- العقيدة الإسلامية
- /
- ٠3العقيدة من مفهوم القرآن والسنة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
من لوازم العقيدة الصحيحة :
أيها الأخوة الكرام
مع الدرس الثاني والثلاثين من دروس العقيدة، ولا زلت أؤكد لكم: أن حقيقة العقيدة لا ما ينبغي أن تعتقد، بل ما ينبغي أن تكون عليه، ومن لوازم العقيدة الصحيحة، من لوازم الفهم الصحيح، من لوازم معرفة الله عز وجل، من لوازم معرفة حقيقة الدنيا: أن تصبر.
أيها الأخوة, أنت في مدرسة، في شدة، في استماع، في انتباه, في اهتمام، في وظائف، في واجبات، في دوام، في تبكير إلى الدرس، في احترام المدرس، هكذا طبيعة المدرسة، في الملهى شيء آخر، إذا كنت في ملهى فهذا موضوع آخر، فكل إنسان في مدرسة, يظن نفسه في ملهى, يقع في إشكال كبير، أنت في مدرسة، كلمة مدرسة؛ أي إعداد لمستقبل مشرق .
أنت في الدنيا معنى إعداد للآخرة، ما دامت الدنيا مرحلة إعدادية، ما دامت الدنيا ممرًّا وليست مقراً، ما دامت الدنيا دار عمل، ما دامت الدنيا دار تكليف، ما دام الإنسان أودعت فيه الشهوات، أعطي العقل والمنهج، وقد يغفل، وقد يزيغ، وقد يقصر, فلا بد من تأديب، لا بد من توجيه، لا بد من شدة، لا بد من دفع إلى باب الله عز وجل، لذلك كان الصبر.
متى يصبر العبد؟ :
حينما تفهم على الله سر وجودك في الدنيا تصبر، حينما تعلم علم اليقين أنك مخلوق للجنة، وأن الحياة الدنيا إعداد لها تصبر، حينما تعلم أن الله سبحانه وتعالى كماله مطلق تصبر ، حينما تعلم أن الله حكيم تصبر، حينما تعلم أن الله عليم تصبر، حينما تعلم أن الله عادل تصبر، أنت حينما تؤمن بوجود الله أولاً، وبعلمه، لا يخفى عليه شيء، وبعدله، وبحكمته، وبرحمته، خبرته بما خلق، حينئذ تصبر, أما الذي لا يصبر فهناك خلل في فهمه، خلل في عقيدته، خلل في إيمانه، خلل في معرفته لسر وجوده .
من هو الجاهل؟ :
الصبر محصلة أشياء كثيرة، الصبر محصلة، تماماً كما لو كنت إنساناً راشداً بالغاً عاقلاً، وأنت عند طبيب أسنان، وضعف القلب -لا سمح الله ولا قدر- لا يسمح بالمخدر، ولا بد من قلع هذا الدرس، ألم مستمر، والقلب لا يحتمل المخدر، والطبيب أقنعك، لذلك تتمسك بالمقعد وتصبر، لماذا تصبر؟ لأنك تعلم أنه لا بد من قلع هذا السن، ولماذا تصبر؟ لأنك تعلم أن المخدر لا يناسبك، ولماذا تصبر؟ لأن هذا الطبيب في أعلى مستوى، إذاً تصبر، أما لو أن طفلاً صغيراً أردنا أن نقلع، أو أن نزيل سنه يبكي، ويتحرك، ويصدر حركات غير معقولة، وقد يتفلت لسانه بكلمات غير معقولة للطبيب، لأنه جاهل، إذاً: الذي لا يصبر جاهل، والذي يصبر فهو على حد أدنى من معرفة الله .
علامة الحب الصدق :
الله عز وجل جعل هذه الدنيا دار ابتلاء، كل إنسان بالإكرام يميل قلبه لمن أكرمه، لكن متى يظهر الولاء الحقيقي؟ متى يظهر الحب الحقيقي؟ . والله وإن فتّتوا في حبهم كبدي باق على حبهم راض بما فعلوا
علامة الحب الصدق، أما العطاء فلا يولّد محبة، يولّد منفعة، لذلك هناك عبيد إحسان، وليس هناك عبيد امتحان .
لك صديق غني، وكل يوم في مطعم، إكرامه منقطع النظير، أنت تحبه لأنه تأتيك من قِبَله مزايا كثيرة، لو أن مرة لم يقدم لك شيئاً فانصرفت عنه، إذاً أنت لا تحبه، أنت تحب نفسك، فهذا اليوم الذي قطع عنك العطاء انصرفت عنه، لأنك تحب نفسك .
هذا ملخص الإيمان :
يمكن أن يلخَّص الإيمان في الصبر، لأنه هو الإيمان كله، معرفة بالله، وضبط الشهوات، الإيمان ضبط، فما من شهوة أودعها الله في الإنسان إلا جعل لها قناة نظيفة، ولكن ليس قنوات، قناة واحدة، المرأة بالزواج فقط، المال بالكسب الحلال فقط، العلو في الأرض شهوة بطاعة الله، وبطلب العلم، لا بإيذاء الناس، ولا ابتزاز أموالهم، فقضية الصبر قضية مركزية في الدين، الصبر ضبط، المؤمن منضبط، منضبط بمنهج الله .
الإيمان قيد الفتك لا يفتك مؤمن :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((الْإِيمَانُ قَيْدُ الْفَتْكِ، لَا يَفْتِكُ مُؤْمِنٌ))
هل من المعقول: أن الفرنجة حينما فتحوا القدس أن يقتلوا سبعين ألف إنسان؟ والذي ترونه الآن، وتسمعون به, قتل بلا تمييز، قتل بلا سبب، موت كعقاص الغنم، لا يدري القاتل لمَ يَقتل، ولا المقتول لمَ قُتل؟ فلذلك أنت مكلف أن تنضبط بالإيمان، الفرنجة ذبحوا سبعين ألف مسلم في القدس في يومين، فلما فتح صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله تعالى- القدس, لم يسفك قطرة دم واحدة، لأنه لا يستطيع، مقيَّد، الإيمان قيَّده، الإنسان بنيان الله، وملعون من هدم بنيان الله .
ما تعريف الصبر في اللغة؟ :
أيها الأخوة، الصبر في اللغة الحبس والكف، الصبر حبس اللسان, والقلب, والنفس, والجوارح عن التشكي, والجزع, والتسخط, والتذمر، ولو أفضنا في هذا الموضوع, لأننا في هذه الأيام في أمسّ الحاجة إليه، واللهِ مصائب كالجبال، واللهِ محن لا تقوى على حملها الجبال، والمسلمون مبتلون الآن أشد أنواع البلاء، فلا بد من فهم حقيقة الصبر .
الصبر الثبات مع الله .
((واللهِ يا عمّ، لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي, على أن أدع هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله))
قال تعالى:
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾
الثبات مع الله، تلقي البلاء بالترحيب والدعة، هذا قرار الله عز وجل، هذه الشدة إرادة الله عز وجل، الذي يحب الآخر يحترم إرادته، الذي يحب الآخر يحب فعله، الصبر حبس النفس عن الجزع والتسخط، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن التشويش .
المسير من الدنيا إلى الآخرة سهل هيّن على المؤمن، وهجران الخلق في جنب الله شديد، والمسير من النفس إلى الله صعب، والصبر مع الله أشد، هذه بعض أقوال العلماء في شأن الصبر .
من لوازم العلم بأسماء الله تعالى أن تصبر :
الصبر ورد في القرآن في تسعين موضعاً، قال بعض العلماء: الصبر من لوازم العلم بأسماء الله وصفاته، فإن علمت حقيقة أن الله رحيم، وأن الله حكيم، وأن الله قدير، وأن الله عدل، وأن الله خبير، وأنك مخلوق للجنة، وأن الدنيا دار ممر، وأن الدنيا لا شأن لها عند الله .
وفي الحديث: عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ:
((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ, مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ))
من لوازم العلم بأسماء الله تعالى أن تصبر .
من علامات الإيمان بالقضاء والقدر :
الصبر يدلّ على صدق مراقبة لله عز وجل، الصبر يدل على إيمان العبد بالقضاء والقدر، من علامات الإيمان بالقضاء والقدر أن تصبر، الصدق توحيد الله بأسمائه، العليم، والحكيم، والخبير، والبصير .
أنت حينما تؤمن أن الله يقدر المحن والبلاء كيفما يشاء، وهو يعلم، وأنت لا تعلم، أيّ لا تنصِّب نفسك محللاً لكل أفعال الله، قل: لا أعلم، نحن في محنة شديدة، ما الحكمة منها؟ واللهِ لا أعلم، أنا أعلم أن المحن كلها رسالة من الله، أن يا عبدي غيِّر، غيِّر حتى أغيِّر، هذا هو ردي، آيات كثيرة .
هذه مهمة المصائب :
المصائب تقريب من الله، والمصائب تطهير، والمصائب تزكية، والمصائب تحذير، والمصائب دفع إلى باب الله عز وجل، الله وحده يعلم ما هو أفضل لحال المؤمن، يوجد إنسان يسوقه الله إليه في الشدائد، يوجد إنسان بالرخاء، يوجد إنسان يعزه, فيستحيي من الله، فيقبل عليه، يوجد إنسان يضيق عليه، هو الخبير، يعلم, وأنت لا تعلم، أنت مع طبيب من بني البشر، لأنه كتب على اللوحة: بورد من دولة عظمى, تجد نفسك مستسلماً، خذ هذا الدواء، حاضر، حلل فتحلل، صور فتصوِّر، ولا كلمة، ولا اعتراض، لأنه كاتب: بورد، فهذا الإله العظيم, كل هذا الكون, يشهد له بعلم، وحكمة، وقدرة، وعدل، ألا تستسلم له؟ ألا تقول: يا رب أنا راض؟ راض كيفما فعلت بي .
وقفة متأنية :
لا يمكن أن يقول إنسان دعاء أبلغ من هذا الدعاء، في الطائف قال عليه الصلاة والسلام:
((اللهم إليك أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس -أنا لا أصدق أنه في تاريخ الإسلام كله مرت فترة, المسلمون هانوا على العالم كله كهذه الفترة، أبداً، إذا قُتل شخص منهم، مات واحد اليوم، نحن بالمئات، بالألوف، لا قيمة لنا أبداً- يا رب المستضعفين، إلى من تكلني؟ إلى صديق يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري -لكن يا رب، إذا كانت هذه الشدة تعني أنك غاضب علي -لك العتبى حتى ترضى- وإن كانت هذه الشدة لا علاقة لها بغضبك ورضاك, فأنا راض بهذا، لكن الأدب التام- لكن عافيتك أوسع لي))
انظر إلى هذه الفترة التاريخية التي يعيشها المسلمون اليوم :
ما من دعاء ينطبق على المسلمين اليوم كهذا الدعاء، تعويض مئتين وسبعين راكباً، كل راكب خمسمئة مليون ليرة ديته، مئتان وسبعون راكباً ضرب خمسمئة مليون، هذا الهوان على الله، لئلا تعتبوا على الله, هان أمر الله علينا فهنا على الله .
يوجد بلد نحو الشرق ألغيت كلية الشريعة، وسمح للبرامج الساقطة المستوردة، وقال: أراها أنا وحفيداتي، هان أمر الله على المسلمين فهانوا على الله عز وجل، برنامج غنائي، مغنيتان يتنافسان على المرتبة الأولى، ستة وثمانون مليون اتصال من العالم العربي والإسلامي، وكلفت هذه الاتصالات بمليارات الليرات، لذلك قال وزير حرب العدو: مشكلتنا ليست مع المسلمين، إذاً الحمد لله، مشكلتنا مع الإسلام، وليست مع المسلمين، لأن المسلمين انتهوا.
أضع بين أيديكم حقائق يدمى لها القلب، ألا ينبغي أن يرى الله منا اهتماماً بأمره، وتعظيماً لشرائعه؟:
﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾
من أوجه الصبر كما ورد في القرآن الكريم :
1-الأمر به والنهي عن ضده :
أيها الأخوة، الصبر في القرآن الكريم ورد على سبعة أوجه:
الوجه الأول: الأمر به، والنهي عن ضده:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا﴾
﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾
﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾
﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾
متى يكون الصبر؟ :
يوجد ملمح لطيف في الصبر
فَعَنْ أَنَسٍ يَقُولُ لِامْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِهِ:
((أَتَعْرِفِينَ فُلَانَةَ؟ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِهَا, وَهِيَ تَبْكِي عَلَى قَبْرٍ, فَقَالَ لَهَا: اتَّقِي اللَّهَ، وَاصْبِرِي، فَقَالَتْ لَهُ: إِيَّاكَ عَنِّي، فَإِنَّكَ لَا تُبَالِي بِمُصِيبَتِي، قَالَ: وَلَمْ تَكُنْ عَرَفَتْهُ، فَقِيلَ لَهَا: إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَ بِهَا مِثْلُ الْمَوْتِ، فَجَاءَتْ إِلَى بَابِهِ، فَلَمْ تَجِدْ عَلَيْهِ بَوَّابًا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكَ، فَقَالَ: إِنَّ الصَّبْرَ عِنْدَ أَوَّلِ صَدْمَةٍ))
لكن بعد الصدمة الأولى, لا بد من أن نصبر، شئنا أم أبينا، ماذا نفعل؟ شخص عنده ابن توفاه الله، ماذا يفعل؟ مات وانتهى، الصبر حاصل، ولكن بعد الصدمة الأولى، لكن لا تكون صابراً إلا إذا صبرت عند الصدمة الأولى، عند أول خبر، يا رب لك الحمد، يا رب لك الشكر .
قف عند هذا الملمح لهذا الحديث :
هناك ملمح ثان: ممنوع منعاً باتاً أن تتمنى الموت، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال:
((قَالَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي))
أحياناً يأتي الموت رحمة، أيّ إنسان فَقَدَ قدراته، فَقَدَ حركته، أصابه شلل، ضعفت ذاكراته، فَقَدَ وعيه، أصبح عبئاً، ما من شيء أرحم له من الموت .
كنت أسمع شريطاً لخطيب, توفي رحمه الله، كان يقول: اللهم من أراد بي سوءاً في هذا المسجد, فأصبه بعمى في عينيه، وشلل في يديه، وسرطان في دمه، حتى يتمنى الموت فلا يجده .
((لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي))
الصبر لا يتنافى مع الحزن :
الآن:
عَنْ أُسَامَةَ, أَنَّ بِنْتًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ، وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ, وَسَعْدٌ, وَأُبَيٌّ: أَنَّ ابْنِي قَدْ احْتُضِرَ، فَاشْهَدْنَا، فَأَرْسَلَ يَقْرَأُ السَّلَامَ، وَيَقُولُ:
((إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَمَا أَعْطَى، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ مُسَمًّى، فَلْتَصْبِرْ وَتَحْتَسِبْ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تُقْسِمُ عَلَيْهِ، فَقَامَ وَقُمْنَا مَعَهُ، فَلَمَّا قَعَدَ رُفِعَ إِلَيْهِ، فَأَقْعَدَهُ فِي حَجْرِهِ، وَنَفْسُ الصَّبِيِّ جُئِّثُ، فَفَاضَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ سَعْدٌ: مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: هَذِهِ رَحْمَةٌ يَضَعُهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ))
إذاً: الصبر لا يتنافى مع الحزن .
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
((دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ))
ما موضع الشاهد في هذا الحديث؟ :
أيها الأخوة الكرام، روى الإمام مسلم في صحيحه, عَنْ صُهَيْبٍ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ، فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِكِ: إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ, فَابْعَثْ إِلَيَّ غُلَامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ -وفي رواية: كان هذا الساحر أو الكاهن يتكهن للملك، يقدم له غطاء إيديولوجيًا، أي هو متواطئ مع الملك- فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلَامًا يُعَلِّمُهُ، فَكَانَ فِي طَرِيقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ -في طريق الغلام إلى الساحر راهب- فَقَعَدَ إِلَيْهِ، وَسَمِعَ كَلَامَهُ -الراهب يمثل الدين السماوي، أما الملك متألّه، والذي يقنع الناس بأنه إله الساحر، لكن الساحر ليس مقتنعاً أن هذا الملك إله، بالتعبير الشعبي على هامان يا فرعون، لكنه يقنع الناس أن هذا الملك إله- فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ, وَقَعَدَ إِلَيْهِ، فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ، فَقَالَ: إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ فَقُلْ: حَبَسَنِي أَهْلِي، وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ, فَقُلْ: حَبَسَنِي السَّاحِرُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ, إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ, قَدْ حَبَسَتْ النَّاسَ - وحش وقف على مداخل بلدة، وحبس الناس عن الخروج- فَقَالَ: الْيَوْمَ أَعْلَمُ: الساحر أَفْضَلُ أَمْ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ؟ فَأَخَذَ حَجَرًا, فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ, فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ, حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ، فَرَمَاهَا, فَقَتَلَهَا، وَمَضَى النَّاسُ، فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: أَيْ بُنَيَّ، أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي -أي رأى على يديه كرامة- قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى، وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى، فَإِنْ ابْتُلِيتَ فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ، وَكَانَ الْغُلَامُ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَيُدَاوِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الْأَدْوَاءِ، فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ, كَانَ قَدْ عَمِيَ، فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ، فَقَالَ: مَا هَاهُنَا لَكَ أَجْمَعُ إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي، فَقَالَ: إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا، إِنَّمَا يَشْفِي اللَّه عز وجل، فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللَّهِ, دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ، فَآمَنَ بِه, فَشَفَاهُ اللَّهُ، فَأَتَى الْمَلِكَ، فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟ قَالَ: رَبِّي، قَالَ: وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟ قَالَ: رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ، فَأَخَذَهُ، فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ, حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلَامِ، فَجِيءَ بِالْغُلَامِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: أَيْ بُنَيَّ، قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ؟ قال: فَقَالَ: إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا، إِنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ، فَأَخَذَهُ, فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ, حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ، فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ، فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى، فَدَعَا بِالْمِئْشَارِ، فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ، فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ, فَأَبَى، فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ, فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِالْغُلَامِ -القصة رواها النبي عليه الصلاة والسلام، والقصة تفسر آية في الكتاب أتلوها عليكم بعد قليل- فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى، فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا، فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ، فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ، وَإِلَّا فَاطْرَحُوهُ، فَذَهَبُوا بِهِ, فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، فَرَجَفَ بِهِمْ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا، وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللَّهُ، فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ -أي في قارب- وَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ، فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ، وَإِلَّا فَاقْذِفُوهُ، فَذَهَبُوا بِهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ، فَانْكَفَأَتْ بِهِمْ السَّفِينَةُ، فَغَرِقُوا، وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللَّهُ -احتار الملك كيف يقتله- فَقَالَ لِلْمَلِكِ: إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ، قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي، ثُمَّ ضَعْ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قُلْ: بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ، ثُمَّ ارْمِ، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي -الملك وقع في مأزق كبير، ولكنه لم ينتبه- فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبْدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلَامِ، ثُمَّ رَمَاهُ، فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ, فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ, فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ, فَمَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، فَأُتِيَ الْمَلِكُ، فَقِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ؟ قَدْ وَاللَّهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ, قَدْ آمَنَ النَّاسُ، فَأَمَرَ بِالْأُخْدُودِ فِي أَفْوَاهِ السِّكَكِ، فَخُدَّتْ، وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ، وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فأقحموه فِيهَا، أَوْ قِيلَ لَهُ: اقْتَحِمْ، فَفَعَلُوا, حَتَّى جَاءَتْ امْرَأَةٌ، وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا، فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا، فَقَالَ لَهَا الْغُلَامُ: يَا أُمَّهْ, اصْبِرِي، فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ))
هذا الحديث أحياناً يستخدم كدليل على الأعمال الاستشهادية:
﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ﴾
ومعركة الحق والباطل قديمة قدم الإنسان، ولا تزال مستمرة إلى نهاية الدوران .
2- أن الله أثنى على أهله، وبيّن محبته لهم، ومعيته لهم :
الوجه الثاني من وجوه الصبر في القرآن الكريم: أن الله سبحانه وتعالى أثنى على أهله، وبيّن محبته لهم، ومعيته لهم، فقال تعالى:
﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ﴾
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾
نهاية المطاف :
عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ:
((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأَانِ، أَوْ تَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا))
أيها الأخوة، نحن في أمسّ الحاجة إلى الصبر، لكن إلى الصبر الإيجابي لا الصبر السلبي، الصبر الإيجابي أن يبلغ سعيك أقصاه، ثم حيث انتهى بك السعي فاصبر، لا أن تقعد، ولا تتحرك، ولا تعمل شيئاً، ولا تحمل همّ المسلمين، ولا تسهم بشيء في خدمة المسلمين، وتقول : أنا صابر، لا، الصبر السلبي ألا تفعل شيئاً وتصبر، أما الصبر الإيجابي أن تفعل كل ما تستطيع، وحيث انتهى بك الفعل والسعي تصبر، لا يقبل منا إلا هذا الصبر الثاني، الصبر الإيجابي، أما أن تصبر دون أن تفعل شيئاً, فهذا ليس من أخلاق المؤمنين .
وللدرس تتمة إن شاء الله في الأسبوع القادم .