الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الله عزَّ وجل جعل وعاء النبي نظيفاً فارغاً لئلا يختلط وحي السماء بثقافات الأرض:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الواحد والثلاثين من سورة البقرة، ومع الآية الثامنة والسبعين، والحديث عن بني إسرائيل يجعلنا نأخذ الموعظة لأنهم أهل كتاب، وجميع المنزلقات التي وقعوا فيها يمكن أن نقع فيها نحن المسلمين، وبيَّنت لكم في دروسٍ سابقة كيف أن معظم الأمراض التي وقعوا بها وقع بها المسلمون، وهذا من أسلوب الحكيم، يقول الله عزَّ وجل:
﴿ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)﴾
الأميُّون جمع أُمِّيّ، والأمي المنسوب إلى الأم، أي هكذا ولدته أمه من دون أن يكتسب أي علم، إنسان ولدته أمه هكذا، لم يكتسب علماً، ولا ثقافةً، ولا خبرةً، بقي على فطرته التي ولِدَ عليها، لم يتلقَّ العلم، لكن هذه الآية فيها إشكال بسيط هو أننا نفتخر بأن نبيِّنا عليه الصلاة والسلام أمّي، حقيقةٌ لابد من توضيحها، الأميَّة برسول الله صلى الله عليه وسلَّم كمالٌ مُطْلَق، لأن الله سيوحي إليه، كل إنسان طالب علم يفتخر بأستاذه، هذا يقول لك: أنا خريج الجامعة الفُلانيَّة، هذا يقول لك: أنا أستاذي فلان، فإذا تاه أكبر علماء الأرض بأساتذتهم الكبار، فالذي علَّم النبيَّ عليه الصلاة والسلام هو الله:
﴿ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى(5)ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى(6)﴾
إذاً لو أن النبي عليه الصلاة والسلام تَلقَّى من ثقافة عصره ما تلقَّى، لو أنه اطّلع على ثقافة الهند، وثقافة فارس، وثقافة الروم، وحَصَّلَ علوماً جَمَّة ثمَّ جاءه الوحي، كلَّما نطق بكلمةٍ يسأله أصحابه: يا رسول الله هذه من ثقافتك الشخصيَّة أم من وحي السماء؟ جعل الله عزَّ وجل وعاء النبي نظيفاً فارغاً لئلا يختلط وحي السماء بثقافات الأرض.
﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)﴾
[ سورة العنكبوت
]
الأميَّة في حقِّ نبينا محمد كمال لأن الله هو الذي تولَّى تعليمه:
النبيُّ وحده لأن الله هو الذي تولَّى تعليمه، هو الذي أوحى إليه، هو الذي ألقى عليه القرآن الكريم عن طريق جِبْريل، لأن الله عزَّ وجل أراد من هذا النبي أن يكون مُشرِّعاً، وأن يكون قلبه مهبطاً لتجليَّات الله، وأن يكون قلبه وعاءً لعلم الله الذي جاءه عن طريق القرآن الكريم، فاقتضت حكمة الله جلَّ جلاله أن يكون نبيُّنا صلَّى الله عليه وسلَّم أُمِّياً، الأميَّة في حقِّه كمال، لأن الله هو الذي تولَّى تعليمه، هو الذي علَّمه، لئلا يختلط وحي السماء بثقافات الأرض، لئلا يُسأل كل مرَّةٍ: يا رسول الله أهذا من عندك أم من عند الله؟ أهذا من ثقافتك؟ أهذا من دراساتك؟ من تحصيلك؟ من اطلاعك على ثقافات الأرض أم من وحي السماء؟ لئلا يكون هذا جعل الله نبيَّه أميَّاً.
أما نحن فليس هناك وحيٌ يعلِّمنا، فإذا كنَّا أميين أي جاهلين فالأميَّة فينا نقصٌ، والأميَّة في حقِّ النبي كمال، فلنستثنِ النبي عليه الصلاة والسلام لأن أميَّته تعني أن كل الذي ينطق به إن هو إلا وحيٌ يوحى:
﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى(3)إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى(4)﴾
(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ أَشْيَاءَ أَفَأَكْتُبُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا؟ قَالَ: نَعَمْ فَإِنِّي لا أَقُولُ فِيهِمَا إِلا حَقّاً. ))
أما الأمي المنسوب إلى أمِّه، هكذا ولدته أمه من دون علم، لم يتعلَّم، لم يتثقف، لم يطلب العلم، لم يطَّلع على ثقافات العصر، لم يطلب العلم الشرعي، أمي أي غير متعلِّم.
الأميّة بحق الإنسان العادي صفة نقص أما بحق النبي فهي كمال:
إذاً بحق الإنسان العادي صفة نقص، أما بحقّ النبي عليه الصلاة والسلام لأن الله علَّمه.
يأتي إنسان الآن يحمل ليسانس في الشريعة، يتناول عدداً من أحاديث رسول الله يضبطها، ويشرحها، ويستنبط الأحكام منها، ويُقدِّمها أطروحةً، فينال لقب دكتور، هذا الدكتور نال هذا اللقب لأنه فَهِمَ بعض أحاديث رسول الله:
يا أيها الأميُّ حسبك رتبةً في العلمِ أن دانت لك العلماء
فالنبي عليه الصلاة والسلام موضوعٌ آخر، أما الأميَّة بحقِّ الناس صفة نقصٍ فيهم، أي لم يتعلَّم، ما طلب العلم، جاهل، لذلك قالوا: "العوام لأن يرتكبوا الكبائر أهون من أن يقولوا على الله ما لا يعلمون" . و:
(( عن أنس بن مالك: طلبُ العلمِ فريضةٌ على كلِّ مسلمٍ، وإِنَّ طالبَ العلمِ يستغفِرُ له كلُّ شيءٍ، حتى الحيتانِ في البحرِ. ))
[ صحيح الجامع: خلاصة حكم المحدث : صحيح ]
قالوا: على كل شخصٍ مسلم ذكراً كان أو أنثى، النَّاسُ رجلان عَالِمٌ وَمُتَعَلِّمٌ وَلا خَيْرَ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ ..
(( عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رضِيَ اللهُ عنه أنَّه كان يَقولُ: اغْدُ عالِمًا، أو مُتعلِّمًا، ولا تَغْدُ إمَّعةً فيما بيْنَ ذلك. ))
[ شعيب الأرناؤوط: تخريج مشكل الآثار : خلاصة حكم المحدث : إسناده حسن ]
"إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلَّك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً، يظلُّ المرء عالماً ما طلب العلم فإذا ظنَّ أنه قد عَلِم فقد جهِل" .
أيها الإخوة؛ حينما تطلب العلم تُلبِّي الحاجة العُليا في الإنسان، الإنسان له حاجات دُنيا؛ يأكل ويتزوج ويثبت ذاته، هذه حاجاته الدنيا؛ لكنَّ حاجته العُليا أن يطلب العلم، ولا تؤكِّد أنك إنسان إلا بطلبك العلم، وعالمٌ واحد أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ.
العابد مقاومته هشَّة، امرأةٌ تفتنه، دِرْهَمٌ يفتنه، تهديدٌ يفتنه، أما العالِم لا يتأثَّر لا بسبائك الذهب اللامعة، ولا بسياط الجلادين اللاذعة: "أحدٌ أحد" ، فالعلم أساس، ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ﴾ أي غير متعلمين، يخلطون الحق بالباطل، والخير بالشر، والسنَّة بالبدعة، ويتَّبعون الأهواء، يقول لك: سحروني، يصحب السحرة، يصحب الدجَّالين، يصحب المخرِّفين، يدخل في ضلالات، في تُرّهات، هذا شأن الجاهل يعزو الأمور إلى غير الله عزَّ وجل، يقيم للناس مقاماً كبيراً وهم ليسوا كذلك، جاهل.
قال لي أحد الإخوة الدعاة: كنت أُلقي درساً أتحدَّث عن فساد الزمان، وعن الفتيات اللواتي يخرجن وحدهن بلا ضابط ولا رادع، وقد يأتين في ساعةٍ متأخِّرة، أين كانت هذه الفتاة؟ قال: كانت مع الحبيب، قال لي: نصف الحاضرين صلوا على الحبيب، ما فهموا ماذا قلت صلوا على الحبيب!! إمام يقرأ آية فيها كلمة (ولا الضالين) قال الجميع: آمين، هذه آية، لم ينتهِ، ليست آية نهاية الفاتحة، آية أخرى فيها (ولا الضالين) قالوا: آمين كلهم، ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ﴾ أحياناً يسمع الإنسان القرآن:
﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71)﴾
فيقول وهو غير منتبه: اللهم اجعلنا منهم.
لا نستحق أن نكون من بني البشر إلا إذا طلبنا العلم:
﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ أي يقول لك: نحن عبيد إحسان ولسنا عبيد امتحان، لا يسعنا إلا عفوه وكرمه، وكلما شاهد معاصيَ كبيرة يقول لك: كله ترتيب سيدك، كأن الله يأمر بهذه المعاصي، كلام ليس له معنى، وإذا رأى إنساناً وسع الله عليه يقول لك: الله يعطي الحلاوة لمن لا أسنان له، معنى هذا أن الله ليس بحكيم، كل كلامه فيه تجاوز، أحياناً كلامه فيه كفر وهو لا يشعر، مشكلة الجاهل مشكلة كبيرة جداً.
والله أيها الإخوة؛ لا نستحق أن نكون من بني البشر إلا إذا طلبنا العلم، وهذا طالب العلم إنسان كبير جداً عند الله، أنت حينما تأتي إلى بيتٍ من بيوت الله تطلب العلم، تسلك طريقاً ينتهي بك إلى الجنَّة:
(( عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :مَنْ سَلَكَ طَريقا يَبْتَغي فيه عِلْما سَهَّل الله له طريقاُ إلى الجنة، وإنَّ الملائكةَ لَتَضَعُ أجْنِحَتها لطالب العلم رضًا بما يَصنَع، وإنَ العالم لَيَسْتَغْفِرُ له مَنْ في السماوات ومَنْ في الأرض حتى الحيتَانُ في الماء، وفضْلُ العالم على العَابِدِ كَفَضْلِ القمر على سائِرِ الكواكب، وإنَّ العلماء وَرَثَة الأنبياء، وإنَّ الأنبياء لم يَوَرِّثُوا دينارا ولا دِرْهَماً وإنما وَرَّثُوا العلم، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بحَظٍّ وَافِرٍ.))
[ حسن رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والدارمي وأحمد ]
قصَّتان ذكرتهما كثيراً؛ أذكر قبل خمسة وعشرين عاماً؛ رأيت إنساناً يبكي في هذا المسجد، قلت له: خيراً إن شاء الله؟ فقال لي: زوجتي تخونني، قلت له: مع من؟ قال لي: مع رجل من جيراني، كيف تعرَّفت عليه؟ قال لي: والله زارنا مرَّة فقلت في نفسي: إنها تجلس وحيدة في البيت فقلت لها: يا أم فلان تعالي واجلسي معنا إنه كأخيكِ، جاهل، هذا هو الجهل، دفع الثمن باهظاً.
إنسان ركبت معه امرأة فسألها: إلى أين تريدين الذهاب يا أختي؟ فقالت له: خذني أينما تشاء، ظنَّ أنها مغنمٌ كبير، أُصيب بمرض الإيدز، وأخذ منها مبلغاً من الدولارات المزيَّفة دخل به السجن، فالإنسان عندما يطلب العلم يصبح عنده حارس.
يا بني العلم خيرٌ من المال، لأن العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، والمال تُنقصه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق.
هناك قيم مرجِّحة بين الناس ولكن الله في القرآن الكريم جعل قيمة العِلم وحدها المرجِّحة:
بالمناسبة هناك قيم مرجِّحة بين الناس، المال له قيمة كبيرة جداً عند الناس، والغني محترم، والقوي محترم، والوسيم محترم، والفصيح محترم، من له قدرة على إقناع الناس محترم، هذه كلها قيم مُرَجَّحة بين الناس، ولكن الله في القرآن الكريم جعل قيمة العِلم وحدها المرجِّحة، قال:
﴿ أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)﴾
أين الثرى من الثُرَيَّا؟ وجعل قيمة العمل قيمةً مُرَجِّحة، قال:
﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)﴾
وقال:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)﴾
هؤلاء الأنبياء العِظام الذين هم قِمَمُ البشريَّة، بِمَ نالوا هذا المقام؟ بالعلم:
﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)﴾
قد يعطي الله عزَّ وجل المُلك لمن لا يحب ويعطيه لمن يحب، أعطاه لسليمان الحكيم وأعطاه لفرعون، ولكن العلم والحكمة لا يعطيهما إلا لمن يحب: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً﴾ يعطي المال لمن يحب لسيدنا عثمان بن عفَّان، ولسيدنا عبد الرحمن بن عوف، ويعطي المال لقارون ولمن لا يحب، ولكن العلم والحكمة لا يعطيهما إلا لمن يحب.
العلم بالله والعلم بأمر الله علمٌ ممتعٌ نافعٌ مسعد في الدنيا والآخرة:
فيا أيها الإخوة؛ أدعوكم إلى طلب العلم، أدعوكم إلى الحِرْصِ عليه، أدعوكم إلى تلبية الحاجة العُليا في الإنسان، أدعوكم إلى تلبية ما يُؤكِّد إنسانيَّتكم ألا وهو العلم، والعلم الذي أقصده أن تعرف الله، وأن تعرف منهجه، لأنَّكَ إن عرفت الله وعرفت منهجه وصلت إلى السلامة والسعادة.
بالمناسبة: كل علمٍ ممتع، ولكن ما كل علمٍ ممتعٍ نافع، الآن العلم الممتع النافع قد لا يُسعِد، قد تنال درجة عليا في اختصاص نادر ويأتيك من هذا الاختصاص ملايين، هذا علمٌ ممتعٌ نافع نفعك في الدنيا، وقد لا يكون مسعداً لك في الدنيا والآخرة، لكن العلم بالله، والعلم بمنهج الله، العلم بالله والعلم بأمر الله علمٌ ممتعٌ نافعٌ مسعد في الدنيا والآخرة.
فأنت حينما تأتي إلى بيتٍ من بيوت الله لطلب العلم تسلك طريقاً إلى الجنَّة، وحينما تطلب العلم تكون أثيراً عند الله عزَّ وجل، وحينما تطلب العلم تضع لك الملائكة أجنحتها.
إنسان يطلب العلم، يطلب أن يعرف الله، يطلب أن يسعد في الدنيا والآخرة، يُيسِّر الله جلَّ جلاله له سبل العلم في الدنيا وسبل السلامة والسعادة، أما الآية الكريمة: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ﴾ أي بعضهم الآخر ليسوا أميين، بعضهم الآخر يعلمون الحقيقة، ويعرفون النبيَّ كما يعرفون أبناءهم، الآن دخلنا في موضوع ثانٍ، أنت حينما تعلم قد يكون هذا العلم حُجَّةً عليك، العلم حُجَةٌ لك أو عليك، حينما تعلم ولا تعمل أصبح العلم حجَّةً عليك، وحينما تعلم وتعمل أصبح العلم حجَّةً لك:
وعالمٌ بعلمه لم يعملن معذَّبٌ من قبل عبَّاد الوثن
"تعلَّموا ما شئتم فو الله لن تُؤجروا حتَّى تعملوا بما علمتم" و: "كل علمٍ وبالٌ على صاحبه ما لم يعمل به" و: "العلم ما عُمِل به فإن لم يُعْمَل به كان الجهل أولى" .
العلم ما عُمِلَ به فإن لم يُعْمَل به كان الجهل أولى:
أضع بين أيديكم هذه الحقيقة، لو أنك علمت علم اليقين أنك لو تعرَّضت لأشعَّة الشمس لشُفِيَ جلدك من مرضٍ جلدي، وأن هذا المرض لا يُعَالَج إلا بالتعرُّض لأشعَّة الشمس، لو أنك تقبع في غرفةٍ مظلمةٍ وأشعَّة الشمس ساطعةٌ خارج الغرفة، وقلت: أنا مؤمنٌ بأن الشمس ساطعة، أنت تكلَّمت الحقيقة؛ ولكن لأنك لم تخرج لأشعَّة الشمس هذه الحقيقة لا تنتفع بها، ولا قيمة لها، ولو أنك قلت الحقيقة، أي أنت إذا أقررت أن الله خلق الكون، ولم تأتمر بما أمر، ولم تنتهِ عما عنه نهى وزجر، ما قيمة هذا الإيمان؟ أنت حينما تعتقد بما جاء في القرآن ولا تعمل به ما قيمة هذا الاعتقاد؟ لأن إبليس قال:
﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82)﴾
وقال له:
﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)﴾
وقال له:
﴿ قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14)﴾
آمن بالله خالقاً، وآمن به عزيزاً، وآمن باليوم الآخر، ولم يطع الله عزَّ وجل، فالعلم ما عُمِلَ به فإن لم يُعْمَل به كان الجهل أولى، فأخطر شيء ينزلق إليه المسلمون أن يعدّوا العلم هدفاً بذاته لأن العلم وسيلة وليس هدفاً، الهدف أن تعمل به، الهدف أن ترتقي به إلى الله عزَّ وجل .
إنكار بعض اليهود على النبي رسالته حفاظاً على مكاسبهم الدنيوية:
لذلك بعض هؤلاء اليهود يعلمون أن النبيَّ رسول الله، يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، ولكن حفاظهم على مكاسبهم، وحفاظهم على رئاستهم لأتباعهم، وحفاظهم على شهواتهم، وعلى هذه المكاسب الكثيرة التي حَصَّلوها بمكانتهم الدينيَّة جعلتهم يركبون رؤوسهم، وينكرون على النبي رسالته، ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ﴾ وبعضهم الآخر ليسوا أميُّين، البعض الآخر إن عملوا بما علموا نجوا كعبد الله بن سلام، جاء النبي عليه الصلاة والسلام وأعلن إسلامه وكان يبكي خُشوعاً من خشية الله، فالذين يعلمون الحقيقة إن استجابوا لها نجوا، وسلموا، وسعدوا، وإن لم يستجيبوا لها كان علمهم حجَّةً عليهم، أما الخط العريض في المجتمع أميُّون، قال سيدنا علي: "يا كُميل الناس ثلاثة؛ عالمٌ ربَّاني، ومُتَعَلِّمٌ على سبيل نجاة، وهمجٌ رعاع أتباع كل ناعق، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركنٍ وثيق، فاحذر يا كُميل أن تكون منهم" .
فاليهود منهم أميون، ومنهم غير أميّين، وهؤلاء غير الأميين منهم من استجاب لعلمه فسلم وسعد، ومنهم من حافظ على مكاسب الدنيا فشقي في الدنيا والآخرة، لذلك قالوا: هناك من يُفْتِي بعلمٍ، وهناك من يفتي بغير علمٍ، وهناك من يفتي بخلاف ما يعلم، فالذي يُفتي بعلمٍ نجا، والذي يُفتي بغير علمٍ هَلَكَ، ولكن الذي يُفتي بخلاف ما يعلم أجرم، يعرف الحقيقة ويُفتي بخلافها، فهؤلاء الذين ليسوا أميين حافظوا على مكاسبهم، فركبوا رأسهم، وأنكروا نبوَّة النبي عليه الصلاة والسلام.
الاختلاف بين الناس له ثلاثة أنواع:
بالمناسبة أيها الإخوة الاختلاف بين الناس له ثلاثة أنواع:
1 ـ الاختلاف الأول بسبب نقص المعلومات وهو اختلافٌ طبيعي لا يُمْدَح ولا يُذَم:
هناك نوعٌ طبيعيٌ جداً لا يُمْدَح ولا يُذَم، طبيعي، هو الاختلاف بسبب نقص المعلومات:
﴿ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)﴾
هذا اختلافٌ طبيعي لا يُمْدَح ولا يُذَم.
2 ـ الاختلاف الثاني هو خلافٌ دنيويٌّ قذر يُذَم لأن أساسه المكاسب والمنازعات:
لكن هناك اختلافاً قذراً، بعد أن أتى العلم، وبعد أن جاء اليقين، وبعد أن توضَّحت الأمور نختلف لنحافظ على مكاسبنا: ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا﴾ لكن هناك اختلافاً آخر:
﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)﴾
حينما نختلف على مكاسب، حينما نختلف على الدنيا، حينما نختلف على مناصب، حينما نختلف على زعامات بعد أن توضَّحت الأمور هذا خلافٌ دنيويٌّ قذر، وأما الخلاف المحمود، الأول لا يُمْدَح ولا يُذَم، طبيعي، والثاني يُذَم لأن أساسه المكاسب، والمنازعات، والمال، والجاه.
3 ـ الاختلاف الثالث هو اختلافٌ في التنافس وهو خلاف يُمدَح:
أما الخلاف الذي يُمْدَح فهو اختلافٌ في التنافس، أي هذا رأى أن الذي يرضي الله أن تدعو إلى الله، وهذا رأى أن تؤلِّف الكتب، وهذا رأى أن تبني المساجد، وهذا رأى أن تُتْقِنَ العلوم، وهذا رأى أن تترك آثاراً دعويَّةً إلى آخره: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ﴾ إذاً هناك اختلاف ثالث اختلاف تنافس، قال الله عزَّ وجل:
﴿ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)﴾
وقال:
﴿ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ(61)﴾
الذي يفتي بخلاف ما يعلم يبيع دينه بعرضٍ من الدنيا قليل:
الآن هؤلاء الذين يلعبون بدين الله، هؤلاء الذين يُحِلُّون الحرام ويحرِّمون الحلال، هؤلاء الذين يتكلَّمون بما لا يعلمون، هؤلاء يقول الله عنهم:
﴿ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)﴾
الهلاك والشقاء: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ أحياناً تقوم مصلحة الإنسان على أن يبتدع في الدين ابتداعاً ما أنزل الله به من سلطان، يبتدع في الدين فتأتيه المكاسب الدنيويَّة، هؤلاء الذين يبتدعون مذاهب ليس لها أصل في الدين، يبتدعون فتاوى ليس لها أصل في الدين، يُحِلُّون بعض ما حرَّمه الله عزَّ وجل، هذه ليست فوائد إنها عوائد، فتوى تصدرها جهة معتمدة في الفتوى تبيِّن أن أَكْل مال الربا حلال، هؤلاء الذين يعلمون الحقيقة ويفتون بخلاف ما يعلمون، طبعاً موجودون عند اليهود، وموجودون عند كل دينٍ: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً﴾ لمكاسب دنيوية، أي نحاول أن نُسَهِّل للناس أمور حياتهم نصدر فتوى، هذه مسموح بها، وهذه مسموح بها، وهذه مسموح بها، لم يبق شيء من الدين، هذا الكيان المتماسك، هذه القلعة الصامدة أصبحت رملاً، تلاً من الرمل، انتهى الدين، فأخطر شيء هذا الذي يُفتي بغير علم، أو الذي يفتي بخلاف ما يعلم من أجل الدنيا، من أجل مكاسب دنيويَّة، فهذا الإنسان الذي يبيعُ دينه بدُنياه، يبيع دينه بعرضٍ من الدنيا قليل، بعَرَضٍ لا يقدِّم ولا يؤخَّر.
العلماء الصادقون أمناءٌ على الفتوى ولا يفتون إلا بما يُرضي الله ورسوله:
كلمة ينبغي أن نعلمها جميعاً وهي أن الإنسان لا يليق به أن يكون لغير الله، لا يليق به ولا يُفْلِحُ إذا كان لغير الله، أي وقتك، وعلمك، ولسانك، وعضلاتك، وإمكاناتك، وحبّك، وولاؤك لله وحده، أما لغير الله؟! هذا الذي تعبده من دون الله لا يملك لك نفعاً ولا ضراً؛ بل لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضَرَّاً، لا يملك، أخطر شيء في الحياة الدينيَّة الشرك، ﴿فَوَيْلٌ﴾ الله عزَّ وجل يتوعَّد، من هو المؤمن؟ الأمين على فتوى النبي عليه الصلاة والسلام.
الإمام أبو حنيفة أفتى فتوى فدخل السجن من أجلها ومات في السجن كما يُروى، العلماء الصادقون هؤلاء أمناءٌ على الفتوى، لا يفتون إلا بما يُرضي الله عزَّ وجل ورسوله، فالآية تشير إلى إنسان استخدم الدين مَطِيَّةً للدنيا، جعله مطيَّةً لدنياه، فأنت اطلب الدنيا من مظانها، تريد الدنيا ابحث عن مظانها؛ في التجارة وفي الكسب المشروع وفي أي شيء آخر، أما أن تبحث عن الدنيا من خلال الدين فهذا والله عملٌ شنيع: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً﴾ .
الابتعاد عن المتاجرة بالدين:
الشيء المُلاحظ هو أنه كلَّما اشتدَّ ضغط الناس على بعض العلماء، العلماء بدل أن يرفعوا الناس إلى مستوى الشرع يهبطون بالدين إلى مستوى الناس، لدرجة أن إنساناً مرة كان يدير مسبحاً مختلطاً أقام ذات مرة فيه مولداً، ودعا أناساً تكلَّموا، وأثنَوا، ومدحوا، هذا ماذا يفعل؟ هذا يرتكب أكبر معصية، يدير مسبحاً مختلطاً نساءً ورجالاً شبه عرايا يسبحون مع بعضهم بعضاً، ومع ذلك يقيم احتفالاً بعيد المولد في المسبح نفسه، ويدعو من يتكلَّم ويثني عليه، فهؤلاء الذين يمتهنون الدين، المشكلة أنه بدل أن نرتفع بالناس إلى مستوى الشريعة يوجد حل آخر أن نهبط بالدين إلى مستوى الناس، فهذه مشروعة، وهذه فيها فتوى، وهذه فيها رأي ضعيف يُجيزها، وهذه بلوى عامَّة ماذا نفعل؟ بعد حين صار الغناء، والموسيقى، والتمثيل، كل هذا مسموح، والاختلاط، وأكل المال الحرام، والربا، والفوائد، لم يبق شيء، مشكلة كبيرة جداً.
كل إنسانٍ يلعب بدين الله يتوَعَّده الله عزَّ وجل بالهلاك، أي إيَّاك أن تقترب من دين الله، دعه في السماء، دعه في عليائه، دعه في صفائه، دعه في نقائه، لا تستخدمه وسيلةً لمكاسب دنيويَّة، لا تشترِ به ثمناً قليلاً، لا تتاجر بالدين، لا تتخذ الدين مَطِيَّةً للدنيا، هذا عمل كبير جداً عند الله عزَّ وجل، فيجب أن تعلم من هو الطرف الآخر؟!!
ذكر الله عزَّ وجل المعاصي بتسلسل تصاعدي:
قال تعالى:
﴿ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ(4)﴾
أنت حينما تلعب بدين الله، أنت حينما تؤوِّل النصوص، تلوي عُنق النصوص لمصلحتك، لمغانمك، لمكاسبك، أنت تشوِّه الحقيقة.
بالمناسبة ذكر الله عزَّ وجل المعاصي بتسلسل تصاعدي، فذكر الفحشاء والمنكر، والإثم والعدوان، وذكر الشرك، وذكر الكفر، وجعل في قمَّة هذه المعاصي:
﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)﴾
لا ترتزق بالدين، دع الدين في عليائه، لا تشتر بالدين ثمناً قليلاً، لا تحقِّق مكاسب الدنيا من خلال الدين، عندئذٍ تُلوي عنق النصوص وتعطي فتاوى غير صحيحة، وتعطي للناس تسهيلات هم في ذِمَّتك وفي رقبتك يوم القيامة، والفتوى جسرٌ إلى النار.
أنا حدَّثني عالِم جليل في دمشق قال لي: من غرائب الصُّدَف أنني كنت في بلدٍ عربي، وفي حضرة عالِمٍ جليل احتلَّ منصباً رفيعاً جداً، وكان على فراش الموت، ولفظ أنفاسه أمامي، قُبَيْلَ أن يوَدِّعَ الحياة رفع يديه إلى السماء وقال هكذا بيديه الاثنتين: "يا رب إني بريء من كل فتوى أفتيتها في حياتي عن المصارف" ، عرف الحقيقة عند فراش الموت.
الذي يتاجر بالدين يبيع دينه بعرضٍ من الدنيا قليل:
أيها الإخوة الكرام؛ استفتِ قلبك وإن أفتاك المفتون وأفتوك.
أي أنت حينما تخرج من بيتك تريد أن تبيع بيتك رأيت في وجهك دلالاً قال لك: ثمنه ثلاثة ملايين، هل تبيعه رأساً؟ تسأل دلالاً ثانياً وثالثاً ورابعاً وخامساً، أما إذا كانت فتوى وراقت لك لا تسأل أحداً آخر، يوجد معي فتوى قرأتها أنا في مجلَّة!! لماذا في أمور الدين تكتفي بمفتي واحد، بعالِم واحد، بمقالة بمجلة وانتهى الأمر؟ معك فتوى مرتاح لا تنجو من عذاب الله، أنت في أمر دنياك تُعذِّب الخبراء، تسأل فلاناً وفلاناً، لماذا في أمر دينك لا تسأل؟ لماذا تكتفي بفتوى واحدة؟ إن كنت حريصاً على دينك ينبغي أن تسأل عِدَّة مصادر.
ثم إن الإنسان حينما يسأل ويأتيه الجواب إذا كان أمياً قال: مقبول منه، لأن الأمي مذهبه مذهب من يسأله، تُروى كلمة عن الشيخ بدر الدين رحمه الله تعالى، كان من أكبر علماء الشام، طبعاً من باب التواضع، سألوه: يا سيدي ما مذهبك؟ قال: "العوام ليس لهم مذهب" ، العامّي مذهبه مذهب شيخه، أما إذا إنسان طالب العلم فعليه أن يقرأ الأدلَّة، هذا دليل، وهذا دليل، حينما تطلب العلم لا تُعفى من البحث عن الدليل، وحينما تأتي بالدليل والتعليل تكون طالب علمٍ شرعي، فلماذا تسأل في أمور الدنيا وتعدِّد وتبحث وتناقش كي تصل إلى الحقيقة؟ لماذا تكتفي في أمر الدين بفتوى واحدة؟
لذلك هذه الآية مخيفة بمعنى أن الذي يَتَّجِرُ بالدين، يبيع دينه بعرضٍ من الدنيا قليل، الباخرة أحياناً تبتلع من ماء البحر قليلاً فيبلعها كلَّها، إن اتَّجَرْتَ بالدين أهلكت نفسك كلَّها، إن ابتلعت شيئاً من ماء البحر أخذك البحر كلّه، الآية دقيقة: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ هذا الافتراء، لَيّ عُنُق النصوص، المعاصي الشائعة، تجعلها من الدين؟! تجعل الدين يغطي كل الانحرافات، هناك كتب أُلِّفَت فيها افتراءٌ على الله عزَّ وجل، تجعل السلوك الإباحي مُغَطَّىً بالقرآن، قال: هذه قراءة معاصرة ، السلوك الإباحي، يكتبون الكتاب بأيديهم: ﴿فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ .
عندما ينحرف الإنسان يحتاج إلى تغطية من عقائد زائغة وهذا الذي فعله اليهود:
الأرباح التي يجنيها من يُزوِّر الدين، من يُشوِّه معالم الدين، من يُمَيِّع الدين، من يُسَيِّحَ الدين، من يجعله غازاً أي بكل مكان صالح، باحتفال مختلط، غير مختلط، مع الغناء والرقص والتمثيل، والربا، وأكل المال الحرام، والصحون، يقول لك: كل هذا من الدين، كل هذه الصحون لكي يرى الناس الكعبة، لا أعرف إذا كان هذا الشيء صحيحاً: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾ الويل الهلاك لهم، عندما ينحرف الإنسان الآن اختلَّ توازنه، قد يستعيد توازنه بعقيدة فاسدة، الآن إنسان يأكل المال الحرام تجده متمسِّكاً بشفاعة النبي تجده يقول لك: النبي قال:
(( عن أنس رضي الله عنه: شَفَاعَتِي لأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي. ))
هو مرتاح تماماً، هذه الكبائر التي يفعلها بالنهاية يشفع له النبي، طبعاً هذا الفهم ساذج، الشفاعة حقّ وجودي؛ أما النبي فيشفع لمن مات مخلصاً غير مشرك، فإذا مات الإنسان وهو غير مشرك يكون مات وقد حصَّل أعلى شهادة، على كل هذا الذي ينحرف سلوكه يتعلَّق بعقيدة زائغة، ما دام انحرف يحتاج إلى مفهوم الشفاعة، ومفهوم، لا تدقِّق الله لا يدقِّق، عندما ينحرف الإنسان يحتاج إلى تغطية من عقائد زائغة، هذا الذي فعله اليهود بعدما انحرفوا، وأكلوا المال الحرام، وأفسدوا أهل الأرض، وتاجروا بالدين، وغيَّروا، وبدَّلوا، وحرفوا، وزوَّروا، قال: وقالوا إنهم شعب الله المختار:
﴿ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)﴾
إن لم نأمر بالمعروف وننهَ عن المُنكر ونؤمن بالله الإيمان المُنَجِّي نصبح أمَّة كبقيَّة الأمم:
الآن بعض المسلمين يرتكب الكبائر يقول لك: أمِّة محمَّد مرحومة، من قال لك ذلك؟ الله عزَّ وجل حينما قال:
﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)﴾
علَّة هذه الخيريَّة: ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ فإن لم نأمر بالمعروف، ولم ننهَ عن المُنكر، ولم نؤمن بالله الإيمان المُنَجِّي، أين خيريَّتنا؟ انتهت خيريَّتنا، نحن أمَّةٌ كبقيَّة الأمم:
﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)﴾
دقِّقوا: ﴿قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ﴾ .
إذا كنَّا جنوداً لله فلن نُغلَب أما إذا غُلِبْنَا فيجب أن نراجع أنفسنا وندقِّق في جنديَّتنا لله:
لو يقول المسلمون: نحن مسلمون، نحن أتباع النبي، نحن أتباع سيِّد الخَلق، الجواب: قل فلمَ يعذِّبنا الله بذنوبنا؟
﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)﴾
لذلك قال العلماء: أمَّة محمَّد أمَّتان؛ أمَّة التبليغ، وأمَّة التشريف، حينما تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله الإيمان المُنَجِّي أصبحت أمَّة التشريف، الأمَّة الخَيِّرَة، ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ حينما تفعلون كذا وكذا، أما إن لم نفعل فنحن كبقيَّة الأمم، لا شأن لنا عند الله عزَّ وجل، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:
(( عن عبد الله بن عباس: خيرُ الصحابةِ أربعةٌ، وخيرُ السرايا أربعمائةٍ، وخيرُ الجيوشِ أربعةُ آلافٍ، ولا يُغْلَبُ اثنا عشرَ ألفًا من قِلَّةٍ. ))
لن يُغْلبوا في الأرض، وقال تعالى:
﴿ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)﴾
أي زوال الكون أهون على الله من أن نُغْلَب إذا كنَّا جنوداً لله، أما إذا غُلِبْنَا فيجب أن نراجع أنفسنا، وندقِّق في جنديَّتنا لله.
أدلة من القرآن الكريم عن نصر الله تعالى لجنوده:
قال تعالى:
﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)﴾
في الدنيا:
﴿ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا(141)﴾
مستحيل:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)﴾
وقال:
﴿ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)﴾
الأمر بيدِ الله، فلمَّا انحرفوا اختلَّ توازنهم، يحاولون الآن أن يستعيدوا هذا التوازن بعقيدة زائغة، كما هي الحال عند المسلمين، لما انحرفوا قالوا لك: نحن أمة محمد مرحومة، نحن لنا الشفاعة عند رسول الله، مرتاح، تصوَّر طالباً كسولاً لم يدرس أبداً، طبعاً عندما لم يدرس أصبحت عنده مشكلة، جاء طالب وقال له: هذا الأستاذ يعطي الأسئلة قبل الامتحان بأسبوع، فارتاح ارتياحاً تاماً، قضى العام الدراسي كله في اللعب، ذهب للأستاذ وطلب الأسئلة فعاقبه الأستاذ، لا يوجد أسئلة، ادرس.
وإنسان له دعوى عند قاضٍ والحكم خطير جداً، قال له شخص: القاضي يقبل الرشوة، فهكذا ظن، توهَّم وهماً ارتاح، فلمَّا جاء ليدفع للقاضي زجره وطرده، فهذه مفاجأة كبيرة.
أدلة أخرى من القرآن الكريم عن رحمة الله تعالى ومغفرته لمن تاب واستغفر:
دقِّق في قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ(5)﴾
يقول لك الشيطان: الله غفور رحيم، اسمع هذه الآية:
﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(49)وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ(50)﴾
وقال:
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)﴾
يقول:
﴿ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ(54)﴾
ارتباط التخويف مع الرجاء فعلى الإنسان أن يكون راجياً لله خائفاً منه في وقتٍ واحد:
دائماً هناك تخويف مع الرجاء، المفروض أن يكون الإنسان راجياً لله خائفاً منه في وقتٍ واحد:
(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) قَالَ: (يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ -أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا-اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا. ))
لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم.
(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: مَن سلَك طريقًا يطلُبُ فيه عِلمًا سهَّل اللهُ له به طريقًا مِن طُرقِ الجنَّةِ ومَن أبطَأ به عمَلُه لَمْ يُسرِعْ به نسَبُه. ))
[ صحيح ابن حبان أخرجه في صحيحه ]
قال تعالى:
﴿ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)﴾
أي يا محمَّد ﴿تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ﴾ يقول:
(( عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة, فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين, وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أني قد رأيت إخواننا، فقالوا: يا رسول الله, ألسنا بإخوانك؟ قال بل أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد، وأنا فرطهم على الحوض، فقالوا: يا رسول الله, كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك؟ قال: أرأيت لو كان لرجل خيل غر محجلة في خيل دهم بهم ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فإنهم يأتون يوم القيامة غرًّا محجلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض، ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم: ألا هلم, ألا هلم, ألا هلم. فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول: سحقًا سحقًا. ))
الحقيقةُ المُرَّة أفضل ألف مرَّة من الوهم المريح:
مرَّة ثانية أيها الإخوة وهذه نصيحة لوجه الله؛ الحقيقةُ المُرَّة أفضل ألف مرَّة من الوهم المريح، لا تعش بوهم مريح، لو معك شيك بمئة ألف دولار مزوَّر، إذا كنت لا تعرف أنه مزوَّر فأنت مرتاح تماماً لأنك تملك مبلغاً ضخماً، ثروة ضخمة، أما لو كشفت أنه مزوَّر، ومزَّقته، وعملت عملاً شريفاً، لكنت في حال غير هذا الحال، الحقيقة المرَّة ولو أنها مُرَّة أفضل ألف مرَّة من الوهم المُريح، مسلمون كُثُر يعيشون في أوهام، في وهم أنه ليس لنا علاقة نحن، هكذا كتب الله علينا:
﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)﴾
هذا قضاء وقدر يا أخي، هذا الإنسان لا يريد الله له الهداية، أعوذ بالله من هذا الكلام، الله لا يريد له أن يهتدي ، الله ما هداه، خلقه كافراً ماذا يفعل بنفسه؟ مرتاح، ما وجدت واحداً هو متألِّق بالدين هكذا الله كتب عليه أن يكون مؤمناً، فقط إذا كان عصاه، بالمعاصي والفجور والآثام يقول لك: الله كتب عليَّ هذا، فلماذا عندما تكون مستقيماً ولك عمل طيِّب لا تقول: كتب الله عليَّ هذا؟ ولكن تقول: والله انتبهت لحالي، تبت، وصحوت، لماذا تعزو الإيجابيات لنفسك والسلبيات تعزوها إلى الله عزَّ وجل؟ هذا عمل غير منطقي، فالمرض الذي وقع به اليهود وقعنا به: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ ، لكن:
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه(7)﴾
ماذا نفعل بهذه الآية؟ ماذا نفعل بها؟ الجواب الإلهي:
﴿ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)﴾
هذا الجواب الإلهي،﴿بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ باختياره، فعل سيئةً، لم يندم، ولم يَتُب، ولم يستغفر، ولم يصحِّح.
الله عزَّ وجل لا يغفر إلا من بعد التوبة والإيمان والعمل الصالح:
بالمناسبة: أعتقد أن خمس أو أربع آيات في القرآن فيما أذكر:
﴿ وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)﴾
افتحوا في القرآن على كلمة ﴿مِنْ بَعْدِهَا﴾ تجد أن الله عزَّ وجل لا يغفر إلا من بعد التوبة والإيمان والعمل الصالح: ﴿إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ .
الله عزَّ وجل عَدْلٌ واسم العدل سيتحقَّق مطلقاً بإطلاقٍ تام يوم القيامة:
﴿قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ* بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ أي لم يتب منها ﴿أحاطت به﴾ :
﴿ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)﴾
هذا كلام خالق الكون، الله عزَّ وجل عَدْلٌ، واسم العدل سيتحقَّق مطلقاً بإطلاقٍ تام يوم القيامة:
﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ(47)﴾
الملف مدقق