وضع داكن
10-03-2025
Logo
الدرس : 31 - سورة النساء - تفسير الآيات 60-63 القانون الإلهي والقانون الوضعي
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.

الزعم مطية الكذب:


 أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الواحد والثلاثين من دروس سورة النساء، ومع الآية الستين، وهي قوله تعالى: 

﴿ أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزۡعُمُونَ أَنَّهُمۡ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوٓاْ إِلَى ٱلطَّٰغُوتِ وَقَدۡ أُمِرُوٓاْ أَن يَكۡفُرُواْ بِهِۦۖ وَيُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُضِلَّهُمۡ ضَلَٰلَۢا بَعِيدًا(60)﴾

[ سورة النساء  ]

 أيها الإخوة، كما تعلمون أن قوله تعالى: ﴿أَلَمۡ تَرَ﴾ أي؛ ألم تعلم بإخبار الله لك، لكن عدَلَ القرآن عن قوله: ألم تعلم بـ ﴿أَلَمۡ تَرَ﴾ ، إشعاراً للمؤمن أنه ينبغي أن يأخذ خبر الله وكأنه يراه، فخبر الله أصدق من عينه، قد تخونه عينه، والله جل جلاله هو أصدق القائلين. 

﴿ ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۗ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ حَدِيثًا (87)﴾

[ سورة النساء ]

 إذاً: ﴿أَلَمۡ تَرَ﴾ بمعنى ألم تعلم، عُدِلَ عن قوله ألم تعلم إلى: ﴿أَلَمۡ تَرَ﴾ لتأخذ إخبار الله عز وجل وكأنه شيء تراه عينك. 
﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزۡعُمُونَ﴾ قالوا: "الزعم مطيّة الكذب"، فلان يزعم أنه مؤمن، أي هو ليس مؤمناً، إنه منافق، فكلمة يزعم تعبير عن عدم الصدق، تعبير عن الكذب، تعبير عن الخلل.

علامة المؤمن أنه يتهم نفسه بالنفاق:


 قال تعالى: ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزۡعُمُونَ أَنَّهُمۡ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ﴾ بربك أيها الأخ المؤمن هل التقيت بإنسان مسلم لا يطبق من دينه شيئاً يقول لك: أنا منافق؟ مستحيل، أنا مؤمن، قد يقول: أنا مؤمن إيماناً أشدَّ من إيمانك، سبحان الله! الناس جميعاً يُثنون على ذواتهم بغير الحق، بينما المؤمن الحقيقي يتهم نفسه بالنفاق.
 أحد التابعين قال: التقيت بأربعين صحابياً ما منهم واحد إلا يظن نفسه منافقاً، حتى إن عمر ابن الخطاب الخليفة الراشد التقى بسيدنا حذيفة بن اليمان، وكان أمير سر رسول الله قال: يا حذيفة بالله عليك اسمي مع المنافقين؟ فعلامة المؤمن أنه يتهم نفسه بالنفاق، وعلامة المنافق أنه يزعم أنه مؤمن، وكلما تواضعت لله رفعك، وكلما اتهمت نفسك فأنت أرقى عند الله، لا تستجب لنزوات النفس في أن تعلو على الناس، لا تحكم على نفسك، دع الله عز وجل يحكم عليك، لأن الذين يزكون أنفسهم يرتكبون معصية، قال تعالى:

﴿ أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمۚ بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَلَا يُظۡلَمُونَ فَتِيلً ا(49)﴾

[   سورة النساء ]

 لو أنك مخلص، لو أنك مستقيم، لو أنك محسن، الله جل جلاله يرفع لك ذكرك، يرفع لك شأنك، يلقي محبتك في قلوب الخلق، يجعل ألسنة الخلق تلهَج بمديحك دون أن تريد ذلك أنت.

كل إنسان فيه دوافع ثلاث لكن الدافع الثالث هو الأخطر بينها جميعاً:


 أيها الإخوة، ما منا واحد إلا وفيه دوافع ثلاث؛ دافع إلى الطعام والشراب ليحفظ وجوده دون أن يشعر، ودافع إلى الجنس ليُحفَظ النوع عن طريق هذا الدافع، ودافع إلى العُلو، دافع إلى تأكيد الذات، دافع إلى تأكيد الأهمية، الدافع الثالث خطير جداً، ولأن الإنسان مخير إذاً كل دوافعه حيادية، بمعنى أنه يمكن أن تُروّي الدافع الثالث دافع تأكيد الذات، تأكيد الذكر، دافع التفوق عن طريق الإيمان بالله وطاعته، ألم يقل الله عز وجل: 

﴿  أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ(1) وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ(2) الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ(3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ(4)﴾

[  سورة الشرح ]

 هل في تاريخ البشرية إنسان رفع الله ذكره كرسول الله؟ مفكر وباحث غربي، ليس مسلماً، ألَّف كتاباً عن عن المئة الأوائل في تاريخ البشرية، قرأ تاريخ البشرية من قبل الميلاد بستة قرون إلى عصرنا الحاضر، واختار من بين أعلام الأرض مئة، ورتّب هذه المئة بحسب الأهمية، فكانت مكانة نبينا عليه الصلاة والسلام لا في نظر المؤمنين به، لا في نظر المسلمين، بل في نظر الطرف الآخر كانت الأولى، جعله على رأس المئة الأوائل في العالم، واعتمد عدة مقاييس؛ المقياس الأول: قوة التأثير . المقياس الثاني: اتساع رقعة التأثير. المقياس الثالث: طول أمد التأثير. 
أذكر أن أخاً كريماً جاءه ضيف إلى بلادنا، وقد كُلِّف هذا الأخ أن يرافقه، ذهبا إلى مكان أثري فلاحظ هذا الضيف أن الحركة قليلة، قال: اليوم يوم عطلة، قال له: ما المناسبة؟ قال له: بمناسبة عيد المولد النبوي الشريف، وشرح له أن لهذه الأمة نبياً، قال له: من كم سنة توفي؟ قال له: من ألف وأربعمئة سنة، فكاد هذا الضيف أن يُصعَق، ولطول هذه المدة تقدسونه؛ قوة التأثير، واتساع رقعة التأثير، وطول أمد التأثير، لكن هذا المؤلف غفل عن نوع التأثير، لو جعل نوع التأثير إيجابياً لطرح من هذه المئة ثلثيهم.

فحوى دعوة الأنبياء واحدة:


 إذاً: ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزۡعُمُونَ أَنَّهُمۡ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ﴾ المنافق يظن أنه مؤمن، ويدّعي أنه مؤمن، ويتبجّح أنه مؤمن لماذا؟ لتحقيق مصالحه، لأنه إذا ادّعى أنه مؤمن أخذ كل مِيزات المؤمنين، وعاش حياته الخاصة كما يعيشها الكفار، فجمع بين ميزتَي الإيمان وتفلّت الكفار، لذلك المنافق يوم القيامة مكانه في الدرك الأسفل من النار، المنافق كافر لكن مصالحه تقتضي أن يُظهِر أنه مؤمن لهذا يقول الله عز وجل: ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزۡعُمُونَ أَنَّهُمۡ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ﴾ طبعاً الأنبياء جميعاً دعوتهم واحدة. 

﴿  وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)﴾

[  سورة الأنبياء ]

 العقيدة لا إله إلا الله، والسلوك العبادة، في كل مذهب فكر وسلوك، عقيدة وشريعة، منطلَقات نظرية وتطبيقات عملية، لا إله إلا أنا العقيدة، التوحيد، وما من وقت في تاريخ المسلمين نحن في أمس الحاجة إلى التوحيد كهذا الوقت، لأن زعماء الكُفر يخيفون الأرض كلها، يتهددون، يتوعدون، يرسلون صيحاتهم وزمجرتهم كل يوم، ما الذي يَقينا من بأسهم؟ أن نوحد الله، ألّا نرى مع الله أحداً، ألّا نرى مع الله إلهاً آخر. 

﴿ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا(23)﴾

[  سورة الإسراء ]


ليس القرآن كتاب تاريخ ولكنه كتاب هداية:


 الحقيقة عندنا قاعدة في القرآن الكريم: أن خصوص السبب لا يلغي عموم القصْد، لا يُعقَل ولا يُقبَل أن يتحدث القرآن عن قصة بعينها ليس غير، وقعت في عهد رسول الله، ليس القرآن كتاب تاريخ، ولكنه كتاب هداية.
 كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل منافق اسمه بِشْر اختلف مع يهودي، يبدو أن اليهودي كان على حق في موضوع الخلاف، فطلب اليهودي أن يحتكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أنه لم يؤمن به، لكنه يعتقد أنه يعدل إذا حكم. 
النبي عليه الصلاة والسلام حينما أرسل عبد الله بن رواحة إلى خيبر ليقيِّم تمر اليهود تنفيذاً لاتفاقٍ بينهم وبين رسول الله أرادوا أن يُغروه بحُليّ نسائهم، كي يخفّض قيمة التمر، أي أرادوا أن يرشوه، فقال: 

(( يا معشر اليهود، والله إنكم لمن أبغض خلق الله إلي، وما ذلك بحاملي على أن أحيف عليكم، فأما ما عرضتم من الرشوة فإنها سحت، وإنا لا نأكلها، فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض.))

[ موطأ الإمام مالك ]

وإن أردنا أن نستفيد من هذا القول لا يمكن أن نغلبهم إلا إذا كنا على حق. 

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَـَٔانُ قَوْمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعْدِلُواْ ۚ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌۢ بِمَا تَعْمَلُونَ(8)﴾

[  سورة المائدة ]

 اعدلوا ولو مع كافر، ولو مع عابد صنم ﴿ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ﴾ من هنا قال بعض العلماء: إن الله ينصر الدولة الكافرة العادلة على الدولة المسلمة الظالمة، من هنا قال بعض العلماء: الدنيا تصلح بالكفر والعدل، ولا تصلح بالإيمان والظلم، الظلم أيها الإخوة ظلمات يوم القيامة، عُدَّ للمليار قبل أن تظلم إنساناً، لأنك إن ظلمته سقطت من عين الله، ولن يجدي دعاؤك إطلاقاً.

الفرق بين الظالم والطاغية:


 هذا اليهودي في موضوع الخلاف مع بِشر كان على حق، ولأنه واثق من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحكم إلا بالعدل أراد اليهودي أن يحتكم مع خصمه المسلم المنافق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما المنافق فرفض أن يحتكم إلى رسول الله، وطلب أن يحتكم إلى أحد زعماء اليهود، عجيب! اليهودي يطلب الحكم من رسول الله، وهذا المسلم الذي يدّعي أنه مسلم، ويزعم أنه مسلم، وهو في الحقيقة منافق يطلب الاحتكام إلى أحد أحبار اليهود الذين يرتشون، فقال تعالى: ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزۡعُمُونَ أَنَّهُمۡ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ﴾ يزعمون ﴿وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ﴾ من التوراة والإنجيل على سيدنا موسى، وعلى سيدنا عيسى: ﴿يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوٓاْ إِلَى ٱلطَّٰغُوتِ﴾ ما معنى الطاغوت؟ الطاغوت صيغة مبالغة، طاغية وطاغوت، الطاغوت أشد طغياناً من الطاغية، من هو الطاغوت؟ هو الظالم، ما الفرق بين الظالم والطاغية؟ الظالم كلما أطعته يزداد طغياناً، هذه خَصيصة في الطاغوت، كلما أطعته، كلما استسلمت له، كلما خضعت له، كلما حققت رغبته يزداد طغياناً وعدواناً، بدليل قول الله تعالى: 

﴿ فَٱسْتَخَفَّ قَوْمَهُۥ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمًا فَٰسِقِينَ(54)﴾

[  سورة الزخرف ]

 لا يستطيع الطاغية أن يطغى إلا على الفَسَقة: ﴿فَٱسْتَخَفَّ قَوْمَهُۥ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمًا فَٰسِقِينَ﴾ الطاغية هو الظالم، والفرق بين الظالم والطاغية أن الطاغية كلما زدت طاعة له زادك طغياناً، والطاغوت صيغة مبالغة من الطاغية.

الإنسان بحسب إيمانه يحتكم إما إلى الله أو إلى جهة تعطيه ما ليس له:


 قال تعالى: 

﴿ ٱللَّهُ وَلِىُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ ۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَوْلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّٰغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَٰتِ ۗ أُوْلَٰٓئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ(257)﴾

[  سورة البقرة ]

 كم من قضية بين المسلمين؛ لعل خصمَين احتكما إلى عالم جليل فحكم لهما بشرع الله، أحدهما يطلب الاحتكام إلى القوانين الوضعية، لأنه ليس على حق، يريد أن يأخذ ما ليس له، فلعلّ القانون يعطيه ما ليس له، والقضية واضحة جداً في البيوت أحياناً. قبل القانون الأخير الذي صدر، قانون الإيجار، المستأجر كأنه تملّك البيت، فإذا كان لإنسان بيت قد أجّره قبل سنة الستين، فهذا البيت انتهى، ولا يمكن أن يناله، ولا أن يستمتع به، فإذا احتكما إلى عالم جليل ليعطيهما الحكم الشرعي في هذا الاغتصاب، المستأجر الذي ليس بحاجة إلى البيت، لكن يحتجزه عدواناً وطغياناً، يحتكم إلى القانون الوضعي الذي يبيح له أن يبقيه في حوزته ما دام حياً. فالإنسان بحسب إيمانه يحتكم، إن كنت مؤمناً تحتكم إلى شرع الله، وإن كان الإنسان منافقاً يحتكم إلى جهة تعطيه ما ليس له.
 الآن أحياناً يسكن إنسان في بلاد الغرب، يختلف مع زوجته، لو عرض عليها أن يحتكما إلى قاضٍ شرعي هناك ترفض، لا تقبل إلا أن تُرفَع القضية لقاضٍ غربي، لماذا؟ لأن القانون الغربي يعطي الزوجة المطلقة نصف ثروة زوجها، أما الشريعة المحمدية فتعطي المطلقة مهرها كاملاً. الذي يعدل عن تحكيم الشرع إلى النظام الوضعي الذي يعطيه ما ليس له هو إنسان منافق: ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزۡعُمُونَ أَنَّهُمۡ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ﴾ إشارة إلى هذا المنافق الذي اختلف مع اليهودي: ﴿يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوٓاْ إِلَى ٱلطَّٰغُوتِ﴾ إلى أحد أحبار اليهود الذي عُرِف بالطغيان: ﴿وَقَدۡ أُمِرُوٓاْ أَن يَكۡفُرُواْ بِهِۦ﴾

فرق كبير بين إرادة الله في التوبة علينا وبين إرادة الشيطان في إضلالنا:


 هذا الذي ولاؤه للغرب يتهم كل من أراد أن يتحرك ضد الغرب، يتهمه بالعمالة، ولاؤه كله للغرب، محبته كلها للغرب، انصياعه كله للغرب، لا يرى في أمته قيماً ولا بطولات إطلاقاً، هذا يحتكم إلى الطاغوت: ﴿وَقَدۡ أُمِرُوٓاْ أَن يَكۡفُرُواْ بِهِۦۖ وَيُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُضِلَّهُمۡ ضَلَٰلَۢا بَعِيدًا﴾ أنت دائماً ابحث ماذا يريد الله منك. 

﴿ وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوَٰتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلًا عَظِيمًا(27)﴾

[  سورة النساء ]

 فرق كبير بين إرادة الله في التوبة عليكم، وبين إرادة الشيطان أن يُضِلّ الناس ضلالاً بعيداً، أي؛ ألا تشعر بحرَج حينما تقرأ هذه الآية: ﴿وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوَٰتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلًا عَظِيمًا﴾ ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزۡعُمُونَ أَنَّهُمۡ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوٓاْ إِلَى ٱلطَّٰغُوتِ﴾.

الفرق بين العلم التجريبي والوحي:


 أيها الإخوة، في قول الله عز وجل: 

﴿  يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ(88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ(89)﴾

[  سورة الشعراء ]

 قالوا: القلب السليم هو القلب الذي سلِم من شهوة لا ترضي الله، والقلب السليم هو القلب الذي سلِمَ من تصديق خبر يتناقض مع وحي الله، المؤمن شخصية فذّة كبيرة، أن يقرأ مقالة، يستمع إلى حديث، ينظر إلى ندوة فيها تجاوز لِما في القرآن الكريم ويقبل! مستحيل، لأن فضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الله على خلقه، القرآن كلام الله، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، المؤمن لا يصدق أن الأرض كلها لو اجتمعت، وبحثت، ودرست، وخرجت بنتيجة تخالف القرآن لا يصدق كل هؤلاء الناس ولو كانوا قِمماً في علمهم، معه وحي الله عز وجل. أنت معك آلة، قد تفتح هذه الآلة، وقد تعبث بجزئياتها، وقد تستنبط بعض المعلومات من العبث بجزئياتها، وقد تصل إلى بعض الحقائق، أو إلى بعض الأوهام، لكن حينما تجلس إلى جانب مخترع هذه الآلة، فكل اجتهادك لا قيمة له، هذا المخترِع، هذا المصمِّم، لذلك الفرق بين العلم التجريبي والوحي أن العلم التجريبي فيه خطأ وفيه صواب، لكن وحي السماء حق صِرْف.
أيها الإخوة، أنتم تعلمون علم اليقين، هذا شيء ليس خافياً عنكم، أحياناً يصدر قانوناً وتكون النيات طيبة جداً، الذين قنّنوا هذا القانون أرادوا إصلاح المجتمع، أرادوا فرَضاً الحد من ارتفاع الأسعار في قضية السيارات مرة مثلاً، فمُنِع بيع السيارة إلا للأقارب، نشأ بعد هذا القانون حالة اسمها زواج سيارات، زواج صُوري لا وجود له، عقد زواج من أجل بيع سيارة، ونشأ من هذا التصرف مشكلات لا يعلم إلا الله مداها، امرأة ثرية جداً تزوجت إنساناً زواجاً صورياً كي تبيعه سيارتها، ثم توفيت، تمسك بالإرث، هي زوجتي، لذلك عُدِّل القانون وأُلغي، هذا أتيت به مثلاً، أي إنسان وضع قانوناً لأنه بشر، ولأن علمه محدود، ولأن أفقه محدود، ولأن رؤيته محدودة، ولأن تجاربه محدودة، يتخيل حالات ويغطي هذه الحالات ببنود هذا القانون، حينما يصدر هذا القانون، ويصبح في حيّز التنفيذ تنشأ مشكلات لم تكن تخطر في بال واضع القانون، فيُضطَر إلى تعديله، ثم يُعدَّل، ثم يُعدَّل، ثم يُعدَّل، ثم يُلغى، هذه قصة قديمة مستمرة، الإنسان حينما يشرّع، أنا أفترض فيه النيات الحسنة، علمه محدود، خبرته محدودة، أُفقه محدود، رؤيته محدودة، تجاربه محدودة، يتخيل حالات كثيرة، يغطي هذه الحالات ببنود، لكن بعد حين يكتشف أن هناك حالات غابت عنه، ولا بد من تعديل القانون، يُعدَّل، ويُعدَّل، ويُعدَّل، إلى أن يصبح مُهلهَل، عندئذٍ يُلغى ويُسَنّ قانون جديد، هذه القصة تكرر وتعاد، لأن خبرة الإنسان حادثة، وخبرة الإنسان تأتي من تجاربه، لكن قانون الله عز وجل أساسه أن خبرة الله قديمة، لو ابتعدتم عن القضايا المعنوية.

القانون الإلهي أساسه الوازع الداخلي أما القانون الوضعي فأساسه الرادع الخارجي:


 الآن أنت انظر إلى مركبة صُنِعت عام ألف وتسعمئة، البوق على الهواء، باليد، الإضاءة بالكبريت، فانوس، التشغيل من أمام السيارة، الآن انظر إلى مركبة حديثة جداً، موديل ألفان واثنان الفرق كبير جداً، فمن أين جاء هذا الفرق؟ لأن خبرة الإنسان حادثة، كل عام يطوّر، يبدل، يحسّن، والآن أحدث سيارة بعد خمس سنوات سوف تشاهدون تطويرات لم تكن بالحسبان، لأن الإنسان خبرته حادثة.
 أما انظر إلى جسم الإنسان، عندك إنسان موديل ألف وتسعمئة فرضاً، هل هناك موديل معدل مطور؟ منذ أن خلق آدم عليه السلام خلقه خلقاً كاملاً، لأن خبرة الله قديمة، خبرته قديمة، وتشريعه قديم، لذلك العلماء قالوا: "الحسَن ما حسّنه الشرع، والقبيح ما قبّحه الشرع" الشيء الذي الله عز وجل حرمه سيئ جداً إلى أبعد الحدود، مهما زيّنته، إلا أن المشكلة أنك إذا اتبعت تشريعاً أرضياً التشريع الأرضي له ضحايا كثيرة، لأن القانون ناقص، أو لأنه ظالم، أو لأنه محدود، أو لأنه لا يغطي كل حاجات الإنسان، مثلاً القانون الإلهي أساسه الوازع الداخلي، أما القانون الوضعي فأساسه الرادع الخارجي، أقرب مثل: يُمنَع أن تستخدم الجهاز الهاتفي المحمول في أثناء قيادة السيارة، متى لا تستخدم هذا الجهاز؟ أمام الشرطي فقط، أما إذا كنت بعيداً عن الرقابة فتستخدمه، ولا تشعر بشيء، لأن هذا القانون من وضع البشر مرتبط بالشرطي، أما حينما يأمرك الله أن تغض بصرك، قد تكون في بيتك وحدك، وقد تفتح الجارة باب نافذتها، لماذا تغض بصرك عنها، ولا يستطيع أحد في الأرض أن يضبط هذه المخالفة؟ لأنه قانون إلهي، مبني على الوازع الداخلي، أنا أقول لكم: لا يمكن أن تصلح الحياة من دون إيمان.
إذا وجد بائع الزيت صباحاً في وعاء الزيت فأرة، فسحبها بمِلقط، وباع الزيت، هل في الأرض كلها جهة يمكن أن تضبط هذه المخالفة؟ أما إذا كان مؤمناً فلا يمكن أن يبيع هذا الزيت. هذا مثل وفهمكم كفاية، في كل حياتنا إن اعتمدنا على القانون الوضعي لا يمكن أن تصلح الأمور، أما إن اعتمدنا على الإيمان القوي لا يمكن أن تفسد الأمور، في الإسلام قِيَم مذهلة.
 حدثني أخ قال لي: والله عندي مهندس يعمل في معمله، ودخله محدود، ولا يكفيه، وليس متزوجاً، ولا يملك بيتاً، وجد في كيس أسود في أطراف المدينة مبلغ ثمانمئة ألف ليرة، بحث عن صاحبها وقدّمها له، بأي قانون هذه؟ بقانون الإيمان، بقانون الخوف من الله، بقانون الإنصاف، بقانون العدل.

النظام الوضعي له ضحايا كثر أما النظام الإلهي فكله خير:


 حدثني أخ كريم: في واشنطن سائق مغربي وجد في مركبته محفظة نسائية فيها عشرة آلاف دولار، فذهب إلى مركز للشرطة، وطلب مقابلة رئيس المركز، وقال له: معي هذه المحفظة، وفيها عشرة آلاف، وأريد أن تبحثوا عن صاحبتها، وهي عندي، أنا أعطيها لصاحبتها ضماناً لإيصالها لصاحبتها، بحثوا عن صاحبتها، وسلموها هذه الأمانة، حاكم الولاية دُهِش لهذه الأمانة، جمع طلاب المرحلة الثانوية -وعندي صورة الاحتفال- قام حاكم الولاية فيهم خطيباً، وسأل معظم الطلاب لو وجدتم في مكان ما حقيبة كهذه الحقيبة ماذا تفعلون؟ فقالوا جميعاً بصوت واحد: نأخذها، قال: ولكن هذا الإنسان المسلم أعادها لصاحبتها، هذه الأمانة.
 أيها الإخوة، الإنسان حينما يُحكَم بقانون الله لا يمكن أن يعصيه ولو كان خالياً، في أيام الصيف الحارة، الحرارة خمسون، وكان في رمضان، وأنت صائم، وأول يوم وصلت إلى آذان العصر فكِدت أن تفقد حياتك، ودخلت إلى بيتك، وفتحت صنبور الماء البارد هل تستطيع أن تلعق قطرة ماء؟ لا تستطيع، ما الذي يحكمك؟ قانون الله عز وجل، أما لو كان الصيام بقانون وضعي كم يصوم من الناس؟ طبعاً لا أحد يشرب في الطريق، أما كم من إنسان يصوم في بيته؟ ولا واحد. كأنني بهذا التعليق أردت أن أبين الفرق الكبير بين القانون الإلهي من عند الخبير، من عند الحكيم، من عند العلي، من عند الرحيم، من عند المُطَّلع، من عند السميع، البصير، الخبير، والله خبرته قديمة، وكلامه حق، والوحي مطلق في خيريّته، وبين إنسان ولو كان حسنَ النية بحسب رؤيته المحدودة، وعلمه المحدود، وخبرته المحدودة، يُقنّن، ثم يكتشف أن فيه أخطاء كثيرة جداً ثم يعدّل، إذاً النظام الوضعي له ضحايا كثيرة جداً، أما النظام الإلهي فكله خير: ﴿وَقَدۡ أُمِرُوٓاْ أَن يَكۡفُرُواْ بِهِۦۖ وَيُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُضِلَّهُمۡ ضَلَٰلَۢا بَعِيدًا﴾

أي تفسير توحيدي قرآني سماوي مرفوض عند المنافق:


 مثلاً في بلاد الصين نمو سكاني كبير جداً، فوضعوا قانوناً من صنع البشر، هذا القانون يقضي بأنه لا يجوز للزوجين أن يكون لهما إلا ولد واحد، ولأنهم يحبون الذُكران، فإذا جاءتهم البنت خنقوها، وإذا جاء المولود ذكراً سجلوه في الدوائر الرسمية، ثم اكتشفوا بعد حين أن الصين تحتاج إلى خمسين مليون فتاة، ثم أُنشِئت عصابات لخطف الفتيات لشدة الحاجة إليهن، لأنهم غيروا قانون الله عز وجل، الآن ثمة قوانين تصدر في الصين عجيبة، ممنوع أن تبحث في المستشفى عن نوع المولود ذكراً كان أو أنثى، هناك تشديدات شديدة جداً، أما الآن القضية الأولى أن الصين تعاني نقصاً حاداً في الفتيات، إذاً هناك عصابات تخطف الفتيات، لأن قانون إلزام الناس بمولود واحد قاد الناس إلى أن يقتلوا الفتاة، وأن يبقوا الشاب، هذه من آثار القانون الوضعية. 
وقانون ببلد آخر صدر تقليداً للغرب أن المرأة المطلقة تنال نصف ثروة زوجها، أقسم لي أخ في هذه البلاد أن سوق الزواج توقفت نهائياً، فصار الأب مضطراً إلى أن يأتي لوالد الشاب الذي يُزمِع أن يخطب ابنته فيعطيه سندَ أمانة بالملايين، إن طالبناك بنصف ثروتك طالِبنا بهذا السند، لكن تعال وتزوج، تعديل طفيف بقانون الزواج ألغى الزواج كله، هذا القانون الإلهي من عند الخبير، فهناك خيرات لا يعلمها إلا الله ناتجة عن هذا القانون. 

﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ رَأَيۡتَ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا(61)﴾

[ سورة النساء ]

 الآن المنافق يكره أن تفسر ما حدث تفسيراً إلهياً، تفسيراً توحيديّاً، الذي حدث له تفسير أرضي شِركي، وله تفسير سماوي توحيدي، المنافق يرفض أن الذي حدث هو خير، يرفض أن الذي حدث هو بسبب تقصير المسلمين، أي تفسير توحيدي قرآني سماوي مرفوض عند المنافق، وأي تفسير أرضي شركي مادي مقبول عند المنافق.

المنافق على نوعين إما أساسه كافر أو أساسه ضعيف اليقين بالله عز وجل:


 قال تعالى: 

﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ رَأَيۡتَ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا (61) فَكَيۡفَ إِذَآ أَصَٰبَتۡهُم مُّصِيبَةُۢ بِمَا قَدَّمَتۡ أَيۡدِيهِمۡ ثُمَّ جَآءُوكَ يَحۡلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنۡ أَرَدۡنَآ إِلَّآ إِحۡسَٰنًا وَتَوۡفِيقًا(62)﴾

[ سورة النساء ]

 الله عز وجل لم يفضحهم أولاً، لماذا؟ لأن المنافق على نوعين، منافق أساسه كافر، لكنه غطى كفره بالنفاق، ومنافق أساسه ضعيف اليقين بالله عز وجل، عنده شُبهات وشهوات، هذا المنافق يُرجى له أن يكون مؤمناً في المستقبل، لذلك من حكمة الله عز وجل أنه ما فضحهم، بل أعطى أسماءهم لسيدنا حذيفة، من هنا جاء سيدنا عمر، وسأل سيدنا حذيفة: بربك اسمي مع المنافقين؟ فالمنافق الكافر هذا لا يُرجى إيمانه، وأغلب الظن الله عز وجل يفضحه في المستقبل، أما المنافق الذي أساس نفاقه ضعف في الإيمان لشُبُهات تعتريه، أو لشهوات يفعلها هذا المنافق يُرجَى له أن يكون في المستقبل مؤمناً، لذلك حينما يُكشَف حال المنافقين أحياناً يسارعون إلى رسول الله ليتبرؤوا من النفاق: ﴿فَكَيۡفَ إِذَآ أَصَٰبَتۡهُم مُّصِيبَةُۢ بِمَا قَدَّمَتۡ أَيۡدِيهِمۡ ثُمَّ جَآءُوكَ يَحۡلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنۡ أَرَدۡنَآ إِلَّآ إِحۡسَٰنًا وَتَوۡفِيقًا﴾

الحكمة من عدم فضح المنافقين:


 حسناً لماذا احتكمتم إلى هذا اليهودي؟ فكان جوابهم: أردنا أن نريحك يا رسول الله، أردنا ألّا نتعبك، ألّا نشغلك بمشكلاتنا، فالنبي عليه الصلاة والسلام قبِلَ منهم ذلك، ولم يفضحهم، والتوجيه الدقيق إذا وجدت إنساناً مقصراً، أو متلبساً بمعصية، إيمانه ضعيف، انضباطه ضعيف، فلست مُكلفاً أن تفضحه على الملأ، هذا العمل لا يرضي الله أبداً، أنت مُكلَّف أن تنصحه فيما بينك وبينه، لأن قلقه من أن يُفتضَح يعني أن فيه بقية خير، لذلك لا ينبغي أن تفضحه، فحينما تأتيهم مصيبة، وهذه المصيبة كأن الله حذّرهم بها، وكشف نفاقهم قال: 

﴿  فَكَيۡفَ إِذَآ أَصَٰبَتۡهُم مُّصِيبَةُۢ بِمَا قَدَّمَتۡ أَيۡدِيهِمۡ ثُمَّ جَآءُوكَ يَحۡلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنۡ أَرَدۡنَآ إِلَّآ إِحۡسَٰنًا وَتَوۡفِيقًا(62) أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُ ٱللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمۡ فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ وَعِظۡهُمۡ وَقُل لَّهُمۡ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ قَوۡلَۢا بَلِيغًا (63)﴾

[ سورة النساء  ]

 قل لهم في أنفسهم قولاً يبلغ أعماق قلوبهم وخفايا عقولهم لكن بينك وبينهم دون أن تفضحهم: ﴿وَقُل لَّهُمۡ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ قَوۡلَۢا بَلِيغًا﴾ أعرِض عنهم إشعاراً لهم أنك تعلمهم، إذا كان لك اهتمام ومودة بالغة مع المنافق يظن نفسه هو على حق، يظن نفسه أنه احتال عليك، لا، أعرِض عنهم إشعاراً لهم أنك تعلم نفاقهم، ثم عِظهم، بيّن لهم الحق: ﴿وَقُل لَّهُمۡ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ قَوۡلَۢا بَلِيغًا﴾ يصل إلى قرارة نفوسهم.

عبادات كثيرة نفعلها ولا أحد يلزمنا بها لكنها تؤكد لنا إيماننا بالله وطاعتنا له:


 أيها الإخوة الكرام: 

﴿ أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزۡعُمُونَ أَنَّهُمۡ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوٓاْ إِلَى ٱلطَّٰغُوتِ وَقَدۡ أُمِرُوٓاْ أَن يَكۡفُرُواْ بِهِۦۖ وَيُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُضِلَّهُمۡ ضَلَٰلَۢا بَعِيدًا(60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ رَأَيۡتَ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا (61) فَكَيۡفَ إِذَآ أَصَٰبَتۡهُم مُّصِيبَةُۢ بِمَا قَدَّمَتۡ أَيۡدِيهِمۡ ثُمَّ جَآءُوكَ يَحۡلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنۡ أَرَدۡنَآ إِلَّآ إِحۡسَٰنًا وَتَوۡفِيقًا(62) أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُ ٱللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمۡ فَأَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ وَعِظۡهُمۡ وَقُل لَّهُمۡ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ قَوۡلَۢا بَلِيغًا(63)﴾

 كلمة أخيرة: لحكمة بالغةٍ بالغة هناك أشياء مشتركة بين القانون الإلهي والقانون الوضعي، فالإنسان إن لم يسرق لعله يخاف الله، أو لعله يخاف القانون، فإذا كنت بمؤسسة فيها ضبط شديد، مراقبة شديدة، فيها نظام محاسبة دقيق جداً، وإذا اختلس الإنسان شيئاً يُفتضَح ويُحاكَم، وتُكَف يده، وتُصادَر أمواله فأنت بهذه الحالات لا تسرق، الله وحده يعلم لماذا لم تسرق؛ خوفاً من الله، أو خوفاً من القانون، لكن ما من تشريع أرضي على الإطلاق فيه أمر بغض البصر، فأنت حينما تغض بصرك تخاف ممن؟ لا تخاف إلا من الله، فغضُّ بصرِك دليل أنك تخاف الله، هذه العبادة هي عبادة الإخلاص، صيامك في البيت دليل خوفك من الله، فالله عز وجل في بعض الأوامر ينفرد بها الدين، والقوانين الوضعية لا تشترك معه إطلاقاً، فلذلك تكشف نفسك أنت من صلاة قيام الليل، من غض البصر، من إنفاق المال، دون أن تبوح بهذا الإنفاق، من صيام النفل، عندك عبادات كثيرة تفعلها، ولا أحد يُلزِمك بها، ولا أحد يطّلع عليها إلا الله، فهذه العبادات يمكن أن تؤكد لك إيمانك بالله، وطاعتك له، وحبك له.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور