- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (004)سورة النساء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
التبعيضية تعلمنا الموضوعية والتعميم من العمى :
أيها الأخوة المؤمنون، مع الدرس الخامس والعشرين من دروس سورة النساء، ومع الآية السادسة والأربعين، وهي قوله تعالى:
﴿ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً ﴾
أيها الأخوة، يقول الله جل جلاله:
﴿ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا ﴾
فهذه
﴿مِنَ﴾
كما يشرحها علماء العربية تبعيضية، أي بعض الذين هادوا يفعلون، وهذه التبعيضية تعلمنا الموضوعية، والتعميم من العمى، وإطلاق الأحكام من ضيق الأفق، هؤلاء بعضهم يفعلون كذا، وقال بعض علماء التفسير: إنها بيانية، أي:
﴿ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً* مِنَ الَّذِينَ هَادُوا ﴾
أي أعداءكم من الذين هادوا، أو أن تكون تبعيضية، أي أن بعض الذين هادوا يفعلون هذا، ماذا يفعلون؟ الحقيقة أمراض بني إسرائيل ذكرت في القرآن الكريم بشكل مفصل، لأن المسلمين مرشحون أن يقعوا فيها، وهذه طريقة تربوية عالية حينما يوجه الله قوماً إلى ثغرات وانحرافات يمكن أن يتلبسوا بها، ويسمي علماء التربية هذا الأسلوب بالأسلوب غير المباشر، وهو أوقع وأشد تأثيراً:
﴿ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾
الكلم؛ هو الوحي، الكلم هو كلام الله، وهو المقصود به هنا، حينما لا تستطيع أن تلغي النص، حينما لا تستطيع أن تنكر النص، من منَ المسلمين من شتى بقاع الأرض يجرؤ أن يقول: إن القرآن ليس كلام الله؟ ليس هناك خلاف حول ثبوت كلام الله، أو لا يجرؤ أحد أن يقول: هذا القرآن ليس كلام الله، لكن كيف يطعنون في الدين؟ عن طريق تأويله.
تحريف الكلم عن مواضعه :
إذاً حينما ينحرف الإنسان عن منهج الله، فإن كان من بني إسرائيل فهو يحرف الكلم عن مواضعه، وإن كان من بني الإسلام يحاول أن يفسر كلام الله تفسيراً ما أنزل الله به من سلطان، وقد سمى العلماء هذه العملية سموها ليّ أعناق النصوص، الآية:
﴿ لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً ﴾
النهي هنا عن الأضعاف المضاعفة، أما الضعف الواحد فليس فيه شيء، هذا تحريف للكلم عن موضعه، مثلاً:
﴿ وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ ﴾
أنا معي برهان مثلاً.
﴿ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ ﴾
لن نمكن، إذاً لا نصلي.
﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾
أتاني اليقين، فانتهت العبادة، هذا تحريف للكلم عن مواضعه. يا أخي القرآن ما حرم الخمر؟ كيف؟ يقول: فاجتنبوه، هذا أمر إرشادي، ما قال: حرمت عليكم الخمر، ما قال هذا الكلام، كل واحد يحاول أن يصل إلى تغطية شهواته بغطاء ديني.
عملية ليّ أعناق النصوص يلجأ إليها ضعاف الإيمان ليغطوا انحرافاتهم :
بالمناسبة الكتب التي صدرت في مؤخرة الزمان، والتي تغطي كل انحرافات الإنسان بغطاء ديني قرآني هذه كتب ما أنزل الله بها من سلطان، وقد يطبع الكتاب عشرات الطبعات، لا لشيء إلا لإقبال الناس عليه، وتفسيره سهل جداً، الإنسان يخاف أن يخرج من ملة الإسلام، وهو متشبث بشهواته المنحرفة، فإذا جاء من يقنعه أن انحراف الإنسان عن منهج الله مغطًّى بالقرآن، وأنه لا شيء عليه فهذا الكتاب يضعه في القلب، من هنا قال الله عز وجل:
﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ ﴾
لماذا رضوا به؟ كي يقترفوا ما هم مقترفون، أي أنهم مصرون على شهواتهم، فإذا جاء كتاب فيه معاصرة، وفيه فهم لآيات الله ما خطر في بال أحد أصحاب رسول الله، ولا الذين من بعدهم، ولا الذين من بعدهم إلا في هذا العصر، حينما نفهم كلام الله فهماً يغطي كل انحرافات الإنسان فهذا الكتاب يقبل الناس عليه، إذاً حينما يستحيل أن ترد النص، وهو ثابت، حينما يستحيل أن تلغي النص ليس أمامك إلا أن تلوي عنقه، أن تحرفه، أن تصرفه عن غير مراد الله عز وجل.
المرض الذي تلبس باليهود وذمهم الله به تلبس به المسلمون فوقعوا به :
الشيء الثابت جداً أن بعض الناس يفسرون قوله تعالى:
﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ﴾
لولا أن المرأة مسموح لها أن تبدي زينتها لما كان لهذه الآية معنى، هذا استنباط، والله ما يخطر في بال أحد هذا الاستنباط، المؤمنة تستر وجهها، وتتحجب، ولكن إذا وجد في الطريق امرأة متفلتة فأنت مكلف أن تغض البصر عنها، أما أن تفهم غض البصر، بمعنى أنه مباح للمرأة أن تظهر زينتها، هذا الفهم ما أنزل الله به من سلطان، إذاً لا سبيل إلى التفلت من منهج الله عز وجل ضمن المجتمع الإسلامي، أما بعيداً عن المجتمع الإسلامي يقال هذا القرآن ليس كلام الله، لكن ضمن المجتمع الإسلامي لا يستطيع أحد أن ينكر أن هذا كلام الله، ماذا يفعل إذاً؟ يلجأ إلى ليّ عنق النص، يفعل في تغيير الكلمة عن مواضعها، وهذا المرض الذي تلبس باليهود، وذمهم الله به في الأعم الأغلب تلبس به المسلمون، فوقع به المسلمون، وما من إنسان تراه منحرفاً إلا ومعه ما يتوهم أنه دليل:
﴿ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾
لذلك تأويل كلام الله أن تعيده إلى أوله، إلى المعنى الصحيح الأولي الذي انطلق منه.
أخطر ما في الدين أن يُحرَّف :
ثم إنهم حينما غيروا الكلمة، وحرفوه عن مواضعه أباحوا لأنفسهم كل شيء، والله مرةً اطلعت على بعض ما في تلمودهم، وجعلت منه خطبةً في بعض الجمع، والله لا يصدق إنسان في الأرض أن يكون في كتاب مطبوع لدين أصله سماوي هذا التوجيه، يحلون لأنفسهم قتل المسلم، وإفقاره، ونهب ماله، وإذلاله، وقهره، وأنتم حينما تقرؤون التلمود لا تعجبون أبداً مما يفعلون، هذا من تحريف أحبارهم في التوراة، الذي يفعله اليهود اليوم بالمسلمين بحسب كتبهم من واجباتهم الدينية، جرف الأراضي، وحرق الزروع، واقتلاع الأشجار، وقتل الأطفال، وإذلال الرجال، هذا كله عندهم شيء مقبول، لذلك أخطر ما في الدين أن يُحرَّف، من الذي سبب أن يرفض أناس أصول الأديان كلها؟ من هؤلاء الذين حرفوا الأديان، والدين إذا انحرف يرفضه الإنسان ذو العقل السليم، والفطرة السليمة، لأن الشريعة مصلحة كلها، الشريعة حكمة كلها، الشريعة رحمة كلها، الشريعة عدل كلها، أي قضية خرجت من المصلحة إلى المفسدة، ومن العدل إلى الجور، ومن الرحمة إلى القسوة، ومن الحكمة إلى خلافها فليست من الشريعة، ولو أدخلت عليها بألف تأويل وتأويل، إذاً كيف أن الدين يبدأ نقياً صافياً واضحاً، وكيف أن أتباع الدين في المراحل الأولى يأخذونه بقلوبهم، ويطبقونه تطبيقاً نصاً وروحاً، يتألقون به، كنت في عقد قران سمعت أحد الخطباء يقول، وقد أعجبتني هذه الكلمة: حينما فتح المسلمون مشارق الأرض ومغاربها لم يكن في حوزتهم إلا ستة مصاحف، والآن مئات الملايين من المصاحف، وقد غُزِينا في عقر دارنا، القضية قضية تطبيق لا قضية مظاهر:
﴿ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا﴾
النص مسموع، لكن لسان حالهم:
﴿سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾
لذلك المسلمون ألفوا عقب صلاة الجمعة أن يقولوا: سمعنا وأطعنا، الأولى أن تقول: سمعنا وأطعنا، لا أن: تقول سمعنا وعصينا، لسان حالهم يرفض هذا الحكم.
لا يجرؤ اليهود أن يردوا القرآن الكريم لذلك يلوون عنق النصوص ويحرفونها :
قال تعالى:
﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾
اليهود قالوا: سمعنا وعصينا، ماذا يقول ضعاف الإيمان؟ يا رب نحن عبيد إحسان، ولسنا عبيد امتحان، يا رب لا يسعنا إلا فضلك، يا رب أمرتنا فلم نأتمر، ونهيتنا فوقعنا، ولا يسعنا إلا فضلك، كأنهم يقولون سمعنا وعصينا، ماذا قالت اليهود لنبيهم سيدنا موسى عليه الصلاة السلام :
﴿ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾
ماذا قال له الأنصار؟ يا رسول الله امض بما أردت فنحن معك، صل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وسالم من شئت، وعادِ من شئت، وصل ما شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، فو الذي بعثك بالحق والذي تأخذه من أموالنا أحب إلينا من الذي تتركه إلينا، لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك ما تخلف منا واحد، لعل الله يريك منا ما تقره عينك، إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، فلعل الله يريك منا ما تقره عينك، هكذا الصحابة الكرام كانوا، إذا كانوا على أمر جامع لم يغادروا حتى يستأذنوا، إذاً اليهود:
﴿ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ﴾
الحديث يردونه أحياناً، القرآن لا يجرؤون أن يردوه، إذاً يلوون عنق النص، يحرفون، يبدلون.
أعداء الدين مكشوفون، واضحون، يعملون في النهار، يحولون الإسلام حرباً شعواء، هؤلاء ليسوا خطرين على الدين كما الخطر يأتي من أدعياء الدين:
﴿ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ﴾
من الذين يغيرون النص إلى غير ما أراد الله جل جلاله.
أساليب يفعلها الخبثاء يأتون بكلام ظاهره مقبول وباطنه مرفوض :
قال تعالى:
﴿ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾
سمعنا كلامك، ولكن لم نطق أن نفعله، لم نطق أن نقبله، نحن نعصي، إذاً هم يعبدون شهواتهم من دون الله، وقد قال الله عز وجل:
﴿ أَرأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً ﴾
يعبدون شهواتهم من دون الله، والإنسان في الأصل إما يقبل على حقيقة أو على عبادة، أو على عمل صالح، وإما أن يقبل على شهوة،
﴿وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَع﴾
الآن هناك أساليب يفعلها الخبثاء يأتون بكلام ظاهره مقبول، وباطنه مرفوض. يروى أن خياطاً اسمه زيد، كان كريم العين، أيْ فقد أحد عينيه، كان أعورَ، وخاط ثوباً لشاعر فلم يعجب الشاعر هذا الثوب فقال: والله لأهجونه ببيت لا يدرى أمدح هو أم ذم، قال:
خاط لي زيد قباء ليت عينيه سواء
* * *
يا ترى يقصد أن تكون العين الكريمة بصيرة، دعوة له بالشفاء، أم أراد أن تكون العين السليمة كالكريمة دعوة له بالهلاك.
خاط لي زيد قباء ليت عينيه سواء
* * *
هذا الأسلوب اسمه أسلوب التورية، معنى ظاهر مقبول، ومعنى باطن مرفوض، هو إذا عاتبته يدعي أنه قصد المعنى الظاهر.
يا سيداً حاز لطف اً له البرايا عبيد
* * *
شاعر يمدح أميراً قال له: أنت الحسين، يعني مقامك كمقام الحسين، جفاك فينا يزيد بن معاوية الذي أوقع بيننا العداوة والبغضاء، هو يزيد، ولسنا نحن، هو ماذا يقصد؟ أنت لست حسناً لكنك حسين، تصغير وتحقير، وجفاك فينا يزداد مع الأيام، لم يقصد يزيد الاسم، قصد يزيد الفعل.
أنت الحسين جفاك فينا يزيد
* * *
هؤلاء الخبثاء يتكلمون كلاماً ظاهره مقبول، وباطنه غير مقبول.
كلمات قصدها اليهود بمعنى آخر سيئ في لغتهم فيه سباب للنبي عليه الصلاة والسلام:
ماذا قالوا للنبي عليه الصلاة والسلام،
﴿وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَع﴾
يطلبون منه أن يستمع منهم، دون أن يكون مأموراً تعظيماً لمقامه، لكنهم قصدوا أنهم سوف يسمعونه كلاماً لا يسمعه من صحابته، سوف يقذعون في القول
﴿وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَع﴾
إذا عاتبتهم يقولون: نحن قصدنا تعظيم مقامه، أي اسمع منا غير مأمور، ألا يقول العرفاء في الاحتفالات: كلمة من فضيلة فلان فليتقدم غير مأمور، هنا ادّعوا أنهم يقصدون ذلك،
﴿وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَع﴾
ولكنهم أرادوا أن يقولوا: واسمع يا محمد كلاماً لا ترضاه، كلاماً فيه قسوة، وفيه اتهام،
﴿وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَع وَرَاعِنَا﴾
وراعنا أي ارفق بنا، وقد يستخدم العامة هذه الكلمة في البيع والشراء، من الرعاية، من التلطف، من الاعتناء، من الرفق،
﴿وَرَاعِنَا﴾
لكن في لغتهم العبرية كلمة سيئة جداً، لذلك قال الله عز وجل:
﴿ لَا تَقُولُوا رَاعِنَا ﴾
هم قصدوا معنى آخر، أحياناً تقول له: أنت مولع بكذا، ما الموَلع؟ هو الثور الأحمر، يجب أن يقول: أنت موْلع بكذا، هناك أغلاط شائعة، لو أنك أردت معناها الحقيقي فهناك مشكلة كبيرة، (وَرَاعِنَا)، نقول لك يا رسول الله: الطف بنا، ترفق بنا، أرادوا المعنى السيئ في لغتهم، الذي فيه سباب للنبي عليه الصلاة والسلام.
الاستقامة حدّية وليست نسبية :
لكن لي كلمة، لو أن طالباً والده أستاذ في الرياضيات، وهو أستاذه في الصف، في الصف الحادي عشر، والده أستاذ رياضيات في الصف نفسه، هذا الابن الأولى أن يقول لأبيه مدرس الرياضيات: يا أبتِ أعطني الأسئلة قبل يومين، أم الأولى أن يقول: قوِّ ضعفي في الرياضيات، أيهما أولى؟ أن يطلب منه أن يخون الأمانة، أم أن يطلب منه أن يعتني به في وقت مبكر حتى ينجح بجدارة، أحياناً المراعاة لا معنى لها، فهناك أسس علمية دقيقة، المراعاة لا معنى لها، أوضح مثلاً، إنك إذا أردت أن تبني بيتاً، وقال لك المهندس: لا بد لك أن تضع سبعة أكياس إسمنت في المتر المربع، ولا بد من حديد كميته كذا، وقطره كذا، وصفته كذا، فلو أن هذا الذي يريد أن يبني بيتاً قال للمهندس: راعنا، يكفي أربعة أكياس، يكفي نصف الكمية حديد، قضية بناء، قضية حسابات، قضية علم، فالمراعاة هنا لا معنى لها إطلاقاً، إذا رعاه المهندس سقط البناء، في الإسلام حدّيات، في أمور الاستقامة ليس هناك مراعاة، لأنك إن لم تستقم على أمر الله تحجب عن الله، الاستقامة حدية وليست نسبية، بينما العمل الصالح نسبي، مستودع للوقود السائل، محكم أي محكم، الإحكام قطعي، والإحكام حدي، ولا تفاوت في الإحكام، أما إن لم يكن محكماً هناك تفاوت في عدم الإحكام، هناك عدم إحكام يفرغ مستودع في سنة، وهناك عدم إحكام يفرغه في شهر، وهناك عدم إحكام يفرغه في ساعة، وهناك عدم إحكام؛ ما في قعر يفرغه في ثانية، عدم الإحكام نسبي، أما الإحكام حدي، ليس هناك تفاوت، حتى في اللغة العربية هناك أفعال ليست قابلة للتفاوت، لا يقال: فلان أموت من فلان، الموت حدي، فلان ما أموته، ليس هناك في اللغة أموته، الموت حدي، وليس هناك تدرج فيه، وليس هناك كلمة أَمْوَت، الموت حدي، والاستقامة حدية، إذاً،
﴿وَرَاعِنَا﴾
لا معنى لها.
جاء أعرابي إلى النبي عليه الصلاة والسلام قال: يا رسول الله عظني، ولا تطل، قال: قل: آمنت بالله، ثم استقم، استَقم، نظر هذا الأعرابي، الاستقامة صعبة، قال له: أريد أخف من ذلك، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: إذاً فاستعد للبلاء.
قال لك الطبيب: لا بد من تدريبات رياضية، ولا بد من تناول الأدوية، ولا بد من تخفيف الوزن، ولا بد، ولا بد، إن انصعت إلى أمر الطبيب ربما شفيت، أما إن لم تستجب لأمر الطبيب لا بد من عمل جراحي، ليس في العلم مراعاة، الأمور في العلم أكثرها حدي،
﴿وَرَاعِنَا﴾
لا معنى لها.
أساليب ليّ اللسان لا تنتهي :
إذاً:
﴿ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ﴾
من يقول لك: يا أخي القرآن كتاب الله، أنت تبهج، القرآن الكريم قطعي الثبوت، شيء جميل، إذاً نحن لا نحتاج إلى السنة، بدأ بمديح القرآن ليصل إلى نفي السنة، لأنه قطعي الثبوت، وليس هناك خلاف على ثبوته، وهو كلام الله، وهو الجامع المانع الذي:
﴿ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ﴾
فيه كل شيء، لا نحتاج إذاً إلى السنة، القرآن يقول:
﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾
هذا لي اللسان كلام مقبول، كلام معسول، يقول لك أحدهم: إيماني في قلبي، أنا لا أؤذي أحداً، فلماذا الصلاة؟ أليست الصلاة من أجل أن تنهى عن الفحشاء والمنكر؟ أنا لا أؤذي أحداً، وإيماني في قلبي، ولا حاجة لي إلى الصلاة،
﴿ لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ ﴾
أساليب ليّ اللسان لا تنتهي، لذلك وصلنا إلى مستوى والله أعني ما أقول: إن لكل معصية فتوى، يمكن أن تضع في المصرف الربوي مبلغاً ضخماً، قال: هذا أمانة عند المصرف، والمصرف رقيق المشاعر، لا ينسى لك هذا الفضل يعطيك مكافأة، لا علاقة لها بالربا، إنها عوائد، وليست فوائد، هذه الفتوى صدرت في مصر من أعلى جهة دينية، وعقب هذه الفتوى وضع في البنوك ثلاثة وثمانون مليار جنيه في اليوم التالي، عوائد لا فوائد، مبلغ وضع أمانة لا إيداعاً، هذا كأس لو قلت عنه: إبريق هل يصبح إبريقاً؟ يبقى كأساً، تغيير التسمية لا يفعل شيئاً، فأكثر المحرمات استبيحت في الفضائيات، إذاً خذوا دينكم عن الأرضيات، اجلس على الأرض، وخذ دينك، وهناك اتجاهات منحرفة، وممولون لا يعلم مقصدهم إلا الله، هناك أناس يرتكبون خطأ أخلاقياً، يفتون بغير ما يعلمون.
الإسلام كمنهج فقده المسلمون في حياتهم وبقيت مظاهر الدين الصارخة :
والله حدثني أخ كريم من الدعاة إلى الله في هذه البلدة الطيبة، صدفة حضر وفاة أحد أكبر علماء مصر، هو درس في مصر، وكان في زيارة لها، فزار أعلى مرتبة دينية هناك، وكان على فراش الموت، وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة رفع يديه هكذا، وقال: يا رب إني بريء من كل فتوى أفتيتها بالمصارف، لكن متى؟ بعد فوات الأوان، وهو على فراش الموت. فلذلك:
﴿ لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ ﴾
أنا آتيكم بأمثلة، يقول لك: هذا الربا المحرم أن يأتي فقير مدقع إلى غني مترف يستقرضه مبلغاً، فالغني يفرض عليه فائدةً، أو مبلغاً ربوياً، أو فضل نسيئة، أو فضل مال، هذا هو الربا المحرم، أما أن تأتي شركة إلى مصرف، وتأخذ أموالاً من أجل أن تأسس مشروعاً يعود بالخير على الأمة فهذا ليس محرماً، بهذه الطريقة كل معصية نحللها قد نجد لها منفذاً للخروج من هذا التحريم، فهذا هو الليّ باللسان، المستمع جاهل ليس عنده أدلة، هذا الدين وحي من السماء، هناك من يصف الدين بأنه تراث من صنع البشر، هناك من يصف الدين من تصميم محمد عليه الصلاة والسلام، ديننا وحي من الله، ولا مساومة على الوحيين؛ الكتاب والسنة:
﴿ لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ﴾
الليّ؛ هو الانحراف، لوى عنق النص حرّفه، لماذا حرّفه؟ ليطعن في الدين، إلى أن يصبح الإسلام أقواساً، زخارف إسلامية، أناشيد إسلامية، احتفالات إسلامية، ألقاباً إسلامية، أما كمنهج، أما كشرع، فقده المسلمون في حياتهم، وبقيت مظاهر الدين الصارخة، والله زرت مسجداً في المغرب كلف ألف مليون دولار، مئذنته جامعة، فوق البحر، إن جلست في حرمه ترى ماء البحر من خلال فتحات، لأن الذي أمر ببنائه استوحى ذلك من قوله:
﴿ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ﴾
لذلك المظاهر لا قيمة لها، مساجد ضخمة جداً، مؤتمرات، ألقاب علمية، مظاهر صارخة، كتب إسلامية، لكن لو دخلت إلى بيوت المسلمين لا تجد الإسلام كما أراده الله عز وجل، لذلك ما هو فيه من محنة، معنى قوله تعالى:
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾
مستحيل وألف ألف مستحيل أن يعذبهم الله وسنتك يا محمد مطبقة في حياتهم، نصلي، ونصوم، ونحج، ونعتمر، ونزكي، أما احتفالاتنا ليست إسلامية، وزواج أولادنا ليس إسلامياً، وكسب المال ليس إسلامياً، والبضاعة التي نبيعها ليست إسلامية.
أمثلة من الواقع عن حال المسلمين اليوم :
والله في مسجدٍ في دمشق، ذكر لي أحدهم على ذمة الراوي أن من بين رواد المسجد من يبيع هذه الأقراص الإباحية، كيف تصلي أنت وتفسد أخلاق الشباب؟ كيف تجمع بين النقيضين؟ كيف؟!!
والله مرة اتصلت بي امرأة قالت لي: يا أستاذ إن ابنتي صالحة جداً، وتحفظ كثيراً من كلام الله، ونشأت نشأة دينية، جاءتها زجاجة خمر غالية جداً، هدية من أحد أصدقائها، أيجوز أن تهديها؟!! ما هذا السؤال؟ كيف عرفت هذا الإنسان؟ وما العلاقة بينهما حتى يهديها زجاجة خمر غالية جداً؟ وهل يجوز أن تهديها لغير المسلم؟ هذا هو الدين.
والله جاءني سؤال من بلاد بعيدة جداً، تقول صاحبة السؤال: أنا سيدة مسلمة، نشأت في كنف أسرة مسلمة، ما عرفت من الدين إلا أن الخنزير حرام، تعرفت على شاب قبطي فتزوجته بمركز إسلامي، واشترط عاقد العقد رئيس المركز أن يبقى كل منا على دينه، والله أمر محيِّر!! ثم علمت أنه تزوجني من أجل البطاقة الخضراء، وبعدها اختفى، وبعد عام بأكمله طلقت طلاقاً مدنياً منه، ثم تعرفت على شاب آخر غير مسلم، وتزوجته، فما حكم الزواجين يا سيدنا الشيخ؟ سؤال جاءني من بلاد بعيدة، في موقع معلوماتي، هذا حال المسلمين، قد يجد إنسان يسكن في البلاد الإسلامية الشرقية إنساناً يأتي من الشام مسلماً يبكي، ويعانقه، ويشمه من رائحة بلاد المسلمين، من شدة محبته له يهديه زجاجة خمر، والله خطيب حدثني والله من فمه إلى أذني، أصله من أوروبا الشرقية، قال: ذهبت لزيارة بلدي، وألقيت خطبة في أكبر مسجد هناك، قال لي: عشرات الآلاف، وألقيت خطبة مؤثرةً جداً ما كان منهم إلا أن انهمرت عيونهم بالدموع، من شدة الخشوع أخذوا من جيوبهم زجاجات خمر، وشربوها تأثراً بهذه الخطبة، هكذا حال المسلمين الذين تعتب على الله لأنه تخلى عنهم، هؤلاء هم المسلمون، والله وفي بلادنا منكرات ومعاص يندى لها الجبين، حالات من الخيانة كثيرة جداً، حالات من زنا المحارم كثيرة جداً، وحالات من اغتصاب الأموال كثيرة جداً، وحالات، وحالات لا يتسع المجال لذكرها.
أكبر شيء يهلك الإنسان أن يفعل شيئاً يقطعه عن الله :
قال تعالى:
﴿ لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا﴾
الآن ماذا يقول الله:
﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا﴾
اسمع منا يا رسول الله، النطق بالشهادتين، اسمع منا الولاء لك، اسمع منا اتباعك، اسمع منا محبتك:
﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا﴾
أي الابن ينبغي ألاّ يقول لأبيه: أعطني الأسئلة، ينبغي أن يقول: أفهمني هذه النظرية، بدل أن تقول: راعني، قل: أفهمني، وضح لي.
﴿ وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ ﴾
ليس ثمة عقاب فيما أتصور أشد من أن يلعن الله إنساناً، وأن يبعده عنه، وعن رحمته، يبعده عن جنته، يبعده عن رضوانه، يبعده عن عطائه، ومعنى كلمة ملعون أي مقطوع عن الله، مبعد، فلذلك أكبر شيء يهلك الإنسان أن تفعل شيئاً يقطعك عن الله، أعظم شيء ينفعك أن تفعل شيئاً يقربك من الله عز وجل.
استثناء القليل عند العرب يعني أنه لا شيء عندهم إطلاقاً :
لكن لعن الله له قاعدة، لعن الله ليس جزافاً:
﴿ وَلَكِنْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ ﴾
لأنهم كفروا ولم يؤمنوا، لأنهم عصوا ولم يستقيموا لعنهم الله عز وجل، وكل إنسان يكفر ولا يؤمن، يعصي ولا يستقيم يلعنه الله عز وجل.
﴿ وَلَكِنْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً﴾
قال بعض العلماء: كلمة:
﴿ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً﴾
أي أنهم لا يؤمنون إطلاقاً، هذه صيغة يألفها العرب، استثناء القليل يعني أنه لا شيء عندهم إطلاقاً، ولكن لئلا يعترض أحد يا أخي، إبليس مؤمن؟ طبعاً قال له:
﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ ﴾
قال له:
﴿ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ ﴾
﴿ قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾
معناه ما آمن، هل نفعه إيمانه؟ إذاً إبليس لم يؤمن إلا قليلاً بهذا المعنى.
الحيل الشرعية التي لجأ لها اليهود يلجأ لها المسلمون هذه الأيام :
قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ﴾
يخاطب الله أهل الكتاب، أن أوصاف النبي التفصيلية جاءت بكتبهم، ويؤكد الله هذه الحقيقة في آية أخرى فيقول:
﴿ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ ﴾
ليس في الأرض معرفة أصدق ولا أسرع ولا أكثر عفوية من معرفة الأب لابنه:
﴿ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ ﴾
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا﴾
الإنسان له وجه حينما يستحق العقاب تطمس معالم هذا الوجه؛ أي تمحى معالمه، أي دليل الهلاك والشقاء، (فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا)، أي حينما يأتي وقت لا ينفع فيه الندم.
﴿ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ ﴾
الذين احتالوا، واستخدموا الحيل الشرعية، حرم صيد السمك يوم السبت فأنشؤوا أحواضاً، واستجلبوا السمك يوم السبت، ثم أغلقوا الفتحات، ثم اصطادوها يوم الأحد، وكم من المسلمين يفعل عشرات الحيل الشرعية، وهو يظن أن الله لا يعلم.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً ﴾