- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (004)سورة النساء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
ورود آيات التشريع في القرآن الكريم متدرجة :
أيها الأخوة المؤمنون، مع الدرس الثالث والعشرين من دروس سورة النساء، ومع الآية الثالثة والأربعين، وهي قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً ﴾
أيها الأخوة الكرام، هذه آية في التشريع، وقد يبدو لنا أن الله سبحانه وتعالى جاء بالتشريع لحكمة أرادها الله متدرجاً، فحينما أراد الله عز وجل أن يلفت نظر المؤمنين إلى أن الخمر شراب ليس بحسن:
﴿ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً ﴾
كأن تقول: هذا طالب وهذا طالب جيد، معنى ذلك أن الأول ليس بجيد، هذه أول إشارة في القرآن إلى أن الخمر فيه ضرر.
﴿ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً ﴾
الحكمة من التدرج في آيات التشريع :
أن تأكل الفاكهة هذا رزق حسن، أما أن تخمرها فهذا رزق آخر، هذه أول إشارة، ثم جاء قوله تعالى:
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ﴾
سيدنا عمر سأل الله جل جلاله، ففي دعائه كان يقول: اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً، الآية الثانية: ماذا نستنبط من هذا التدرج؟ نستنبط من هذا التدرج أنك إذا دعوت إلى الله وقنع معك هذا الذي تدعوه، ثم وجدته يألف شيئاً فحاول أن تقنعه أن يترك هذا الشيء بالتدريج، لأنك لو ألزمته أن يتركه دفعة واحدة لترك الدين، وترك التوبة، فإذا كان تعلق الإنسان بشيء ألفه واعتاده تعلقاً شديداً فمن الحكمة البالغة أن تتدرج في هذا الشيء، ليس معنى ذلك أن هذه الآيات يُعمَل بها الآن هي آيات منسوخة، لأنه في المرحلة السادسة، قال الله عز وجل:
﴿ لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾
أوقات الصلاة متقاربة، والسكر ضياع العقل، فلذلك امتنع الصحابة عن شرب الخمر فيما بين الصلوات المتقاربة، ولم يتح لهم إلا بعد صلاة العشاء، ثم نزل قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾
وفي نهاية الآية:
﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴾
فقال سيدنا عمر: انتهينا يا رب، وعندئذٍ جاء التحريم القطعي، الفوضى في العلاقات الجنسية التي كانت في الجاهلية أيضاً جاء التحريم تدريجياً، فحكمة التشريع أن الإنسان إذا كان متعلقاً بشيء تعلقاً شديداً حتى أصبح عادة من عوائده ينبغي أن تتلطف في حمله على تركه، لئلا يترك التوبة أصلاً، ويترك الإيمان أصلاً.
للبيئة أثر كبير في اقتراف الذنوب :
أيها الأخوة الكرام، تروي بعض الروايات أن أحد الصحابة الكرام صلى بأخوانه فقرأ في الصلاة: قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون، من أثر السكر، فجاءت هذه الحادثة سبباً لنزول قول الله عز وجل:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾
ما بقيت، هذه الآيات المنسوخة طبعاً:
﴿ لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ﴾
معنى ذلك مسموح بنص الآية أن يشرب الخمر بعيداً عن الصلاة، هذه الآية منسوخة، لا يعمل بها، ولكن ما الحكمة من بقائها في القرآن الكريم؟ الحكمة أن تتعلم أنك إذا أردت أن تتعامل مع إنسان شارب للخمر فينبغي أن تكون متلطفاً معه، ليس العبرة أن تقمعه، ولا أن تحطمه، ولا أن توبخه، ولا أن تضع أمامه السدود، فهذا الذي قتل تسعاً وتسعين رجلاً، وسأل راهباً: ألي توبة؟ قال: لا فقتله، والحديث في الصحاح، ثم بين أن عالماً جليلاً قال له: لك توبة، على أن تغادر هذه الأرض، يعني البيئة لها أثر كبير في اقتراف الذنوب.
أي شيء يعيق المؤمن عن اتصاله بالله عز وجل ينبغي أن يدعه :
سيدنا عمر كان يدعو الله ويقول: اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً، بعض العلماء وسَّع كلمة السكر، وقال: إن المراد بالسكر في الأصل سكر الخمر، إلا أن بعضهم قال: هناك سكر النوم، ما الذي ينبئ عن معنى السكر، أنه لا يعلم ما يقول، فبعضهم قال: هناك سكر النوم، لقول النبي عليه الصلاة والسلام:
((إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه))
وبعضهم قال: الحاقن الذي تجمع البول في مثانته بحجم كبير؛ هذا لا يستطيع أن يعي ما يقول، لذلك ورد عن رسول الله صلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:
((لا يصلين أحدكم وهو حاقن))
لا بد من أن تقبل على الله وأنت متفرغ، أي شيء يعيق إقبالك على الله ينبغي أن تبتعد عنه، حتى إذا جلست إلى طعام، وقد أذن العشاء وأنت جائع ونفسك تتعلق بطعام تحبه، فينبغي أن تصلي العشاء بعد أن تتناول العشاء، العبرة أن يكون قلبك فارغاً من أي شيء يحول بينك وبين الإقبال على الله عز وجل، حتى أن بعضهم قال: الأولى في الصلاة أن تزيل كل مشوش يشوش عليك في صلاتك، لو جاءتك رسالة، افتحها واقرأها ثم صلي، لو اشتريت آلةً وأنت تتساءل هل فيها هذه الميزة افتحها وادرس ميزاتها ثم صلي، أي شيء يعيق المؤمن عن اتصاله بالله عز وجل ينبغي أن يدعه، على كلٍ الأصل في الآية هو سكر الخمر:
﴿ لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ﴾
والعلماء قالوا: كلمة (لا تقرَب) ـ بفتح الراء ـ معناها لا تتلبس بفعل الشيء، أما (لا تقرب) بمعنى لا تقترب، فالذي حمل الآية على لا تقرب أي لا تصلي وأنت سكران، أما الذي حمل الآية على الاقتراب فيعني حتى مقدمات الصلاة ينبغي أن تكون فيها صاحياً.
الذي يصلي ولا يعلم ماذا قرأ في الصلاة هذا في حكم السكران :
أيها الأخوة الكرام، ثم يقول الله عز وجل:
﴿ حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾
وقبل أن ننتقل إلى الفقرة التي تليها، لو أن الإنسان ليس سكراناً، لكنه غائب في همومه في الصلاة، يحدث نفسه بحديث الدنيا، ومشاغلها وشهواتها، وجمع أموالها، ومستقبله، هذا الحديث يجعله في حكم السكران، لأنه ما عقل عن الله شيئاً، لأنه لا يعلم ما يقول، إذاً الذي يصلي ولا يعلم ماذا قرأ في الصلاة هذا في حكم السكران، هناك قصص كثيرة أحياناً يصلي عدد غفير من الناس وراء إمام لو أن الإمام سألهم: ماذا قرأت في الركعة الأولى؟ ربما لا تجد من بين المئة مصلٍ إلا عدداً قليلا جداً يذكر ماذا قرأ في الركعة الأولى، إذً ليست هذه الصلاة التي أمر الله بها، ليست هذه الصلاة التي أرادها الله لنا، قال:
﴿ حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾
﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ* اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ*صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾
تقرأ:
﴿ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾
ألم تسأله أن يهديك الصراط المستقيم؟ جاء الجواب، فكأن الآيات التي تقرأها عقب الفاتحة هي إجابة الله لك حينما سألته أن يهديك الصراط المستقيم، أنت حينما تركع فحالة الركوع حالة خضوع لله عز وجل، كأن لسان حالك يقول: سمعاً وطاعةً يا رب، سألتزم بذلك.
الركوع حالة خضوع لله عز وجل :
قال لك في الصلاة:
﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً ﴾
قال لك في الصلاة:
﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ﴾
قال لك في الصلاة:
﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَّمِيعُ ْعَلِيمُ ﴾
حينما تقرأ الآية عقب الفاتحة على أنها الجواب الإلهي عن سؤالك: اهدنا الصراط المستقيم، تكون قد علمت ما تقول في الصلاة:
﴿ حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾
إذا ركعت فالركوع حالة خضوع لله عز وجل، أما إذا سجدت لأنك في الفاتحة تقول:
﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾
حينما جاءك الأمر خضعت له، لكنك ضعيف لا تستطيع أن تقيم أمر الله إلا بمعونة الله، فيأتي السجود وفيه طلب العون من الله، أي لسان حالك في السجود إياك نستعين يا رب على أداء أوامرك، واجتناب نواهيك، كما ورد في بعض الأحاديث: أن لكل آية حظها من الركوع والسجود، هذه الآية التي قرأتها عقب الفاتحة لها نصيبها من الركوع، ولها نصيبها من السجود، إذاً أنت صليت وعلمت ماذا قلت في الصلاة، أما هذا الذي لا يعلم ماذا يقول هو في حكم السكران.
حكم من كان جنباً وهو مسافر :
ثم يقول الله عز وجل:
﴿ وَلَا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ﴾
كأن الله عز وجل أراد هنا موضع الصلاة، أي لا يمكن أن تدخل المسجد جنباً إلا أن يكون عبور سبيل، كان بعض الصحابة الكرام لهم بيوت مطلة على المسجد، فإذا أراد أن يجلب الماء للبيت، وكان جنباً، فلا بد أن يخترق المسجد، فجاء هذا الحكم، أنه يجوز للجنب أن يمر في المسجد مروراً عابراً لا إقامةً ولا صلاةً:
﴿ وَلَا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ﴾
قد يفهم من هذه الآية أنك إذا كنت مسافراً، وأصابتك جنابة، ولم تجد ماء تغتسل به فلك أن تتيمم، ولك أن تصلي، وقد ورد عن بعض الصحابة أنه استفتي في إنسان شج رأسه، فاحتلم في الليل، فسأل: ألي رخصة في ترك الوضوء؟ فقالوا له: لا، فتوضأ فمات، فغضب النبي غضباً شديداً، وقال: قتلوه قاتلهم الله، هلا سألوا إن لم يعلموا:
﴿ وَلَا جُنُباً ﴾
إذاً لا تستطيع أن تقرب الصلاة إذا كنت جنباً حتى تغتسل إلا إذا كنت مسافراً، وفي السفر رخصة لك أن تتوضأ وأن تصلي إن لم تستطع أن تغتسل، فإن لم تجد ماء أصلاً فلك أن تتيمم وأن تصلي إذا كنت مسافراً، كنت مسافراً، وليس هناك ماء ساخن، والوقت شتاء قارص، إذاً يمكن أن تتوضأ وتصلي، أما كنت مسافراً وليس معك ماء إلا للشرب إذاً يمكن أن تتيمم وتصلي، فأناس قالوا: لا تقربوا الصلاة، الصلاة نفسها، وأناس قالوا: موضع الصلاة، أي المسجد، والطائفة الثالثة قالت: أراد الله الصلاة وموضعها معاً، ذلك لأن الصحابة الكرام لا يأتون المسجد إلا للصلاة، ولا يصلون إلا مجتمعين في المسجد، فاختلط مفهوم الصلاة مع مفهوم مكان الصلاة.
السكر ضياع العقل :
أخواننا الكرام، السكران لا يعلم ما يقول، لأن السكر إغلاق للعقل، والعقل مناط التكليف، حدثني أخ قال: التقى بموظف في مستوى عال جداً من الحكمة، والوقار، والهدوء، والذكاء، ثم كانوا في جلسة، فشرب الخمر هذا الموظف، فتكلم كلاماً لا يمكن أن يتكلمه إنسان عاقل على وجه الأرض، فضح نفسه، تحدث عن خصوصياته، تحدث عن علاقاته الآثمة، تحدث، وتحدث..! لأن السكران معطل عقله، وكأن شيئاً سد عليه عقله، وكأن تدفق الأفكار سدت بالسكر.
تروي بعض الكتب أن إنساناً خيِّر بين أن يسكر، وبين أن يزني، وبين أن يقتل، فتوهم أن السكر أهون هذه الأشياء، فسكر، فزنى، وقتل بعدها، وكم من إنسان كان ثملاً فدخل إلى بيته وقتل كل أطفاله، ثم حينما صحا قتل نفسه، السكر ضياع العقل، لذلك ورد في بعض الآثار أن الشر كله جمع في بيت، فكان مفتاحه السكر.
أيها الأخوة، بعض الدول الأجنبية حرمت الخمر في الثلاثينات، قرأت بحثاً حول هذا الموضوع دهشت له، أنفقت مئات الملايين توعيةً للناس، طبعت آلاف النشرات، ومئات الكتب، وأدخل السجن مئات ألوف الأشخاص، ومع ذلك لم تستطع هذه الدولة أن تحرم الخمر، بل تفاقم شرب الخمر سراً، بل صنعت سفنٌ ذات جدارين كانت الخمور تهرب بين جدرانها، فلما يئسوا من تحريم الخمر أطلقوه، هذا الأمر كان في الثلاثينات، سبحان الله عند المسلمين الأمر غير ذلك، لا يفكر مسلم من عامة المسلمين لا أقول من خاصتهم، ولا أقول من مجتهديهم، لا يفكر مسلم من عامة المسلمين أن يشرب الخمر إلا إذا كان خارجاً عن الملة، أو غارقاً في المعصية والإثم، وهؤلاء بالنسبة لمجموع المسلمين قلة، وحينما يكون الآمر هو الله لا يمكن أن تخالفه.
مرة ضربت مثلاً، ممنوع أن تتكلم بهاتفك المحمول، وأنت تقود السيارة، هذا المنع مرتبط بالشرطي فقط، فإذا لم يوجد الشرطي تتكلم.
أما حينما أمرك الله أن تغض البصر في أي مكان كنت لا يراقبك أحد تستطيع أن تخترق أمر عز وجل، لذلك حينما يضع الإنسان التشريع، الإنسان الذي شرع له التشريع ذكي كواضع التشريع، فكثيراً ما يحتال عليه، حينما وضع إلزامٌ لقائدي المركبات ألاّ يتجاوزوا المئة فوضعت أجهزة رادار تكشف الذين يتجاوزن من قيادة سياراتهم السرعة القانونية، صنع جهاز يكشف جهاز الرادار، فكان الذي يقود مركبته حينما يعلمه جهازه أنه بعد خمس كيلومترات هناك جهاز رادار يخفف السرعة، إذاً حينما يضع الإنسان تشريعاً يكون واضع التشريع عاقلاً، والذي وضع له التشريع أكثر عقلاً، فالقضية معركة بين عقلين، أما حينما يكون المشرع هو الله عز وجل فالأمر مختلف، قال له: بعني هذه الشاة وخذ ثمنها، قال: ليست لي، قال: قل لصاحبها ماتت، أو أكلها الذئب، قال: والله إنني لفي أشد الحاجة إلى ثمنها، ولو قلت لصاحبها: ماتت أو أكلها الذئب لصدقني فإني عنده صادق وأمين، ولكن أين الله؟!
الذي يعبر المسجد وهو جنب إذا توضأ يجوز أن يبقى فيه وكذلك المسافر :
أيها الأخوة، ثم يقول الله عز وجل:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ﴾
انظر:
﴿ وَلَا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ﴾
الحكم، لا يمكن لإنسان جنب أن يصلي حتى يغتسل، إلا استثناء:
﴿ إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ ﴾
إذا كان ثمة ماء للوضوء فتتوضأ وتصلي، وإن لم يكن هناك ماء أصلاً فتيمم وصلِّ.
الجُنُب أيها الأخوة، هو الذي جامع زوجته أو احتلم، وأجمع العلماء على أن الغسل يجب عند التقاء الختانين، أو عند الإنزال، في هاتين الحالتين يجب الغسل، وحينما قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح:
((إنما الماء من الماء))
أي الاغتسال يكون من الإنزال فقط، العلماء وجهوا ذلك الحديث إلى موضوع الاحتلام، فالذي احتلم ولم يجد ماء فليس عليه شيء، أما إذا احتلم ووجد آثار الماء على ثوبه الداخلي فعندئذٍ يجب أن يغتسل.
أيها الأخوة، هذا الذي يعبر المسجد وهو جنب إذا توضأ يجوز أن يبقى فيه، كذلك المسافر إذا دخل المسجد وتوضأ ولم يجد ماء للاغتسال فإنه يسمح له البقاء في المسجد.
حكم الشرع في الوضوء والاغتسال للمريض الجنب ومن في حكمه :
ثم يقول الله عز وجل:
﴿ وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ ﴾
نبدأ بالمرضى؛ المريض الذي يؤذيه الماء، أو يطيل في مدة شفائه، أو يزيد مرضه، أو إذا كان صحيحاً، لكن الماء يؤذيه برأي طبيب مسلم حاذق ورع، هذا يمكن أن يتيمم ولا يتوضأ، وإذا كان جنباً يمكن أن يتوضأ إذا كان في مقدوره الوضوء، أو يتيمم إن لم يجد الماء أصلاً، إذاً الصحيح الذي يخاف من الماء أن يؤذيه بإخبار طبيب مسلم حاذق ورع هو في حكم المريض، في حالات خاصة هناك استعداد إلى مرض شديد بسبب الماء البارد، فالصحيح الذي يخشى الماء بإخبار طبيب مسلم حاذق ورع، أو المريض الذي يؤذيه الماء، أو المريض الذي يطيل الماء مدة شفائه، أو المريض الذي يعيق الماء شفاءَه، أو يعجل في تفاقم مرضه فهذا إنسان يمكن أن يتوضأ ويصلي إن كان الوضوء لا يؤذيه، ويمكن أن يتيمم إذا كان أصل الماء يؤذيه:
﴿ وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ ﴾
المسافر له أن يتيمم إن لم يجد الماء، وله أن يتوضأ إن وجد الماء، ويعفى من الاغتسال، الآية:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى ﴾
السفر وأنواعه :
الآن ليس هناك جنابة، لكن ثمة مرض:
﴿ أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ﴾
الحقيقة السفر الشرعي الذي هو مباح، بالمناسبة أعلى أنواع السفر سفر الجهاد في سبيل الله، ثم يأتي بعده طلب العلم، ثم يأتي بعده طلب الرزق، هذا الذي أقر به الفقهاء، ثم هناك السفر المباح، ليس هناك معصية إطلاقاً ترتكب في السفر، هذا سفر مباح، أما والعياذ بالله الآن يقصد من السفر المعصية بشكل واضح جداً.
﴿ وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ ﴾
الغائط؛ المكان المنخفض، وكان الناس من حياتهم الخشنة، ليس هناك دورات مياه، فيذهبون إلى مكان منخفض ليقضوا حاجاتهم، كي يستتروا بهذا المكان المنخفض، فصارت كلمة الغائط كناية عن قضاء الحاجة:
﴿ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ ﴾
كان في مكان منخفض قضى حاجته، وجاء إلى بيته:
﴿ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ﴾
التيمم لا يكون إلا بتراب طاهر :
أيها الأخوة، أما كلمة:
﴿ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ ﴾
تفيد اللقاء الزوجي على خلاف بين العلماء، فبعضهم قال: المباشرة فقط، وبعضهم قال: المس فقط، وبعضهم الآخر قال: اللقاء الزوجي المعروف، ففي هذه الحالات الثلاث:
﴿ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ﴾
تعريف المرض قبل أن نتابع الآية خروج الجسم عن حد اعتداله، كل إنسان إذا عملت أجهزته عملاً طبيعياً يشعر براحة، وخفةٍ، ويستخدم حواسه، ويستخدم جوارحه، ويستخدم أعضاءه وأجهزته استخداماً صحيحاً، إذا أصاب الجسم خلل ينتقل إلى حالة ثانية، الآن:
﴿ فَتَيَمَّمُوا ﴾
أي هذه عبادة، أنت حينما لا تجد الماء لا بد أن تدخل في الصلاة بعمل آخر، والعبادة تكليف من الله عز وجل، والصعيد هو وجه الأرض، فينبغي أن يكون طيباً، والطيب كما قال بعض الفقهاء التراب الذي ينبت، لا التراب النجس، ولا التراب المجلوب، تراب الأرض، أو صخر الأرض، التراب أو الصخر، أو الحائط أحياناً شيء من الأرض:
﴿ فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ﴾
يجب أن يكون هذا التراب طاهراً.
حالات يُباح فيها التيمم :
قال تعالى:
﴿ فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ ﴾
أيْ اضرب ضربةً تمسح بها وجهك، وضربةً أخرى تمسح بها يديك، هذا هو التيمم، والتيمم من رخص الله عز وجل للإنسان، لأن الصلاة كما قلت وأقول دائماً: فرض متكرر، لا يسقط بحال، في حالات كثيرة معك ماء، ولكن لا يكفي لوضوئك وشربك، والشرب أولى، معك ماء ولكن لا يكفي لوضوئك وطبخ طعامك، الطبخ أولى، أو وجدت ماء ولا سبيل إليه، ماء في قعر بئر، ولا تملك حبلاً ولا دلواً، أو كان سعره فوق طاقتك، ولا تملك ثمنه، الفقهاء عددوا حالات كثيرة جداً عندئذٍ يسقط الوضوء، ويجزئ التيمم، أو يسقط الغسل، ويجزئ التيمم، حتى إن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يرى أنه إذا علم أن الماء في الحضر مع خوف خروج الوقت الصحيح، وأردت جلب الماء فينبغي أن تتيمم، وأن تصلي، الآن الفقهاء وسعوا كلمة:
﴿ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً ﴾
كما قلت قبل قليل إما عدمه جملةً، أو عدم بعضه، معك ماء للشرب هذا عدم بعضه، أما عدمه جملةً فليس هناك أثر للماء، وإما أن يخاف فوات الرفيق، أنت مسافر مع مجموعة يركبون الخيول، أو يركبون الدواب، فإذا ذهبت لإحضار الماء، والوضوء والصلاة فات الركب، وضللت عنهم، فإن فوات الرفيق أيضاً يجيز التيمم، أو أن رجلاً مطلوب ظلماً، فإذا ذهب إلى جلب الماء ألقي القبض عليه يجوز أن يتيمم، أو يخاف في طريق لصوصاً أو سباعاً، أو قطاع طرق، أو وحوشاً مكان الماء، أو خاف فوات الوقت، أو خاف عطشاً على نفسه، أو على غيره، وكذلك لطبيخ يطبخه لمصلحة بدنه، هذا كله يجيز له التيمم مكان الوضوء، والتيمم مكان الاغتسال.
الآن مريض أمامه ماء، لكنه مشلول لا يجد من يأتيه بالماء، البيت فيه ماء، لكنه قعيد الفراش، هذا أيضاً يجوز له الشرع أن يتيمم، أو يخاف من ضرره، أو يخاف سعره المرتفع إذا كان يُشترى.
في التيمم لا بد من ضربتين ضربة للوجه وضربة لليدين :
أيها الأخوة، يقول عليه الصلاة والسلام:
((جعلت لنا الأرض كلها مسجداً وجعلت تربتها لنا طهوراً))
وهذا من خصائص المسلمين، الأرض كلها مسجد، وترابها الطيب، وكله صالح للتيمم، معنى تيمموا؛ أي اقصدوا، يممت وجهي تلقاء مدين، يممت وجهي تلقاء حلب مثلاً، التيمم القصر، كأن الله عز وجل يقول:
﴿ فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً ﴾
أي وجه الأرض، صخراً، رخاماً، تراباً طاهراً:
﴿ فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ﴾
ثم يقول الله عز وجل:
﴿ فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ ﴾
في آية ثانية في سورة المائدة:
﴿ فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ﴾
من الموازنة بين الآيتين استنبط الإمام الشافعي أنه لا بد من أن ينتقل جزء من الصعيد الطيب إلى الوجه واليدين،
﴿ مِنْهُ ﴾
وفي الآية الأولى لو لم يعلق شيء بيديك يجوز أن تمسح بوجهك، وأن تمسح بيديك دون أن تنقل من التراب شيئاً، القضية خلافية، لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما وضع يديه على الأرض ورفعهما نفخ فيهما، وكأنه أزال أثر التراب، ومن آية (مِنْهُ) تفيد الآية فيما تفيد أنه لا بد أن يصل إلى جلد وجهك وجلد يديك شيء من صعيد الأرض، ويبلغ بالتيمم في اليدين إلى المرفقين قياساً على الوضوء، وبعضهم قال الكفين فقط، فإما يمسح الكفين، وإما المرفقين قياساً على الوضوء، وبعض العلماء قال: هل يجوز أن يكون التيمم ضربة واحدة، للوجه والمرفقين؟ الجمهور على أنه لا بد من ضربتين، ضربة للوجه، وضربة لليدين.
ملخص سريع لما ورد في درس اليوم :
أيها الأخوة، هذه الآية التي تمّ شرحها بفضل الله عز وجل آية متعلقة بالتشريع، لكنها دقيقة جداً ومتداخلة، أعيد تلاوتها يقول الله عز وجل:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾
وقد ذكرتكم سابقاً أن الأمور العقيدية ليس فيها حلول وسط أبداً، وليس فيها تدرج، نقطة من الشرك قليلة تعيق العبد عن ربه، في أمور العقائد لا تدرج ولا توسط، العقيدة حدية، إذا قلت: لا إله إلا الله، أي لا إله إلا الله، لا معبود بحق إلا الله، أما التدرج أين؟ في الأمور التشريعية، وكأن هناك قاعدة أن الإنسان إذا دعي إلى الله، واستجاب لهذه الدعوة، وكان متعلقاً بشيء تعلقاً شديداً يمكن أن تستفيد من تشريع التدرج في عدم مطالبته بكل شيء، ريثما يقوى إيمانه، هذا معنى قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ﴾
أي الجنب لا بد له أن يغتسل إلا إذا كان مسافراً:
﴿ وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ ﴾
بمعنى جامعتموهن:
﴿ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً﴾
الرخص هي من تشريع الله عز وجل وحده :
من صفات الله عز وجل أنه عفو، العبرة أن تتصل به، وأن تقبل عليه، فلكل وضع حرج حكمٌ شرعي، والأمر إذا ضاق اتسع، والله سبحانه وتعالى لا يريد أن يجعل عليكم في الدين حرج، فهذا التيمم هو الوسع، وهو استثناء من الوسع، لأن الله عز وجل يقول:
﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا ﴾
من الذي يقدر الوسع؟ هو الله عز وجل، أما أن تقدر أنت الوسع فهذا مرفوض رفضاً كلياً، فالله عز وجل سمح بالتيمم، وسمح بقصر الصلاة، وسمح بترك الصيام للمريض والمسافر، وكل هذه الرخص هي من تشريع الله عز وجل، أما أن يخترع الإنسان رخصاً لنفسه فهذا دليل رقة دينه، وبعده عن الصواب.
وفي درس آخر إن شاء الله تعالى ننتقل إلى قوله تعالى:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ* وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً﴾