إلى موضوع نفسي، الإنسان بفطرته ينبغي أن يكون مؤمناً، الإنسان مبرمج، مولَّف بتعبيرات حديثة مجبول، بتعبير قرآني مفطور على حبّ الحق، وعلى طاعة الله، فإذا ابتعد عن الحق وعصى الله عزَّ وجل يختل توازنه، هذا الاختلال مُزعج، كيف يستعيد هذا الاختلال؟ هناك ثلاث حالات؛ حالة واحدة صحيحة وحالتان مرضيَّتان.
1 ـ الحالة الصحيحة أن يصطلح مع الله ويتوب إليه ويستسلم لأمره ويطيعه:
الحالة الصحيحة أن يصطلح مع الله، وأن يتوب إليه، وأن ينيب إليه، وأن يستسلم لأمره، وأن يطيعه، وكل إنسان حينما يتوب يشعر أن جبالاً قد أُزيحت عن كاهله،
يشعر أن استقراراً قد ملأ قلبه، يشعر بالأمن والطمأنينة، يشعر بالثقة والرجاء، هذه طريقة من طرق أن تستعيد التوازن.
2 ـ أن تطعن بالمؤمنين لتوهم نفسك أن الناس جميعاً هكذا:
الطريقة الثانية: أن تطعن بالمؤمنين، من أجل أن توهم نفسك أن هؤلاء المتوازنين ليسوا كذلك، هذه طريقة مرضيَّة، إما أن تصطلح مع الله فتتوازن،
وإما أن تطعن بالمؤمنين لتوهم نفسك أن الناس جميعاً هكذا؛ لا يوجد واحد جيِّد. هذه طريقةٌ مرضيَّةٌ ليست صحيحة.
3 ـ أن تتعلَّق بفكرٍ ضال يُغَطِّي انحرافك:
الشيء الثالث: أن تتعلَّق بفكرٍ ضال يُغَطِّي انحرافك، أي شخص منحرف تشبَّث بمفهوم الشفاعة الساذجة، أنِ افعل ما شئت، النبي الكريم يشفع لك، فكرة مريحة جداً، أنت تفعل ما تشاء؛ تأكل المال الحرام، تعتدي على من تشاء، وأنت متوهِّم أن النبي عليه الصلاة والسلام سيشفع لك يوم القيامة ويدخلك الجنَّة، هذه الفكرة مريحة للمقصِّرين، يتعلَّق بفكرٍ خاطئ، بعقيدةٍ ضالَّة، بفهمٍ مريض سقيم، التعلق بهذه المفهومات يريح من اختل توازنه، أو الطعن بالمؤمنين يُريح من اختل توازنه؛ ولكن الصواب أن تعود إلى الله، وأن تصطلح معه، وأن تطبِّق منهج الله عزَّ وجل، عندئذٍ تستعيد توازنك وتسعد.
كلَّما توسَّع التقصير يرتاح المُقصِّر:
﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً﴾ ليستعيدوا توازنهم، هم حينما كفروا اختلّ توازنهم، لأنهم خالفوا فطرتهم، خالفوا جبلَّتهم، فلمَّا رأوا المؤمنين ملتزمين، منيبين، محبِّين، متعاونين، سعداء، هذا الشيء مقلق، فتمنوا أن يختلّ توازنهم وأن يعودوا كفَّاراً.
حدَّثني رجل يعمل في التجارة كان مُسرفاً في المعاصي، فذهب إلى بيت الله الحرام وحجَّ وتاب إلى الله، فلما عاد إلى بلده كان في جَلْسةٍ مع أصدقائه القُدامى، وهذا خطأٌ كبير، قال له أحدهم: اشرب، قال: أنا تبت إلى الله، قال له: كم كلَّفتك الحجَّة؟ قال له: حوالي خمسين ألفاً، قال له: هذه خمسون ألفاً واشرب، هذا سلوك يومي، يريد المنحرف أن يجعل كل الناس منحرفين، الكذَّاب يريد أن يجعل كل الناس كاذبين، الذي يخون الأمانة يريد أن يحمل الناس جميعاً على خيانة الأمانة، هذه حقيقة، فالمنحرف يودُّ أن ينحرف الناس معه كي يستأنس، كي يشعر أن الناس كلهم هكذا.
لذلك أحياناً تسأل طفلاً: أين الوظيفة؟ يقول وهو لا يشعر: لم نكتبها يا أستاذ، أنت كم واحد؟ يريد أن يوسِّع التقصير، كلَّما توسَّع التقصير يرتاح المُقصِّر، كل الناس هكذا، والآن الإنسان عندما يبحث عن تغطية لخلله يبحث عن القصص المنحرفة، زيد فعل كذا، لمَ لمْ تبحث عن القصص الأخرى؟ يأتي بقصَّة أن فلاناً انحرف، وفلاناً انحرف، وفلاناً انحرف ليرتاح، كأنه بهذا يشعر أن الناس كلهم هكذا، وهناك أدلَّةٌ قويَّةٌ جداً بالمقابل، فلان استقام، وفلان استقام، وفلان صدق.
الله جلّ جلاله يجعل من المؤمن داعيةً دون أن يشعر:
بالمناسبة هناك معنى دقيق جداً وهو أن الله جلّ جلاله يجعل من المؤمن داعيةً دون أن يشعر، قد يُضيِّق عليه دخله إلى درجة أنه قد لا يكفيه، يأتيه عرضٌ مُغرٍ ولكن هذا العرض فيه شبهة فيرفض، حينما يرفض المؤمن هذا العرض المغري وهو في أمس الحاجة إلى المال صار هذا المؤمن داعيةً وهو لا يشعر، داعيةً بسلوكه، صار مضرِبَ المثل، فكل ما يسوقه الله للمؤمن ويقف الموقف الكامل منه، هذا الموقف الكامل دعوةٌ إلى الله دون أن يشعر.
تجد مؤمناً ينفق من ماله القليل الشيء الكثير، إنفاق ماله دعوة، مؤمن يصبر، صبره دعوة، مؤمن يُضحي، تضحيته دعوة، مؤمن يتعرَّض لضغطٍ شديد، هذا الضغط الشديد مع ثباته على الحق دعوة، فأنت إما أن تدعو إلى الله بلسانك، ولكن الله أحياناً يجعل منك داعيةً دون أن تشعر.
أحياناً ينحاز أب وأم إلى ابنهما الضال ويقسوان على ابنهما البار بدافعٍ من الشيطان، ابنهما الضال معه، يرحبان به، يكرِّمانه، يعطيانه، يتباهون به؛ يضعان ابنهما البار الديِّن في التعتيم، لا يعبآن به، يقسوان عليه، فهذا البار على أن والديه يقسوان عليه يبرَّهم، صار دعوة، فأنت لا تعجب، قد يجعل الله منك داعيةً وأنت لا تشعر.
أحياناً يدخل إنسان السجن وهو مظلوم لحكمةٍ أرادها الله، أدخل الله عزَّ وجل نبيَّاً كريماً للسجن، فإذا هو في هذا السجن يصلي، ويذكر الله، ويُعرِّف بالله، تكون له مهمَّة هناك، فجعل الله منه دعوةً، دخل السجن وجعل منه دعوةً هناك، فلابدّ من أن يجعل الله منك داعيةً بشكلٍ أو بآخر، صبرك دعوة، عفَّتك دعوة، أمانتك دعوة، والمؤمن لابدّ من أن يكون نبراساً لبقيَّة الناس، ويجب أن يوطِّن نفسه على أنه تحت الأضواء، وأن كل من حوله ممن شرد عن الله عزَّ وجل يتربَّص به، وينتظره على موقف، فكلَّما كان إيمانك قوياً تحرَص على أن تكون مستقيماً.
النبي عليه الصلاة والسلام علَّمنا بأقواله وأفعاله الشيء الكثير:
علَّمنا النبي عليه الصلاة والسلام بأقواله وأفعاله الشيء الكثير، كان عليه الصلاة والسلام مع زوجته صفيَّة؛ فمرَّ صحابيَّان جليلان فقال لهما:
(( عَنِ صَفِيَّةَ زَوْجَ النَّبِيِّ: أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ تَزُورُهُ فِي اعْتِكَافِهِ فِي الْمَسْجِدِ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ فَقَامَ النَّبِيُّ مَعَهَا يَقْلِبُهَا، حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرَّ رَجُلانِ مِنَ الأَنْصَارِ فَسَلَّمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ: «عَلَى رِسْلِكُمَا، إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ». فَقَالا: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنَ الإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا». ))
كن واضحاً، وضِّح الأمور، دائماً وضِّح الأمور لدرجة أن الناس لا يرتابون في سلوكك، مع أنهما صحابيان جليلان:
((قَالا: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ! قَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ)) .
﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ﴾ هم حينما يحسدون المؤمنين، لا لأنهم ينفِّذون توراتهم وكتابهم المقدَّس، بل هذا الحسد من عند أنفسهم، هم يخالفون دينهم، دينهم يأمرهم أن يتبعوا النبي الكريم، لأن الله عزَّ وجل يقول:
﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)﴾
وعلامات النبي موجودة في كتبهم، ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم، توراتهم وإنجيلهم يأمرانهم أن يتبعوا النبي :
﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)﴾
لكن هذا الحسد من عند أنفسهم .
إن تمنيت عمل الآخرة فهذه غِبطة وإن تمنيت ما عند أهل الدنيا فهذا حسد:
ما الحسد؟ هذه جبلَّةٌ في الإنسان، هل هي مذمومةٌ دائماً؟ لا، جبلَّةٌ حياديَّة، خصيصةٌ حياديَّة، الإنسان مجبول على أن يتمنَّى ما عند الآخرين، أي يغار، يتمنَّى ما عند الآخرين، هذه جبلَّة، هي في الأصل حياديَّة، إن وُظِّفت في الحق كانت الغِبْطَة، أنت كإنسان ترى إنساناً أعلم منك في الدين تتمنَّى أن تكون مثله، ترى إنساناً حافظاً لكتاب الله تتمنَّى أن تكون مثله، ترى إنساناً أجرى الله على يديه الخيرات تتمنَّى أن تكون مثله، هذه جبلَّة جُبِلَ عليها الإنسان، حينما صرفها للخير ارتقى بها إلى أعلى عليين، فإذا تَمَنَّيت أن تكون من أهل الدنيا هذا حسد، إن صُبَّت هذه الخصيصة على الدنيا كانت الحسد، وإن صُبَّتْ على الآخرة كانت الغبطة، جبلَّةٌ حياديَّة لا تُمدح ولا تُذم، تُوظَّف في الخير أو في الشر، أي أن تتمنى ما عند الآخرين، أما الحسد الجانب السلبي، الجانب المنهي عنه حينما ترى إنساناً غنياً تتمنى أن يزول المال عنه: ﴿حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ﴾ وتتمنَّى بعد ذلك أن يتحوَّل المال إليك، هذه أقل سوءاً، ثم قد تفعل بيدك ما تصرف ماله إليك، هذه صارت جريمة، حينما تتمنى أن تزول النعمة عن أخيك هذا حسد، بصرف النظر عن تحوِّلها إليك أو عدم تحوُّلها إليك، وحينما تفعل بنفسك ما يُزيل النعمة عن أخيك فهذه جريمة، أما حينما تتمنى أن تكون عالماً كعلم أخيك، حافظاً كحفظ أخيك، لك عملٌ طيبٌ كعمل أخيك فهذه غِبْطَة، من هنا قال عليه الصلاة والسلام:
(( عَنْ عبد الله بن عمر : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: لا حسدَ اثنتينِ رجلٌ آتاه اللهُ مالًا فهو ينفقُ منه آناءَ الليلِ وآناءَ النهارِ، ورجلٌ آتاه اللهُ القرآنَ فهو يقومُ به آناءَ الليلِ وآناءَ النهارِ. ))
إن تمنيت عمل الآخرة فهذه غِبطة، وإن تمنيت ما عند أهل الدنيا فهذا حسد، والحسد والغبطة خصيصتان جُبِل عليهما الإنسان.
الاختلاف إما اختلاف طبيعي أو اختلاف مَرَدُّهُ الحسد أو اختلاف التنافس وهو محمود عند الهي:
﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ﴾ معنى ذلك أن الاختلاف -كما ذكرت في درسٍ سابق-قد يكون بسبب نقص المعلومات، هذا اختلاف طبيعي، وقد يكون بسبب الحسد، اليهود يعرفون النبي كما يعرفون أبناءهم، وفي كتابهم المقدَّس علامات النبي، وإشارات النبي: ﴿وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ ومع ذلك كفروا به، وكذَّبوه، وحاربوه، وعادَوْهُ حسداً من عند أنفسهم، هذا ينسحب على حياة المسلمين، هناك من الخصومات ومن العداوات ما يعود سببه إلى الحسد وحده فقط، وهذا مقياس دقيق أيها الإخوة، إذا أكرم الله أخاك المؤمن بشيء هل تعاديه؟ حينما تعاديه فقد حسدته، وحينما تعاديه وضعت نفسك في صف المنافقين:
﴿ إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50)﴾
أما إذا باركت له ذلك وضعت نفسك في خندق المؤمنين، علامة المؤمن أنك تسعد بخيرٍ ساقه الله لأخيك، المؤمنون كالجسد الواحد، أي إذا اغتنى أخوك تسعد بهذا، وصل أخوك لمنصب رفيع تسعد بذلك، حينما تُعاديه وضعت نفسك في صف المنافقين، وحينما تُبارك له وتطمئن لما أصابه من خير وضعت نفسك في صف المؤمنين.
لذلك الاختلاف اختلاف طبيعي، واختلاف مَرَدُّهُ الحسد، واختلاف التنافس وهو اختلاف محمود عند الله.
﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)﴾
أخطر مرض هو الإعراض عن الله وكل شيء يزعجك من الكافر هو أعراض الإعراض:
﴿فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾ المؤمن فوق هذه الخصومات، اعفُ عنهم، موقف المؤمن دائماً كموقف طبيب الأمراض الجلديَّة من مريض مصاب بمرض جلدي، هل يحقد عليه أم يُشفق عليه؟ بالضبط المؤمن أمام المنافقين أو الكافرين لا يحقد عليهم بل يُشفق عليهم، كما لو كنت طبيباً اختصاصياً بالأمراضِ الجلديَّة وجاءك مريض مصاب بمرض جلدي خطير ومزعج ومنفّر، لا تحقد عليه أبداً، تُشفق عليه، وهذا حال المؤمن الطيِّب، لذلك:
﴿فَاعْفُوا﴾ عن هؤلاء، مرضى، جاهل مريض، جاهل منحرف، جاهل حقود، حقده من إعراضه عن الله.
وبالمناسبة هناك مرضٌ -الكلام دقيق-مرض واحد له مئات الأعراض، فالأعراض ليست أمراضاً ولكنها أعراض مرض واحد، المرض الواحد الخطير هو الإعراض عن الله، وكل شيء يزعجك من الكافر هو أعراض الإعراض، الحسد من أعراض الإعراض، والكِبر من أعراض الإعراض، والبَغي من أعراض الإعراض، والعدوان من أعراض الإعراض، والكذب والاحتيال من أعراض الإعراض، الإعراض عن الله له آلاف الأعراض.
لذلك هذه الأعراض لا تعالج ينبغي أن يُعَالج الإعراض عن الله بالتوبة إليه والصلح معه، فالإعراض معه حسد، معه بغي، معه عدوان، معه كبر، معه تسلُّط، معه احتيال، معه مكر، معه خديعة، معه غطرسة، معه اعتزاز، حينما تُقبل على الله زالت عنك كل أعراض الإعراض فإذا أنت المسامح، العفو، الكريم، اللطيف، الرحيم، المؤمن، الطيب، البسيط.
يجب ألا تعالج أعراض الإعراض بل عالج مرض الإعراض وهذا هو الأصل:
الطبيب الماهر حينما يأتيه مريض ارتفعت حرارته، الطبيب غير الماهر يعطيه خافضاً للحرارة، ولكن الطبيب الماهر يبحث عن السبب الخفي لارتفاع الحرارة، فإذا كان التهاباً عالج الالتهاب فانخفضت الحرارة.
فأنت كطبيب لا تعالج أعراض الإعراض، عالج مرض الإعراض، عالج المرض تزول هذه الأعراض، فكل عرض يُعالج ولكن لا يشفى لأن الأصل موجود، أعطيته خافض حرارة، انتهى مفعول هذا الدواء، عادت الحرارة إلى ما كانت عليه، فإذا انتهى مفعول هذا الدواء عاد العَرَض إلى ما كان عليه، أما إذا عالجت أصل المرض زالت الأعراض بشكلٍ طبيعي، فأنت يجب ألا تعالج أعراض الإعراض، عالج مرض الإعراض هذا هو الأصل.
إنسان تطعمه فيشتكي، تطعمه فيتسوَّل، ما عرف الله، لو عرف الله عزَّ وجل واستقام على أمره لأغناه الله، ورفع رأسه، وأعطى بدل أن يأخذ، فمهما عالجت هذا المُقَصِّر مع الله عزَّ وجل، كلَّما أعطيته هل من مزيد؟ أما إذا دللته على الله، واصطلح معه، وأناب إليه رزقه الله رزقاً حسناً، فأعطى بدل أن يأخذ، ﴿فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا﴾ أي أزيلوا أثر هذا الشيء من نفوسكم، العفو لم تحاسبه على خطئه، لم تعاقبه، أما الصفح فأن تزيل هذا من نفسك.
أمر الله عزَّ وجل أن ينصر المؤمنين ولكن في وقتٍ لا يعلمه إلا الله:
﴿حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾ أمر الله عزَّ وجل أن ينصر المؤمنين، لكن هناك وقت لا نعلمه:
﴿ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)﴾
أمر الله نصر المؤمنين، إظهار الحق، إبطال الباطل، ولكن قد تكون الأمور مختلطة، أنت مؤمن، هناك إنسان آخر غير مؤمن يأكل، ويشرب، ويعيش، ويتكلَّم، ويقول ما يشتهي، متى يُفْصَلُ بين المؤمنين وغير المؤمنين؟ في وقتٍ يعلمه الله:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)﴾
﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي قدير أن يُظهر الحق، ولكنه يظهره في وقتٍ مناسب.
ألم يكن الله عزَّ وجل قادراً على أن يرسل النبي عليه الصلاة والسلام في مكانٍ ليس فيه ولا كافر؟ ممكن، لو جعل الله كل هؤلاء الكفار في قارة ثانية، وجاء النبي إلى مكة، كلهم مؤمنون، كلهم آمنوا به، لا يوجد هجرة، ولا يوجد بدر، ولا يوجد أحد، ولا يوجد الخندق، لا يوجد شيء أبداً، كلهم ذائبون في محبته لكن لم يعد هناك جنة، الطرف الثاني له فضل عليك، الطرف الثاني عندما يكيد لك وأنت تصبر ارتقيت، عندما يكيد لك وأنت تبحث عن الحقيقة ارتقيت، عندما يكيد لك وأنت تقف أمامه بكل ما تملك ارتقيت، فشاءت حكمة الله أن يصطرع الحق والباطل في كل مكان وفي كل زمان، هذا يقوي الحق، أما لو غاب الطرف الثاني يضمُر الطرف الأول.
الذي يمدحك مدحاً ساذجاً يجعلك لا ترقى أما الذي ينتقدك فيجعلك ترقى:
إذا لم يكن هناك حركة، كأن تصاب يد بكسر يوضِع لها الجبس، بعد حين تضمُر العضلات، فلو لم يكن طرف آخر يناوئ، ينتقد، يطعن، أنت تهمد، هناك حكمة إلهيَّة الحياة بهذه المعركة، أحياناً يُطْبع كتاب فيه ضلالات كثيرة جداً، هذا الكتاب مثل اللقاح، اللقاح نعطي للجسم جرثوماً مُضَعَّفاً، مما يجعل أجهزة الجسم تعمل ليلاً نهاراً كي تصنع المصل المضاد لهذا الجرثوم، صار هناك مناعة، هذه المناعة ما كان لها أن تكون لولا هذا اللُقاح، فاللقاح مفيدٌ جداً في إحداث المَناعة، فأحياناً يُطبع كتاب كله ضلالات، قال تعالى:
﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)﴾
هذا الكتاب الضال يُحدث حركة، عاد المؤمن إلى العلماء سألهم، اجتهد العلماء وردّوا عليه، عمل حركة منعشة، هذا الكتاب الضال مع أنه كله ضلالات لكن عمل حركة، لو لم يكن هناك طرف آخر فإنه يحدث ضمور، سكون، همود، تلاش، هذه حكمة الله، لا تحزن إذا كان الإنسان يناوئك، هذا يرقى بك، وبالمناسبة الذي يمدحك مدحاً ساذجاً يجعلك لا ترقى، أما الذي ينتقدك فيجعلك ترقى، لذلك قال بعض الشعراء:
عداتي لهم فضلٌ عليَّ ومنَّةٌ فلا أعدم الله لي الأعاديا
هذا العدو يراقبك، ينتقدك، لك بالمرصاد، أنت ماذا تفعل؟ تضبط أمورك، تضبط كلامك، تضبط كل شيء، فهذا الضبط سببه الطرف الآخر، على كل كما قال الإمام الغزالي: "ليس في الإمكان أبدع مما كان" .
بطولتك أن تكون مع الله وعلى الحق وما دمت على الحق فلابدّ من أن يظهر الحق:
﴿فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ والله عزَّ وجل هو الحق، والحق لابد من أن يُحقّ الحق، على الله جلَّ جلاله أن يُحِقّ الحق، قُلْ ما شئت، ادَّعِ ما شئت، اتّهم من شئت، الله متكفِّل أن يحق الحق وأن يُبطل الباطل، هذا على الله عزَّ وجل، وكلَّما جاءت ﴿على﴾ مع لفظ الجلالة أي أن الله عزَّ وجل ألزم نفسه بذلك:
﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12)﴾
وقال:
﴿ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)﴾
﴿حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ قدير أن يأتي بأمره في كل وقت، ولكن له حكمةٌ لا نعلمها، أي بطولتك أن تكون مع الله، وأن تكون على الحق، ما دمت على الحق لابد من أن يظهر الحق.
الباطل لابدّ من أن يزهق مهما كان عظيماً وكبيراً ومتعدِّداً:
قال الله عزَّ وجل:
﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)﴾
الباطل لابد من أن يزهق مهما كان عظيماً، ومهما كان كبيراً، ومهما كان متعدِّداً، مهما كان عظيماً وكبيراً ومتعدِّداً:
﴿إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً﴾ والزهوق صيغة مُبالغة، أي لابد من أن يزهق، لابد من أن يكون في الوَحل، فرعون لمَّا غرق قال هو نفسه:
﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)﴾
قال تعالى:
﴿ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)﴾
وقال:
﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)﴾
الفرض المتكرِّر الذي لا يسقط بحال هو الصلاة:
إخواننا الكرام؛ الشهادة يُنطق بها مرَّةً في العمر، تقول: أشهد أنه لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله حينما تعلن إسلامك،
والزكاة تسقط عن الفقير وتؤدَّى في العام مرَّةً، والصيام يسقط عن المريض والمسافر ويؤدَّى في العام مرَّةً، والحجُّ يسقط عن المريض وعن الفقير ويؤدَّى في العمر مرَّة، هذه أركان الإسلام؛ شهادة أن لا إله إلا الله والصيام والحج والزكاة، أما الفرض المتكرِّر الذي لا يسقط بحال هو الصلاة، قال تعالى:
﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ أي أقم الصلاة:
﴿ كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)﴾
الصلاة قرب:
﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)﴾
الصلاة ذكر:
﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)﴾
أدلة من القرآن والسُّنة على أن الصلاة طهور ونور وعقل:
الصلاة طهور تطهِّرك من كل الأدران، و:
(( عن عبد الله بن عمرو: النَّبِيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أنَّهُ ذَكرَ الصَّلاةَ يومًا فقالَ من حافَظَ عليها كانت لَه نورًا وبُرهانًا ونجاةً إلى يومِ القيامةِ ومن لَم يُحافِظ عليها لم يَكن لَه نورٌ ولا برهانٌ ولا نجاةٌ وَكانَ يومَ القيامةِ معَ فرعونَ وَهامانَ وأبَيِّ بنِ خلفٍ. ))
[ العراقي: طرح التثريب: خلاصة حكم المحدث : صحيح : أخرجه أحمد ]
تلقي في قلبك نوراً ترى فيه الحق والباطل.
﴿ أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)﴾
وقال:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)﴾
الصلاة نور، الصلاة حبور، سعادة:
(( فعَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: رجلٌ من خُزاعةَ : لَيْتَنِي صَلَّيْتُ فاستَرَحْتُ، فكأنهم عابوا ذلك عليه، فقال : سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم - يقولُ: أَقِمِ الصلاةَ يا بلالُ ! أَرِحْنا بها. ))
[ هداية الرواة: خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح ]
الصلاة عقل:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)﴾
معنى هذا أن الصلاة عقل، وقد قيل: "ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها" .
الصلاة مناجاة: لو يعلم المصلي من يناجي ما انفتل.
الصلاة مناجاة،
والصلاة حبور، والصلاة نور، والصلاة طهور، والصلاة ذكر، والصلاة قُرب، والصلاة عقل:
﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ لم يقل: وَصَلَّوا، قال:
﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ عندما يقام بناء فهو يحتاج بشكل أو بآخر إلى رخصة، يحتاج إلى حفر أساسات، يحتاج إلى هيكل إسمنتي، يحتاج إلى كسوة، يحتاج إلى أثاث، فكيف تقيم الصلاة؟ بطاعتك لله أولاً، بغض بصرك عن محارم الله، بالصدق، بالأمانة، حينما تكون كما أراد الله تقف فتصلي.
المؤمن موصول بالله باستقامته وطاعته وصدقه وأمانته وإخلاصه:
قال تعالى:
﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)﴾
الآية لها معنى ضيِّق ولها معنى واسع، حينما تأتي بطاعةٍ لله إلى المسجد، حينما تأتي بعملٍ صالح، حينما تأتي صادقاً، حينما تأتي أميناً، حينما تأتي متواضعاً، حينما تأتي محسناً وتصلي يصبح الخط ساخناً مع الله عزَّ وجل، لو كان عند أحدنا هاتف ولكنه بدون حرارة ماذا يفعل به؟ ينزعج انزعاجاً شديداً لأنه لا يوجد خط، أنت أمام كتلة من البلاستيك، أما حينما ترفع السمَّاعة فتسمع ونَّةً أي الخط ساخن، الخط مفتوح، المؤمن معه خطّ ساخنٌ مفتوح إلى الله باستقامته، وطاعته، وصدقه، وأمانته، وإخلاصه، خطُّه مع الله مفتوح وساخن، أي فيه حرارة، فلذلك العبرة أن تصلي الصلاة التي أرادها الله عزَّ وجل، ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ طبعاً هذه على الأغنياء، معنى هذا أنك مكلَّف أن تكسب المال لسدِّ حاجتك، وسدّ حاجة أهلك، ولعلَّك تكسب المال لسدّ حاجة الفُقراء، أنت حينما تؤدي زكاة مالك تسُدّ حاجة الفقراء، أي كأنك مكلَّف أن تكسب المال لسدّ حاجتك الشخصيَّة وحاجة أهلك ومن تعول، فإذا فاض مالك عن حاجتك عليك أن تدفع زكاة مالك أي تسد حاجة الفقراء، فكل إنسان يكسب المال وينفق من هذا المال في سبيل الله يرقى عند الله عزَّ وجل: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ صار لك عمل متعلِّق بالمجموع، تعاونت مع المؤمنين، كسبت مالاً يسد حاجتك وحاجة أهلك وحاجة فقراء المسلمين.
التجارة التي لا تبور هي أن تتاجر مع الله والله تعالى أرادنا أن نربح معه:
﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ المؤمن يضع اللقمة في فم زوجته تكون له يوم القيامة كجبل أُحُد، الله عزَّ وجل أرادنا أن نربح معه.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11)﴾
هذه التجارة التي لا تبور أن تتاجر مع الله، مثل بسيط: مَلِك قال لمعلِّم: أعطِ ابني دروساً وأنا أحاسبك، فهذا المعلِّم ضيِّق الأفق، بعد أن أعطاه درساً قال له: أعطني أجرته، أعطاه الابن خمسمئة ليرة، السعر مئتان فأعطاه خمسمئة، لكن الأب كان سيعطي هذا المعلِّم بيتاً ومركبةً وكل شيء سوف يعطيه، فهو قنع بعطاء العباد، أما المؤمن الصادق يطمع بما عند الله، سأل النبي الكريم أحد الصحابة فقال له:
(( عن ربيعة بن كعب: يا ربيعة سلني فأعطيك؟ فقلت: أنظرني حتى أنظر، وتذكرت أن الدنيا فانية منقطعة فقلت: يا رسول الله أسألك أن تدعو الله أن ينجيني من النار ويدخلني الجنة. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: من أمرك بهذا؟ قال: قلت: ما أمرني به أحد ولكني علمت أن الدنيا منقطعة فانية وأنت من الله بالمكان الذي أنت منه فأحببت أن تدعو الله، قال: إني فاعل فأعني بكثرة السجود. ))
[ رواه الطبراني: إسناده حسن ]
أنت حينما تخدم عباد الله لوجه الله لك عند الله أجرٌ لا يعلمه إلا الله، أما حينما لا تتحرَّك حركة إلا بالأجرة ليس لك عند الله من شيء.
مهما بدا لك الخير قليلاً فله عند الله أجرٌ كبير:
﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ ، ﴿من﴾ تفيد استغراق الأجزاء الصغيرة، هل هناك أقل من أن يجد الإنسان قشَّة صغيرة على أرض المسجد فيضعها في جيبه؟ أقل تجد نملة تسير على المغسلة فانتظرت حتى خرجت، لم تغرقها بالماء، هذا عمل صالح، ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ﴾ أطعمت هرَّةً، سقيت كلباً، غفر الله لامرأة لأنها رأت كلباً يلهث ويأكل الثرى من العطش، ملأت خفَّها ماءً وسقت الكلب فغفر الله لها، الله عزَّ وجل يكافئك على أدق الأشياء، حتى في البيت كل عمل طيب تفعله في البيت ترقى به عند الله، ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ﴾ مهما بدا لك الخير قليلاً فله عند الله أجرٌ كبير، وهذا مصداق قوله تعالى:
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه(7)وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه(8)﴾
الله عز وجل بصير بالنوايا التي وراء عملك:
﴿إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ دقِّق؛ بصير بحجم عملك، بصير بالنوايا التي وراء عملك، بصير بحجم التضحية التي ضحيت بها من أجل هذا العمل، الوقت ثمين:
﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)﴾
أحياناً يكون الإنسان في أشدّ الحاجة الماديَّة إلى المال، يعطي أخاه مبلغاً من مصروفه الشخصي، الله يقدر ذلك، والله يقدِّر كل ذلك: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ هو العليم بسر هذا العمل، العليم بالنيَّة التي وراء هذا العمل:
(( عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ». ))
إنسان أحبّ امرأة، فاشترطت عليه أن يهاجر حتى يتزوجها، فهاجر من مكة إلى المدينة، فُسُمِّيَ عند الناس: مهاجر أم قيس، هو هاجر من أجل أن يتزوَّج هذه المرأة لذلك ورد في الحديث: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ)) .
إنسان قال لك: أنا إذا انضممت للمؤمنين فسيزيد ربحي لأنهم سيصبحون زبائني جميعاً، مجيئه إلى المسجد هذا بنية أن يزداد ماله، اختلف الوضع، يقول لك: أنا أصوم لأحسِّن صحَّتي، اختلف وضع الصيام، أنا أصلي لكي تتقوَّى عضلاتي لأن الصلاة رياضة، هذه كلها أعمال تذهب فضل الطاعة:
﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)﴾
قالت اليهود: لن يدخل الجنَّة إلا من كان يهودياً، توهموا أن الجنة لهم وحدهم، والنصارى قالوا: لن يدخل الجنَّة إلا من كان نصرانياً، والمسلمون يقولون: لن يدخلها إلا من كان مسلماً، هذا دعوى، قال: ﴿تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ﴾ والأماني بضاعة الحَمْقَى، كل طالب من القُطر يتمنَّى أن ينجح، التمني سهل لا يكلف شيئاً، ﴿تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أين العمل الذي يؤهِّلكم لدخول الجنَّة؟ أين التضحية التي ضحيتم بها؟ أين الالتزام الذي التزمتم به؟ يقول لك أكثر المسلمين الآن بسذاجةٍ مضحكة: الحمد لله نحن مسلمون، نحن من أمة محمَّد.
(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ -أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا-اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا. ))
(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: مَن سلَك طريقًا يطلُبُ فيه عِلمًا سهَّل اللهُ له به طريقًا مِن طُرقِ الجنَّةِ، ومَن أبطَأ به عمَلُه لَمْ يُسرِعْ به نسَبُه . ))
[ صحيح ابن حبان أخرجه في صحيحه ]
لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم.
الله عزَّ وجل قال:
﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ(1)﴾
أبو لهب عم النبي:
﴿ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ(2)﴾
﴿تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أين البرهان؟ أكثر الناس يقول: أنا إيماني أقوى من إيمانك، لكن بيتك كله معاص، عملك كله معاص، مالك كله حرام، هذا الكلام فارغ: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ .
الآية التي نشرحها إن شاء الله في درس قادم:
﴿ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)﴾
الملف مدقق