الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس السابع والثلاثين من سورة البقرة، ومع الآية السابعة والتسعين وهي قوله تعالى:
﴿ قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)﴾
أيها الإخوة الكرام؛ أراد الله في هذه الآية الكريمة أن يبيِّن لنا حقيقةً خطيرة في العقيدة وهي أن العداوة لا تتجزَّأ، وأن الولاء لا يتجزَّأ.
أنت مع من؟ إن كنت مع الله فينبغي أن تكون مع رسوله، وإن كنت مع رسوله فينبغي أن تكون مع أصحابه الكرام الذين أثنى عليهم النبي عليه الصلاة والسلام، إن كنت مع أصحابه الكرام فأنت مع أهل الحق، هناك معركةٌ أزليَّةٌ أبديَّة بين الحق والباطل، فلابدّ من أن تكون موالياً للحق متبرِّئاً من الباطل، فأما أن تقول: أنا أحبّ النبي ولا أحبّ أصحابه، أو أنا أؤمن بالله وأكره جبريل، هذه التفرقة لا وجود لها، الحق لا يتجزَّأ.
أنت مع من؟ إن كنت مع الحق فأنت مع الكل، وإن كان هذا الإنسان الشارد مع الباطل فهو مع أعداء الدين جميعاً، إما في خندق أهل الإيمان وإما في خندق أهل الكُفْران، إما مع الحق وإما مع الباطل، والدليل أن في الحياة اتجاهين، إن لم تكن على أحدهما فأنت على الآخر قطعاً، والدليل على ذلك قول الله عزَّ وجل:
﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)﴾
المعركة بين الحق والباطل أزليَّة أبديَّة ولابدّ من الولاء والبراء:
قال تعالى:
﴿ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)﴾
بعد الحق هناك ضلال، لأنه بين نقطتين لا يُرْسَم إلا مستقيمٌ واحد، فمهما وصلت بين النقطتين تأتي كل هذه المستقيمات فوق بعضها بعضاً، فالحق لا يتجزَّأ، أما الباطل فيتعدَّد، لأن الخطوط المُنحرفة والمنحنية والمنكسرة كثيرةٌ جداً، لذلك أشار ربنا عزَّ وجل إلى هذه الحقيقة:
﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)﴾
الظلمات جمع، ﴿إِلَى النُّورِ﴾ النور واحد:
﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)﴾
الحق لا يتعدَّد، الباطل كثير جداً، هناك باطل اعتقادي، هناك باطل سلوكي، هناك باطل انحرافه خمس درجات، عشر درجات، مئة درجة، هناك إلحاد، الباطل يتعدَّد، وهناك معركةٌ أزليَّةٌ أبديَّةٌ بين الحق والباطل، ولابدّ من الولاء والبراء، إن واليت الله يجب أن توالي رسول الله، أعداء الدين ينفذون إلى التفرقة، أي أنا أريد القرآن لا أريد السنَّة، من قال لك ذلك؟ إذا كان القرآن الكريم يقول:
﴿ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)﴾
فأنت إن رفضت سُنَّة النبي رفضت القرآن، القرآن، وسنة النبي العدنان، وسيرة صحابته الكرام، وسيرة السلف الصالح من المؤمنين والعلماء العاملين، هذا هو الحق، والباطل كل انحرافٍ عن منهج الله ورفضٍ لأوامره فهو كفرٌ، فهذه التفرقة تفرقةٌ لا وجود لها، مفتعلة، يؤكِّد هذا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلَّم:
(( عن ابن عمر رضي الله عنه: فَالنَّاسُ رَجُلانِ بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ. ))
هذه حقيقة.
الرسالات فحواها واحدة ومضمونها واحد:
﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ الذي يؤمن برسول الله يجب أن يؤمن بالسيِّد المسيح عليه وعلى نبيِّنا أفضل الصلاة والسلام، الذي يؤمن بالإسلام يجب أن يؤمن أن الله عزَّ وجل أنزل كتبه على أنبيائه السابقين، وأن هذه الرسالات فحواها واحدة، ومضمونها واحد.
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)﴾
المؤمن الصادق ليس عنده انتقاء الانتقاء من ضلالات أهل الرأي:
كل الأنبياء جاؤوا بهذه الحقيقة:
﴿ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32)﴾
الدين كلُّه معرفة أنه لا إله إلا الله وعبادة الله عزَّ وجل وفق ما أمر، هذا الدين، فالأمور واضحة كلها عند المؤمن، الأمور كلها منسجمة متناسقة، فهذه التفرقة هذه من صنع الشيطان:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)﴾
قال الله عزَّ وجل في مُحْكَمِ كتابه:
﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)﴾
خالق الكون في عليائه رضي عنهم، والذين كانوا مع النبي عليه الصلاة والسلام في الحديبية، وقد وضعوا أيديهم بيد النبي عليه الصلاة والسلام، وبايعوه على بذل أرواحهم في سبيل الله رضي الله عنهم، وفيهم أبو بكرٍ وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين، من هذا الذي لا يرضى عنهم إذا كان خالق الأكوان في عليائه قد رضي عنهم؟!
فالمؤمن الصادق لا يفرِّق بين أحدٍ من رسله، ولا يفرِّق بين أحدٍ من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وليس عنده انتقاء، الانتقاء من ضلالات أهل الرأي، النَصُّ أولاً، وفهمك للنص الصحيح يُبنى عليه عقيدة ثانياً، أما أن أبدأ بالرأي وأبحث له عن نص يؤيِّده وأُدخل نصاً لا يؤيِّده هذا ليس هو الدين، هذه ضلالات أهل الرأي، الرأي أولاً والنص ثانياً والنص في خدمة الرأي، فالنصُّ الذي يخدم هذا الرأي أقبله، وأعظِّمه، وأرفع مكانته، والنص قطعي الدلالة والثبوت، والذي لا يؤيِّد هذا الرأي أُهمله أو أُكذِّبه، صار هناك ألف دين، إذا بدأنا بالرأي يوجد ألف دين، أما إذا بدأنا بالنص فهناك دين واحد.
إن أردت جوهر الدين فعُد إلى أصوله كتاب الله وسُنَّة رسوله:
الشيء الذي ينبغي أن يكون هو أن هذا الإسلام الذي جاء به القرآن وجاء به النبي العدنان يجب أن يستمر كما بدأ إلى يوم القيامة، كيف يستمر؟ بأن نمنع أن نزيد عليه أو أن نحذف منه، فإذا سمعتم كلمة تجديد، فالتجديد يعني أن نزيل عن الدين ما علق به مما هو ليس منه، هذا هو التجديد، وأوضح مثل حينما نأتي ببناءٍ حجري قديم، تراكمت عليه الأتربة والغبار حتى أصبح أسود اللون، فإذا أزلنا هذه الطبقة المسودَّة من على الحجر الأبيض الناصع، وأرجعناه إلى نصاعته وبياضه وجماله، فهذا هو التجديد في الدين، أي إذا أردنا أن نجدِّد البناء ليس معنى ذلك أن نضيف عليه غرفةً، ولا أن نحذف منه طابقاً، التجديد أن نعيد له لونه الصافي، أن نزيل عن هذا البناء كل ما أُضيف عليه، وأوضح مثل: اذهب إلى نبعٍ صافٍ عذبٍ زلال، واذهب إلى مصبِّ هذا النبع تجده أسوداً كالليل، من كثرة ما أضيف على هذا النهر من مياهٍ مالحةٍ سوداء، فإن أردت جوهر الدين فعُد إلى أصوله، إلى كتاب الله وسُنَّة رسوله:
(( عن أبي هريرة: تركت فيكم شيئين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي. ))
[ أخرجه الحاكم في المستدرك ]
فهذه التفرقة في العداوة هذه ليست من الدين في شيء، اليهود لا يحبون سيدنا جبريل، يُعادونه، يقول الله عزَّ وجل: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ سيدنا جبريل مَلَك عظيم، بل هو رئيس الملائكة، وأنزل هذا القرآن على قلب النبي بإذن الله، هو مخلوقٌ مأمور، فكيف تعاديه أنت؟ وما ذنبه؟
أيها الإخوة؛ حقيقةٌ ناصعة أضعها بين أيديكم: ما من فرقةٍ ضالَّةٍ في الإسلام على مدى الحِقَب، خلال التاريخ الإسلامي كله، ما من فرقةٍ ضالةٍ إلا وفيها أربع خصائص؛ أولاً: تأليه الأشخاص، وثانياً: اعتماد النصوص الموضوعة والضعيفة، وثالثاً: تخفيف التكاليف، ورابعاً: النزعة العدوانيَّة، فإن وجدت فئةً تؤلِّه شخصاً، أو تعتمد نصَّاً ضعيفاً أو موضوعاً، أو تخفِّف التكاليف لدرجة أن تجعل من الدين نمطاً يشبه النمط العصري الإباحي، أو ذات نزعةٍ عدوانيَّة فهي فرقة ضالَّة، والإسلام شامخٌ كالطود، وكل الانحرافات في الإسلام أصبحت في مزبلة التاريخ، وتلاشت كبيت العنكبوت، وبقي الإسلام بأصوله الصحيحة، ونصوصه الصحيحة، وقيمه الخالدة شامخاً كالجبل.
فنحن أيها الإخوة مأمورون أن نرجع إلى أصل الدين، أما أنا أعادي جبريل ولا أعادي النبي!! جبريل ليس له علاقة، أنزل هذا الكتاب على قلب النبي بإذن الله، مخلوقٌ مأمور، فافتعال العداوات من شيَم أهل الضلال، نحن عندنا طرفان الحق والباطل، الله عزَّ وجل، ونبيُّه الكريم، وصحابته الكرام، والعلماء العاملون الصادقون، وأولياء الله الصالحون هؤلاء طرفٌ واحد، ومن أنكر شيئاً من كلام الله، أو من نبوَّة رسول الله، أو من حديث رسول الله، هذا الإنكار ينقله إلى الخندق الآخر.
أيها الإخوة الكرام؛ ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ المؤمن عنده ما يسمَّى بالولاء والبراء، هذا المعنى مستقى من أحاديث كثيرة، من أبرزها قول النبي عليه الصلاة والسلام:
(( عن أنس بن مالك رضي الله عنه: ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ. ))
هذا الحديث ينقلنا إلى موضوعٍ لابد من أن نعالجه، دقيقِ جداً، هناك حقائق الإيمان، وهناك حلاوة الإيمان، الذي يشدُّك إلى الدين ليست حقائق الإيمان فحسب بل حلاوة الإيمان، والذي يبعدك عن الدين أن تفتقر إلى حلاوة الإيمان، حلاوة الإيمان شيءٌ يذوقه المؤمن وقد لا يستطيع أن يصفه، إن أردت أن تُسَمِّيَهُ سكينةً فهو السكينة التي تتنزَّل على قلب المؤمن، قال تعالى:
﴿ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)﴾
إن أردت أن تسميه نوراً يقذفه الله في قلب المؤمن فهو كذلك، إن أردت أن تسمّي حلاوة الإيمان هذا التجلِّي الذي يتجلَّى الله به على قلوب عباده المؤمنين هو كذلك، إن أردت أن تسمّي حلاوة الإيمان هذا الذوق الرفيع الذي يعيش به المسلم، هذا الذوق الرفيع الذي يذهله عن كل شيء، فمن عرف الله زهد فيما سواه هذه حلاوة الإيمان، هذه التي تشدُّه إلى الدين، هذه التي تجعله يدفع الغالي والرخيص والنفس والنفيس، هذه التي تجعله كالمِرْجَل لا يهدأ، هذه التي تجعله يقدِّم كل شيءٍ لله عزَّ وجل، هذا الذي يرفعه إلى أعلى عليين، هذا الذي يجعله في مراتب الصِدِّيقين، حلاوة الإيمان.
ثمن حلاوة الإيمان ثلاثة أشياء:
1 ـ أن يكون الله ورسوله أحبّ إليك مما سواهما:
ثمن حلاوة الإيمان ثلاثة أشياء؛ أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، طبعاً قد يقول أحدكم والكلام سهل جداً: أنا أحبّ الله ورسوله أكثر من كل شيء، كلامٌ بسيطٌ سهلٌ يدَّعيه كل إنسان، ولكن علماء الحديث قالوا: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما عند التعارض، أي أنت في أمسِّ الحاجة إلى المال، وعُرِضَ عليك مبلغٌ كبير تُحَلُّ به كل مشكلاتك، ولكن هذا المبلغ فيه شُبُهةٌ للدين إن أخذته لا يرضى الله عنك، فإذا وضعته تحت قدمِك وقلت: الله هو الغني، حينما تَعَارض هذا المبلغ من المال مع النَص، وآثرت طاعة الله على قبض هذا المبلغ، الآن أثبتَّ لنفسك وللناس أن الله ورسوله أحبُّ إليك مما سواهما، عندئذٍ تذوق حلاوة الإيمان، قال تعالى:
﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)﴾
كل من حولك، ﴿أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ أي فعلت عملاً لا يرضي الله بل هو يرضي زوجتك، فعلت شيئاً لا يرضي الله بل يرضي أباك، فعلت شيئاً لا يرضي الله بل يرضي ابنك، فعلت شيئاً لا يرضي الله بل يرضي أخاك، أي آثرت إرضاء هؤلاء المخلوقين على إرضاء خالق الأنبياء والمرسلين عندئذٍ أنت لا تُحِبُّ الله ولا ترجو رحمته، هنا المشكلة، ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإخوانكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا﴾ بيت، بإمكانك أن تبقى فيه إلى نهاية حياتك بالقوانين، لأنك محمي بالقانون، لكن لك بيتاً آخر وبإمكانك أن تحلَّ مشكلة صاحب البيت فيزوِّج به ابنه، وأنت لك بيت قد يكون أقل مستوى، لكن ألا تفعل هذا إرضاءً لله عزَّ وجل؟ فإذا كانت المساكن التي ترضونها، والتجارة التي تخشون كسادها مشبوهة، إذا تجارة المواد محرَّمة، أو طريقة التعامل محرَّمة، أو فيها شبهات، الاقتصاد في المعيشة خيرٌ من بعض التجارة.
من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه بعد أن تثبت طاعته:
﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإخوانكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ أي إذا كان شيء من هذه الأشياء أغلى عليك من الله فالطريق إلى الله ليست سالكة، الطريق مُغْلَق.
أيها الإخوة؛ هذه حقيقة: ((ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا...)) عند التعارض، لكن صدِّقوا أيها الإخوة أنه:
(( عن سالم عن أبيه مرفوعاً: ما ترك عبد شيئاً لله إلا عوضه الله خيراً منه في دينه ودنياه. ))
لكن متى؟ بعد أن تستقر، بعد أن يبدو صدقك، بعد أن يبدو إصرارك على طاعة الله، بعد أن تضحي بالغالي والرخيص والنفس والنفيس.
أتمنَّى أن أضع بين أيديكم حقيقةً مهمَّةً جداً تتضح بهذا المثل: إنسان يبيع الخمر في مطعم، تاب إلى الله توبةً نصوحاً، أليس الله قادراً على أن يجعل دخله اليومي عشرة أضعاف حينما كان في المعصية؟ ممكن، لماذا يقلُّ دخله إلى الثُلث؟ ليدفع ثمن طاعته، ليشعره الله عزَّ وجل أنه ضحَّى في سبيل مرضاة الله، لو أعطاه الغلَّة مضاعفة أصبحت الاستقامة تجارةً رابحةً أقبل عليها الكفَّار، الإنسان يريد ربحاً كثيراً، لو ألغى أحدهم الخمر فتضاعفت الغلَّة، يأتي كافر فاسق ويلغي الخمر كذلك هذا شيء يلفت النظر.
أحد المطاعم في مدينة من مدن سوريا، كتب صاحب المطعم: "شرب الخمر ممنوعٌ بأمر الرب والرزق على الله" هذا المطعم عليه إقبال منقطع النظير، فجيران هذا المطعم، المطاعم الأخرى أصحابها ليسوا مسلمين كتبوا نفس العبارة ليستقدموا الزبائن.
بعد أن يدفع المؤمن ثمن الطاعة يرقى عند الله عز وجل:
لو أن الله عزَّ وجل حينما يضحي الإنسان، حينما يلتزم، فجأةً يعطيه عشرة أضعاف، لأصبحت الاستقامة تجارةٌ في الدنيا أقبل عليها الكفَّار، لذلك حينما ترفض بيع الخمر يقلُّ الدخل، فأنت إذا صبرت على قلة الدخل، وعلى دخل قليل جداً لكنَّك أرضيت خالق الأكوان، بعد حين بعد أن تثبت على هذا يُعوِّض الله عليك أضعافاً مضاعفة، هذه نقطة مهمَّة جداً.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)﴾
عندما منعتموهم أنتم من دخول بيت الله الحرام ضَعُفت تجارة السياحة، لم يعد هناك سياح، الفنادق فارغة، دور اللهو فارغة، المطاعم فارغة، هذه السياحة دخل كبير جداً، قال: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ كلمة ﴿فَسَوْفَ﴾ وليس الآن، بعد أن تدفعوا ثمن هذه الطاعة، تدفعوها جليَّةً واضحة، وترقون بها عند الله عزَّ وجل، الله عز وجل بعد حين.
فأريد من هذا الكلام أيها الإخوة؛ أنه ما ترك عبدٌ شيئاً لله إلا عوَّضه الله خيراً منه في دينه ودنياه، فلذلك أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما عند التعارض.
2 ـ أن يحبَّ المرء لا يحبُّه إلا لله:
أن يحبَّ المرء لا يحبُّه إلا لله، هذا هو الولاء والبراء، يجب أن تحبَّ المؤمنين ولو كانوا ضعافاً، ولو كانوا فقراء، ولو كانوا في الدرجة الدنيا في المجتمع، ويجب أن تكره الكفَّار أعداء الله ولو كانوا أقوياء، ولو كانوا متألِّقين في الدنيا، لا تعجبك أموالهم، ولا أجسامهم، ولا أولادهم، هذا هو المؤمن.
يجب على المؤمن أن يكون من أولياء الحق:
يجب أن تكون رحيماً بالمؤمنين:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)﴾
لا أن تكون بالعكس، قاسٍ جداً على المؤمن أما أمام الكافر القوي فأنت ضعيف جداً، مسالم جداً، هذا الذي يقسو على المؤمنين قسوة لا مبرِّر لها، ويستخذي أمام الأقوياء ويضعف هذا إنسان بعيد عن أن يكون مؤمناً.
أيها الإخوة الكرام؛ ساقني إلى هذا الكلام إلى أن هذه الآية الكريمة تبيِّن أن الحق لا يتجزَّأ، ويجب أن توالي الحق، أن تكون من أولياء الحق، مثلاً وهذا المثل خطير: إن الذين يحبون فقط، ما فعلوا شيئاً، ما تكلَّموا ولا كلمة، ولا غمزوا، ولا لمزوا، ولا أشاروا، ولا نطقوا ببنت شفة، لكن:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)﴾
أي ظهرت فاحشة ارتاح، إذا ارتحت لفاحشة شاعت بين المؤمنين فاعلم علم اليقين أنك لست مؤمناً، وأنك في خندق المنافقين، لأن الله عزَّ وجل يقول:
﴿ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)﴾
هل في الأرض كلِّها أم تتمنَّى فضيحة ابنتها؟ لا، لا تجد، إلا أماً واحدة ليست أم هذه البنت، تدَّعي أنها ابنتها وهي ليست كذلك، فأنت حينما تفرح لفاحشةِ شاعت بين المؤمنين فأنت في خندق المنافقين قطعاً، وسأعطيك مقياساً دقيقاً، حينما تفرح من أعماق أعماقك بقوَّة أخيك، وصحَّة أخيك، وغنى أخيك، نجح أخوك بشهادة عالية، تزوَّج، اشترى بيتاً، وفِّق في دعوة، أنت أعنته، هذه والله علامة إخلاصك وإيمانك، فإذا نافسته، وحسدته، وطعنت به حسداً من عند نفسك وبغياً وعدواناً فهذه علامة أهل النفاق.
أهل الإيمان وحدةٌ لا تتجزَّأ والخصومات بين المؤمنين دليل سقوطهم من عين الله:
أنا أُرَكِّز في هذا الدرس على أن أهل الإيمان وحدةٌ لا تتجزَّأ، والخصومات بين المؤمنين، والعداوات بين المؤمنين دليل سقوطهم من عين الله، لا تجد قوماً، الإله واحد، النبي واحد، الكتاب واحد، السنَّة واحدة، الهدف واحد، لماذا العداوة؟ ما الذي يضعف المسلمين اليوم؟ تشتُّتهم، تفرًّقهم، عداواتهم، طعنهم، يطعن بعضهم ببعض، هذا والله دليل عدم إخلاصهم، ولو كنت مخلصاً لله لعاونت أخاك ولم تنافسه، وأقول لكم هذه الحقيقة وأعيدها كثيراً: هناك دعوةٌ خالصةٌ إلى الله، وهناك دعوةٌ إلى الذات مغلَّفةٌ بدعوةٍ إلى الله، الدعوة إلى الذات لكنها مغلَّفةٌ بدعوةٍ إلى الله، الدعوة إلى الله من خصائصها الاتباع لا الابتداع، "إنما أن متَّبع ولست بمبتدع" من خصائصها التعاون لا التنافس.
لفت نظري أخ كريم، كان مسافراً في بلد وعاد، وهو أهل أن يكون داعيةً، قلت له: أتحبُّ أن أُهَيِّئ لك منبراً؟ قال: لا، أنا أعاونك، نحن واحد، هذا الذي يُنكر ذاته ويعاون أهل الحق له أجرٌ كأجرهم، القضيَّة قضية تحقيق رسالة وليست قضية منافسة، ولا قضية مكاسب، ولا قضية مناصب، قضية أنني أنا فـي خدمة الحق.
وبالمناسبة أُؤكِّد لكم أيها الإخوة، لا تقلق على دين الله أبداً، إنه دين الله، والله عزَّ وجل متكفِّلٌ بنصرة دينه، إن للكعبة ربَّاً يحميها، ولكن اقلق ما إذا سمح الله لك أو لم يسمح أن تكون جندياً للحق، اقلق على هذه، واسأل نفسك أيها الأخ: ماذا قدَّمت لله غداً؟ ممكن كل أعمال المؤمن ونشاطاته لخدمة نفسه، عمله، بيته، مكانته، تأسيس بيته، راحته، لكن ماذا فعلت في سبيل الله؟ ما الذي فعلته من أجل أن يرضى الله؟ لو أن الله أوقفك بين يديه يوم القيامة يقول لك: يا عبدي ماذا صنعت من أجلي؟ يا رب اشتريت بيتاً، سكنت في البيت، وتآويت مع أولادك، يا رب اشتغلت وحصَّلت دخلاً كبيراً أتاح لي أن آكل أطيب الطعام، وأن أرتدي أجمل الثياب، وأن أسافر، هذا من أجلك ماذا فعلت من أجلي؟ لابد من ساعة تأمُّل ذاتيَّة، يسأل الواحد منكم نفسه: ماذا فعلت من أجل الله؟
الله عزَّ وجل لن يقبل دعوى محبَّته من دون دليل:
عاملت زوجتي معاملةً طيِّبةً لعلَّك ترضى عني، ربَّيت أولادي كما تريد، يا رب تحرَّيت الحلال وكان قليلاً، ورفضت الحرام وكان كثيراً، يا رب آثرت طاعتك على الدنيا وما فيها، قدِّم شيئاً لله عزَّ وجل، والله عزَّ وجل لن يقبل دعوى محبَّته من دون دليل، قال:
﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)﴾
الوحي نوعان؛ وحيٌ متلو هو القرآن ووحيٌ غير متلو هو سُنَّة النبي العدنان:
أيها الإخوة؛ محور هذا الدرس أن الحقَّ لا يتجزَّأ، الحق وحدة كاملة، فإن كنت محبَّاً لله ينبغي أن تكون محباً لرسول الله، أما الآن يوجد دعوة، دعوة واضحة جداً نكتفي بالقرآن ولا نريد السنَّة، إنها تعبّر عن مرحلةٍ مضت، إنها فهمٌ مرحلي لحُقْبَةٍ معيَّنة، هذه دعوة رائجة الآن: نكتفي بالقرآن ولا نريد السُنَّة، مع أن الله عزَّ وجل يقول:
﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى(3)إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى(4)﴾
فهناك وحيٌ متلو هو القرآن، ووحيٌ غير متلو هو سُنَّة النبي العدنان.
3 ـ أن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُلقى في النار:
الثالثة؛ وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُلقى في النار، أي ما دامت الأمور جيِّدة أنا مع الحق، الأمور صعبة ترك الجامع، ترك الالتزام، ترك الصلاة، هذا على حرف، هذا الذي:
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)﴾
هذا ليس من الذين يحبهم الله عزَّ وجل: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ الكتب السماويَّة يؤيِّد بعضها بعضاً، فالإنجيل يؤيِّد التوراة، والقرآن يؤيِّد التوراة والإنجيل، وما في التوراة والإنجيل والقرآن موضوعٌ واحد.
الحبّ في الله عين التوحيد والحبّ مع الله عين الشرك:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ وهذا يقودنا إلى موضوعٍ آخر هو أن هناك حباً في الله وحباً مع الله، فإذا نقلتك محبة أهل الإيمان إلى محبة النبي فهذا حبّ في الله، وإذا نقلتك محبة النبي إلى محبة الله فهذا حبّ في الله، إذا نقلتك محبَّتك للقرآن إلى محبتك لله هذا حبّ في الله، إذا نقلتك محبتك لبيت الله الحرام إلى الله فهذا حبّ في الله، كل شيءٍ ينقلك إلى الله محبته حبّ في الله، أما إذا نقلك الشيء إلى البعد عن الله فهذا حبّ مع الله، الحب في الله عين التوحيد، والحب مع الله عين الشِرك، ونعوذ بالله أن نحبَّ مع الله أحداً.
زاد العلماء على ذلك: الحبُّ مع الله، لو أن إنساناً بعيداً عن الله أعطاك عطاءً كبيراً فأحببته لعطائه فهذا شرك، لو أن الذي يحب الله تضايقت منه وهو معه حق فكرهته فهذا شرك، ينبغي أن تحبَّ المؤمنين ولو أزعجوك، وينبغي أن تكره الكفَّار والمنافقين ولو أكرموك، هذا هو الولاء والبراء.
﴿ قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)﴾
إذا عادى الإنسان الملائكة فهو يعادي الله عزَّ وجل، عادى الرسُل فهو يعادي الله عزَّ وجل، عادى جبريل فهو يعادي الله عزَّ وجل، عادى ميكال: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ﴾ .
ذمّ العرب باستمرار وبغضهم مفارقة للدين:
أحد الصحابة ناداه باسمه، فقال له: يَا سَلْمَانُ لا تَبْغَضْنِي فَتُفَارِقَ دِينَكَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَبْغَضُكَ وَبِكَ هَدَانَا اللَّهُ؟ قَالَ: تَبْغَضُ الْعَرَبَ فَتَبْغَضُنِي.
مشكلة كبيرة جداً أن تذم العرب باستمرار، يجب أن تذم أناساً شاردين عن الله، أما الأمم التي تبدو في عينك متحضِّرَة وحوش، ألا تراهم ماذا يفعلون بالعالَم؟ وحوش من أعتى أنواع الوحوش، وإذا كان هناك ميِّزة لما يجري في العالَم الآن هي أن هذه الأقنعة المزيَّفة سقطت، وهذا العالَم الراقي المتقدِّم الذي فيه حقوق الإنسان وقيم وحضارة وعلم أصبح الآن بالوحل، الذي يفعله بنو البشر الشاردون عن الله عزَّ وجل، يفعلون شيئاً تندى له البشريَّة، تستحي والله أن تنتمي إلى الجنس البشري مما يجري في بلاد أخرى، هذا الإنسان البعيد عن الله وحش، بل والله حينما نقول: وحش، يجب أن تعترض علينا الوحوش لأننا نسبُّهم بهذا، والله أشرس من الوحوش، ﴿مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ﴾ أي عداوة شيء فقرة من فقرات الحق تنقلك إلى عداوة الله عزَّ وجل.
عداوة الملائكة والأنبياء وأهل الإيمان نوعٌ من أنواع الكفر:
الآيتان اليوم: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ﴾ هذا كفر، عداوة الملائكة، عداوة الأنبياء، عداوة أهل الإيمان نوعٌ من أنواع الكفر، وقد قال عنه العلماء: كفرٌ دون كفر.
أيها الإخوة الكرام؛ محور هذا الدرس أن الحق لا يتجزَّأ، وأن الاتباع والولاء هو الذي ينبغي أن نفعله كمؤمنين، ثم إن عداوة جزء من الدين تجرُّك إلى عداوة الدين كله، هذه حقيقة خطيرة.
ثم يقول الله عزَّ وجل:
﴿ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99)﴾
هناك علاقة بين التكذيب والفسق وبين الإيمان والاستقامة، سأدلُّك على الطريق، لمجرَّد أن تستقيم على أمر الله تتقبَّل الحق، تتقبَّل الحق بشغفٍ شديد، ويُسعدك الحق لأنك مستقيم، ولا تقبل الحق بقدر الفسق.
المؤمن الصادق يتوب توبة واحدة أما ضعيف الإيمان كلَّما عقد توبةً نقضها:
﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ آيات بيِّنات، واضحات، نيِّرات، مُقنعات، باهرات، ﴿وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ﴾ مثلاً يقول لك إنسان دخله ربوي: هذا الدين لا يتناسب مع العصر، يقول لك: هناك آيات غير معقولة، معقول أن يجمد الإنسان ماله؟ لماذا بدأ يشكُّ في مصداقية كلام الله؟ لأنه انطلق من الربا، إنسان يعيش الاختلاط بكل بشاعته لا يقبل آيات الحجاب أبداً، يرفضها، يقول لك: هذا الحجاب بدعة جاءتنا في العهد العثماني، أنت استمع إلى حجج الفَسَقَة كلهم يتناغمون، كلهم يرفضون الحق، لأنهم إذا رفضوا الحق دافعوا عن أنفسهم، توازنوا، لو قَبِل معك الحق وهو غير مستقيم انكشف، اختل توازنه، صار عنده مشكلة، فلابدّ من أن يعيد التوازن بأن يرفض الحق، فلذلك:
﴿ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)﴾
المؤمن الصادق يتوب توبة واحدة، أما ضعاف المؤمنين كلَّما عقد توبةً نقضها، تغلبه نفسه:
﴿ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106)﴾
إذا كان الإيمان قوياً تضعف الشهوة لكن ما دام الإيمان ضعيفاً فالشهوة قويَّة:
﴿أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ لأن إيمانه ضعيف وشهوته قويَّة، أما إذا العكس الإيمان قوي تضعف الشهوة، ما دام الإيمان ضعيفاً فالشهوة قويَّة، الإنسان مندفع، مع اندفاعه يحتاج إلى مقود هو الشرع، إذا لم يكن هناك مقود فالحادث حتمي، فكل إنسان عنده شهوات يندفع بها إلى تحقيقها، ولا يوجد عنده منهج يسير عليه فوقوعه في حادث مُروِّع أمر حتمي:
﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)﴾
كانوا يستفتحون على الذين آمنوا، سيأتي نبي، وسنؤمن به، ونتفوَّق عليكم:
﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)﴾
وقال:
﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)﴾
وهذه الآيات إلى الدرس القادم إن شاء الله.
الملف مدقق