وضع داكن
03-02-2025
Logo
الدرس : 24 - سورة النساء - تفسير الآيتان 44-45 الأسباب والمسبب
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.

الشيء المرئي دليله معه أما الشيء المسموع فيحتاج إلى دليل وإلى بحث:


 أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الرابع والعشرين من دروس سورة النساء، ومع الآية الرابعة والأربعين، وهي قوله تعالى: 

﴿ أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ يَشۡتَرُونَ ٱلضَّلَٰلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ ٱلسَّبِيلَ(44) وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِأَعۡدَآئِكُمۡۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ نَصِيرًا(45)﴾

[ سورة النساء ]

 أيها الإخوة الكرام ﴿أَلَمۡ تَرَ﴾ كلكم يعلم أن فعل "رأى" فعل قلبي أحياناً وقد يكون بصرياً، إن قلت: "رأيت الشمس ساطعةً" ، فهذه رأى البصرية وساطعة تُعرَب حال، أما إن قلت: "رأيت العلم نافعاً" ، فهذه الرؤية قلبية، إذاً نافعاً مفعول به ثان، فرأيت تُستخدَم مرة بصرية، ومرة قلبية.
 الله عز وجل يَعجب، وفي مطلع الآية استفهام تقريري، يعجب عن طريق الاستفهام التقريري ﴿أَلَمۡ تَرَ﴾ الشيء المرئي -كما تعلمون أيها الإخوة- دليله معه، ليس مع العين أين، فأنت حينما ترى إنساناً يرتدي ثوباً أبيض لا يمكن أن تقول له: ما دليلك على أنك ترتدي ثوباً أبيضَ، الرؤية دليلها معها، بينما الخبر يحتاج إلى أن يكون المخبر صادقاً، أنت بالخبر تحتاج إلى بحث. 

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌۢ بِنَبَإٍۢ فَتَبَيَّنُوٓاْ أَن تُصِيبُواْ قَوْمًۢا بِجَهَٰلَةٍۢ فَتُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَٰدِمِينَ(5)﴾

[  سورة الحجرات ]


المنهج بالإسلام إن كنت ناقلاً فالصحة وإن كنت مدعياً فالدليل:


 الأخبار تحتاج إلى مصداقية، لذلك -كما تعلمون- هناك يقين حسي أداته الحواس الخمس، وهناك يقين عقلي أداته العقل، وهناك يقين إخباري أداته الخبر الصادق، فالله سبحانه وتعالى يخاطب النبي عليه الصلاة والسلام، يخاطبه بأسلوب الاستفهام التقريري، يستفهم وقد وقع الشيء، وهناك استفهام إنكاري، واستفهام تعجبي، واستفهام تهكمي، الاستفهام يخرج عن حقيقته إلى عشرات المقاصد، هذا استفهام تقريري، وقد يعني التعجب، كيف؟ كيف هؤلاء الذين أوتوا نصيباً من الكتاب، هم أهل كتاب، هم على معرفة بالله عز وجل، هم على نوع من أنواع الاتصال به، هم جاءتهم رسالة، جاءهم وحي، ومع ذلك هل يُعقل أن يفعلوا ما يفعلون؟ هل يُعقل أن يفعلوا مع رسالة النبي عليه الصلاة والسلام بأن يكذبوها.
 إذاً: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ إخواننا الكرام، كما قلت قبل قليل: الشيء المرئي دليله معه، بينما الشيء المسموع يحتاج إلى دليل، والمنهج في الإسلام" إن كنت ناقلاً فالصحة، وإن كنت مُدَّعياً فالدليل، إن أردت أن تدّعي شيئاً فينبغي أن تأتي بالدليل، أما إن كنت ناقلاً فينبغي أن تكون صادقاً، إن كنت ناقلاً فالصحة، وإن كنت مُدَّعياً فالدليل، الحقيقة أنا حينما أرى إنساناً بهيئة غريبة، ومعي صديق أقول له: أرأيت إلى فلان، كيف يرتدي هذه الثياب؟ هنا رأيت على حقيقتها جاءت، أما حينما أخبره عن شيء لم يرَه، وأقول: أرأيت، فثمة معنى آخر، والله عز وجل يقول: 

﴿ أَرَءَيْتَ الَّذِي يَنْهَى(9) عَبْداً إِذَا صَلَّى(10)﴾

[  سورة العلق ]

 النبي عاصر، والتقى بعبد قوي متعجرف ينهى الناس عن الصلاة ، فالله سبحانه وتعالى يقول له: ﴿أَرَءَيْتَ الَّذِي يَنْهَى* عَبْداً إِذَا صَلَّى﴾ هنا رأيت استُخدِمت على حقيقتها ﴿أَرَءَيْتَ الَّذِي يَنْهَى* عَبْداً إِذَا صَلَّى﴾ أيعقل أن ينهى إنسان عبداً عن أن يعقد صلة مع الله عز وجل؟ استفهام تقريري بمعنى التعجب، لكن حينما يقول الله عز وجل: 

﴿  أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ(1)﴾

[ سورة الفيل ]

 حينما أتوا كان النبي قد وُلِد لِتَوِّه، إذاً هنا رأى ليس معناها رأى على حقيقتها.

كلما ارتقى إيمانك تعلم أن مصداقية القرآن أصدق من أي شيء آخر:


 أيها الإخوة، حينما يخبرك الله عن شيء فينبغي أن تأخذه وكأنك تراه بعينيك، بل إنّ إخبار الله لك أصدقُ من عينيك، كلما ارتقى إيمانك تعلم أن مصداقية هذا الكتاب أصدق من أيّ شيء آخر، هذا هو الإيمان، لذلك قال تعالى: 

﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا(36)﴾

[  سورة الأحزاب ]

 إذا حرّم الله عليك شيئاً فينبغي أن تُوقِن لو أن الإنس والجن اجتمعوا ليفكروا في محاسن هذا الشيء لا يجدون له محاسن إطلاقاً، لأن الله حرّمه، إذاً ينبغي أن تأخذ إخبار الله لك وكأنك تراه بعينك، وأصدق أنواع التلقي رؤية العين، ليس الخبر كالعِيان، أصدق تلقٍّ تتلقاه أن ترى الشيء بأم عينيك، لذلك هناك علم اليقين، وهناك عين اليقين، وهناك حق اليقين؛ أنت ترى جداراً، ووراءه دخان، تقول: لا دخان بلا نار، استنباط عقلي قطعي يقيني، هذا علم اليقين، أما حينما تقترب من وراء الجدار فترى النار بأم عينيك، فأنت في عين اليقين، فإذا اقتربت من النار، وأحسست بوهجها فهذا حق اليقين، فالرؤية أعلى درجات التلقي، فإذا وردك عن الله خبر ينبغي أن تعلم علم اليقين أنه أصدق من عينيك، قد تخون العين، وقد تُرِيكَ خلاف الواقع، لكن الله سبحانه وتعالى إذا أخبرك فخبره كأنك ترى الشيء رؤيةً حقيقية.

حينما يرفض الإنسان الحق يحتقر نفسه:


 قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ﴾ هؤلاء الذين أوتوا نصيباً من الكتاب هم أهل كتاب، جاءهم نبي كريم، وتبِعه نبي كريم آخر، وجاء كتاب من السماء، وتبِعه كتاب من السماء، ومع ذلك لا يتّعظون، ومع ذلك لم يُقبِلوا على هذا الدين، الأَولى أنّ أول إنسان ينبغي أن يسارع إلى قَبول هذا الدين مَن لهم صلة بالدين، مَن لهم صلة بالله، مَن كان معهم كتاب يُوحى إليهم، فالشيء العجيب الذي هو مدار هذه الآية أن هؤلاء الذين هم أقرب إلى الإسلام من المشركين، أقرب إلى الإسلام من عبدة الأوثان، هؤلاء بالذات كانوا أشد المعارضين لهذا الدين، فلذلك حينما يرفض الإنسان الحق يحتقر نفسه، أنت قد ترفض أشياء كثيرة، وبرفضك إياها تحتقرها، لكنك إذا رفضت الحق إنما تحتقر نفسك. 

﴿ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَٰهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُۥ ۚ وَلَقَدِ ٱصْطَفَيْنَٰهُ فِى ٱلدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُۥ فِى ٱلْآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ(130)﴾

[  سورة البقرة ]

 إذاً: ﴿أَرَءَيْتَ الَّذِي يَنْهَى*عَبْداً إِذَا صَلَّى﴾ على حقيقتها، أما: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ﴾ معنى ذلك هذا إخبار من الله، وينبغي أن تأخذه كأنك تراه بعينيك.
 أيها الإخوة، لكل قوم نبي، كما قال الله عز وجل: 

﴿ وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلَآ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِۦٓ ۗ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ ۖ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)﴾

[  سورة الرعد ]

 لكل قوم نبي، لأن لكل قوم خصوصيات، أمراض، مشكلات، حيثيات، نقاط ضعف، كل قوم لهم خصائص، فكان لكل قوم نبي يعالج هذه الخصائص، وتلك الثغرات، وهذه الأدواء (جمع داء)، لكن بعلم الله جل جلاله أن هذه الأرض سوف تغدو قرية واحدة، ثم تغدو بيتاً واحداً، ثم تغدو غرفة واحدة، يمكن أن تقتني جهازاً صغيراً (مذياعاً) وتستمع إلى أخبار الأرض في القارات الخمس، ماذا يجري في كل مكان، لأن الله يعلم أن هذا التواصل الذي سيكون سوف يُعمم الأدواء على كل الشعوب، وسوف يعمم الأمراض على كل الشعوب، لذلك كانت رسالة النبي عليه الصلاة والسلام خاتمة الرسائل، وكان النبي عليه الصلاة والسلام خاتَم الأنبياء، وسوف تبلُغ دعوته ما بلغ الليل والنهار.

الحكمة من أن النبي هو خاتم الأنبياء وأنه لكل الأمم:


 والله ذهبت إلى أقصى مكان في الأرض، إلى أستراليا، وأقصى مكان في أستراليا سدني، وجدت إذاعات إسلامية، ودروس العلم في هذه البلدة الطيبة هناك، يستمعون إليها صباحاً ومساءً، والقرآن يتلى في الإذاعات، والمحاضرات تُلقى، وكأنني في الشام، ذهبت إلى أقصى مكان في الغرب الأمر نفسه؛ مؤتمرات، وإذاعات، ونشرات، ومجلات، وأشرطة، ومحاضرات، تنبّأ النبي عليه الصلاة والسلام أن هذا الأمر سوف يبلغ ما بلغ الليل والنهار، إذاً لأن الله سبحانه وتعالى علم أنْ سيكون هناك تواصل إذاً لا بد من نبي واحد لكل هؤلاء الشعوب. 

﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَٰلَمِينَ(107)﴾

[  سورة الأنبياء ]

﴿  إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَٰلَمِينَ(27)﴾

[  سورة التكوير ]

 أيها الإخوة، حكمة أن النبي هو خاتَم الأنبياء، وأنّ النبي لكل الأمم ما كان في علم الله من أن هذه الأرض سوف تغدو من قرية إلى بيت إلى غرفة واحدة، والأبلغ من ذلك أنّ ما يجري في أقصى الغرب نتأثر به في أدنى الشرق، وأيّ حدَث يقع في مكان له تداعيات في كل مكان، وهذا الشيء تعلمونه، وترونه، وتسمعونه، قد يقع شيء في أقصى الدنيا نتأثر هنا بكل مناحي الحياة.
 يا أيها الإخوة الكرام، هذا الذي أردت أن أمهد به لشمول رسالة النبي، ولاتساع رقعتها، ولأنه خاتَم الأنبياء والمرسلين، الحقيقة أنّ الإنسان يؤمن بالله بفطرته، ويؤمن بالله بعقله، ولكن الإيمان فطري، أنت حينما تأتي إلى الدنيا تجد كل شيء مُيَسّراً بنظام عجيب. 

الحليب في النجدين من آيات الله الدالة على عظمته:


 قال تعالى: 

﴿  أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ(8) وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ(9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ(10)﴾

[  سورة البلد ]

 هذا الطفل الصغير الذي يأتي مَن علّمه كيف يلتقم ثدي أمه؟ هل يستطيع أكبر أب في العالم، لو أنه يرأس أعلى جامعة في التربية أن يستطيع أنْ يُعلّم هذا الذي وُلِد لِتَوّه كيف يلتقم ثدي أمه؟ وكيف يجعل شفتيه حول حلمة الثدي؟ وكيف يحكم الإغلاق؟ وكيف يسحب الهواء؟ تفضل وعَلِّم طفلاً وُلِد لتوه، معنى ذلك: ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ*وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ*وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ النجدان هدية الله لهذا الطفل الصغير، الحليب في النجدين يتبدّل في أثناء الرضعة الواحدة، في البداية 60% ماء، في نهاية الرضعة 40% ماء، يتبدل كل يوم بحسب نمو الطفل، وهؤلاء الأطفال الذين يرضعون رضاعةً صناعية يصابون بآفات قلبية، ويصابون بضعف الذكاء، ذلك أن حليب البقر فيه خمسة أضعاف من الحموض الأمينية التي لا تحتملها أجهزة الطفل، بينما حليب أمه مُصَمَّم من قِبَلِ خالقه ليتحمله الطفل بكل أجهزته، لذلك أُجرِيَ إحصاء في بعض البلاد أنّ نِسَب الذكاء في العالم متفاوتة، طبعاً الفحوص موحدة فكانت جزر الباسيفيك تحتل المرتبة الأولى في ذكاء أبنائها، لسبب بسيط هو أنهم لا يعرفون الرضاعة الصناعية إطلاقاً، وقد تنتبهون إلى أن القرآن الكريم قال: 

﴿ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ ۚ وَإِن كُنَّ أُوْلَٰتِ حَمْلٍۢ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ۚ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَـَٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ۖ وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍۢ ۖ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُۥٓ أُخْرَىٰ (6)﴾

[  سورة الطلاق ]

﴿وَإِن تَعَاسَرْتُمْ﴾ ما ذكر الرضاعة الصناعية، ما ذكرها القرآن ﴿وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُۥٓ أُخْرَىٰ﴾ لا بد أن يكون الحليبُ من أم مرضع، الطفل يأتي إلى الدنيا كل شيء مُيسَّر، له أم تحرص عليه، له أب يحدب عليه ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ*وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ*وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ الهواء يُجدَّد بشكل مستمر، الماء، الطعام، الشراب، الثروات الباطنية، هذه الأرض فيها كل شيء، أيقبل إنسان أنّ هذا الشيء كله حدث بلا خالق؟

الرسالات السماوية فحواها مراد الله لنا :


 مثل بسيط؛ لو أنك في الصحراء تمشي -لا سمح الله ولا قدّر- ونفد زادك، وضللتَ الطريق، ونفد شرابك، وأصبح الموت محققاً، أخذتك سِنَةٌ من النوم من شدة البكاء والخوف والقلق، واستيقظت فرأيت مائدة فيها ما لذ وطاب، فيها من كل ألوان الطعام في الصحراء، وفيها من كل ألوان الشراب، ألا تسأل من جاء بهذه المائدة؟ فالإنسان يؤمن بالله بفطرته، كل شيء في الكون يدل على الله عز وجل، لكن الله سبحانه وتعالى يرسل الرسل كي يُعلِمنا مراده، ماذا ينبغي أن نفعل؟ فطرتك وعقلك ينبئانك أن لهذا الكون إلهاً عظيماً، أن لهذا الكون قوة وراءه، الوحي ينبئك أن هذه القوة العظيمة هي الله، وأن هذه القوة العظيمة خلقتك لسعادة إلى أبد الآبدين، وأن هذه القوة العظيمة صممت الدنيا على أنها دار عمل، ولأن هذه القوة العظيمة تتصف بالصفات الفضلى، ولها أسماء حسنى، إذاً كأن الله سبحانه وتعالى أرسل رسله وأنبياءه ليعطينا مراده، أما إيماننا به فهو إيمان فطري.
 ثمة حوار مع سيدنا علي رائع، قيل للإمام علي كرم الله وجهه: "أعرفت ربك بمحمدٍ، أم عرفت محمداً بربك"؟ يقول: "لو عرفت محمداً بربي لمَا احتجت إلى رسول، ولكن عرفت ربي بربي، وجاء محمد ليبلغني مراد ربي"، الرب موجود، لكن ماذا يريد منك؟ الرسالات السماوية فحواها مراد الله لنا، أي يا عبادي توبوا إليّ، يا عبادي استقيموا على أمري، يا عبادي كونوا صادقين، يا عبادي كونوا أُمَناء، يا عبادي افعلوا أعمالاً صالحة، تؤهلكم لجنة عرضها السماوات والأرض.
 أيها الإخوة الكرام، المشكلة الآن أنّ معظم الناس يعيشون غايات قريبة، همّه شراء بيت، همه الزواج، همه دخل، هذه همومهم، ولكن نخبة البشر تعيش غايات بعيدة، الإنسان يأتيه الموت قبل أن يتزوج، ويأتيه الموت قبل أن يحقق أهدافه، إذاً هذا الهدف غير صحيح، لأنه يُحقَق أو لا يُحقَق، لكن ما هو الهدف الذي يجمع الناس جميعاً بكل فئاتهم؟ إنه الموت، إنه الدار الآخرة، من هم أعقل الناس؟ من هم أذكى الناس؟ من هم أنجح الناس؟ من هم أشدهم فلاحاً؟ هو الذي عرف الهدف الأخير، لذلك يقول عليه الصلاة والسلام: 

(( الْكَيّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ المَوْتِ، وَالعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمنّى عَلَى اللَّهِ. ))

[ المستدرك على الصحيحين ]


أهداف الناس جميعاً أهداف دنيوية بينما المؤمن هدفه الآخرة:


 يا إخوتنا الكرام، الناس على اختلاف مِلَلهم، ونِحَلهم، وانتماءاتهم، وأديانهم، وأجناسهم، وأعراقهم، وأنسابهم، ومذاهبهم، وطوائفهم، في القرآن لا يزيدون على فئتين، لا يزيدون على نموذجين لا ثالث لهما؛ النموذج الأول هو النموذج الذي صدّق أنه مخلوق للجنة، هنا المشكلة، أهداف الناس جميعاً أهداف دنيوية، بينما المؤمن هدفه الآخرة. 

﴿ وَمَنْ أَرَادَ ٱلْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَٰٓئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا(19)﴾

[  سورة الإسراء ]

﴿ تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِى ٱلْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَٱلْعَٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)﴾

[  سورة القصص ]

﴿تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِى ٱلْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا﴾ هؤلاء أيها الإخوة، صدقوا بالحسنى، هم مخلوقون للجنة، والدنيا دار عمل، دار دفع الثمن، دار أداء السبب، لأنهم أيقنوا أنهم مخلوقون للجنة حرصوا على طاعة الله، اتقوا أن يعصوا الله، ولأن الجنة مراتبها بالأعمال الصالحة، فبنَوا حياتهم على العطاء. 

﴿  فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى(5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى(6)﴾

[  سورة الليل ]

 هذا أول نموذج، هو بالترتيب معكوس، صدّق بالحسنى فاتقى أن يعصي الله فأعطى.

الناس لا يزيدون عن نموذجين لا ثالث لهما:


 النموذج الأول هذا الذي أعطى من وقته، أعطى من علمه، أعطى من خبرته، أعطى من كل ما يملك، الرد الإلهي: 

﴿  فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى(7)﴾

[  سورة الليل ]

 سوف نيسر له سلوك طريق الجنة، وسيصل إلى الجنة. 

﴿  وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى(8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى(9)﴾

[  سورة الليل ]

 كذب بالجنة، قال لك: هي الدنيا، هي جنة الإنسان، إن كان غنياً فهو في جنة، وإن كان فقيراً فهو في جهنم، الدنيا كل همهم، مبلغ علمهم، منتهى آمالهم، لأنه كفر بالحسنى، وصدق بالدنيا استغنى عن طاعة الله، هو لا يحتاج إلى طاعة الله لأنه كفر بالجنة، وكفر بيوم الجزاء، وكفر بالآخرة ﴿وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى*وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى﴾ لأنه كفر بالحسنى استغنى عن طاعة الله، فبنى حياته على الأخذ، والاحتيال والنهب والسرقة والغش، وما إلى ذلك، قال: 

﴿  فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى(10)﴾

[  سورة الليل ]

 لا تُحقَّق له لا الدنيا ولا الآخرة، خسر الدنيا والآخرة، لذلك أيها الإخوة، طالب العلم يؤثر الآخرة على الدنيا فيربحهما معاً، والجاهل يؤثر الدنيا على الآخرة فيخسرهما معاً. 

﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ۗ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ(36)﴾

[  سورة الأنفال ]

 لم ينجح في مسعاه.

أذكى إنسان هو من يسعى لهدف يقيني متحقق بعيدويهيئ نفسه لبلوغه بنجاح:


 أيها الإخوة، أنت حينما تؤمن بالغايات البعيدة، أي بالآخرة، بالموت، ألا ترون أن الموت يجمع كل الناس، يجمع أغنياءهم وفقراءهم، وأقوياءهم وضعفاءهم، وملوكهم ودَهماءهم، وأصحاءهم ومرضاهم، وأذكياءهم وأغبياءهم، الحقيقة في الدنيا سباق أنا أسميه سباق الحمقى، لو تصورنا طريقاً عريضاً هو مجال السباق، وعندنا ألف سيارة، هذه السيارات على اختلاف قوتها، وضعفها، وكبرها، وصغرها، وميزاتها، وسنة صنعها، وحجمها، السيارة الأولى آخر الطريق هناك هاوية، أول سيارة في السباق وقعت في الهاوية، الثانية وقعت في الهاوية، الثالثة في الهاوية، إلى أن وقعت كل هذه المركبات في الهاوية، ما قيمة هذا السباق؟
 يقاتل الناس، وينهب أموالهم، يكذب عليهم، يحتال عليهم، يخيفهم أحياناً، أو يسلك طريق الاحتيال معهم ليجمّع ثروة طائلة، فيشتري بيتاً رائعاً، ثم يأتيه ملَك الموت ليضعه تحت التراب، وقد ترك كل الدنيا، هذا الذي يحصل، يجمّع دنياه لبِنَةً لَبِنَة، قشةً فوق قشة، ليأتي ملك الموت ويأخذها منه في ثانية واحدة، ولا خاتمه، ولا مفتاح مركبته، ولا خصوصياته، كل إنسان له خصوصيات في بيته، كله يُفتَح ويُستهلَك، فلذلك أيها الإخوة أنت حينما تسعى لهدف حقيقي يقينيّ بعيد تكون ذكياً وفالحاً، حينما تسعى لهدف يقينيٍّ متحققٍ بعيد، وتهيِّئ نفسك لبلوغه بنجاح، فأنت أذكى الناس قاطبةً، جاء رجل من الأنصار فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: 

(( يا رسولَ اللَّهِ أيُّ المؤمنينَ أفضلُ؟ قالَ: أَحسنُهُم خُلقًا، قالَ: فأيُّ المؤمنينَ أَكْيَسُ؟ قالَ: أَكْثرُهُم للمَوتِ ذِكْرًا، وأحسنُهُم لما بعدَهُ استِعدادًا، أولئِكَ الأَكْياسُ. ))

[ صحيح ابن ماجه  ]

﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ﴾ كيف؟ ﴿يَشۡتَرُونَ ٱلضَّلَٰلَةَ﴾ .

آيات قرآنية تبين أن الإنسان مخير بين الهدى والضلالة:


 دقق الآن، في آية أخرى: 

﴿ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَٰرَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ(16)﴾

[  سورة البقرة ]

 دفعوا الهدى ثمناً وأخذوا الضلالة، بالبيع والشراء الثمن يذهب منك، ماذا يبقى معك؟ المبيع، دفعت ثمن السيارة، الثمن أُخِذ منك فبقيت السيارة، الآن إذا اشترى الضلالة بالهدى، ما الذي أخذه؟ الضلالة، ما الذي فقده؟ الهدى، أي هدى؟ الهدى الفطري، حينما تهتدي النفس إلى ربها بفطرتها، هذا الهدى أُخِذ منهم، وبقيت ضلالتهم، لكن الإنسان حر، اختار أن يكون ضالاً فلا مشكلة، الإنسان مخير، يقول الله عز وجل: 

﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِىٓ ءَايَٰتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ ۗ أَفَمَن يُلْقَىٰ فِى ٱلنَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِىٓ ءَامِنًا يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ ۚ ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ ۖ إِنَّهُۥ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(40)﴾

[  سورة فصلت ]

﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)﴾

[  سورة الكهف  ]

﴿  إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً(3)﴾

[  سورة الإنسان ]

 هذا مشكلته أكبر، ﴿يَشۡتَرُونَ ٱلضَّلَٰلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ ٱلسَّبِيلَ﴾ ضال مُضِلّ، كافر يدعو إلى الكفر، ملحِد يدعو إلى الإلحاد، فاسق يدعو إلى الفِسق، الله عز وجل يعجب، ويقول: ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ يَشۡتَرُونَ ٱلضَّلَٰلَةَ﴾ ويشترونها بالهدى، وفوق ذلك يريدون أن يحملوا الناس عليها، ﴿وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ ٱلسَّبِيلَ﴾

الإنسان في الدنيا يعيش مع الأسباب أما في الجنة فيعيش مع المسبب:


 يا أيها الإخوة الكرام، في الحياة حقيقة واحدة هي الله، وكل سلوك، وأي عمل، وأي كلام، وأي حركة تقرّب إلى الله هي الحق، وأي سلوك، وأي كلام، وأي عمل يبعدك عن الله هو باطل، لأن الله سبحانه وتعالى هو الهدف.
يا إخوتنا الكرام، أنت مع من تعيش في الدنيا؟ مع الأسباب التي خلقها الله لك، تعيش مع زوجة هي مصممة أن تكون رفيقة حياتك، تعيش مع الطعام والشراب، هذا من خلق الله عز وجل، مَن أودع الطعوم في هذه الأطعمة؟ الآية الكريمة: 

﴿ وَفِى ٱلْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَٰوِرَٰتٌ وَجَنَّٰتٌ مِّنْ أَعْنَٰبٍۢ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍۢ يُسْقَىٰ بِمَآءٍۢ وَٰحِدٍۢ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍۢ فِى ٱلْأُكُلِ ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَآيَٰتٍۢ لِّقَوْمٍۢ يَعْقِلُونَ(4)﴾

[  سورة الرعد ]

 من أودعَ لهذه الأطعمة طعمها المحبوب، هذه التفاحة شكلها جميل، قِوامها يتناسب مع أسنانك، ليست في قِوام الفولاذ، رائحتها عطرة، طعمها طيب، مذاقها حلو، مفيدة، فيها معادن، فيها حديد، فيها بروتينات، فيها فيتامينات، مَن أودعَ هذه الخصائص في هذه التفاحة؟ إذاً الله عز وجل أعطانا كل شيء. 
فلذلك أيها الإخوة: ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ يَشۡتَرُونَ ٱلضَّلَٰلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ ٱلسَّبِيلَ﴾ هذا الذي يبحث عن هدفه الأخروي يسعى في الدنيا إلى أن يكون منضبطاً وفق منهج الله عز وجل، أنت في الدنيا تعيش مع الأسباب، طفل جميل جداً يملأ البيت بهجة، الزوجة ترتاح لها، إن نظرت إليها سرتك، وإن أمرتها أطاعتك، وإن غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها، وإن أقسمت عليها أبرّتك، هذا الماء الذي تشربه لا لون له، ولا طعم له، ولا رائحة، لو كان بطعم الورد لخرجت من جلدك من الورد، لو كان بأي طعم لا يُحتَمل، لو كان بأي لون لا يُحتَمَل، جعله الله نعمة عُظمى لنا.
 إذاً أنت تعيش مع الأسباب، لكنك في الجنة تعيش مع المُسبِّب، مع الخالق، وشتان بين خالق ومخلوق، ورد في بعض الآثار والأحاديث أن المؤمن يوم القيامة ينظر إلى وجه الله الكريم فيغيب خمسين ألف عام من نشوة النظرة، أنت في الدنيا تعيش مع الأسباب، وكلما ارتقت حياتك تأتي بالأشياء بأمر، بهاتف، بكبسة زر، لكن في الآخرة أي شيء تشتهيه تراه أمامك.

الجنة هي العطاء الحقيقي والدنيا أحقر من أن تكون عطاء الله عز وجل:


 قال تعالى:

﴿ لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ۚ ذَٰلِكَ جَزَآءُ ٱلْمُحْسِنِينَ(34)﴾

[  سورة الزمر ]

﴿ يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍۢ مِّن ذَهَبٍۢ وَأَكْوَابٍۢ ۖ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ ٱلْأَنفُسُ وَتَلَذُّ ٱلْأَعْيُنُ ۖ وَأَنتُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ(71)﴾

[  سورة الزخرف ]

 يمكن أن تأكل في الدنيا تفاحتين فتشعر بثِقَل، لك أن تأكل في الجنة مليار تفاحة ولا تشعر بثقل، نمط الجنة نمط آخر، تعيش في الجنة مع مسبب الأسباب، أما في الدنيا تعيش مع الأسباب.
 يا أيها الإخوة الكرام، هذه نقطة دقيقة جداً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصف الجنة: 

(( فِيهَا ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ ))

[ صحيح مسلم ]

 في الدنيا متاعب، في الدنيا أمراض، في الدنيا تقدم في السن، في الدنيا عجز أحياناً، في الدنيا فقدُ بصر، في الدنيا أمراض وبيلة، في الدنيا زوجة سيئة تخرج من جلدك منها، واحد سأل شيخاً: يا سيدي، إذا سمح الله لنا بدخول الجنة ما حكم زوجاتنا؟ قال: هي معكم، قال: أعوذ بالله، أنا أردت الموت لأخلص منها، أنت في الجنة تعيش مع المسبب، مع مانح الجمال، مع مانح القوة، مع مانح اللطف، لذلك الجنة هي العطاء الحقيقي، والدنيا أحقر من أن تكون عطاء الله عز وجل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(( لو كانت الدُّنيا تعدِلُ عند اللهِ جناحَ بعوضةٍ ما سقَى كافرًا منها شرْبةَ ماءٍ. ))

[ أخرجه الترمذي ]


أسماء الله تعالى كلها محققة في الدنيا إلا اسم العدل محقق جزئياً:


 قال تعالى: 

﴿  لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ(196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ(197)﴾

[  سورة آل عمران ]

﴿  وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ(42)﴾

[  سورة إبراهيم ]

 أيها الإخوة الكرام، أعيد هذا كثيراً طمأنةً لكم، أسماء الله الحسنى كلها محققة في الدنيا إلا اسم العدل، لأن الدنيا دار عمل، قد تجد إنساناً في أعلى درجة من الكفر، ويهدد العالم كله مثلاً، وليس ملتزماً بشيء، يسفك الدماء، ويقتل الأبرياء، ويستغل...إلخ، لكن الآخرة دار جزاء، فأسماء الله تعالى كلها محققة في الدنيا إلا اسم العدل مُحقَّق جزئياً، الله يعاقب بعض المُسيئين ردعاً لبقية المسيئين، ويكافئ بعض المحسنين تشجيعاً لبقية المحسنين، ولكن تسوية الحسابات، ولكن الحساب الختامي، ولكن الرصيد يُؤدَّى يوم القيامة، لذلك يقول الله عز وجل: 

﴿ كُلُّ نَفْسٍۢ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلْغُرُورِ(185)﴾

[  سورة آل عمران ]

 هذه دار عمل، لو كنت فقيراً، لو كنت -لا سمح الله- مريضاً، لو كنت في الدرجة السفلى من المجتمع، وكنت مطيعاً لله: 

﴿  إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ(1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ(2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ(3)﴾

[  سورة الواقعة ]


ورود النار للمؤمنين ليروا تحقيق اسم العدل:


 لذلك أيها الإخوة، ورد في بعض الآيات يقول الله عز وجل: 

﴿ وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ۚ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا(71)﴾

[  سورة مريم ]

 النار ﴿وَإِن مِّنكُمْ﴾ أي ما من واحد منكم إلا وسيرد النار، كيف؟ قال العلماء: ورود النار غير دخولها، ورود النار لا يتأثر واردوها ولا بوهجها، ولكنهم لِيَروا العدل الإلهي، الذين كانوا في الدنيا يتصدرون، ويقصفون، ويُذِلّون الشعوب، وينتهكون الأعراض، ويُلبِّسون التُّهم للبُرَآء لا بد أن يراهم المؤمن في النار كي يتحقق من اسم العدل، وشيء آخر يرى مكانه في النار لو لم يكن مؤمناً كي تتضاعف سعادته في الجنة، لذلك: ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾ ورود النار للمؤمنين ليروا تحقيق اسم العدل. 

﴿ قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّى كَانَ لِى قَرِينٌ (51)﴾

[  سورة الصافات ]

 فاسق، فاجر، مُستعلٍ، متغطرس، يسخر من العلم والعلماء، والدين وهو أفيون الشعوب، ولا يعبأ به، غارق في الزنى والخمر ﴿إِنِّى كَانَ لِى قَرِينٌ﴾

﴿ فَٱطَّلَعَ فَرَءَاهُ فِى سَوَآءِ ٱلْجَحِيمِ(55)﴾

[  سورة الصافات ]

 ورود النار يوم القيامة كي يتحقق للمؤمن اسم العدل، وكي تتضاعف سعادته حينما يرى مكانه في النار لو لم يكن مؤمناً.

العدو الخطير للمسلم من يدَّعي الإسلام:


 أيها الإخوة الكرام، ﴿وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِأَعۡدَآئِكُمۡۚ﴾ الله عز وجل بيّن لنا فقال: 

﴿ هَٰٓأَنتُمْ أُوْلَآءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِٱلْكِتَٰبِ كُلِّهِۦ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ ٱلْأَنَامِلَ مِنَ ٱلْغَيْظِ ۚ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ(119)﴾

[  سورة آل عمران ]

 إن الأحداث أثبتت أنهم لا يحبوننا، فالذين أحبوهم بسذاجة دفعوا ثمناً باهظاً ضاعت أموالهم كلها وأُذِلّوا: ﴿وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِأَعۡدَآئِكُمۡۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ نَصِيرًا﴾ فينبغي أن تصدق الله عز وجل، يقول الله عز وجل : 

﴿ إِنَّ ٱلشَّيْطَٰنَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُۥ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ(6)﴾

[  سورة فاطر ]

 كل كافر يعاديكم، الكافر يعاديكم ولو كان في المظهر لطيفاً ناعماً، فإنه ينطوي على حقد، والدليل حينما يُستَفز ينقلب إلى وحش، الإنسان الذكي أحياناً يلبس جلد الحمل وهو ذئب، الذي يراه من بعيد يظنه حَملاً وديعاً، فإذا استفزّه انقلب إلى ذئب مفترس، ألم تروا ما الذي يحصل في العالم الآن؟ هذه الدولة العظمى التي تزعم الحرية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، وكل شيء للإنسان، والإنسان هو الأول، بعد أن استُفِزّت ماذا فعلت؟ فعلت ما لا يفعله المجرمون، فلذلك: ﴿وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِأَعۡدَآئِكُمۡۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ نَصِيرًا﴾ أيها الإخوة الكرام، ليس العدو الخطير للمسلم هو الكافر، العدو الخطير للمسلم مَن يدَّعي الإسلام، العدو الظاهر تتقيه، تجادله، أما العدو الخطير هو الذي مِن جِلدتك، الغرب أيقن أنه لا سبيل إلى مواجهة المسلمين، لا بد أن يصطنعوا اتجاهات مزيفة، يصفونها بأن هذا هو الإسلام، هذا اسمه تفجير من الداخل، ينبغي أن نكون صاحين، ما كل اتجاه إسلامي في إعلامه هو إسلاميٌ في حقيقته، الله عز وجل يقول: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ﴾ قد يكون العدو من بني جلدتك،  قد يكون العدو منافقاً كبيراً. 

يُعطيكَ مِن طرفِ اللّسانِ حلاوةً   ويَروغُ منك كما يروغُ الثعلبُ

[ صالح بن عبد القدوس ]

 إذاً أنت حينما يقول الله عز وجل لك: هذا عدو لك فاحذره، ينبغي أن تصدق الله عز وجل، ولو رأيت من كلامه لطفاً ونعومةً: ﴿وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِأَعۡدَآئِكُمۡۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ نَصِيرًا﴾ ولياً؛ أن يتولى أموركم، ونصيراً؛ ينصركم على أعدائكم، وفي هذه الأيام الصعبة ما من شيء أحب إلى المؤمنين من أن يتنصروا، لكن النصر له ثمن وهو في مقدورنا؛ أن نؤمن بالله عز وجل، وأن نُعِدّ لأعدائنا ما نستطيع، الإعداد المتاح وليس المكافئ.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور