وضع داكن
22-11-2024
Logo
الدرس : 34 - سورة البقرة - تفسير الآية 87 الأخذ بالأسباب والتوكل على الله
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

كثرة الأنبياء الذين أرسلهم الله إلى بني إسرائيل لا تعني أنهم مفضَّلون بل مشاكسون:


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الرابع والثلاثين من سورة البقرة، ومع الآية السابعة والثمانين وهي قوله تعالى: 

﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87)﴾

[ سورة البقرة ]

أيها الإخوة الكرام؛ بادئ ذي بدء حينما يسأل سائل: لماذا أرسل الله أنبياء كُثُرَاً لبني إسرائيل؟ هذه الظاهرة عليهم لا لهم، من باب التمثيل والتقريب، الطالب الكسول قد يأتي أبوه له بعشرات الأساتذة، والذي معه مرضٌ عُضال قد يأتي له أقرباؤه بعشرات الأطبَّاء، فكثرة الأنبياء الذين أرسلهم الله إلى بني إسرائيل لا تعني أنهم مُفضَّلون، بل تعني أنهم مشاكسون، هذه حقيقة أولى، هذه ليست لهم، عليهم، لأن الله عزَّ وجل يقول: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ الكتاب هو التوراة، وهو كتاب بني إسرائيل الأول.
 

الفرق بين النبي والرسول:


﴿وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ﴾ النبوَّة شيء والرسالة شيءٌ آخر، الرسول معه كتابٌ من عند الله، معه رسالة، معه رسالةٌ جديدة تنسخ الرسالة السابقة، أما النبي فيرسله الله عزَّ وجل كما يُرسل الرسول، ولكن النبي يُرْسَل ليشرح رسالةً سابقة، فسيدنا لوط، وسيدنا زكريَّا، وسيدنا يحيى، وأنبياء كثر: 

﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)﴾  

[ سورة غافر ]

هؤلاء جاؤوا ليشرحوا لأقوامهم كتاب الله عزَّ وجل، ليشرحوا التوراة، فسيدنا موسى نبيُّهم الأول، أنزل الله عليه التوراة، والأنبياء الذين جاؤوا من بعده شرحوا لأقوامهم مضمون هذا الكتاب، فالرسالة معها كتابٌ من السماء، أما النبوة أرسله الله للمؤمنين ليشرح لهم كتاباً سابقاً، كل رسولٍ نبيّ وليس كل نبي رسول.
لكن الشيء الذي ينبغي أن نقف عنده وقفةً متأنيَّة هو أن كمال الله عزَّ وجل يقتضي إرسال الرسل، حينما يخلق الله خلقه دون أن يُعْلِمهم بسرِّ خلقهم، دون أن يُعْلمهم بمنهجهم الذي يؤدي إلى سلامتهم وسعادتهم فهذا يتناقض مع كماله، فحينما تُعَطِّلُ مفهوم الرسالة فقد وصفت الله بما لا يليق به، أوضح مثل، أب جالس في بيته، ابنه الصغير اقترب من المدفأة، هل يبقى ساكتاً؟ هل يبقى متكتفاً أم ينطلق لينصحه؟ ليبعده؟ وقد يقوم من مكانه ليأخذه، فمن مستلزمات كمال الله عزَّ وجل ألا يترك عباده معطَّلين عن الأمر والنهي.
 

إرسال الأنبياء والرسُل من لوازم كمال الله:


النقطة الدقيقة أن هذا الكون المادي الذي هو تحت سمعنا وبصرنا ينطق بعظمة الله، ينطق بوجوده، وينطق بوحدانيَّته، وينطق بكماله، هذا الكون لأنه ينطق بكمال الله، من مستلزمات كمال الله ألا يدع عباده معطَّلين عن الأمر والنهي والمعرفة، لابدّ من أن يُبلِّغهم، خلقهم في الدنيا ليعملوا عملاً صالحاً هو ثمن سعادتهم الأبديَّة في الآخرة، خلقهم في الدنيا ليتعرَّفوا إلى الله، ليتعرَّفوا إلى منهجه، ليتعرَّفوا إلى سرِّ وجودهم وغاية وجودهم، ما من قومٍ إلا وأرسل الله لهم نبياً لقوله تعالى: 

﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)﴾

[ سورة الرعد ]

إرسال الأنبياء والرسُل من لوازم كمال الله، كما أن من بديهيَّات الأبوَّة أن ينصح ابنه، وأن يأمره، وأن ينهاه، فإذا بقي ساكتاً والأخطار مُحْدقة بالابن هذا ليس أباً، المثل مُبَسَّط وواضح، فالله عزَّ وجل ما كان ليخلق الخلق ثمَّ يدعهم هكذا في جهالةٍ جهلاء: 

﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)﴾

[ سورة البقرة ]

فاختلفوا: ﴿ ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾﴾ .
على كل الله عزَّ وجل قال: 

﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى(12)﴾

[ سورة الليل  ]

وحيثما جاءت (على) مقترنةً بلفظ الجلالة فتعني أن الله جلَّ جلاله ألزم ذاته إلزاماً، أي الله عزَّ وجل عليه أن يهدي خلقه. 
 

الكون تجسيدٌ لأسماء الله الحسنى ومظهرٌ لصفاته الفُضلى:


كيف يهديهم؟ أول شيء هداهم بالكون : 

﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)﴾

[ سورة آل عمران  ]

﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى﴾ هداهم بالكون، والكون تجسيدٌ لأسماء الله الحسنى، ومظهرٌ لصفاته الفُضلى، فإذا أردت أن تعرف الله فتفكَّر في خلق السماوات والأرض، كل شيءٍ خلقه الله له وظيفتان، وظيفةٌ كبيرةٌ كبيرةً أن تعرف الله من خلاله، ووظيفةٌ صغيرة أن تنتفع به في الدنيا، الوظيفة الصغيرة تنتهي عند الموت، لكن الوظيفة الكبيرة وظيفة الإرشاد هذه تستمرُّ معك إلى أبد الآبدين، هذا الذي يأكل، ويشرب، ويتزوَّج، ويتنعَّم، ويرى الربيع، والخريف، والشتاء، والصيف، ويأكل من الفواكه أنواعاً كثيرة، ولا يفكِّر في هذا الخلق، عطَّل أكبر وظيفةٍ لهذا الخلق، وكان انتفاعه بما خلق الله له انتفاعاً محدوداً جُزئياً ينتهي عند الموت.
 

الإنسان دائماً تحت التوجيه وتحت التبيين والتبليغ:


أيها الإخوة الكرام؛ عرَّفنا الله عزَّ وجل بذاته من خلال خَلْقِهِ، ثمَّ عرَّفنا بذاته من خلال كلامه، أرسل الكُتُب، كل رسولٍ جاء بكتاب، وكل نبيِّ شرح هذا الكتاب، إذاً كلامه يدلُّنا عليه، وخلقه يدلُّنا عليه، ثمَّ عرَّفنا بفعله، قال: 

﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)﴾

[ سورة الأنعام ]

ثمَّ عرَّفنا من خلال الفطرة، فطرك فطرةً خاصَّة بحيث لو انحرفت عن منهج الله تضيقُ نفسك، الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطّلع عليه الناس، والبر ما اطمأنَّت إليه النفس، إذاً عرَّفك بذاته من خلال خلقه، وعرَّفك بذاته من خلال أفعاله، وعرَّفك بذاته من خلال كلامه، وعرَّفك بذاته من خلال الفطرة التي فُطِرْت عليها، وعرَّفك بذاته من خلال الملائكة الذين يُلْهمونك الصواب دائماً، وعرَّفك بذاته من خلال الأنبياء والرسل والدعاة الصادقين، فالإنسان دائماً تحت التوجيه وتحت التبيين والتبليغ: ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ هناك رسل، ونبيُّنا سيِّد الرسل، وهناك رسل من أولي العَزم، وهناك رسل آخرون، وهناك أنبياء، وهناك صِدِّيقون، وهناك علماء عاملون، وهناك دعاةٌ طيِّبون، هؤلاء كلُّهم مسخَّرون لتعريف الناس بالحق، أما أن تُخْلَق وأن تُتْرَك من دون تعليم، من دون توجيه، من دون تبليغ، من دون بيان، فهذا يتناقض مع وجود الله.
 

ما دام الله قد أسمعك الحق فهذه بِشارةٌ لك أن الله عَلِمَ فيك الخير:


بل إن الله عزَّ وجل يقول : 

﴿ مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)﴾

[ سورة الإسراء ]

قال بعض العلماء وليس كلُّ العلماء: الرسول هو العقل -من بعض التفسيرات على كل هناك آيةٌ حاسمة: 

﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)﴾

[ سورة الأنفال ]

أي إذا وجِد إنسان بأقصى الدنيا فيه ذرَّةٌ من خير لابد من أن يُسمعه الله الحق بطريقةٍ أو بأخرى، فأنت حينما ساقك الله إلى مكانٍ تستمع فيه إلى الحق هذه نعمةٌ كبيرة، ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ﴾ فما دام الله قد أسمعك الحق فهذه بِشارةٌ لك أن الله عَلِمَ فيك الخير، لأن هناك ضلالات في الأرض لا تُحْتَمَل.
هناك من يعبد النار، هناك من يعبد الأصنام، هناك من يعبد الحيوانات القميئة، هناك من يعبد موج البحر، إلى ما هُنالك، هناك من يعبد الشمس، هناك من يعبد البقر، هناك من يعبد الحَجَرَ، وإذا شرَّفنا الله بعبادته فهذه نعمةٌ كُبرى لا توصف: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ﴾ .
 

الإدراك الصحيح يقتضي انفعالاً صحيحاً والانفعال الصحيح يقتضي سلوكاً معيَّناً:


هناك شيء ثان مهمٌ جداً في هذا الموضوع وهو أن المتكلِّم يُحاسب على كلامه، والمستمع يُحاسب على سماعه، ماذا فعلت فيم سمعت؟ المتكلِّم يحاسب؛ هل طبَّقت الذي تكلَّمت به؟ أما المستمع فيحاسب من نوع آخر: هذا الذي استمعت إليه ماذا فعلت به؟ وكأن الله عزَّ وجل لا يَعدُّ السماع سماعاً إلا إذا تبعه تطبيق. 

﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ(22)﴾

[  سورة الأنفال  ]

يقول: سمعت وهو لا يسمع، لأن السماع الحقيقي يقتضي الاستجابة، ودائماً وأبداً هناك قانون يربط علاقتك بالمُحيط، أنت حينما يصحُّ إدراكك تنفعل، وحينما تنفعل تتحرَّك، إدراك، انفعال، حركة، أبداً.
أنت في بستان رأيت أفعى كبيرة، وبحسب مفهوماتك العلميَّة والحياتيَّة الأفعى قد تقتل، لدغتها قاتلة، فأنت حينما أدركت أنها أفعى حقيقيَّة لابدّ من أن تضطرب، واضطرابك لابد من أن يدفعك إلى عملٍ ما، إما أن تقتلها، وإما أن تولّي هارباً منها، فعلامة صحَّة الإدراك عمق الانفعال، وعلامة عمق الانفعال الحركة السريعة، فهذا الذي يرى أفعى كبيرة مخيفة ولا يضطرب، إما أنها ليست بأفعى، أو أن إدراكه غير صحيح، والذي لا يتأثَّر بالحقائق المخيفة هذا إنسان عنده خلل في إدراكه، فأنت حاسب نفسك، الإدراك الصحيح يقتضي انفعالاً صحيحاً، والانفعال الصحيح يقتضي سلوكاً معيَّناً، طبعاً نحن في أيام معدودة، الإنسان بضعة أيام كلَّما انقضى يومٌ انقضى بضع منه، وأيامنا معدودة، والأسابيع معدودة، والأشهر، والسنوات، والإنسان بضعة أيام كلَّما انقضى يومٌ انقضى بضع منه فإذا جاء يوم القيامة مُفْلِسَاً يقال له: ماذا كنت تعمل؟ 

﴿ حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84)﴾

[ سورة النمل ]

طبعاً الجواب: 

﴿ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ(45)وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ(46)حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ(47)فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ(48)﴾

[ سورة المدثر ]

 

لا يوجد عمل يسمو في الحياة عن أن تعرف منهج الله:


أيها الإخوة؛ هذا كلامٌ مصيري، هذا كلامٌ له ما بعده، هذا كلامٌ متعلِّقٌ بالحياة الأبديَّة، هذا كلامٌ متعلِّقٌ بما بعد الموت، والموت حق، ولا يستطيع أحدٌ أن يُنكر حدث الموت، والموت في لحظةٍ واحدة تصبح خبراً بعد أن كنت شيئاً: 

﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً(1)﴾

[  سورة الإنسان  ]

ثمَّ يأتي العدم فيجعله منسياً، هذه الأيام المعدودة، والأسابيع المعدودة، والشهور المعدودة، والسنوات المعدودة، أساس سعادتك الأبديَّة أو الشقاء الأبدي لا سمح الله ولا قدَّر، ممكن إنسان تأتيه رسالة ولا يفتحها؟ ممكن إنسان يمزِّق الرسالة قبل أن يفتحها؟ قد تسأل إنساناً: هل اطّلعت على القرآن؟ يقول لك: والله لا يوجد عندي وقت، القرآن وحي السماء إلى الأرض اطّلعت عليه؟ فهمت معانيه؟ وقفت على مضمونه؟ عرفت أحكامه؟ عرفت حلاله وحرامه؟  عرفت وعده ووعيده؟ عرفت سرَّ خلق الإنسان في الأرض؟ عرفت غاية وجود الإنسان في الأرض؟ ﴿أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ كنَّا نخوض ونلعب، أي ليس هناك من عمل يعلو في الحياة على أن تعرف الله، لا يوجد عمل يسمو في الحياة عن أن تعرف منهج الله، عن أن تعرف المنهج الدقيق افعل ولا تفعل، لأن كل واحد منا يحرص على سلامته وسعادته حرصاً لا حدود له. 
 

الله عزَّ وجل يمتحن المؤمنين امتحاناتٍ عديدة:


﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ أنت عندما يأتيك كتاب هذا الكتاب لكل المسلمين، فيه أمر، فما هو موقفك من الأمر؟ فيه نهي، فيه وعد، فيه وعيد، فيه تشريع، فيه حلال، فيه حرام، فيه مواعظ، فيه قصص الأقوام السابقة، فيه المستقبل البعيد، ما موقفك من هذا القرآن؟ الموقف العامِّي يقول لك: تباركنا ويُقبِّله، هذا منهج، هل أحللت حلاله؟ هل حرَّمت حرامه؟ هل صدَّقت وعده ووعيده؟ والله الذي لا إله إلا هو إن صدَّقت إنساناً قوياً من بني جلدتك يفعل ما يقول لا يمكن أن تخالفه أبداً، هل تصدِّق أن الله عزَّ وجل بيده كل شيء؟ 

﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾

[ سورة هود ]

الله عزَّ وجل يمتحن المؤمنين، يمتحنهم امتحاناتٍ عديدة، قد يمتحنهم بأنه يُقوِّي الكفَّار عليهم، هل ينسون ربَّهم؟ هل يؤلِّهون غيره؟ 
 

هناك أسلوب في البلاغة يذكر الكل ويقصد البعض ورد في الآيات التالية:


﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)﴾

[ سورة يونس ]

وصفٌ دقيق، ﴿وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا﴾ توهموا توهَّم بعض أهلها، قد تقول لي: الله قال: أهلها، هذا أسلوب في البلاغة يذكر الكل ويقصد البعض، أوضح دليلٍ عليه: 

﴿ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)﴾

[ سورة البقرة ]

ممكن؟ واحدة، فذكر الكل وأراد البعض: ﴿حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا﴾ أي كل بقعةٍ في الأرض تحت استطلاع أقمارهم، وكل بقعةٍ في الأرض في القارَّات الخمس تحت مرمى طائراتهم: ﴿وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ﴾ .
 

آيات من الذكر الحكيم تطمئننا أن الأمر كله بيد الله وحده:


يا إخوان؛ نحن في هذه الأيَّام في أشدِّ الحاجة إلى القرآن ليطمئننا أن الأمر بيد الله وحده: ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ ليطمئننا أن: 

﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)﴾

[ سورة الزمر ]

ليطمئننا أن: 

﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)﴾

[ سورة الأعراف ]

ليطمئننا أنه: 

﴿ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)﴾

[ سورة الكهف ]

ليطمئننا أنه: 

﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)﴾

[ سورة الزخرف ]

ليطمئننا أن: 

﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)﴾

[ سورة الفتح ]

ليطمئننا أن يدَ الله تعمل وحدها، وكل ما تقع العين عليه من قِوى الشر إنما هي عصيّ بيد الله عزَّ وجل، يؤكِّد هذا المعنى قول الله عزَّ وجل: 

﴿ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)﴾

[ سورة هود ]

 

آيات أخرى من الذكر الحكيم نحن في أمس الحاجة إليها لتطمئننا:


نحن في أمسِّ الحاجة إلى هذه الآيات: 

﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)﴾

[ سورة إبراهيم  ]

وقال: 

﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)﴾

[ سورة آل عمران  ]

وقال:

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)﴾

[ سورة الأنعام ]

هذه حقائق مريحة، أنك أنت إنسان قد ترى قِوى الشر متمكِّنة، قِوى الشر تفعل ما تريد، قِوى الشر تُنْزِل أشدَّ العقاب في إنسانٍ يبدو لك بريئاً، لئلا يختلَّ التوازن ينبغي أن تعرف الحقيقة، أن الأمر بيد الله.
 

الحق عند الشاردين عن الله هو القوة:


﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)﴾

[ سورة الأنعام ]

إذا وقع صاروخ!! أيهما أقرب إلى الفهم؟ ورقة من أوراق الخريف كم ورقة يوجد؟ كم ورقة في الأرض تسقط في الخريف؟ الأشجار كلُّها تتساقط أوراقها في الخريف: ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا﴾ فإذا وقعت شَظِيَّةٌ أو وقعت قنبلةٌ يعلمها، والأمر بيده، لكن الله عزَّ وجل قال: 

﴿ فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4)﴾

[ سورة محمد ]

أي الحق عند الشاردين عن الله هو القوة فقط فأنت على حق لأنك قويّ، هذا الحق عند الشاردين عن الله، والحقُّ عند المؤمنين هو ما جاء به القرآن الكريم، وما جاءت به السنَّة الصحيحة، هذا هو الحق، ماذا فعل سيدنا صلاح الدين رحمه الله تعالى بأهل القدس حينما فتحها؟ هل ذبحهم؟ لا يستطيع لأن لديه منهجاً، بالعكس شكت امرأةٌ له فقد ولدها فوقف ولم يجلس حتى أُعيد لها ولدُها، أما حينما فتح الفرنجة القدس ذبحوا سبعين ألفاً في ليلةٍ واحدة، المؤمن مقيَّد بالحق، الحق ما جاء به الكتاب.
 

الحق في الإسلام هو ما جاء به القرآن والسنَّة:


إخواننا الكرام؛ أهل سمرقند فتحت بلادهم، ثم نمّي إليهم أن فتحها لم يكن شرعيَّاً، أن فتح البلاد وفق المنهج الإلهي يجب أن تعرض عليهم الإسلام، فإن أسلموا فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، فإن لم يُسلموا تَعْرِضُ عليهم الجزيَّة، فإن دفعوها فهم في أمان، فإن أبوا دفع الجزية يُقَاتَلون، فيبدو أن الجيش الإسلامي الذي فتح سمرقند بدأ بالقتال، لم يَعرِض الإسلام على أهلها ولم يعرض عليهم الجزية، فبعض أهل سمرقند عرفوا هذه الحقيقة، فأرسلوا خلسةً وفداً إلى عمر بن عبد العزيز يشكون إليه أن فتح بلادهم لم يكن وفق الشرع، الشيء الذي لا يُصدَّق أن هذا الخليفة الراشد أرسل قصاصة صغيرة هكذا: إلى قائد جيش المسلمين في سمرقند، اخرج من سمرقند، انتهى الأمر، بلد فُتِحَت بالحديد والنار هكذا؟ هؤلاء هذا الوفد ما صدَّق، معقول؟ ممكن تنسحب دولة محتلَّة أرضاً بكتاب الآن؟ فأخذوا هذا الكتاب وهم بين مصدِّقٍ ومكذِّب، ثمَّ تجرَّؤوا وأعطوا هذا الكتاب لأمير المسلمين في سمرقند، فقبَّل الكتاب، وأمر بإخراج الجند من سمرقند، فلمَّا رأوا هذا قالوا: نحن قبلنا بكم ونحن أسلمنا.
الحق هو ما جاء به القرآن والسنَّة، قوي أو ضعيف موضوع ثان، أما الحق عند الشاردين إذا كنت قوياً فأنت على حق، أي ممكن أن تطرد إنساناً ليس له ذنب، تأخذ هويَّته، تجعله بلا هويَّة، تأخذ مركبته، تجعله في العراء وهو يبلغ من العمر ثمانين أو تسعين سنة، أطفال صغار هكذا؟ ما الذنب؟ 

﴿ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)﴾

[  سورة التكوير ]


الحق يحتاج إلى قوة كي تدعمه وأن نكون أقوياء هذا أمرٌ تكليفيّ وليس أمراً تكوينياً:


الحق ما جاء به الكتاب والسنَّة، أما الحق فيحتاج إلى قوة كي تدعمه، وأن نكون أقوياء هذا أمرٌ تكليفيّ وليس أمراً تكوينياً، هذه ترتيبه، كله ترتيبه، هذا كلام ساذج:

﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)﴾

[ سورة الأنفال ]

الآن العلم قوَّة، المعركة معركة علم فقط، شاشة أمامك على الطائرة يوجد إشارة ضرب، المنشأة الضخمة، المعمل الضخم يظهر على الشاشة، مهمة قائد الطائرة يضع هذه الإشارة فوق المنشأة فقط، ثم يضغط زراً فتدمر، أين الشجاعة؟ أين الإقدام؟ أُلغي كله، الأسلحة الحديثة ألغت كل قيم الفروسيَّة والبطولة، قد يكون إنسان من أجبن الناس، بأزرار، فلذلك الأرض: ﴿حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ﴾ .
أيها الإخوة الكرام؛ لابدّ من أن يُظهر الله آياته في العالمين، الله هو القوي، هو المتصرِّف، هو الفعَّال، لا يقع شيءٌ في كونه إلا بإذنه وأمره، دقِّقوا: ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا﴾ .
 

قصة أم سيدنا موسى وقصة سيدنا يوسف دلائل من القرآن على أنه ما من إلهٍ إلا الله:


أم سيدنا موسى: 

﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)﴾

[ سورة القصص ]

أول أمر، لابأس، ﴿فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ﴾ إذا خفت عليه ضميه إلى صدركِ، ضعيه في سريركِ، لا، ﴿فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ﴾ أمران، ونهيان، وبشارتان، لأن الصندوق بيد الله عزَّ وجل. 
إخوة سيدنا يوسف عندما وضعوه في الجُب: 

﴿ فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)﴾

[ سورة يوسف ]

فلما دخلوا عليه: 

﴿ قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90)﴾

[ سورة يوسف ]


الشرق والغرب وقعا في الخطأ لأنهما توهما أن الأسباب تخلق النتائج:


كل هذه القصَّة من أجل آيةٍ واحدة: 

﴿ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)﴾

[ سورة يوسف ]

هذا هو الإيمان، التوحيد، ليس إلا الله، ما من إلهٍ إلا الله، مهما رأيت قِوى الشر تتغطرس، مهما رأيت قِوى الشر تتعالى، مهما رأيت قِوى الشر تبطش: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ هذا الإيمان، من دون هذا الإيمان يُسْحَق الإنسان، من دون هذا الإيمان يختل توازنه، لحكمةٍ بالغةٍ بالغة جعل لكل شيءٍ سبباً، أبداً، كل شيء له سبب، لكن أيها الإخوة الحقيقة الدقيقة هي أن هذا السبب لا يخلق النتيجة، النتيجة من خلق الله تعالى ولكنها اقترنت بهذا السبب، فكل إنسان يتوهَّم أن الأسباب تخلق النتائج فقد أشرك، لذلك الشرق والغرب، الشرق عصى، والغرب أشرك، كيف؟ الغرب أخذ بالأسباب، واعتمد عليها، وألَّهها، وعبدها من دون الله، أشرك، والشرق لم يأخذ بها فعصى.
 

أمثلة من الواقع عن أناس أخذوا بالأسباب واعتمدوا عليها فأشركوا وخسروا:


آخذ بالأسباب وبعدها أتوكَّل على الله عزَّ وجل، أي الطريق المثالي طريق ضيِّق، هناك وادٍ على اليمين وهناك وادٍ على اليسار، عن اليمين وادي الشرك، وعن اليسار وادي المعصية، أنت إن أخذت بالأسباب واعتمدت عليها فقد أشركت، وهناك قصص كثيرة جداً:
الباخرة تيتانيك، هذه أضخم باخرة صُنِعَت في القرن التاسع عشر، بُنِيت هذه الباخرة في عام 1912، وقالوا في نشرتها أو كتيبها: هذه الباخرة لا يستطيع القَدَرِ أن يُغرقها، لأنها صُنِعَت من جدارين، وبين الجدارين أبوابٌ كثيرة، فأي مكان خُرِقَت فيه أُغْلِقَت الأبواب الجانبيَّة فمنعت تسرُّب الماء إليها، لذلك لم يعتنِ صانعوها بقوارب النجاة فيها، وفي أول رحلة لها من أوروبا إلى أمريكا، وعليها أثرياء العالَم، قدروا حِلِيِّ النساء ببضعة عشرات الملايين، أي باخرة كالمدينة في أول رحلة لها ارتطمت بجبلٍ ثلجي فشطرها شطرين، ولم يستطع أحدٌ أن يُنجدها لأنهم ظنوا أن إشارات الاستغاثة كلها هي أصوات الاحتفالات، ما أنجدها أحد، ومات معظم ركَّابها، قال بعض القساوسة: إنَّ غرق هذه الباخرة درسٌ من السماء إلى الأرض .
أُرْسِلت مركبة فضائيَّة سميت: المتحدي challenger وطبعاً كل شيء على الكمبيوتر، وعدٌّ تنازلي، ضبط إلى أقصى الحدود، فيها سبعة رواد فضائيين مع امرأة، وبعد إطلاقها بسبعين ثانية كانت كتلةً من اللَّهب، وانتهى الأمر.
وأحياناً يُمكّن الله عزَّ وجل الكافر من خططه، يُمكِّنه لحكمةٍ يُريدها، وقد لا يُمكنه.
 

كل شيءٍ وقع أراده الله وكل شيءٍ أراده الله لابدّ واقع:


لكن الشيء الدقيق جداً في هذا الدرس: كل شيءٍ وقع أراده الله، ما دام وقع أراده، لو دخل لص إلى بيتك، هكذا يريد الله، لا، يجب أن تقاومه، ليس معنى إذا سمح الله له بالدخول أن تبقى ساكتاً، وأن ترحِّب به، وأن تعطيه ما يريد، لا، يجب أن تقابله، أن تقبض عليه، أن تُبلغ عنه الجهات المسؤولة، لكن اطمئن أن كل شيءٍ وقع  أراده الله وكل شيءٍ أراده الله وقع، وإرادة الله متعلِّقةٌ بالحكمة المطلقة، والحكمة المُطلقة متعلِّقة بالخير المُطلق، إن أخذت بالأسباب لا تعتمد عليها، اعتمد على الله، أنت عندك مركبة، عندك سفر، فهل ستقول: أنا فحصت كل أجزاء المركبة، والجاهزيَّة عالية، ولن يحدث معي شيء؟ هذا شِرك، لو كنت تركب أحدث مركبة قد يُصيبها الخلل، أما إذا قلت: أنا أخذت بالأسباب وتوكَّلت على الله، هذا هو الموقف المِثالي.
دقِّقوا أيها الإخوة؛ يجب أن تأخذ بالأسباب وكأنَّها كل شيء، ويجب أن تعتمد على الله وحده وكأنها ليست بشيء، هكذا فعل النبيُّ في الهجرة، فسيدنا عيسى جاء من دون أب، ألغى الله السبب، والعقيم عطَّل السبب، زوجةٌ شابَّة وزوجٌ شاب لا يُنجبان، وامرأةٌ تنجب بلا زوج، السبب ملغى في حالة سيدنا عيسى، أما في حالة المرأة العقيم فالسبب معطَّل، هناك سبب ولكن ليس هناك إنجاب، قد لا يكون هناك سبب لكن هناك إنجاباً، هذا من أجل ألا نؤلِّه الأسباب، الله عزَّ وجل يخرق العادات، لماذا يخرقها؟ ليلفتنا إليه، الأمر بيدي، إرادة الله طليقة لا يحدُّها شيء. 
 

ما أخَّر المسلمين إلا موقف التواكل:


أيها الإخوة الكرام؛ أريد أن أنهي الدرس بهذه الحقيقة المهمَّة جداً قضية الأسباب والنتائج.
مرَّةً ثانية: الغرب ألَّه الأسباب واعتمد عليها، والشرق لم يأخذوا بالأسباب فعصوا، هؤلاء اعتمدوا عليها فأشركوا ونحن لم نأخذ بها فعصينا، الموقف الكامل أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ثمَّ تتوكَّل على الله وكأنّها ليست بشيء، هذا الموقف الصحيح، لذلك ما الذي جعل المسلمين متخلِّفين؟ ما أخذوا بالأسباب، أوضح مثل: تفَّاحة غير مغسولة يقول لك: كُلْ وسمِّ بالله، لا يضر مع اسمه شيء، سمِّ بالله ولا تخف، هذا كلام غير شرعي، خذ بالأسباب، اغسلها وتوكَّل على الله، ممكن تغسلها بالصابون يكون فيها دواء جهازي مسرطن ضمن التفَّاحة، أنت اغسلها وتوكَّل على الله: 

(( عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ قَالَ: اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ. ))

[ الترمذي: حسن ]

اجمع بينهما، ففي دراستك، في عملك، في تجارتك، في سفرك اضبط المركبة وقل: توكَّلت على الله، أما أنك لم تراجعها ولم تفحصها منذ اثنتي عشرة سنة وتسير بسرعة مئة وعشرين، وفلت الميزان، وقضت على كل من فيها!! يقول لك: ترتيب الله، لا، هذا جزاء التقصير، سمح الله بهذا، ولكن هذا جزاء التقصير.
الابن مريض يقـول لك: أخي سلَّمته لله، هذا موقف غير إسلامي أبداً، هذا موقف فيه جهل، خذه إلى أحسن طبيب أعطه العلاج، وبعدها قل: يا ربي سلَّمته لك، وادفع صدقة، ما أخَّر المسلمين إلا هذا الموقف التواكلي:
من أنتم؟ قـالوا: نحن المتوكِّلون ، كان سيدنا عمر صريحاً فقال لهم: كذبتم، المتوكِّل من ألقى حبَّةً في الأرض ثمَّ توكَّل على الله.
ما درس، ما نجحت؟ لا والله، لا يوجد نصيب أنجح هذه السنة، هذا الكلام لا معنى له، لا، أنت مقصِّر، بالتجارة، بالدراسة، بكل حركاتك، بصحَّتك، بعلاقاتك، خُذْ كل الأسباب وكأنَّها كل شيء، وتوكَّل على الله وكأنَّها ليست بشيء، هذا الموقف الكامل.
 

النصر بالمعركة يحتاج إلى إيمان وإلى إعداد:


العرب في ماضيهم المتألِّق أخذوا بالأسباب، أنشؤوا أسطولاً بحرياً حاربوا فيه جزراً ضخمة، معنى هذا أنه كان عندهم علم، يحتاج النصر بالمعركة إلى إيمان وإلى إعداد، قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ كلمة معركة وسعها كثيراً، صار الاقتصاد الآن معركة، العالَم يسير بطريق البقاء للأقوى، الأقوى علماً، والأقوى تطبيقاً، فأنت الآن كمسلم يجب أن تكون متألِّقاً، والتألُّق يحتاج إلى علم، الإمام الشافعي يقول: "إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلَّك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً" .
أنا أتمنَّى أن يكون المسلم متألِّقاً، الأول في الدراسة، الأول في التجارة، لأن لك في الحياة رسالة، أنت سفير المسلمين، تمثِّل المسلمين بدءاً من مظهرك، بدءاً من اختصاصك، من دراستك، من عملك، أنت قدوة ومَثَل، أنت على ثغرةٍ من ثُغَر الإسلام فلا يؤتينَّ من قِبَلِك.
 

الإسلام منهج أخلاقي:


لو أرسلت الدولة سفيراً من تبعث؟ هل تبعث إنساناً جاهلاً باللغة؟ لا، لا يوجد معه شهادة؟ أميّ؟ ممكن؟ مستحيل، بعض الدول ترسل سفيراً يحمل ثلاث شهادات ليسانس، هناك مدرسة خاصَّة للسفراء يدرسوهم العلوم، والآداب، والحقوق، وينتقوهم من أذكى الناس، يريد أن يُمثِّل أمَّة، فأنت تمثِّل الإسلام، كل مسلم يمثِّل الإسلام، أنت سفير المسلمين، فإذا كانت مواعيدك غير دقيقة، هندامك غير حسن، علاقاتك غير منضبطة، حساباتك غير صحيحة، هذا المسلم؟ ألا يستحي الإنسان أن يكون الإنسان البعيد عن الدين منضبطاً والدِّيِّن غير منضبط؟ حاسبته، أخي خرجنا وليس علينا شيء، أين الحساب؟ لا يوجد سجلات الحساب تمام، لا ليس كذلك، بيِّن، ما دمت أنت نظيفاً فبيِّن الوثائق والفواتير والأسعار، تجد غير المؤمن منضبطاً هذا شيء مؤلم جداً والمؤمن فيه تسيُّب، أنا أريد مؤمناً انضباطياً، مؤمناً واضحاً.
أدق شيء أقوله في هذا الدرس: الإسلام منهج أخلاقي، هكذا قال سيدنا جعفر:  

(( كنَّا قوماً أهل جاهليَّة، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونسيء الجِوار، ونقطع الرحم، حتَّى بعث الله فينا رجلاً نعرف أمانته -انظر إلى نعرف أمانته-وصدقه وعفافه ونسبه، فدعانا إلى الله لنعبده ونوحِّده، ونخلع ما كان يعبد آباؤنا من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكفِّ عن المحارم والدماء. ))

[ إسناده صحيح أخرجه أحمد (1740) باختلاف يسير، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/115) مختصراً ]

هذا هو الإسلام.

أجمل ساعة هي سَاعة الصلح مع الله:


الإسلام أن تكون صادقاً، الإسلام أن تكون أميناً، الإسلام أن تكون عفيفاً، الإسلام أن تربي أولادك، الإسلام ألا تستخدم معيارين، معيار واحد، هذا الإسلام، أما الصلاة فهي عبادة شعائريَّة قد تكون فارغة، الصلاة فرض ولكنك إذا أديتها ولم تنهك هذه الصلاة عن الفحشاء والمنكر لم تقطف ثمارها، إذا صُمت رمضان ولم يقرِّبك إلى الله عزَّ وجل: 

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ . ))

[ البخاري ]

إذا أنفقت مالك، والله قال: 

﴿ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ (53)﴾

[ سورة التوبة ]

فالعبادات التعاملية أيها الإخوة هي الأصل، إذا أُديت كما أرادها الله في الأصل انعكست في العبادات الشعائريَّة، بالصلاة يوجد صلة، والإنابة إليه، والتوبة إليه، والإقبال عليه، وأنت حينما تتعرَّف إلى الله تجده، قيل: ابن آدم اطلبني تجدني فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحبّ إليك من كل شيء.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور