الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس السادس والعشرين من دروس سورة النساء، ومع الآية الثامنة والأربعين، وهي قوله تعالى:
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُۚ وَمَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفۡتَرَىٰٓ إِثۡمًا عَظِيمًا(48)﴾
أيها الإخوة، ديننا دين التوحيد، ديننا كلمته الأولى: لا إله إلا الله، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، معنى التوحيد: ألّا ترى مع الله أحداً، معنى التوحيد ألا ترى رازقاً إلا الله، ولا قوياً إلا الله، ولا رحيماً إلا الله، أنّ الذي يعطي هو الله، والذي يمنع هو الله، والذي يرفع هو الله، والذي يخفض هو الله، والذي يُعِز هو الله، والذي يُذِل هو الله، كفكرة سهل أن تفهمها، أما أن تعيشها فهذا يحتاج إلى جهد كبير جداً، يمكن بوقت قصير أن تستوعب معنى لا إله إلا الله، أما أن تعيش هذه الكلمة، حينما يأتي إنسان، ويضغط عليك، ولا ترى إلا الله سمح له، بين أن تكون علاقتك معه وبين أن تكون علاقتك مع الله، بَونٌ شاسع، لذلك معظم أهل الأرض مؤمنون بالله خالقاً، لكن قلةً منهم تؤمن بالله مسيراً، تؤمن بالله فعالاً، تؤمن بالله أنه إله في السماء، وإله في الأرض، تؤمن أن الأمر كله بيد الله، لكن شاءت حكمة الله ألّا تدركه الأبصار، لا تدركه الأبصار، ترى من؟ ترى قوياً يهدد العالم، ترى قوياً بإمكانه أن يقصف، وأن يدمر، وأن يبيد، وأن يقتل، وأن يمثّل، وأن يُذِل، لذلك عظمة الإيمان أنك لا ترى مع الله أحداً، إنْ رأيت أن هذا الإنسان القوي بإمكانه أن ينفعك، أو أن يضرك فقد وقعت في الشرك، على كلٍ الشرك نوعان؛ شرك جَلِيّ، وشرك خفي، الشرك الجلي أن تعبد بوذا، أن تعبد حجراً، أن تعبد صنماً، أن تعبد الشمس والقمر، أن تعبد شهواتك، أن تعبد القوي، وعبادة القوي لا تعني أنك تعده إلهاً، لا، يأمرك فتأتمر وينهاك فتنتهي، هذه عبادتك له، ولا تعبأ بأمر الله ولا بنهيه، حينما يأمرك قوي فتأتمر، وينهاك فتنتهي، فأنت تعبده دون أن تشعر، وهذا شرك خفي، حينما تتوهم أن العطاء بيد زيد، وأن الحرمان بيد عبيد، وأن العز بيد فلان، وأن الذل بيد علان، وتنسى الله عز وجل، فهذا شرك خفي، قال تعالى:
﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ(106)﴾
أخطر موضوع في الدين الشرك:
الشرك أيها الإخوة، أخفى من دبيب النملة السمراء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، أخفى من دبيب النملة إذا سارت على صخرة صماء أتستطيع أن تسمع وقع أقدامها؟ الشرك أخفى من دبيب النملة السمراء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، وأدناه أن تحب على جَور، وأن تُبغِض على عدل، إنسان نصحك بأدب، لكن لم ترُق لك نصيحته، فأبغضته، إنك ألّهت نفسك، رأيت أنك أكبر من أن تُنصَح، أو أحسنَ إليك إنسان، وهو مشرك فأحببته، علامة إيمانك أن تبغض المشرك ولو كان محسناً لك، وأن تحب المؤمن ولو كان مسيئاً لك، هذه هي علامة إيمانك.
يا أيها الإخوة الكرام، ما من موضوع في الدين أخطر من الشرك، لأن أيّ ذنب مهما عظم يُغفَر، ذنب يُغفَر، وذنب لا يُترَك، وذنب لا يُغفَر، أما الذنب الذي يُغفر فما كان بينك وبين الله، لأن حقوق الله عز وجل مبنية على المسامحة، وأما الذنب الذي لا يُترَك فما بينك وبين العباد، لأن حقوق العباد مبنية على المشاححة، أما الذنب الذي لا يُغفَر أن تشرك بالله.
أيها الإخوة لا بد من التوضيح، الحقيقة ثمة مصطلح يستخدمه بعض العلماء اسمه تحصيل حاصل، أنا حينما أغلق الباب الخارجي للجامع فلا يستطيع أحد أن يخرج، كون هذا الباب مفتوحاً لا قيمة له، هو مُغلَق حكماً، لأنك ولو خرجت منه فالباب الثاني مُوصَد أمامك، فكون هذا الباب مفتوح أو مغلق تحصيل حاصل، حكماً هو مغلق، لأن باب الخروج الأساسي مغلق، الشرك هنا لا يُغفَر، تحصيل حاصل، لأنك حينما تشرك -لا سمح الله ولا قدر- تتجه إلى غير الله، وغير الله ليس عنده شيء.
ضربت مرةً مثلاً: لك مبلغ ضخم في حلب، وحُدِّد لك موعد لقبضه، الساعة الثانية عشرة ظهراً، وأردت أن تركب قطاراً إلى حلب، صعدت القطار، وقطعت الدرجة الأولى، لكن بجهلك بالقطارات ركبت في الدرجة الثالثة، هذا خطأ، لكن القطار متجه إلى حلب، جلست مع شباب سيئي الخلق فأزعجوك في الطريق بغنائهم، وصخَبهم، وضجيجهم، وهذا خطأ ثانٍ، لكن القطار متجه إلى حلب، جلست عكس اتجاه الطريق فأصابك دُوَار، وهذا خطأ ثالث، لكن القطار متجه إلى حلب، وسيصل في الوقت المناسب، التَوَتْ أمعاؤك من الجوع، ولا تدري أن في القطار عربة طعام تُقدَّم فيها بعض الأطعمة، وهذا خطأ رابع، لكن القطار متجه إلى حلب، وسيصل في الموعد المناسب، فرغم هذه الأغلاط، قطعت في الدرجة الأولى، وركبت في الدرجة الثالثة، جلست مع شباب سيئي الخُلق، جلست بعكس اتجاه السير، التوَتْ أمعاؤك من الجوع، لكن القطار متجه إلى حلب، وسيصل في الوقت المناسب، وستقبض المبلغ الثمين، أما الخطأ الذي لا يُغفَر أن تركب قطاراً إلى درعا، لا شيء هناك، لو كان فخماً، لو جلست في الدرجة الأولى، لو تناولت الشطائر الطيبة، لو كنت وحدك في الغرفة ليس هناك شيء، لن تقبض درهماً واحداً هناك.
مشكلة المسلمين الأولى أنهم يتعلقون بغير الله وهذا هو الشرك:
معنى أن الله عز وجل ﴿لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِ﴾ لأنك في الشرك تتجه إلى غيره، لا إليه، نقول: لن يُسمَح لك أن تعالج إذا ذهبت إلى مقهى، ينبغي أن تذهب إلى المستشفى، هناك الفحوصات، وهناك الطب، وهناك الأدوية، وهناك المعالجة، وهناك التحليل، وهناك التصوير، أما لو ذهبت إلى مقهى لا يوجد شيء، فإن الله لا يغفر لك الذنب تحصيل حاصل، إنك لم تتجه إليه، إنك لم تعلق الأمل عليه، إنك لم تنصعْ لأمره، إنك لم تطلب من القوي الغني القدير، طلبت من الضعيف، الفقير الحقير الحقود، أنت حينما تسأل إنساناً لا شك أنك مؤمن بوجوده، ولا تسأله إلا إذا أيقنت أنه يسمعك، ولا تسأله إلا إذا أيقنت أنه قادر على أن يلبي طلبك، ولا تسأله إلا إذا علمت أنه يحب أن يلبي طلبك، لا بد من أن تؤمن بوجوده، وأن تؤمن بعلمه، وأن تؤمن بقدرته، وأن تؤمن برحمته، وجوده، وعلمه، وقدرته، ورحمته، أما إنك حينما تتجه إلى بشر، إلى إنسان ضعيف، هذا الضعيف ربما لا يكون معك دائماً، إنْ لم يكن معك كيف يسمعك؟ وإن سمعك ربما لا يملك القدرة على حل مشكلة، وإن ملكَ القدرة ربما لا يحب أن يحل مشكلتك، إذاً الشرك أن تتجه إلى غير الله، الشرك أن تعقد الأمل على غير الله، الشرك أن تتوكل على غير الله، الشرك أن تُخلِص لغير الله، الشرك أن تكون مُجيَّراً لغير الله، التوحيد، ولا يليق بك إلا أن تكون موحداً، لا يليق بالإنسان أن يكون لغير الله، ولا أن يتذلل إلا لله، ولا أن يُمرِّغ جبهته إلا في أعتاب الله، ولا أن يطلب إلا من الله، وألا يستغفر إلا من الله، وألا يطلب العون إلا من الله، مشكلة المسلمين الأولى أنهم يتعلقون بغير الله.
علينا أن نجمع بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله:
أيها الإخوة، مَن أخذ الأسباب واعتمد عليها فقد أشرك، أي أنت حينما تراجع مركبتك، وتعتقد أن هذه المراجعة ضمان لك من حادث فأنت واهم، ينبغي أن تراجع مركبتك أخذاً بالأسباب، ولا بد من أن تتوكل على رب الأرباب، أن تجمع بين الأخذ بالأسباب والتوكل شيء يحتاج إلى تفوق، الذي أخذ بالأسباب اعتمد عليها، ونسي الله عز وجل، الغرب أخذوا بالأسباب وأشركوا، لأنهم ألّهوا الأسباب واعتمدوا عليها.
﴿ هُوَ ٱلَّذِىٓ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ مِن دِيَٰرِهِمْ لِأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ ۚ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ ۖ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَأَتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ ۖ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ ۚ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى ٱلْمُؤْمِنِينَ فَٱعْتَبِرُواْ يَٰٓأُوْلِى ٱلْأَبْصَٰرِ(2)﴾
هيَّؤوا دروعاً على بعد مئات الكيلو مترات، هذه الدروع تقيهم أية ضربة خارجية، الدروع الفضائية، ﴿فَأَتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ﴾ كلما اعتمدت على قوتك خيّب الله ظنك بقوتك، وكلما اعتمدت على مالك؛ أحدهم -أصلحه الله- قال كلمة في مجلس: إن الدراهم مراهم، تُحَل بها كل مشكلة، فابتلاه الله بمشكلة لو دفع ألف مليون لا تحل بها، قال لي: بقيت في المنفردة ثلاثة وستين يوماً، وكل يوم أُؤَنّب نفسي، ألم تقل أيها الإنسان الجاهل: إن الدراهم مراهم تُحَلّ بها كل مشكلة!
طبيب في أمريكا رأى أن الجري يقي القلب من كل آفاته، هي فكرة علمية صحيحة، فكان يجري كل يوم ساعتين، وعُقِد معه ندوات، وألَّف مقالات، وألَّف كتباً، كلامه ليس خطأ، ولكنه توهّم أن الجري وحده يقيه من الموت، فمات وهو يجري، في الثانية والأربعين من عمره، كلما ألّهت شيئاً خيّب الله ظنك به، خذ الأسباب ولكن إياك أن تعتمد عليها، خذ الأسباب، ولكن إياك أن تنسى الله معها، خذ الأسباب ولا تنسَ أن مُسبِّب الأسباب هو الله.
أخطر شيء في حياة المسلمين الشرك الخفي، طبعاً لا يمكن أن يُقبَل في العالم الإسلامي شرك جلي، هذا ممنوع، غير مقبول، مرفوض، فقد قال عليه الصلاة والسلام:
(( إن أخوف ما أتخوف على أمتي، الإشراك بالله، أما إني لست أقول يعبدون شمساً، ولا قمراً، ولا وثناً ، ولكن أعمالاً لغير الله، وشهوة خفية ))
[ ابن ماجه بسند ضعيف جداً. ]
هذا مستحيل.
(( إنَّ الشيطانَ قد يَئِسَ أن يُعبَدَ بأرضِكم ))
لكن طمِعَ بالشرك الخفي، أن تعبد شهواتك من دون الله، أن تعبد مصالحك، أن تعبد مركزك، أن تعبد صلاحياتك، أن تعبد قوياً، أن تعبد جميلاً، أن تعبد محسناً، العبادة يعني أن تطيعه في معصية فقط، لو قلت لواحد: أتعبده؟ يقول: معاذ الله، كيف أعبده؟ حينما يحرم حلالاً فتطيعه، وحينما يحلل حراماً فتطيعه فهذه عبادته، وأنت بهذا تُؤَلِّهه.
أعظم شيء في الإيمان التوحيد:
قال تعالى:
﴿ أَفَرَءَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَٰهَهُۥ هَوَىٰهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍۢ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِۦ وَقَلْبِهِۦ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِۦ غِشَٰوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنۢ بَعْدِ ٱللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ(43)﴾
آثر هواه على قواعد الشرع.
﴿ قُلْ إِن كَانَ ءَابَآؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَٰنُكُمْ وَأَزْوَٰجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَٰلٌ ٱقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَٰرَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَٰكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَجِهَادٍۢ فِى سَبِيلِهِۦ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأْتِىَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِۦ ۗ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْفَٰسِقِينَ(24)﴾
أعظم شيء في الإيمان التوحيد، التوحيد يشفي الصدور، التوحيد يشفي الصدور من الأحقاد، هذا الذي نالك بأذى ما كان له أن يفعل لولا أن الله سمح له، لقد مكّنه الله منك، لقد سلّطه الله عليك، وكمال الله مطلق وعدله مطلق، إذاً عندي مشكلة، مشكلتي مع الله لا مع زيد ولا عبيد، ألم يقل الله عز وجل على لسان أحد الأنبياء:
﴿ مِن دُونِهِ ۖ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم ۚ مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ۚ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (56)﴾
وحوش مخيفة، مفترسة، لكنها مربوطة بأزِمَّة مُحكمة، بيد أرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين، علاقتك مع من؟ مع الوحوش أم مع من بيده أزِمَّتها؟ مع من بيده أزِمَّتها، لأنه لو أرخى الحبال لوصلت إليك، لو شدّ الحبال لأبعدها عنك، فعلاقتك ليست مع الوحوش، ولكن مع من بيده أزمتها، هذا هو الإيمان.
دعوة الأنبياء جميعاً لا تزيد عن كلمة التوحيد:
قال تعالى:
﴿فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ* إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم ۚ مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ۚ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ حينما يوحّد الإنسان تنحل مشكلاته، إن جاءه ما يحب قال:
"الحمد لله ربي الذي بنعمته تتم الصالحات" ، وإن جاءه ما يكره قال:
"الحمد لله على كل حال" .
أيها الإخوة الكرام، يكاد التوحيد يكون الدين كله، يكاد التوحيد يكون فحوى دعوة الأنبياء جميعاً، لو أردت أن تلخص دعوة الأنبياء جميعاً ما زادت عن كلمة التوحيد.
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ(25)﴾
دعوة وفحوى جميع الأنبياء: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ أنت متى تعبد الله؟ حينما ترى أنه وحده الفعال، وحده المعطي، وحده المانع، وحده المُعِز، وحده المُذِل، وحده الرافع، وحده الخافض، وحده المانع، وحده المُعطي، المعطي المانع، الضار النافع، المعز المذل، التواب الرحيم، لا تتعلق به، ولا تُقبِل عليه، ولا تعقد عليه الأمل، ولا تتوخى عنده النجاة إلا إذا عرفت أن الأمر بيده.
الله تعالى ما أمرك أن تعبده إلا بعد أن طمأنك أن الأمر عائد إليه:
لذلك الله جل جلاله ما أمرك أن تعبده إلا بعد أن طمأنك أن الأمر عائد إليه قال تعالى:
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾
ما قال إليه يرجع الأمر، (كله) توكيد ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ هذا الذي ينقص المسلمين، التوحيد، ولاسيما في هذه الأيام، أنت ماذا ترى؟ ترى جهة قويةً، متغطرسةً، حاقدةً، لا ترحم ولا تُنصِف، تكيل بمليون مكيال، يموت الواحد منهم فيطلبون ديّته خمسمائة مليون ليرة، عشرة ملايين دولار، ويموت الآلاف منا فلا يدفعون شيئاً بقصفهم وبأخطائهم، أنت ماذا ترى؟ ترى جهة قوية طاغية آثمةً متغطرسة، ما شفاء هذه الرؤية؟ أن توحد، أن ترى أن الله سمح لها أن تفعل هذا لحكمة بالغة.
﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِى ٱلْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْىِۦ نِسَآءَهُمْ ۚ إِنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ(4) وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِى ٱلْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَٰرِثِينَ(5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَٰمَٰنَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ(6)﴾
المؤمن حينما يوحِّد لا يحقد، لأنه يرى أن يد الله تعمل في الخفاء.
﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ ۚ وَلِيُبْلِىَ ٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَآءً حَسَنًا ۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(17)﴾
المؤمن الموحد يثق بحكمة الله، المؤمن الموحد يصبر على حكم الله.
﴿ وَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ۖ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ(48)﴾
المؤمن الموحد يتلو هذه الآية دائماً:
﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰٓ أَن تَكْرَهُواْ شَيْـًٔا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰٓ أَن تُحِبُّواْ شَيْـًٔا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)﴾
المؤمن الموحد لا يرى مع الله أحد، لا يرى إلا الله، أما إذا رأى أن قوياً كافراً نال خَلْقاً بالأذى فهو يؤمن أن خطة الله استوعبت خطة الكافر، لأن الكافر لا يمكن أن يسبق الله، معنى "سبقوا" أنهم فعلوا شيئاً ما أراده الله، معنى سبقوا؛ أنهم تفلتوا من عقاب الله، ما فعلوا إلا ما سمح الله به، الأمر بيده كن فيكون، زل فيزول:
(( ياعِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ؛ ما نَقَصَ ذلكَ ممَّا عِندِي إلَّا كما يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ البَحْرَ، يا عِبَادِي، إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فمَن وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ. ))
التوحيد يذيب الهموم والإيمان بالقدر يذهب الهم والحزن:
أيها الإخوة الكرام، هناك تعبير معاصر، يقول لك أحدهم: الكرة في ملعبك، أو الكرة في ملعب خصمك، بشكل دقيق، لو أن واحداً تلقى ضربةً بعصا، هل من العقل أن يحقد على العصا؟ يكون أحمق، على من يحقد؟ على من ضربه بالعصا، فإذا كانت الطغاة في الأرض عِصيّاً بيد الله، والله كامل كماله مطلق، معنى ذلك الكرة عندي، المشكلة معي، لولا أنني أستحق هذا التأديب من هذا القوي لما سلّطه الله عليّ، لولا أنني أرتقي بهذا القوي صابراً، أو مُوحِّداً، أو مستغفِراً لمَا سلّطه علي، هناك حكمة بالغة، هذه الحكمة تُلخَّص بقول القائل: لكل واقع حكمة، لأنه لا يليق أن يقع في مُلْك الله ما لا يريد الله، ليس من وحدانيته، وليس من ألوهيته أن يقع في ملكه ما لا يريد، ليس معنى أراد أنه رضي بهذا الذي وقع، لكن الإنسان مُخيّر معنى أراد لا تعني أن الله أمر بهذا الذي وقع، أراد ولم يأمر، أراد ولم يرضَ، ومعنى أراد أنه سمح، لأنك مخير، هويتك مخير عنده، والتخيير يعني أنك تنطلق إلى ما تريد بقوة الله عز وجل، ما دام الله أعطاك قوةً كي تفعل ما تريد، فإذا كان الذي أردته سيئاً، وأعطاك قوةً أي سمح لك أن تفعل هذا لحكمة يعلمها الله، ولخطة استوعبت خطة هذا القوي، هذا هو الإيمان، لكل واقع حكمة، لذلك لو كُشِف الغطاء لاخترتم الواقع، وقال سيدنا علي رضي الله عنه: "لو كُشِف الغطاء ما ازددت يقيناً" ، هذا التوحيد يُذيب الهموم، الإيمان بالقدر يذهب الهم والحَزَن، هذا التوحيد يذيب الأحقاد، هذا التوحيد صحة، لأن الشدة النفسية الآن وراء الأمراض كلها، الآن يكاد يتداخل الطب النفسي بالطب الجسمي، كلما تقدم العلم كشف أن الخلل الذي يصيب العضوية سببه شدة نفسية.
التوحيد صحة لأنه يريك أن الأمر سمح الله به:
حدثني أحد الإخوة الكرام من أطباء القلب، قال: الشريان في القلب مصقول إلى درجة لا تُصدّق، كيف أن بعض البلاط لا يصدق الإنسان نعومته وصقله، لا يمكن أن يعلق عليه شيء، كذلك شرايين القلب من الداخل، ولاسيما الشرايين التاجيّة، صقيلة إلى درجة لا يمكن أن يعلق عليها شيء، إلا أن الشدة النفسية، الخوف، القلق، الحقد، يحفر بهذه السطوح الداخلية بالشرايين حفر صغيرة، هذه تستقطب المواد الدهنية في أثناء جريان الدم، إذاً تضيُّق الشريان سببه شدة نفسية، الأورام الخبيثة سببها الشدة النفسية، بدليل أن كل المصابين بمرض الإيدز يصابون بأورام خبيثة، أمراض القرحة سببها الشدة النفسية، السكر سببه الشدة النفسية، الخثرة في الدماغ سببها الشدة النفسية، بعض آلام العضلات سببها الشدة النفسية، الشدة النفسية جاءت من الشرك، إنسان قوي متمكن يريد أن يدمرك ولا يرحمك، ولا يقبل عذراً، ولا يُنصِفك، هذا الشعور وحده يصيب الإنسان بأزمة قلبية، بل إن الشدة النفسية قاتلة لقوله تعالى:
﴿ هَٰٓأَنتُمْ أُوْلَآءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِٱلْكِتَٰبِ كُلِّهِۦ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ ٱلْأَنَامِلَ مِنَ ٱلْغَيْظِ ۚ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ(119)﴾
كم من إنسان جاءته الضريبة فوقع ميتاً، لم يحتمل هذا الرقم، كم من إنسان تلقى خبراً سيئاً فوقع ميتاً، التوحيد صحة، التوحيد يُريك أن الأمر سمح الله به، والله عز وجل عادل، ورحيم، وغني عن أن يظلمك، وخلقك لجنة عرضها السماوات والأرض، وهذه الدنيا مؤقتة، دار ابتلاء، "دار التواء لا دار استواء، منزل ترح لا منزل فرح، مَن عرفها لم يفرح لرخاء ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي" .
أحد التابعين فقدَ أحد أعضائه، بمرض المُوات، الغرغرينا، وفقدَ أحد أولاده، فاحتسب هذا عند الله، قال: "يا رب لَئِن ذهب عني أحد أعضائي لقد أبقيت لي بقية الأعضاء، لئن فقدتُ أحد أولادي أبقيتَ لي بقية الأولاد" . المؤمن راضٍ عن الله، قال: "يا ربي هل أنت راضٍ عني" ؟ سمعه رجل اسمه محمد بن إدريس، الإمام الشافعي، قال له: "يا هذا هل أنت راضٍ عن الله حتى يرضى عنك"؟ قال: "يا سبحان الله! كيف أرضى عنه وأنا أتمنى رضاه" ؟ قال: "إذا كان سرورك بالنقمة كسرورك بالنعمة فقد رضيت عن الله" ، علامة إيمانك أنك راضٍ عن الله.
علامة إيمانك أنك راضٍ عن الله:
والله أعرف أخاً توفي رحمه الله بمرض خبيث في أمعائه، تقول زوجته لأبيها، وأبوها صديقي: ما سمعت من زوجها مرةً كلمة تأوُّه، إلا قول زوجها: يا رب لك الحمد.
حدثني أخ طبيب في مستشفى جاءهم مريض بمرض خبيث في الأمعاء، كلما دخل زائر يعوده يقول له: اشهد أنني راضٍ عن الله، يا رب لك الحمد، لأنه رأى يد الله تعمل في الخفاء، يد الله رآها رحيمة: ﴿وَعَسَىٰٓ أَن تَكْرَهُواْ شَيْـًٔا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰٓ أَن تُحِبُّواْ شَيْـًٔا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ عجبت لأمر المؤمن عنده رضى، راضٍ عن الله، راضٍ عن الله في وجوده، وفي إمكاناته، وفي قدراته، وفي دخله، وفي زواجه، وفي أولاده، راضٍ عن الله، المؤمن لسان حاله يقول:
فليتك تحـلو والحيـاةُ مريـــــــرةٌ وليتك ترضى والأنام غِضــابُ
وليت الذي بيني و بـينك عامـــرٌ وبيني وبين العالمين خـــــرابُ
إذا كان الله معك فمن عليك، وإذا كان الله عليك فمن معك، ويا رب ماذا فَقَدَ من وجدك، وماذا وجد من فقدك، هذا هو التوحيد، ألّا ترى مع الله أحداً، أما المشركون يموتون بغيظهم.
﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ ٱلْمُعَذَّبِينَ(213)﴾
أحد أكبر أسباب العذاب النفسي أن تدعو مع الله إلهاً آخر، أن ترى قوياً مخيفاً، أن ترى قوياً لا يرحم، أن ترى قوياً حاقداً، أن ترى قوياً يطولك، أن ترى قوياً يتمنى دمارك.
من ضعف توحيدك أن تتوهم أن الأمر بيد زيد أو عبيد:
أقول لكم هذه الكلمة أيها الإخوة، وسامحوني بها: إذا سلّمك الله لغيره لا يستحق أن تعبده، إذا سلّم مصيرك لغيره، كيف يأمرك أن تعبده؟ قال لك: لا
﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ﴾ أنت أغلى من أن تُسَلَّم إلى غيره، ولكن لضعف إيمانك، ولضعف متابعة العلم، ولضعف توحيدك تتوهم أن الأمر بيد زيد أو عبيد:
﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ﴾ ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
﴿ قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ ۖ لَهُۥ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ أَبْصِرْ بِهِۦ وَأَسْمِعْ ۚ مَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِىٍّۢ وَلَا يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِۦٓ أَحَدًا (26)﴾
أيها الإخوة الكرام، أخطر آية في القرآن الكريم هذه الآية: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِ﴾ تحصيل حاصل، لأنك حينما تشرك بالله اتجهت إلى الفقير، اتجهت إلى الضعيف، اتجهت إلى الذي لا يملك لك نفعاً ولا ضراً، ولو كان رسول الله، لأن الله يقول له:
﴿ قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ۚ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)﴾
﴿ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(13)﴾
لو توجهت إلى سيد الخلق معتقداً أن له إرادة مستقلة عن إرادة الله فقد أشركت.
إن الله لا ينسى أحداً لأن كماله مطلق:
وقف أحد الخطباء أمام النبي عليه الصلاة والسلام قال له:
(( يا رسولَ اللهِ، ما شاءَ اللهُ وشِئْتَ، فقالَ له صلى الله عليه وسلم: أجعَلْتَني للهِ نِدًّا؟ قُلْ: ما شاءَ اللهُ ثم شِئْتَ. ))
[ تخريج سير أعلام النبلاء ]
ما شاء الله كان، وما لم يشاء لم يكن، هذا التوحيد، الموحد متفائل، الموحد لا يحقد، المشرك يرى القهر فييئس، لكن الموحد يرى التسليط فيعود إلى نفسه، فيراجع حساباته.
(( ما مِن عَثرةٍ ولا اختلاجِ عرقٍ، ولا خَدشِ عودٍ إلَّا بما قدَّمت أيديكُم، وما يغفِرُ اللهُ أكثرُ. ))
﴿ وَمَآ أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٍۢ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍۢ(30)﴾
تروي الكتب قصة رمزية، امرأة عجوز قالت: يا نوح متى الطوفان؟ قالت: أتمنى أن تخبرني قبل حدوثه، لأكون معكم في السفينة، القصة رمزية غير معتمدة، لكن لها مغزى كبير، يروى أن سيدنا نوح وهو في السفينة نسي أن يبلغها، وهو في السفينة والموج كالجبال تذكرها، أيقن بهلاكها، فلما انتهى الطوفان، واستوت السفينة على الجودي جاءته المرأة، قالت: يا نوح متى الطوفان؟ الله لا ينسى أحداً، كماله مطلق، لا يمكن أن ينساك، ولا يمكن أن يُسْلِمك لغيره، أنت المخلوق الأول، أنت المخلوق المُكرَّم، أنت المخلوق المُكلَّف، ولكن أنت حينما تكون لغير الله تحتقر نفسك، أنت حينما تكون لغير الله تزدري مكانتك عند الله، أنت حينما تكون لغير الله ترتكب إثماً كبيراً: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُۚ﴾
الشرك الخفي هو داء المسلمين الأوحد:
كما قلت لكم في مثل القطار، قد ترتكب آلاف الأغلاط، لكن القطار متجه إلى حلب، وسوف تأخذ المبلغ عداً ونقداً، أما الخطأ الذي لا يغتفر أن تركب قطاراً آخر متجهاً إلى الجنوب، هذا الخطأ الذي لا يُغفَر، الخطأ الذي لا يُغفَر أن تعقد الأمل على غير الله، أن تتجه إلى غير الله، الخطأ الذي يرتكبه المسلمون، والذي لا يُغفَر أن يعقدوا الأمل على أعدائنا، أن يروا الأمن في الولاء لهم، أن يروا الراحة في مُهادَنتهم، هذا هو الخطأ الأكبر، لذلك قال الله عز وجل في الحديث القدسي:
(( أَنَا أَغنى الأغنياءِ عنِ الشِّرك. ))
[ تخريج الإحياء للعراقي ]
القلب الذي فيه إشراك، العمل المشترَك لا يقبله الله، والقلب المشترَك لا يُقبِل الله عليه، العمل المشترك لا يقبله الله، لقول الله عز وجل في الحديث القدسي: (أَنَا أَغنى الأغنياءِ عنِ الشِّرك) والقلب المشترك الذي فيه حب لله وحب للدنيا لا يُقبِل الله عليه.
أيها الإخوة الكرام، ما من موضوع أخطر من الشرك الخفي، وهو داء المسلمين الأوحد: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ هذا الذي يعصي الله ويطيع زوجته، أليس مشركاً؟ ألم يرَ أن زوجته أكبر عنده من الله، لأنه آثر طاعتها على طاعة الله، هذا الذي يغش المسلمين ألم يقع في الشرك الكبير، لأنه رأى أن هذا المال الذي يجنيه من الغش أثمن عنده من طاعة الله، لو حللت مواقف المسلمين لوجدت الشرك وراء كل أخطائهم، المشرك ينافق، لأنه يرى أن هذا الذي ينافق له قوي، يخشى بأسه، ويرجو نواله فينافق له، المشرك جبان لأنه يرى القوة بيد أعدائه، لا يرى أن الله هو القوي، يقول الله عز وجل:
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ(42)﴾
﴿ فَلَا تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِۦ رُسُلَهُۥٓ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ ذُو ٱنتِقَامٍۢ(47)﴾
المؤمن لا يرتاح إلا إلى التفسير التوحيدي بينما غير المؤمن يرتاح إلى التفسير الشركي:
أيها الإخوة، يقول الله عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً﴾ أي أنت حينما تشرك ترتكب كذباً كبيراً، تُزوّر الحقائق، بالنظام المدني، بالقوانين الوضعية الإنسان متى يُعدَم قولاً واحداً؟ إذا أراد أن يبدل النظام، ويعتدي على السلطة، أما لو ارتكب إثماً آخر يُسجَن، أما حينما يرتكب الخيانة في نظر مَن بيدهم الأمر يقتلونه، أنت مع إنسان لو أردت أن تعتدي على سلطانه لأنزل فيك عقوبة الإعدام، المشرك ماذا يفعل؟ يعتدي على سلطان الله، ولو يعتدي باللفظ فقط، إنه حينما يقول على الله ما لا يعلم، أو حينما يقول على الله بخلاف ما يعلم فقد اعتدى على سلطان الله عز وجل، لذلك من البَدَهي أن الله لا يغفر له، مواطن ارتكب مخالفات كثيرة يعاقَب بقدرها، أما الذي أراد أن يتآمر على النظام بماذا يُعاقَب؟ بالإعدام، أنت إذا اعتديت على سلطان إنسان اتهمك بالخيانة العظمى فكيف إذا اعتديت على سلطان الله في الأرض؟ كيف إذا قلت: الأمر بيد فلان وليس بيد الله؟ فلذلك دائماً وأبداً المؤمن لا يرتاح إلا إلى التفسير التوحيدي، بينما غير المؤمن يرتاح إلى التفسير الشركي.
﴿ وَإِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَحْدَهُ ٱشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ ٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِٱلْآخِرَةِ ۖ وَإِذَا ذُكِرَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِۦٓ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ(45)﴾
أما إذا ذكر الإنسان زيداً أو عبيداً ترتاح نفوسهم، البطولة أن تكشف الحقيقة، وهي أن الله هو كل شيء، وأنه بيده كل شيء، وأنه يرجع إليه كل شيء، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، وأن الذي يشرك يرتكب كذباً شنيعاً وإثماً عظيماً، لأنه يفتري على الله الكذب، لأنه يقول ما لا يعلم، أو يقول بخلاف ما يعلم ﴿وَمَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفۡتَرَىٰٓ إِثۡمًا عَظِيمًا﴾ وفي درس آخر إن شاء الله نتابع هذه الآيات.
الملف مدقق