الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
كثرة الأنبياء الذين أرسلهم الله إلى بني إسرائيل شهادة عليهم:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الخامس والثلاثين من دروس سورة البقرة، ومع الآية السابعة والثمانين والتي بعدها، فالله عزَّ وجل يقول في القرآن الكريم:
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87)﴾
أيها الإخوة الكرام؛ كثرة أنبياء بني إسرائيل ليست شهادةً لهم؛ بل هي شهادة عليهم، لأن الطالب المقصِّر يحتاج إلى عددٍ كبيرٍ من المدرِّسين، وأن صاحب المرض المستعصي يحتاج إلى عددٍ كبيرٍ من الأطبَّاء، فكثرة الأنبياء التي أرسلها الله إلى بني إسرائيل ليست شهادةً لهم بل هي شهادةٌ عليهم.
الشيء الآخر هو أن الله من لوازم كماله ألا يدع عباده من دون توجيه، من دون تكليف، من دون تبيين، فالله عزَّ وجل قال:
﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12)﴾
و(على) إذا جاءت مع لفظ الجلالة تفيد الإلزام الذاتي، فالله عزَّ وجل قال: يا عبادي عليّ أن أهديكم.
لا يمكن أن تتناقض إرادة الله عزَّ وجل:
ما دام الله عزَّ وجل يقول: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى﴾ لا يمكن أن تتناقض إرادات الله عزَّ وجل، هذه حقيقة مهمَّة جداً، ما دام الله عزَّ وجل قال:
﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27)﴾
قال: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى﴾ إذاً لا يمكن أن يكون من إراداته الأخرى ما يمنع الهُدى، إنسان بسيط، طموحه أن يكون ابنه متعلِّماً، هذا طموح أبٍ، هل يعقل أن يمنع ابنه من تأدية الامتحان ليرسُب؟ مستحيل، ما دام طموح هذا الأب وأمله أن يكون ابنه متعلِّماً، والابن يدرس، هل يعقل أن يمنع الأب ابنه أن يؤدِّيَ الامتحان؟ تناقضت إرادات الأب، أراد له أن يكون متعلِّماً، ثمَّ أراد أن يمنعه من دخول الامتحان، تناقضت الإرادات، هذا لا يُقْبَل بحقِّ إنسان فهل يُقْبَل بحقّ الواحد الديَّان؟ مستحيل، لا تتناقض إرادات الله عزَّ وجل، ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾ .
نظام الكون أساسه السببيَّة:
قال تعالى:
﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)﴾
خلقنا ليرحمنا، يستحيل أن يريد بنا العذاب، أراد لنا السعادة، والسلامة، والجنَّة، فأن يريد غير ذلك معنى ذلك أنه تناقضت إرادات الله عزَّ وجل، وهذا مستحيلٌ في حقِّ الله عزَّ وجل.
إذاً: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ بيَّنت لكم في الدرس الماضي -وهو مركز ثِقَلٍ في هذا الدرس-هو أن مشيئة الله شاءت أن يكون لكل شيءٍ سبب، نظام الكون أساسه السببيَّة، بل إن عقل الإنسان بُنِيَ على نظام السببيَّة، أنت لا تفهم شيئاً بلا سبب، كما أنك لا تفهم شيئاً بلا هدف، كما أنك لا تقبل التناقض، هذا هو العقل، العقل جهاز مَعرفي، جهاز إدراكي، لا يفهم إلا وفق هذه المبادئ، إنسان ارتكب جريمة، وقعت في دمشق جريمة، اتُهِمْ بها إنسان، لو أثبت هذا الإنسان بالدليل اليقيني أنه كان في حلب فهو بريء، لأنه لا يُعْقَل أن يكون إنسان في دمشق وحلب في وقتٍ واحد، هذا العقل، يرفض التناقض، العقل يرفض أن يحدث شيء بلا سبب، لا يوجد إنسان يغادر ويغلق أبواب البيت ويطفئ الكهرباء، فإذا رجع بعد أيَّام وجد أن الكهرباء متألِّقة لماذا يضَّطرب؟ لماذا ينفعل؟ لماذا يقلق؟ لو أنه عبَّر عن قلقه فقالت له زوجته: أطفئ المصابيح، القضيَّة أخطر من ذلك، القضية من دخل إلى البيت في غيبتنا؟ لا يقبل أن تتألَّق المصابيح من دون فاعل، هذا العقل، العقل لا يقبل شيئاً من دون سبب، لا يقبل شيئاً من دون هدف.
أساس نظام عقل الإنسان السببيَّة:
يرى الإنسان أحياناً ظواهر لا تعنيه، ولا تتصل بحياته إطلاقاً، ولا تتعلَّق بكل مصالحه؛ أنت قد تجد شاحنة تحمل وقوداً سائلاً، وتجر سلسلة من الحديد وراءها، لماذا؟ أنت موظَّف ليس لك علاقة بالنفط إطلاقاً، ولا بالشاحنات، ولا بالميكانيك، لماذا تبحث عن العلَّة وعن الهدف؟ فإذا قيل لك: هذه من أجل أن تُفرِّغ الصواعق، قد تأتي صاعقة فتحرق هذه المركبة، فإذا كان لها اتصال مع الأرض تُفَرَّغ هذه الصاعقة دون أن تتأذَّى المركبة،
فُهِم الشيء، الإنسان أحياناً تُحلّ مشكلته الماديَّة، لكن لا تُحلّ مشكلته العقليَّة.
كنت مرَّة أضرب هذا المثل: إذا وضعت قُرْصاً من البلور المقاوم للحرارة في إناءٍ فالحليب لا يفور، المشكلة حُلَّت، ضعْ هذا القرص في قعر الوعاء، وأوقد النار تحت الحليب، واذهب، الحليب لا يفور أبداً،
المشكلة حُلَّت، لكن كيف؟ يوجد عقل، إلى أن عرفت أن هذا القرص يُجمِّع الفُقَاعات ويخرجها من مكانٍ ضيِّق باندفاعٍ شديد فتثقب هذه الطبقة التي هي السبب في فوران الحليب، توضَّح الأمر.
هذا العقل أعظم منحة إلهيَّة منحها للإنسان، هو أداة معرفة الله، هذا الإنسان أعطي هذه القوَّة الإدراكيَّة ليتعرَّف إلى الله بها، فأساس نظام عقل الإنسان السببيَّة.
مرَّة ثانية: لا تفهم شيئاً بلا سبب، ولا تفهم شيئاً بلا هدف، أحد العلماء الغربيين أحد أسباب إيمانه بالله البقرة، قال: هذا الحليب الذي تعطيه، تعطي كمية حليب أضعافاً مضاعفة عما يحتاجه وليدها، يحتاج وليدها إلى كيليين من الحليب في اليوم، تعطي أربعين كيلو،
معنى ذلك أن هذا الحليب خُلِق من أجل الإنسان، الذي خلق البقرة هو الذي خلق الإنسان، وهذا هو الغذاء الكامل.
لو فكَّر الإنسان عن طريق نظام السببية، أو عن طريق مبدأ الغاية، أو عن طريق مبدأ عدم التناقض لوصل إلى الله عزَّ وجل، أنت عندما تقتني سيارة، وتكون في أقصى مكان بالعالم، وتشتري قطعة من الشركة الصانعة، هذه تأتي إلى بلدك بعد حين، تضعها في المكان المناسب، ما دام المصنع واحداً القياسات كلها واحدة.
طبيب يدرس الطب في أمريكا، والدواء مصنَّع في كندا، والمريض باليابان يأخذ هذا الدواء فيسكن ألمه، لولا أن بنية الأشخاص في العالم واحدة، مكان الأجهزة واحد، مكان الشرايين واحد، مكان الأعصاب واحد، ليس هناك معنى لتدريس الطب في العالَم، هناك وحَدَة وهناك تباين، من حيث البُنية هناك تطابق تام بين كل البشر، لو أن شركة صنعت مليون سيارة، فكل الأجهزة وقطع الغيار من أي مكان لو اشتريته تأتي في المكان الصحيح لأن الصانع واحد، فالقياسات كلها واحدة، إذاً قضية مبدأ السببيَّة، ومبدأ الغائيَّة، وعدم التناقض، هذه بُنية العقل البشري.
ربنا جلَّ جلاله من حينٍ إلى آخر عن طريق المعجزات يعطِّل الأسباب أو يُلغيها:
الآن هذا العقل البشري لماذا خلق الله في هذا العقل نظام السببيَّة؟
من أجل أن تصل إليه، دقق؛ لو أن عقلك يقبل شيئاً من دون سبب لقَبِل الكون من دون إله، لكن لأن عقلك لا يقبل شيئاً من دون سبب إذاً أنت لا تقبل الكون من دون مكوِّن، ولا خَلْقَاً من دون خالق، ولا نظاماً من دون منظِّم، ولا حكمةً من دون مُحْكِم، هذا الذي أراده الله عزَّ وجل، إذاً كل شيء له سبب.
لكن يوجد منزلق خطير وهو أن تظن أن السبب هو خالق النتيجة، استغنيت عن الله عزَّ وجل، هذا المبدأ من أجل أن تصل إلى الله، لكن يمكن أن ينحرف الإنسان فيؤلِّه السبب، إذا ألَّه السبب استغنى عن المسبِّب، لذلك ربنا جلَّ جلاله من حينٍ إلى آخر عن طريق المعجزات يُعطِّل الأسباب، أو يُلغي الأسباب، السبب موجود ولا توجد نتيجة، أو نتيجة بلا سبب، سيدنا عيسى عليه وعلى نبيِّنا أفضل الصلاة والسلام كانت ولادته معجزة، من أمٍ بلا أب، معنى ذلك أن السبب يرافق النتيجة ولا يخلقها، مشكلة العالَم في كلمتين؛ فريقٌ في الغرب ألَّه الأسباب فأشرك، وفريقٌ في الشرق لم يأخُذ بالأسباب فعصى، الغربيِّون أخذوا بالأسباب وألَّهوها فعبدوها من دون الله، إذا كانوا أقوياء إذاً المستقبل لهم، ولم يعبؤوا بالدين، عصوا، وفجروا، وظلموا، وطغوا، وبغوا، لأن معهم قوَّة، القوَّة سبب، والسبب له نتيجة السيطرة، فلماذا طاعة الله عزَّ وجل؟ وفي الشرق من توكَّل تواكلاً غير شرعي، لم يأخذ بالأسباب، فوقع في معصية عدم الأخذ بالأسباب:
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً(83)إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً(84)فَأَتْبَعَ سَبَباً(85)﴾
الموقف الكامل الذي ذكرته في الدرس الماضي والمسلمون اليوم في أمسِّ الحاجة إليه: أن يأخذوا بالأسباب وكأنَّها كل شيء، وأن يتوكَّلوا على الله عزَّ وجل وكأنَّها ليست بشيء، لئلا يقعوا في وادي الشرك حينما تُؤَلَّه الأسباب، ولئلا يقعوا في وادي المعصية حينما لا يؤخذُ بالأسباب، فسيدنا عيسى القضيَّة الكبرى في وجوده من دون أب ليُعلمنا الله عزَّ وجل أن السبب ليس هو الخالق، الخالق هو الله.
معاكسة شهوتك ثمن جنَّة ربِّك:
لذلك العقيدة الصحيحة أن السبب يترافق مع النتيجة فقط، من أجل تنظيم الحياة، ومن أجل الوصول إلى الله، لكن السبب لا يخلق النتيجة إطلاقاً، فسيدنا عيسى ولِد من دون أب، وحوَّاء ولِدَت من دون أم، وأحياناً أب وأم يُنجبان، وأحياناً أخرى أب شاب وزوجته شابَّة ولا ينجبان، جعلهما الله عقيمَين، إذاً ثلاث حالات: سبب بلا نتيجة، نتيجة بلا سبب، سبب بنتيجة: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ قال علماء التفسير: كان جبريل عليه السلام معه دائماً مؤيده: ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ﴾ هناك مشكلة، المشكلة ثمن الجنَّة هذا التناقض بين التكليف والطَبع، الإنسان يشتهي أن ينام، والتكليف يأمره أن يستيقظ، فإذا عاكس رغبته في النوم وصلَّى الفجر يرقى عند الله، طَبْع الإنسان يقتضي أن يملأ عينيه من محاسن النساء، والتكليف يأمره بغض البصر، فإذا عاكس شهوته وغضَّ بصره يرقى عند الله، يقتضي طَبع الإنسان أن يأخذ المال، والتكليف يأمره أن ينفق المال، فإذا عاكس شهوته وأنفق المال يرقى عند الله، أن تعاكس شهوتك هو ثمن جنَّة ربِّك، بدليل قول الله عزَّ وجل:
﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى(40)فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى(41)﴾
﴿أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ﴾ طبعاً التكذيب جريمة، إنسان معه دليل، إنسان أرسله الله ليسعدك، لينقذك من الشقاء، ليجعلك معافى سليماً سعيداً في الدنيا والآخرة فكذَّبته، وأشدّ من التكذيب القتل: ﴿فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ﴾ المعاصي نوعان: معاصي استكبار، ومعاصي غَلَبَةَ:
(( عن ابن عبَّاس رضي الله عنه: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار. ))
[ أخرجه أبو داود: صحيح الجامع الصغير ]
العبد عبدٌ والرب رب، ليس من شأن العبد أن يستكبر، فمن رأى نفسه عظيماً واستكبر أن يطيع الله عزَّ وجل فقد وقع في ضلال كبير، إنسان مثقَّف ثقافة عالية جداً، يحتل مركزاً علمياً مرموقاً، لا يصوم رمضان، هو أرقى من أن يصوم مثلاً، لا يصلي هذا منعه الكبر أن يصلي:
﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)﴾
يوم كان طفلاً صغيراً في بطن أمِّه، يوم خرج لا يفقه شيئاً:
﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)﴾
بعد أن ارتقى، وحمل شهادة عالية هو أكبر من أن يصلي في مسجد؟!
قد يخطئ الإنسان أما حينما يستكبر فهو قد قطع ما بينه وبين الله:
﴿فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ﴾ وقال: ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ﴾ لذلك أيها الإخوة؛ أضرب لكم هذا المثل الذي ضربته لكم كثيراً: إنسان جاءه ضيوف عنده كيلو لبن، والضيوف كُثُر، يمكن أن يضيف لهذا الكيلو من اللبن خمسة كيلو من الماء، ويجعله شراباً طيباً مستساغاً بارداً في الصيف، لكن هذا الكيلو من اللبن لو أضفت له قطرة من الكاز يفسد، يتحمَّل خمسة أضعافه ماء لكن لا يتحمَّل قطرة نفط أبداً، تلقيه في المُهملات، فلذلك قد يخطئ الإنسان أما حينما يستكبر فهو قد قطع ما بينه وبين الله، حينما يستكبر سار في طريقٍ مسدود، حينما يستكبر دائماً وأبداً.
حينما يفتقر الإنسان إلى الله يأتيه من الله المَدَد:
إخواننا الكرام؛ لدينا درس بليغ جداً، درس بدر ودرس حنين، والذين وقع عليهم الدرسان أصحاب رسول الله، في بدر قال:
﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)﴾
إذا قلت: يا الله، يقول لك الله: لبَّيك يا عبدي، أنت حينما تفتقر إلى الله يأتيك من الله المَدَد، حينما تفتقر إلى الله يمنحك الله قوَّته وهو القوي، وحينما تفتقر إلى الله يمنحك الله غناه وهو الغني، وحينما تفتقر إلى الله يمنحك الله حكمته وهو الحكيم، وحينما تفتقر إلى الله يمنحك الله رحمته وهو الرحيم، أما حينما تقول: أنا، أنا ابن فلان، تشرفنا، أنا أحمل الشهادة الفُلانيَّة، نقطة دم لا تزيد عن حجم رأس دبوس لو تجمَّدت في مكان ما من دماغك لنسيت كل معلوماتك، وأصبح مكانه في مشفى الأمراض العقلية، يقول: أنا أحمل الشهادة الفُلانيَّة، حينما تقول: أنا، تخلَّى الله عنك، مَنْ الذين تخلَّى الله عنهم إلى حين؟ أصحاب رسول الله:
﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)﴾
إذا كان أصحاب النبي وهم الذين بذلوا أرواحهم رخيصةً في سبيل الله تخلَّى الله عنهم لأنهم قالوا: نحن.
كلمات مهلكات وردت في القرآن الكريم:
لذلك قال العلماء: أربع كلمات مهلكات، أنا، ونحن، ولي، وعندي، قال إبليس:
﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)﴾
فأهلكه الله، وقال قوم سبأ:
﴿ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)﴾
فأهلكهم الله، وقال فرعون:
﴿ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)﴾
فأهلكه الله، وقال قارون:
﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)﴾
فأهلكه الله عزَّ وجل؛ فأنا، ونحن، ولي، وعندي كلماتٌ مُهْلِكَات، إذا قلت: الله، تولاك الله، وإذا قلت: أنا، تخلَّى الله عنك، لذلك أكبر معصيةٍ معصية الكبر، أن تستكبر، أن تنسى أنك من حوينٍ منوي، نسيت أنك خرجت من عورة، ودخلت في عورة، وخرجت من عورة، نسيت أنك خُلِقْت من ماءٍ مهين. بئس العبدُ عبد طَغَى وبغى، ونسَيَ المبتدى والمنتهى.
نسي الإنسان أنه سوف يوضَع في حفرةٍ كائناً من كان، يدخل إلى هذه الحفرة أغنى أغنياء الأرض، وأقوى ملوك الأرض، وأحكم حكماء الأرض، وأذكى أذكياء الأرض، في النهاية: وسيُشَّيع إلى مثواه الأخير، يوضَع في القبر لا يقال له: يا صاحب الجلالة، يقال له: يا عبد الله، سمعتم هذا بآذانكم، هكذا، هذا مصير الإنسان، عبدي رجعوا وتركوك، وفي التراب دفنوك، ولو بقوا معك ما نفعوك، ولم يبقَ لك إلا أنا وأنا الحيُّ الذي لا يموت.
أعقل إنسان فينا من يعمل لهذه الساعة التي لابد منها، آتيةٌ لا ريب فيها، آتيةٌ وكأنَّك وصلت إليها، يقول الله عزَّ وجل دقِّقوا في هذه الآيةـ:
﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)﴾
أي أتى، قال: ﴿فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ معنى هذا أنه لم يأتِ بعد، ما معنى هذه الآية: ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ ؟ أي نحن محكومون جميعاً بالموت مع وقف التنفيذ.
قرأت مرَّة كتاباً عن قَصَص العرب، مؤلَّف من أربعة أجزاء، كتاب ممتع جداً، بعد أن انتهيت من قراءته كانت لي منه موعظةٌ كبيرة، أن هؤلاء الذين عاشوا قبل مئات السنين، الأقوياء ماتوا، والملوك ماتوا، والضعفاء ماتوا، والكفار ماتوا، والأغنياء ماتوا، والفقراء ماتوا، والحكماء ماتوا، والحمقى ماتوا، كل هؤلاء الذين قرأت عنهم في أربعة أجزاء الكتاب تحت أطباق الثرى، لا ينفعهم إلا عملهم فقط، فحجمك عند الله بحجم عملك، لذلك: ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ﴾ .
كل إنسانٍ خلقه الله عنده استعدادٌ كامل أن يهتدي إلى الله وأن يسعد في الدنيا والآخرة:
آية اليوم:
﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)﴾
أيها الأخُ الكريم؛ حينما تعتقد أو تتوهَّم أن إنساناً خلقه الله لا يهتدي فهذا خطأٌ شنيعٌ في العقيدة، كل إنسانٍ خلقه الله عنده استعدادٌ كامل أن يهتدي إلى الله، وأن يعرفه، وأن يسعد في الدنيا والآخرة، أما أن الله خلق إنساناً كافراً؟! إذا خلق الله عزَّ وجل إنساناً كافراً فلمَ يعذِّبه؟ ما ذنبه؟
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له: إياك إِياك أن تبتل بالماء
إذا قدَّر عليه المعصية فَلِمَ يعذِّبه؟ إذا خلقه مؤمناً فلمَ يدخله الجنَّة؟ نحن في أنظمة حياتنا الدنيا هل من الممكن أن نعطي طالباً الأسئلة قبل يومين أو نعطيه أوراق الإجابة مكتوباً عليها الجواب الكامل بخط الأستاذ؟! يقول له: اكتب اسمك ورقمك، فأخذ الدرجة الأولى على كل طلاب البلد، أقمنا له حفلاً تكريميَّاً عظيماً لأنه نال الدرجة الأولى على كل الطلاب، ليس لهذه الحفلة معنى إطلاقاً، هو لم يدرس إطلاقاً، قدَّم الأوراق مكتوبة بخط الأستاذ، فنال الدرجة الأولى، فأُقيم له حفلٌ تكريمي، هذا الحفل لا معنى له إطلاقاً، شيء مضحك.
طالب آخر مُنِع من أداء الامتحان فوبَّخناه أشدَّ التوبيخ، هذا التوبيخ لا معنى له، إنسان من بني البشر يترفَّع أن يفعل ذلك، مدير مدرسة جمع الطلاب في أول يوم من أيام العام الدراسي، وقرأ عليهم أسماء الناجحين في آخر العام سلفاً، وأسماء الراسبين، وقال: انطلقوا وادرسوا رضي الله عنكم.
أو حينما تؤمن أن الله خلق فيك الهدى من دون سببٍ منك أنت إذاً لا تعرف الله أبداً، أنت وصفت الله عزَّ وجل بما لا يليق به.
خلل كبير أن تعتقد أن الله أجبرك على الطاعة أو على المعصية:
إذاً: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ نحن لم نهتد، هذا إخواننا الكرام يقوله معظم المسلمين، الله سبحانه لم يكتب لي الهدى، لماذا؟ يقول لك: سبحان الله، الله خلقنا ليعذبنا، وأيضاً يسبح الله عليها.
﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ من قال لك كذلك؟ لماذا شربت الخمر؟ قال له: والله يا أمير المؤمنين إن الله قدَّر عليَّ ذلك، ليس بيدي، طاسات معدودة بأماكن محدودة، ترتيب سيدنا، هكذا يقول لك. فقال سيدنا عمر: "أقيموا عليه الحد مرتين، قال له: مرةً لأنك شربت الخمر، ومرةً لأنك افتريت على الله، ويحك إن قضاء الله لم يخرجك من الاختيار إلى الاضطرار" .
الله لم يجبرك، لو أن الله أجبر عباده على الطاعة لبطل الثواب، ولو أجبرهم على المعصية لبطل العقاب، ولو تركهم هملاً لكان عجزاً في القُدرة، إن الله أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلف يسيراً، ولم يكلف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يعصَ مغلوباً ولم يُطَع مُكرهاً.
لمجرد أن تعتقد أن الله أجبرك على الطاعة أو على المعصية، لا يقول الناس إن الله أجبرنا على الطاعة، أنا أطعت الله، أما متى يعتقدون بالجبر؟ حينما يعصون الله عزَّ وجل، يقول: أخي الله ما أراد لي الهدى، كلام شيطان، كلام يتناقض مع القرآن.
آيات من القرآن الكريم تبين أن الله أمر عباده تخييراً ونهاهم تحذيراً:
قال تعالى:
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)﴾
وقال:
﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)﴾
وقال:
﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)﴾
والخَرَصُ أشدّ أنواع الكذب، هذا الذي يقول: إن الله لم يشأ لي الهداية يكذب على الله:
﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)﴾
﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى﴾ وقال:
﴿ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)﴾
أي على الله بيان سبيل القَصد.
إذا عُزِي الإضلال إلى الله فهو الإضلال الجزائي المبني على ضلالٍ اختياري:
الإنسان حينما يعزو ضلاله إلى الله عزَّ وجل فقد ضلّ سواء السبيل، أي إذا وجدت في القرآن آيةً يُستشمُ منها أن الله أضلّ الإنسان هذا هو الإضلال الجزائي المبني على ضلالٍ اختياري، لابد من توضيح المثل: طالب في الجامعة لم يداوم إطلاقاً، ولم يؤدِّ امتحاناً، ولم يلتقِ بالأستاذ، والجامعة قدَّمت له عشرات الكتب التي تدعوه فيها إلى أن يعود إلى الجامعة، لم يداوم، ولم يؤدِّ امتحاناً، ولم يشترِ كتاباً، ولم يستجب للإنذارات، فَرُقِّن قَيده، وبعد أن رُقِّنَ قيده قال: إن هذه الجامعة أرادت لي ألا أدرس، لا، ترقين قيدك في الجامعة تجسيدٌ لرغبتك، تنفيذٌ لإرادتك، هذا هو المعنى فقط.
فلذلك إذا عُزِي الإضلال إلى الله عزَّ وجل فهو الإضلال الجزائي المبني على ضلالٍ اختياري، ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ أي نحن لا نهتدي، قال: لا، ﴿بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾.
الآن هناك ثلاث آيات مهمات جداً أساس هذه الآية:
﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)﴾
وقال:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)﴾
وقال:
﴿ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)﴾
فمن تلبَّسَ بالفسق لا يهديه الله عزَّ وجل، لأن فسقه حجابٌ بينه وبين الله، ومن تلبَّس بالظلم فالله عزَّ وجل لا يهديه لأن ظلمه حجابٌ بينه وبين الله، ومن تلبَّس بالكفر فالله عزَّ وجل لا يهديه لأن كفره حجابٌ بينه وبين الله.
الله عزَّ وجل يسيِّر كل المخلوقات عدا الإنس والجن:
﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾ أي أبعدهم ﴿بِكُفْرِهِمْ﴾ وهذه الباء باء السببية، بسبب كفرهم، أي الإنسان إذا ابتعد عن الكفر، وابتعد عن الظلم، وابتعد عن الفسق، فهو معرضٌ لهداية الله عز وجل.
أيها الإخوة الكرام؛ حقيقةٌ مهمة جداً في هذه الآية وهي: الإنسان مخيَّر، هذه هويَّته عند الله، مخلوق مخيَّر، فلو أن الإنسان اختار الكفر لا يجبره الله عزَّ وجل على الإيمان، لكن يدعوه إلى الإيمان، لكن لا يجبره لأنه مخير، تصور أن صيدلياً أتى بطالب وظيفة ليعمل في صيدليَّته، أراد أن يمتحنه، هل هو أهل ليبيع أدوية؟ وضع له بعض الأدوية على الطاولة، قال له: وزِّع هذه الأدوية حسب الخزانات، هنا مثلاً أدوية معيَّنة للسعال، هنا أدوية مضادة للإنتانات، هنا أدوية سُمِّية، هنا أدوية معينة، فالآن يمتحنه، الآن الطور امتحان، فلو أمسك طالب الوظيفة هذا دواء سُمِّياً ووضعه مع دواء مثلاً من نوع آخر، إذا منعه يتحرك لم يمتحنه، الآن في طور الامتحان، الممتحن حُر، هل من الممكن أن يقف مراقب فوق كل طالب ويقول له: غلط، اكتب هكذا؟ هذا لم يعد امتحاناً، معنى امتحان أن معه ورقة وقلم ويكتب ما يشاء، فإما أن ينجح أو أن يرسب.
كثيرون لا يستوعبون قضية الاختيار، أنت مخير، لو أن الإنسان اختار الكفر فإن الله عزَّ وجل لا يجبره على الإيمان، لو أجبره لم يعد إنساناً، صار خشبة، لأن الله عزَّ وجل يسيِّر كل المخلوقات، والمَلَك يسيره، الإنسان مخيّر وحده مع الجن، إذا اختار الفسق لا يجبره على الاستقامة، لكن الله يدعوه إلى الاستقامة، يُزينها له، يرَغِّبه فيها، يبين له ثمارها الطيبة، لكن لا يجبره عليها، إذا اختار الإنسان الظلم لا يجبره الله عزَّ وجل على العدل، يقول الله عز وجل:
﴿ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)﴾
لو أراد الله تعالى أن يجبرنا على شيءٍ لأجبرنا على الهدى:
خلقنا الله عزَّ وجل مخيَّرين، لو أراد أن يُجبرنا على شيءٍ ما لما أجبرنا إلا على الهدى، ولو شئنا أن نجبركم، وأن نلغي اختياركم لآتينا كل نفسٍ هداها، عندما تريد الجامعة أن تنجِّح كل الطلاب القضية سهلة جداً، نعطيهم أوراقاً مطبوعاً عليها الجواب الكامل، فقط اكتب اسمك ورقمك، النتيجة: نجح كل الطلاب، الكل امتياز، هذا النجاح ليس له قيمة إطلاقاً، لا عند رئاسة الجامعة، ولا عند الناس، ولا عند الطلاب أنفسهم، هذا نجاح مضحك.
﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)﴾
أنت مخيَّر، لأنك مخير لك أن تفعل أو ألا تفعل، لك أن تصلي أو ألا تصلي، لك أن تكون صادقاً أو كاذباً، لك أن تؤمن أو تكفر، لك أن تستقيم أو تفسق، لك أن تُنصف أو أن تظلم، افعل ما تشاء، كل شيء بثمنه، العظمة في الجامعة لا أن ينجح كل الطلاب، لا أبداً، العظمة في الجامعة أن تأتي النتائج وفق المُقدمات، أن ينجح المتفوق وأن يحتل منصباً رفيعاً في الجامعة، وأن يطرد الكسول من الجامعة فقط، روعة الجامعة تناسب النتائج مع المقدمات فقط، فالله عز وجل خلق الخلق ودعاهم إليه، وأمرهم أن يؤمنوا به، ورغَّبهم في الإيمان، وحذرهم من الكفر، وكرَّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، هم مخيَّرون.
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)﴾
وقال: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾ .
الهدى بيد الله لا يمنحه لظالم ولا لفاسق ولا لكافر:
الإنسان مخيَّر ولو ألغي اختياره ما عاد إنساناً، فالله عزَّ وجل يقول: الهدى موجود، ولكن شاءت حكمة الله عزَّ وجل أن يقول لك: الهدى بيدي، لكن لا أمنحه لا لظالمٍ ولا لفاسقٍ ولا لكافر، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ وقال:﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ وقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ يهدي من يشاء، يشاء من؟ من لم يكن ظالماً يهديه الله عزَّ وجل، من لم يكن كافراً يهديه الله عز وجل، من لم يكن ظالماً يهديه الله عزَّ وجل.
﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ أخي نحن لسنا مُهيَّئين للهدى، ما خلقنا الله مهتدين، هذا كلام الشيطان الرجيم، كلام الجهل، كلام الحُمق، كلام الغباء، ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾ كفرهم سبب لعنهم، واللعن هو الإبعاد: ﴿فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ﴾ .
في درس قادم إن شاء الله نتابع هذه الآيات:
﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)﴾
الملف مدقق