الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الشارد عن الله لا يتمنَّى الخير للمؤمن بينما المؤمن يتمنَّى الخير لغيره:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الأربعين من دروس سورة البقرة، ومع الآية الخامسة بعد المئة، وهي قوله تعالى:
﴿ مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)﴾
أيها الإخوة الكرام؛ يتضح في هذه الآية أن الشارد عن الله عزَّ وجل لا يتمنَّى الخير للمؤمن، بينما المؤمن يتمنَّى الخير لغير المؤمن، لأن المؤمن منضبطٌ بمنهج الله، وقد سَمَت نفسه باتصالها بالله فصار يحب الخير لكل الخلق.
قول سيدنا عمر قال: دخل عميرٌ على النبي الكريم والخنزير أحبَّ إليَّ منه، من ألدِّ أعداء النبي أراد قتل النبي، فلمَّا وصل إلى المدينة وقد توشَّح سيفه، أخذه عمر وقيَّده بحمَّالة سيفه وساقه إلى النبي، وقال: يا رسول الله هذا عمير جاء يريد شرَّاً -القصَّة معروفة عندكم- قال له: دعه يا عمر، أطلقه، اقترب مني يا عمير، ما الذي جاء بك إلينا؟ ، قال له: جئت لأفدي ابني، قال له: ما هذه السيف التي على عاتقك؟ قال: قاتلها الله من سيوف وهل نفعتنا يوم بدر؟، قال له: ألم تقل لصفوان: لولا ديون ركبتني ما أطيق سدادها، ولولا أولاد أخشى عليهم العنت من بعدي لذهبت وقتلت محمداً وأرحتكم منه؟ فوقف عمير وقال: أشهد أنَّك رسول الله، لأن هذا الذي قلتُه لصفوان لا يعلمه أحدٌ إلا الله وأنت رسوله، وآمن.
تعليقي سيدنا عمر قال: دخل عميرٌ على النبي الكريم والخنزير أحبَّ إليَّ منه، وخرج من عنده وهو أحبُّ إليَّ من بعض أولادي، المؤمن يتمنى الخير لكل الخلق، وإذا كَرِه الكافر يكره عمله، لا يكره ذاته، يكره عمله، بينما الكافر كما ترون وكما تسمعون لا يتمنَّى الخير للمؤمن.
لك أن تفعل الخير مع كل الناس ولكنك لا تود إلا من تحب لأن الود متعلق بالحب:
﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ﴾ ، ﴿من﴾ في اللغة تفيد استغراق أفراد النوع، جُزئيات النوع، أي لو قلت لي: ألك رغبةٌ أن تشاركني في تجارةٍ عريضة؟ أقول لك: لا مال عندي، ما عندي هذا المال، تطلب مني ملايين، لا مال عندي، أما إذا قلت لك: ما عندي من مالٍ أي ولا ليرةٍ واحدة، ﴿من﴾ تفيد استغراق أفراد النوع، ﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ الحقيقة لك أن تصنع المعروف مع أهله ومع غير أهله، اِصنع المعروف مع أهله، ومع غير أهله، فإن أصبت أهله أصبت أهله، وإن لم تُصب أهله فأنت أهله.
لك أن تفعل الخير مع كل الناس، ولكن أنت لا تود إلا من تحب، الود متعلِّق بمن تحب، فـالمؤمن يتمنَّى الخير لكل الخلق، بينما غير المؤمن لا يتمنى ولا يحب الخير للمؤمن مهما قَلَّ.
المؤمن يتمنى الخير لغير المؤمن وبغضه له بغضٌ لعمله لا لذاته:
قال تعالى:
﴿ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)﴾
كلامي دقيق، قلت: المؤمن يتمنى الخير لكل الخلق، ولكن المؤمن ما يكون له أن يتودَّد لغير المؤمن، التودُّد أساسه الحب، فإذا كان الله لا يحب الكافرين، ولا يحب الفاسقين، ولا يحب الظالمين فكيف تحبُّ من لا يحبُّه الله؟ فلذلك يقول الله عزَّ وجل: ﴿لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ .
النقطة الثانية: ﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ لا يتمنَّون الخير، ولا يحبونكم، أي لا يتمنَّون الخير لكم بل إنهم لا يحبونكم في الأصل، مع أن المؤمن يتمنى الخير لغير المؤمن، وبغضه له بغضٌ لعمله لا لذاته، فبمجرَّد أن يعود الشارد عن الله إلى الله أحبه المؤمن، لمجرَّد أن يؤمن غير المؤمن له ما للمؤمنين وعليه ما على المؤمنين.
الخير لا يخضع لرغبة الخلق بل هو بيد الله يعطيه لمن يشاء باستحقاقٍ وبطلب:
هناك لفتةٌ في الآية دقيقةٌ: ﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ الخير من الله، لا من الغرب ولا من الشرق، وحينما توقَّعنا الخير من الشرق خاب ظنُّنا، وإذا توقَّعنا الخير من الغرب سيخيب ظنُّنا، الخير من الله وحده، هذه حقيقة، أما الساذج فيفرح.
أيها الإخوة؛ الخير الذي من عند الله وحده لا يخضع لرغبة أحد، أنت تمنى الخير لفلان أو لا تتمنى الخير، لا تمنِّيك يعطيه الخير ولا عدم تمنيك يمنعه من الخير.
﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)﴾
أي إذا أراد الله أن يُكرمك لو أراد أهل الأرض مجتمعين عكس ذلك لما استطاعوا، وإذا أراد الله بقومٍ سوءاً لو أن معك أهل الأرض جميعاً ما انتفعت بهم، الله وحده هو الذي يعطي وهو الذي يمنع، هو الذي يرفع وهو الذي يخفض، وهذا هو التوحيد، وما تعلَّمت العبيد أفضل من التوحيد، الخير لا يخضع لرغبة الخلق، الخير بيد الله يعطيه من يشاء باستحقاقٍ وبطلب.
﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)﴾
آيات من الذكر الحكيم دالة على أن الخير بيد الله يختص به من يشاء:
﴿وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ كلامٌ دقيقٌ أيها الإخوة، رحمة الله الخير من الله وحده، والخير هو رحمة الله يختص بها من يشاء، قال تعالى في آياتٍ كثيرة:
﴿ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)﴾
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)﴾
﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)﴾
﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ .
رحمة الله لمن طلبها وقدّم موجباتها وهي محجوبة عن الكافرين والظالمين والفاسقين:
الشيء الثاني؛ رحمة الله لمن طلبها:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)﴾
رحمة الله لمن قدَّم موجباتها، رحمة الله محجوبةٌ عن الكافرين، ومحجوبةٌ عن الظالمين، ومحجوبةٌ عن الفاسقين، ورحمة الله لمن طلبها: ﴿أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ﴾ رحمة الله للمحسنين:
﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)﴾
رحمة الله للطائعين، رحمة الله للمُصَّلين، رحمة الله للعابدين، رحمة الله للمُخلصين، رحمة الله للتائبين، فربنا عزَّ وجل قال: ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ هذه آيةٌ محكمة جاءت تفصيلاتها في آياتٍ كثيرة، لا يهدي القوم الفاسقين ولا الكافرين ولا الظالمين، بل يُعطي رحمته لمن يطلبها، ويعطيها لمن دفع موجباتها، وكان عليه الصلاة والسلام في أعلى درجات الأدب، فقد كان عليه الصلاة والسلام يقول: "اللَّهُمَّ إني أسألُكَ مُوجِباتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ" .
تقنين الله تقنين تأديبٍ وتربيةٍ لا تقنين عجزٍ وبخل:
﴿وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ يقول الله عز وجل في الحديث القدسي:
(( عن أبي ذر الغفاري عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فِيما رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أنَّهُ قالَ: يا عِبَادِي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَن هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَن أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَن كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنكُمْ؛ ما زَادَ ذلكَ في مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لوْ أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ؛ ما نَقَصَ ذلكَ مِن مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ؛ ما نَقَصَ ذلكَ ممَّا عِندِي إلَّا كما يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ البَحْرَ، يا عِبَادِي، إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فمَن وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ. وفي روايةٍ: إنِّي حَرَّمْتُ علَى نَفْسِي الظُّلْمَ وعلَى عِبَادِي، فلا تَظَالَمُوا. ))
أي لو أن البشر جميعاً من آدم إلى يوم القيامة، كل هؤلاء البشر وقفوا على صعيدٍ واحد، وسألني كل واحدٍ منكم مسألته ؛ واحد يريد خمسة أطنان من الذهب، خذ، ألف قصر، خذ، مليون سيارة خذ، ((مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ)) وإذا كان يبدو لكم أن في الأرض تقنيناً؛ الأمطار قليلة، المكاسب قليلة، المطالب كثيرة، هناك فقر، هناك نقص مياه، هناك نقص مواد غذائيَّة، لا يمكن أن يكون تقنين الله عزَّ وجل إلا تقنين تأديب، أما أن يكون تقنين الله عزَّ وجل تقنين عجزٍ أو تقنين بُخْلٍ فهذا لا يليق بحضرة الله عزَّ وجل:
﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)﴾
هذه حقيقة في التوحيد.
قرأت في مجلَّةٍ علميَّة أنه تمَّ اكتشاف سحابةٍ عن طريق مراصد تعمل بالأشعَّة تحت الحمراء، قال: هذه السحابة يمكن أن تملأ محيطات الأرض كلَّها ستين مرَّةً في الأربع والعشرين ساعة، أي كل أربع وعشرين ساعة هذه السحابة فيها مخزون من الماء ما يملأ محيطات الأرض مجتمعةً ستين مرَّة في اليوم:
﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)﴾
اعتقد هذا، تقنين الله تقنين تأديبٍ وتربيةٍ لا تقنين عجزٍ وبخلٍ، إذاً: ﴿وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ ، ((لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْر)) لهذا الحديث روايات عدَّة: ذلك لأن عطائي كلام، كن فيكون، وأخذي كلام، ((فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ عَزّ َوَجَلّ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ)) .
الله عزَّ وجل أجلّ وأعظم من أن يكلك إلى مخلوقٍ مثلك فالأمر كله بيده وحده سبحانه:
أيها الإخوة الكرام؛ الآية أصبحت: ﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ المؤمن يتمنى الخير لكل الخلق، وإيمانه يقيِّده عن أن يفتك بأحد:
(( عن أبي هريرة: الْإِيمَانَ قَيْدُ الْفَتْكِ، لَا يَفْتِكُ مُؤْمِنٌ. ))
لا يحب غير المؤمن الخير مهما كان قليلاً للمؤمنين، وهم يفتكون بهم كما ترون. هذه حقيقة، لكن رحمة الله لا يمكن أن تكون بمشيئة أحد من خلقه، أي الله عزَّ وجل أجلّ وأعظم من أن يَكلَكَ إلى مخلوقٍ مثلك، ولو أنه وَكَلَكَ إلى مخلوقٍ مثلك كيف يأمرك أن تعبده؟ قال تعالى:
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾
ما أمرك أن تعبده إلا بعد أن طمأنك أن الأمر كلَّه بيد الله.
من الشرك أن تعقد الآمال على غير الله أو أن تتوجه إلى غيره:
﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ رحمته تابعةٌ لمشيئته، والخير من الله وحده، لا يوجد خير في الأرض إلا من الله، وكل مسلم يعقد الآمال على غير الله سيخيب ظنُّه، وكل مسلم يتوجَّه إلى غير الله لينال منه الخير سيخيب ظنه، وهذا نوعٌ من الشرك: ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ هذه المشيئة مفصَّلة في آيات أخرى، رحمة الله عزَّ وجل محجوبةٌ عن الفاسقين، محجوبةٌ عن الكافرين، محجوبةٌ عن الظالمين، محجوبةٌ عن المتكبِّرين، محجوبةٌ عن المشركين، لمن هي مبذولة؟ لمن يطلبها، لمن يقدِّم موجباتها، لمن يكون صادقاً، لمن يكون مخلصاً، لمن يكون تائباً، لمن يكون متطهِّراً: ﴿يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ .
النسخ في اللغة أن تنقُل النص لنسخةٍ ثانية وهذا المعنى ليس مطلوباً في هذه الآية:
أيها الإخوة؛ الآية التي بعدها:
﴿ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)﴾
النسخ في اللغة أن تنقُل النص بنسخةٍ ثانية، استنسخت هذا الكتاب أي كتبت نسخةً ثانيةً عنه، هذا المعنى الأول، هذا المعنى هنا غير وارد: ﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ نستنسخ أي كل أعمالكم مسطَّرة عندنا:
﴿ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)﴾
الاستنساخ بمعنى أن كل أعمال الإنسان محفوظةٌ عند الله عزَّ وجل، سوف تُعرض عليه يوم القيامة عرضاً تفصيلياً:
﴿ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً(14)﴾
سمعت أن أحدث وسائل التحقيق مع المتهم توفيراً للوقت وإقامةً للحُجَّة أن تُعْرِض عليه فيلماً يصوِّر انحرافه وجريمته، يسكت، هل كنت في هذا الطريق مخالفاً لنظام السير؟ لا لم أكن، خذ هذه الصورة، الصورة مسكتة، هذه صورة مركبتك، وهذا رقمها، وهذا التاريخ، فربنا عزَّ وجل يعرض على الإنسان كتاب أعماله.
آيات من القرآن عن كل صغيرة وكبيرة تعرض على الإنسان في كتاب أعماله يوم القيامة:
﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً﴾ ، وقال:
﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)﴾
كتاب الأعمال: ﴿لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً﴾ يوجد في بعض البلاد المتقدِّمة صفحة بالكمبيوتر لكل مواطن، من مخالفة السير تُسجَّل عليه، ما دفع ديناً سجلوه عليه، شيء محيِّر، كل حركاته، وسكناته، وأعماله، ومخالفاته مسجَّلة عليه، إن أراد أن يسافر لا يسافر حتى يُسدد، إن أراد أن يتوظف حتى يسدِّد.
لا تكن وعاءً للعلم بل كن واعياً له فهناك فرق كبير بينهما:
﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً﴾ وقال: ﴿لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً﴾ هذا المعنى ليس مطلوباً في هذه الآية، الاستنساخ أي أخذ صورة عن كتاب، كتابة نسخة ثانية.
بالمناسبة قيل للإمام الغزالي رحمه الله تعالى: إن فلاناً حفظ كتاب الأم، كتاب دقيق جداً بالفقه. تبسَّم الإمام الغزالي وقال: "زادت نسخة" ، كونوا للعلم وعاةً، لا تكن وعاءً للعلم، كن واعياً له، فرقٌ بين أن تكون واعياً وبين أن تكون وعاءً، إذا كنت وعاءً زادت نسخة، والنسخة الأصلية أدق منك بكثير، إذا حفظت الكتاب بصماً الكتاب الأصلي أدق منك، أما إذا كنت واعياً أحكامه هذا هو المطلوب، هذه المعاني ليست مطلوبةً في هذه الآية.
النسخ بالمعنى الثاني إلغاء الحكم، ضوء الشمس يَنسخ الظلام، ألغى الظلام، الظلام يَنسخ ضوء الشمس، الإلغاء، آيةٌ منسوخة توقَّف حُكمها.
بادئ ذي بدء اعترض اليهود على المسلمين كيف أن القبلة تحوَّلت من مكَّة إلى بيت المقدس، ثم رجعت إلى مكَّة، ما هذا التبديل؟!!
الاختلاف بين الناس على أنواعٍ ثلاث:
بالمناسبة هناك موضوع دقيق جداً هو أن الاختلاف بين الناس على أنواعٍ ثلاث:
1 ـ اختلافٌ طبيعي وهو لا محمود ولا مبغوض:
اختلافٌ طبيعي سببه نقص المعلومات:
﴿ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)﴾
وقال:
﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)﴾
هذا الخلاف طبيعي لا يُمدح ولا يُذَم، خلاف نقص المعلومات حلُّه المعلومات، نحن بيوم وقفة سمعنا صوت مدفع، نتساءل: هل هو صوت مدفع أم هو تفجير بالجبل؟ طريق فيه صخرة فجَّروها أم مدفع العيد؟ وقعنا في اختلاف، اختلفنا، سمعنا في الأخبار أن غداً العيد، هذا الخبر الصادق حسم الخلاف: ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا﴾ ، وقال: ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾ بهذه البعثة. ببعثة النبيين حُسِمَ الخلاف.
2 ـ اختلاف الحسد والبغي وهو اختلاف مبغوض:
الآن بعد أن جاء النبيون وأُنزلت عليهم الكتب اختلف الناس، هذا اختلاف قذر، اختلاف الحسد والبغي:
﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)﴾
دقِّق قد نختلف بنقص المعلومات ونحن صادقون، ونحن مخلصون، ونحن أحباب، لكننا اختلفنا في هذا الموضوع لنقصٍ في معلوماتنا، ولكن قد نختلف ونحن آثمون، ونحن بعيدون عن الله عزَّ وجل، قد نختلف بسبب الحسـد، والبغي، وجلب المكاسب، وتحكيم الخصوم، هذا اختلافٌ قذر لا يحبه الله عزَّ وجل:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)﴾
وهذا دليل عدم الإخلاص، حينما تختلف مع أخيك والكتاب واحد، والسنَّة واحدة، والمنهج واحد، والإله واحد فهذا اختلاف بغي وعدوانٍ وحسد، وهذا خلافٌ يُبغضه الله عزَّ وجل، قال تعالى:
﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)﴾
3 ـ اختلاف التنافُس وهو خلاف محمود:
الخلاف الثالث خلاف محمود، خلاف التنافُس، هذا يعتقد أن أفضل شيء تعليم العلم، هذا يعتقد أن أفضل شيء تأليف الكتب، هذا يعتقد أن أفضل شيء الدعوة إلى الله، هذا يعتقد أن أفضل شيء بناء المساجد، هذا اختلاف محمود، قال تعالى:
﴿ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)﴾
وقال:
﴿ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ(61)﴾
هذا اختصَّ في التفسير، وهذا في الفقه، وهذا في الحديث، وهذا في العقائد، وهذا في خدمة الخلق، وهذا في إطعام الجائعين، وهذا في تأسيس الجمعيات الخيريَّة، هذا كلّه مقبول، اختلاف التنافس محمود، اختلاف الحسد مبغوض، الاختلاف الطبيعي اختلاف لا محمود ولا مبغوض.
النسخ بالمعنى الثاني إلغاء الحكم وهو المقصود في الآية التالية:
يبدو أن أهل الكتاب اختلفوا مع المسلمين، السبب أنهم رأوا أن الذي جاء للمسلمين من خيرٍ عن طريق رسول الله عليه الصلاة والسلام ليس عندهم مثله، هم تمسَّكوا بما عندهم وحسدوا المؤمنين فاختلفوا معهم فبدؤوا يترصَّدون لهم، ويطعنون بدينهم، ويشكِّكون في مصداقية نبيِّهم عليه الصلاة والسلام، فقال ربنا عزَّ وجل: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا﴾ هناك موضوع دقيق، قال بعضهم: لا نسخ في القرآن، انطلاقاً من أنه ينفي البداءة عن الله عزَّ وجل، ما البداء؟ طبيب وصف دواء لمريض، بعد أن وصف له الدواء واشترى المريض هذا الدواء، وبدأ يأخذ منه بعض الحَبَّات بدا للطبيب أن هذا الدواء لا يصلح له، ولابدّ من دواءٍ آخر، فأمره أن يلغي الدواء الأول وأن يأخذ الدواء الثاني. إذا كان النسخ بهذا المعنى فلا وجود له في القرآن، لا يمكن أن يبدو لله شيءٌ لم يكن بادياً له من قبل، هذه صفات البشر وليست صفات خالق البشر.
أما أن يأمر الطبيب المريض أن يأخذ حبَّات أسبرين لتمييع الدم، بعد هذا قرَّر الطبيب إجراء عملية قلب مفتوح لهذا المريض فأعطاه أمراً بإلغاء تناول الأسبرين.
حدَّثني طبيب قلب جرَّاح قال لي: حدث خطأ من المريض أخذ الأسبرين ولم يبلِّغ، ونجحت العمليَّة نجاحاً باهراً، أثناء الخياطة خياطة القلب كان الدم يخرج من الجُرح بشكلٍ غير معقول أثناء النبض، فحكم عليه بالموت ومات المريض، لأن الدم مائع، فالطبيب الذي يأمرك بأن تأخذ حبَّات الأسبرين من أجل تمييع الدم، ثم يقرِّر أن يجري عملية قلبٍ مفتوح، يعطي أمراً معاكساً، يجب أن توقف الأسبرين، فهل يُقال في مرحلةٍ عندما كان مريضاً لابدّ من تمييع الدم، فلمَّا أردنا إجراء عمليَّة لابدّ من إلغاء التمييع وإلا يموت المريض، فهذا الطبيب أمر ثم نسخ الأمر أي ألغاه، وقد يعود إليه مرَّة ثانية بعد العمليَّة، لهذا المعنى في القرآن نسخه.
الحكمة من نسخ التوجُّه إلى بيت الله الحرام وأن يحل محله التوجُّه إلى بيت المقدس:
يقول الله عزَّ وجل: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾ هناك ثلاث حالات، آيةٌ يُلغى حكمها، آيةٌ يُلغى حكمها ويأتي مكانها حكم آخر من مثلها، وآيةٌ يُلغى حكمها ويأتي حكمٌ آخر خيرٌ من الأول، ما تفصيل ذلك؟ أمر الله عزَّ وجل المسلمين بالتوجُّه لبيت المقدس، نُسِخَ التوجُّه إلى الكعبة وحلّ محله التوجه لبيت المقدس لماذا؟ طبعاً إذا توجَّه المصلي إلى بيت المقدس ليس هناك جُهد إضافي، وبالمقابل لا يُخفَّف عنه من جهدٍ آخر، عمله هكذا أو هكذا، نحو مكَّة أو نحو بيت المقدس، ولكن الله أراد من هذا النسخ نسخ التوجُّه إلى بيت الله الحرام وأن تحل محل هذه الآية التوجُّه إلى بيت المقدس، هذا الأمر من أجل أن يعلم الخلق جميعاً أن الدين الإسلامي هو دين أهل الأرض، وهو خاتم الأديان، لذلك الأديان السماويَّة مركزها في بيت المقدس، والمسلمون توجَّهوا لبيت المقدس؛ أولاً هذا الدين يستوعب كل الأديان، وثانياً بعدئذٍ ينبغي أن يتبعه الأديان كلها.
هذا النسخ لعلَّةٍ إيمانيَّةٍ محضة، ليس هناك مكان مقدَّس ولكن هناك أمراً إلهياً مقدَّساً، القدسيَّة لا في المكان ولكن في الأمر الإلهي، وأراد الله أن يمتحن المؤمنين، هناك من يتعلَّق بالمكان وهناك من يتعلَّق بخالق المكان، فهذا امتحان، أنت مع من؟ فالمؤمنون الصادقون أُمروا بالتوجّه إلى بيت المقدس فتوجَّهوا له، ثم أُمروا أن يعودوا إلى الكعبة المشرَّفة فعادوا إليها، انتهى الأمر، أنا مع خالق الأكوان ولست مع المكان لعلَّةٍ إيمانية ولحقيقة قرآنية أن القدسية في الأمر وليست في المكان، لم يتكلَّفوا شيئاً إضافياً، ولا وُضِع عنهم تكليفٌ معيَّن.
المعنى الأول لكلمة (خير منها):
﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا﴾ نُغْفل نسخها ﴿نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾ كيف تكون خيراً منها؟ الصحابة في أول إقبالهم على هذا الدين الجديد:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65)﴾
أي واحد لعشرة، إذا كان الصحابي تولَّى من ساحة المعركة والعدد كان تسعة يُحاسب بأكبر معصية وهي التولي في الزحف.
ثم قال الله عزَّ وجل:
﴿ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)﴾
كان الواحد لعشرة صار واحد لاثنين، فعندما دخل الناس في دين الله أفواجاً، هؤلاء الذين دخلوا في الإسلام ليسوا في مستوى الصحابة الأوَل، فالصحابة الأوَل كان مقياسهم واحد لعشرة، أما الداخلون في الدين بعد حين واحد لاثنين، فالخير المُطلق للصحابة واحد لعشرة، والخير المطلق لمن جاء بعدهم واحد لاثنين، صار هناك نسخ، الأول خير والثاني خير، أما الأول خير لهؤلاء النخبة المتفوِّقين السابقين، والحكم الثاني خير للاحقين.
المعنى الثاني لكلمة (خير منها):
هناك معنى ثانٍ: قال الله عزَّ وجل:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)﴾
وفي آية أخرى:
﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)﴾
حقَّ تقاته أن تبذل كل ما في وسعك، "يا أبا بكر ماذا أبقيت لنفسك؟ قال: الله ورسوله" بعد هذا: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ بالبذل والعطاء بقدر ما تستطيع، ما كلَّفك الله عزَّ وجل ما لا تطيق، فالحالة الأولى للأوائل خير ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ أي ابذل كل شيءٍ في سبيل الله، الحالة الثانية بقدر ما تستطيع.
هناك نقطة دقيقة: مسيلمة الكذَّاب الذي ادَّعى النبوَّة كانت دعوته في وقتٍ مبكِّر، قبض على صحابيين وقال للأول: "أتشهد أني رسول الله؟ قال: ما أسمع شيئاً فقتله، قال للثاني: أتشهد أني رسول الله؟ قال: أشهد أنك رسول الله" .
ماذا كان تعليق النبي عليه الصلاة والسلام؟ تعليقٌ رائع، فقال عليه الصلاة والسلام: أما الأول فقد أعزَّ دين الله فأعزَّه الله – والثاني؟-وأما الثاني فقد قَبِل رخصة الله" .
الأول أعزَّ دين الله والثاني مقبول، الثاني قَبِلَ هذه الرخصة، الأول أعزَّ دين الله لكن أحدهما قبض بالدولار والثاني بالتركي، الاثنان لهم أجر، أما الأول فقد أعزَّ دين الله فأعزَّه الله، وأما الثاني فقد قَبِل رخصة الله عزَّ وجل.
علَّة أي أمرٍ أنه أمر من الله عزَّ وجل:
أيها الإخوة؛ الشيء الدقيق علَّة الأمر أنه أمرٌ صادرٌ عن الله، علَّة أي أمرٍ أنه أمر.
سمعت أن أحد علماء هذه البلدة الطيِّبة كان في أمريكا، وجرى نقاشٌ وحوارٌ بينه وبين عالمٍ قد أسلم حديثاً، وطُرِح موضوع لحم الخنزير، فهذا العالِم أجاد وأطال وأحسن في شرح حكمة تحريم لحم الخنزير، أما هذا العالِم الذي أسلم حديثاً قال له كلمة رائعة، قال له: "يا أستاذ كان يكفيك أن تقول لي إن الله حرَّمه" يكفي هذا، إذا كان خالق السماوات والأرض قد حرَّم شيئاً كل الشر فيه، من دون تفاصيل.
امرأة تعمل في الجامعة في مصر اختصاصها أعتقد علم نفس سألوها: ما قولك في تعدُّد الزوجات؟ فقالت: "كيف أُدلي برأيٍ وقد سمح الله به؟" هذا هو المؤمن.
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)﴾
فعلَّة أي أمرٍ أنه أمر من الله عزَّ وجل.
السجود لآدم، التعظيم، لأن الله أمر أن يسجد الملائكة له، التعظيم لورود الأمر بالسجود، وأنت حينما تُعظِّم الحجر الأسود لأن الله أمرنا أن نُعَظِّمه عن طريق النبي عليه الصلاة والسلام، فدائماً التقديس لأمر الله في السجود لا لآدم بالذات، لا يوجد مكان مقدَّس، ولا يوجد زمان مقدس، ولا يوجد شخص مقدَّس لكن أمر الله هو المُقدَّس، وأنت تنصاع لأمر الله.
وهناك حكمة ثانية أن البيوت بيوت الله عزَّ وجل في بقاع الأرض قد أُنشئت باختيار الخلق، بهذا المكان الذين بنوا هذا المسجد جزاهم الله خيراً اختاروا هذا المكان، والذين بنوا المسجد الأول اختاروا هذا المكان، فكل المساجد في الأرض باختيار الخلق، لكن البيت الحرام باختيار الرب.
﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)﴾
فالله عزَّ وجل أمر كل هؤلاء المساجد التي أنشئت باختيار الخلق أن تتجه إلى المسجد الذي اختاره الله عزَّ وجل، هذا للتعبير عن وحدة المسلمين، وعن وحدة المَصدر، المصدر هو الله عزَّ وجل.
الآيات المنسوخة تعليمٌ لنا أنك إذا دعوت إلى الله فخُذ الأمر بالتدريج لا بالشدَّة:
﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي إذا كان هناك آية نُسخت لحكمة بالغة، وإذا كان هناك آية نُسخَت أُلغي حكمها كلياً لحكمةٍ بالغة، نُسخت وحلَّ محلَّها آيةٌ مساويةٌ لها لحكمةٍ بالغة، نُسخت وحلَّ محلها آيةٌ فيها خيرٌ أكثر، فيها خيرٌ أكثر للذين جاؤوا من بعدهم.
الآن ممكن تعطي سؤالاً يُعَد مثالياً لشعبة عاديَّة، يمكن أن تلغي السؤال الأول وتعطي سؤالاً آخر أصعب بكثير لشعبة متفوِّقة، السؤال الأول للشعبة المتفوِّقة يُحتقر، الطالب يحتقر كل الامتحان، إذا قلت لك: ما مجموع اثنين وثلاثة؟ خمسة، صفِّقوا له، ما هذه صفقوا له؟ إذا كانت شعبة رياضيات متفوِّقة، اثنان وثلاثة خمسة صفقوا له!! لابّد من سؤال دقيق فيه تحدّ، فأحياناً تكون المرحلة تقتضي هذا الحكم، بمرحلة ثانية حكم آخر، هذا تعليم لنا.
الله عز وجل هذه الخمرة التي هي كلُّها شر، جُمِع الشر كله في بيت وأُرتج عليه فكان مفتاحه السُّكر، يروون قصَّة رمزيَّة أن إنساناً خُيِّر بين أن يزني، وبين أن يقتل، وبين أن يشرب الخمر، توهَّم أن أهون شيء شرب الخمر فاختار شرب الخمر فزنى وقتل بعدها، هذه الخمرة التي هي أم الخبائث كيف حرَّمها الله؟ بالتدريج، قال تعالى:
﴿ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)﴾
أي مادَّة مسكرة، ﴿وَرِزْقاً حَسَناً﴾ معنى هذا أن السَّكر رزق غير حسن، هذه أول إشارة، ثم يقول الله عزَّ وجل:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)﴾
كان مسموحاً للإنسان أن يشرب بين الصلوات، ثم قال الله عزَّ وجل:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)﴾
هذا نسخ تدريجي، لا يجوز أن يعود الحُكم الذي نُسِخ الآن، ولكن بقاء هذه الآيات المنسوخة تعليمٌ لنا أنك إذا دعوت إلى الله فخُذ الأمر بالتدريج لا تأخذه بالشدَّة والعُنف.
دعا أحدهم عدداً من غير المسلمين إلى الإسلام فأسلموا، كلهم رجال، أمرهم أول شيء بالطهور، رفضوا الدخول في هذا الدين، خذ الأمر بالتدريج.
القرآن نزل بالتدريج والتحريم بدأ بالتدريج وهذه حكمة الله عزَّ وجل:
﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي الله قادر أن يعطي الأحكام الشديدة دفعة واحدة، والتحريم بدأ بالتدريج، وهذه حكمة الله عزَّ وجل، أي خذ الأمر بالتدريج ، لذلك تحتاج الدعوة إلى الله كما يقولون إلى التدرُّج لا إلى الطَّفرة، إلى التربية لا إلى التَعْرِيَة، الإحسان قبل البيان، القدوة قبل الدعوة، الأصول قبل الفروع:
﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)﴾
الأمر كلَّه بيد الله، فأنت تتلقَّى هذا المنهج من رسول الله وهو قمة في الكمال، قمة في الآية التي لم تُنسخ، وقمة الكمال في الآية التي نُسِخَت ولم يأتِ مكانها بديل، وقمَّةٌ في الآية التي نُسخت وجاء البديل مساوياً لها، وقمةٌ في الآية التي نُسخت وجاء البديل أفضل منها نسبياً كما ذكرت، أصحاب النبي المتفوِّقون، السابقون السابقون واحد لعشرة، هذه الآية نُسخت، دخل الناس بعدئذٍ في دين الله أفواجاً، علم أن فيكم ضعفاً صار واحد مقابل اثنين.
الاستقامة حَديَّة أما العمل الصالح نِسبي:
أصحاب النبي: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ دخل الناس في دين الله أفواجاً: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ أي بالإنفاق، بالترك واحد:
﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)﴾
الاستقامة حَديَّة، والعمل الصالح نِسبي، أي شخص جاء في آخر الزمان يجب أن يستقيم على أمر الله كما استقام النبي العدنان، أما في البذل والعطاء الصحابة الكرام ﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ ، نحن ﴿مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ بالبذل والعطاء، بقدر طاقة الإنسان.
أوضح مثل: مستودع إحكامه حَدِّي، أما إملاؤه نسبي، لابد من أن يكون محكماً، لا يوجد بالإحكام حلّ وسط، محكم أي محكم، أما إملاؤه بقدر ما معك، تملأ فيه مئة لتر، مئتي لتر، ألف لتر، فالعمل الصالح نسبي بقدر ما تستطيع، أما الاستقامة فحديَّة.
فحوى دعوة الأنبياء جميعاً واحدة ولكن التشريعات متفاوتة:
أهم شيء في هذا الدرس أنه لا نسخ في العقائد، مستحيل، النسخ في الأحكام فقط، العقائد لا تتبدَّل ولا تتغيَّر، حتى الأديان في جوهرها واحد:
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)﴾
تُبيِّن هذه الآية أن فحوى دعوة الأنبياء جميعاً واحدة، ولكن التشريعات متفاوتة، كل ديانةٍ تنسخ التي قبلها، لكن هل يعقل أن تكون التي قبلها غير جيِّدة؟ لا، لأهلها ولأصحابها قمَّةٌ في الكمال.
دائماً تعطي ابنك سؤالاً وهو في الصف الثالث الابتدائي غير الصف السادس، غير الصف السابع، غير الصف العاشر، غير دكتوراه بالرياضيات، كل مستوى له منهج، فالأديان السماويَّة متساوية في العقائد والتوحيد، والدليل: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ أما في المناهج فمختلفة.
سيدنا موسى نزل عليه تشريع، وجاء السيد المسيح، ثم جاء سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، فالتشريع الإسلامي خاتم الشرائع السماويَّة:
﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)﴾
الشيء الثاني؛ لا نسخ في العقائد ولا نسخ في الأخبار عن الله عزَّ وجل، فإذا أخبرنا الله عزَّ وجل عن شيء مستحيل أن ينسخ هذا الخبر، فالنسخ ممنوع في العقائد والأخبار، مسموح توقيفاً عن الله عزَّ وجل، مسموح في التشريعات.
الملف مدقق