الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.
الرجال ليسوا أفضل من النساء لكنهم أكثر حملاً منهن:
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس التاسع عشر من دروس سورة النساء، ومع الآية الخامسة والثلاثين، وهي قوله تعالى:
﴿ وَإِنۡ خِفۡتُمۡ شِقَاقَ بَيۡنِهِمَا فَٱبۡعَثُواْ حَكَمًا مِّنۡ أَهۡلِهِۦ وَحَكَمًا مِّنۡ أَهۡلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصۡلَٰحًا يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيۡنَهُمَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا(35)﴾
أيها الإخوة الكرام، هذه الآية مرتبطة أشدّ الارتباط مع الآية التي قبلها، فالآية التي قبلها يقول الله عز وجل:
﴿ ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٍ وَبِمَآ أَنفَقُواْ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡۚ فَٱلصَّٰلِحَٰتُ قَٰنِتَٰتٌ حَٰفِظَٰتٌ لِّلۡغَيۡبِ بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُۚ وَٱلَّٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَٱهۡجُرُوهُنَّ فِي ٱلۡمَضَاجِعِ وَٱضۡرِبُوهُنَّۖ فَإِنۡ أَطَعۡنَكُمۡ فَلَا تَبۡغُواْ عَلَيۡهِنَّ سَبِيلًاۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)﴾
شاءت إرادة الله في نظام الزوجية أن يكون الرجل صاحب القرار، لأن الله هيَّأه فكرياً، وجسمياً، واجتماعياً، ونفسياً ليكون قائد المركبة، أو قائد هذه الأسرة، وشاءت إرادة الله أيضاً أن تكون المرأة على أنها مساوية للرجل تماماً بالتكليف، والتشريف، والمسؤولية، شاءت إرادة الله عز وجل أن تكون المرأة تابعةً للرجل في العلاقة الزوجية والأسرة، لما هيّأه الله به من خصائص فكرية، واجتماعية، ونفسية، وجسمية، هذا هو التصميم الإلهي: ﴿ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ﴾ والرجال ليسوا أفضل من النساء، لكنهم أكثر حِمْلاً منهن، هذه الكلمة الرائعة قالها سيدنا عمر حينما قال: "لست خيراً من أحدكم لكني أثقلكم حملاً"، معنى قوامون؛ شديدو القيام، مسؤولون أمام الله عن زوجاتهم، وعن أولادهم، وعن بناتهم، وعن تزويج بناتهم، وعن مراقبة الأسرة، وعن كل خصائصها.
التفضيل لا يقتضي الأفضلية ولكن قد يكون التفضيل لحكمة أرادها الله عز وجل:
وصف الله الصالحات بأنهنّ حافظات للغيب بما حفظ الله، وفق منهج الله عز وجل، هذا هو الأصل، لو أن أسرة لم تكن كذلك، المرأة لم تخضع لحكم الله، أنا أقول: لم تخضع لحكم الله، إذا أمرها زوجها بطاعة الله، أمّا لا تخضع لمشيئة الرجل غير المنضبطة بمنهج الله فهذا موضوع آخر، أنا أتحدث فقط لو أنّ الزوج أمرها أن تتحجب، أمرها ألّا تختلط بالرجال، حينما تتأبّى الزوجة أن تطيع الله من خلال أمر زوجها دخلنا في حالة أخرى، الحالة الطبيعية أن: ﴿ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ﴾ لخصائص خصّهم الله بها، والمرأة مُفضّلة على الرجل بخصائص خصّها الله بها، وكلمة: ﴿بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٍ﴾ أي أن كل طرف في وقت واحد يكون مُفضولاً ومُفضَّلاً، ومرة ثانية أؤكد هذه الحقيقة، وهي قاعدة أساسية أن التفضيل لا يقتضي الأفضلية، الإنسان حينما يُفضَّل بصفة قد يحتاجها، ألا ترى معي إلى أن الطائر يرى ثمانية أضعاف رؤية الإنسان، فُضِّل عليه، هل هو أفضل منه؟ ألا ترى إلى أن الكلب يشم مليون ضعف ما يشمه الإنسان، هل هو أفضل منه؟ التفضيل لا يقتضي الأفضلية، ولكن قد يكون التفضيل لحكمة أرادها الله عز وجل.
حينما لا تستجيب الزوجة لأمر الله، حينما تتأبّى أن تطيع الله، الآن هناك وسائل علاجية إلهية، قال: ﴿وَٱلَّٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ﴾ موضوع الدرس السابق، وقد أشرت إلى أن الزوج الصالح يراقب ويدقق وهو يقِظ وحذِر، بمعنى أنه لمجرد أن يبدو على السطح إشارات عابرة لمَا يمكن في المستقبل أن يكون نشوزاً: ﴿وَٱلَّٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ﴾ إذاً أنت لا تعالج المشكلة بعد أن تقع، لا تعالج المرض بعد أن يستفحل، وبعد أن يستفحل لا بد من البتر، البطولة أن تكتشف بوادره في وقت مبكر، وهذا قد ينقلنا إلى حقيقة في جسم الإنسان.
العلاقة بين الطاعة ونتائجها علاقة علمية أي علاقة سبب بنتيجة:
الإنسان أيها الإخوة عنده جهاز مناعة مُكتسَب، هذا أخطر جهاز في حياة الإنسان، والانحراف الجنسي -كما تعلمون- يسبب نقص المناعة المكتسب، الآن الرقم 27 مليون، متوقع بعد حين أن يصل إلى 80 مليون مصاب في العالم، وقالت الجهات الطبية التي وصل إليها العلم: أن هناك عشرة مصابين لم يُبلَّغ عنهم مقابل كل مُصاب، فالآن إذا قلنا 27 مليون معناها 270 مليون مُصاب بالأرض بسبب الانحراف، إذاً يجب أن نعلم علم اليقين أن العلاقة بين الطاعة ونتائجها علاقة علمية، أي علاقة سبب بنتيجة، وأنّ العلاقة بين المعصية ونتائجها علاقة علمية، أي علاقة سبب بنتيجة، هذا الجهاز نقص المناعة المكتسَب عبارة عن جيش بكل ما تعنيه هذه الكلمة، فيه أربع فرق؛ فرقة الاستطلاع، أهم شيء في هذه الفرقة المعلومات، استخبارات، فإذا دخل إلى جسم الإنسان عنصر غريب تأتي كريات بيضاء مهمتها الاستطلاع، تأخذ الشيفرة الكيميائية لهذا الجرثوم، لا تقاتل، تأخذ المعلومات، وتأتي بها إلى مراكز تصنيع المصل المضاد؛ أي إلى معامل الدفاع، هذه فرقة، مهمتها الأولى استطلاع المعلومات، الفرقة الثانية مهمتها تصنيع السلاح، هذه موجودة في العقد اللمفاوية، والإنسان عنده عدد كبير من العقد اللمفاوية، في هذه العُقَد يُصنَّع المصل المضاد للجراثيم، لكن هذه العُقَد فيها ذاكرة عجيبة جداً، أن الجرثوم إذا دخل إلى جسم الصغير، وعاد بعد سبعين عاماً ملف هذا السلاح وهذا الجرثوم محفوظ في الغدد اللمفاويّة، لمجرد أن يعود الجرثوم ثانية، ولو بعد سبعين عاماً الملف جاهز، تركيب الجرثوم جاهز، والمصل المضاد الذي صُنِّع قديماً جاهز، يعمل الجسم على تصنيع مصل مضاد جديد كي يكافَح الجرثوم، هذه الفرقة الثانية، الفرقة الثالثة هي فرقة مهمتها القتال، بعد أن يدخل الجرثوم إلى الجسم تذهب هذه الفِرَق إلى الغدد اللمفاوية، فتأخذ السلاح المُعَدّ، وتحمله، وتقاتل به الجرثوم، فإذا وجدت على الجلد انتفاخاً أبيض يسمونه قيحاً هذه نتائج المعركة، جرت معركة بين الجرثوم وبين الكريات المقاتلة، فالنتيجة بقايا الجثث في هذا القيح الأبيض الذي يراه الإنسان حينما يلتهب جلده أحياناً. عندنا الآن فرقة رابعة: فرقة الخدمات، مهمتها تطهير أرض المعركة من الجثث، بعد أن تجري مذبحة ماذا يفعلون؟ كما رأيتم في فلسطين يأتون بالجرافات يردمون الجثث، وينظفون الطرق كي تُطمَس معالم الجريمة،عندنا أربع فرق؛ فرقة الاستطلاع، وفرقة تصنيع السلاح، وفرقة القتال، وفرقة الخدمات.
عالم كبير اكتشف في عام 67 فرقة خامسة، اكتُشِفت مؤخراً هذه الفرقة اسمها فرقة المغاوير، ما مهمتها؟ قال: هذه الفرقة أو هذا العنصر يكتشف الخلية السرطانية في وقت مبكر جداً قبل أن تغدو خطيرةً على الإنسان، ويلتهمها، الذي ذكرته أن الإنسان حينما ينحرف يفقد جهاز المناعة المكتسَب الذي حباه الله به.
مراحل معالجة المشكلة بين الزوج وزوجته:
هنا جاءت الآيات: ﴿وَٱلَّٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ﴾ الذي ذكرته أن الفرقة الخامسة متى تكتشف الخطر؟ في وقت مبكر جداً، تلتهم الخلية السرطانية، والآن الزوج الماهر جداً، المُوفَّق، المؤمن متى يكتشف الخطر؟ في بداياته، في بدايات الخطر قبل أن يستفحِل.
1 ـ أول مراحل معالجة المشكلة الموعظة:
قال تعالى: ﴿وَٱلَّٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ﴾ ذكرت أن الموعظة تقتضي أن تكون لطيفاً رقيقاً مُحسِناً، أن تملك قلبها قبل أن تعظها، أن تملك قلبها بكلام طيب، بموقف كامل، بمروءة، بكرم، بلطف، بهدية أحياناً، فإذا وعظتها قبِلت منك، أنت لاحظ لو أنك مدير مؤسسة وعندك موظف ارتكب خطأً، أنت إن أكرمته بهدية، أو إن كافأته بمكافأة، ثم نصحته يتقبل منك النُّصح بأعلى درجة، ويعاهدك على ألا يعود لذلك، لأنك ملكت قلبه قبل أن تلقي عليه النصيحة، وهذا الذي دعا بعضهم إلى أن يقول: الإحسان قبل البيان، ينبغي أن تفتح قلب الذي تنصحه بإحسانك قبل أن تفتح أذنيه لكلامك ﴿فَعِظُوهُنَّ﴾
2 ـ ثاني مرحلة الهجران بالمضاجع:
فإذا لم تستفد من هذه المعالجة الأولى، هذه المراحل على الترتيب، قال: ﴿وَٱهۡجُرُوهُنَّ فِي ٱلۡمَضَاجِعِ﴾ وبينت لكم حكمة الهجران في المضاجع، لو هجرتها خارج البيت لعلم الأقارب أنك في خصومة مع زوجتك، تدخّلوا تدخلاً سلبياً، الذين من أطراف المرأة أوغَلوا صدرها، والذين من أطراف الرجل أَوغلوا صدره، ولو أنك هجرتها في غرفة ثانية لعلِمَ الأولاد، فينبغي أن تهجرها في غرفة النوم، وعلى السرير الواحد، وهي مُحبَّبة إليك، وأنت في حاجة إليها، إذاً حينما تستطيع أن تكبح غريزتك لأن ما عندها أو ما حباها الله به سلاحها الوحيد، وما دام الإنسان معه السلاح يُظهِر القوة ولا يتراجع، أما إذا سقط سلاحه من يده عندئذٍ يخضع، كيف تستطيع أيها الزوج أن تُسقِط سلاحها؟ بأن تهجرها، وألا تعبأ بهذا النداء الغريزي إطلاقاً، أما حينما تعلم أنك قادر أن تستغني عنها كلياً تخضع، فالعلاج الثاني: ﴿وَٱهۡجُرُوهُنَّ فِي ٱلۡمَضَاجِعِ﴾ .
3 ـ ثالث مرحلة الضرب غير المبرح:
قال تعالى: ﴿وَاضْرِبُوهُنَّ﴾ ضرب الانتقام، ضرب إرواء الغليل، ضرب الحقد، المؤمن بريء منه كلياً، ذلك أن هذا الضرب نهى النبي عنه، هي شريكة حياته، فضرْبُها يُنزِلها عن مقام الزوجة، أما إذا نشزت، وتأبّت أن تطيع الله عز وجل، وكان من الحكمة أن تضربها، وأن تؤدّبها، وأن تحملها على التوبة ضرباً غير مُبرِّح، ولا مؤلم، لكنه لم ينزل مكانتها عن مرتبة الشريك، قال: ﴿وَاضْرِبُوهُنَّ﴾ .
إن بدت المرأة أنها مطيعة لزوجها فينبغي أن توقف كل علاج:
بينت لكم حالات تؤكد حقيقة الضرب الذي أمر الله به، لو أن عندك موظفاً يتيماً لا أب له ولا أم، وسرق منك، والسرقة كبيرة، أسهل حل أن تطرده، لكن أصح حل أن تؤدبه، وأن تبقيه عندك، وأن تُصلِحه، قال: ﴿وَٱهۡجُرُوهُنَّ فِي ٱلۡمَضَاجِعِ وَٱضۡرِبُوهُنَّۖ فَإِنۡ أَطَعۡنَكُمۡ فَلَا تَبۡغُواْ عَلَيۡهِنَّ سَبِيلًاۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾ إن أطعنكم انتهى الوعظ، وانتهى الهجر، وانتهى التأديب، أما أن تدّعي أنها لا تحبك هذا كلام غير مقبول إطلاقاً: ﴿فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ﴾ فإن بدت المرأة أنها مطيعة لزوجها فينبغي أن توقف كل علاج ﴿فَإِنۡ أَطَعۡنَكُمۡ فَلَا تَبۡغُواْ عَلَيۡهِنَّ سَبِيلًاۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾ هذا تهديد للزوج، أنت بحكم قِوامتك، أنت السيد صاحب القرار، أنت يقبل الناس منك ما تقوله عن زوجتك، أما إن كنت ظالماً مفترياً فالويل لك، والويل لك، ثم الويل لك: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾ هذا ملخص الدرس الماضي.
على الإنسان أن يعالج الأمور من بدايتها:
درس اليوم: ﴿وَإِنۡ خِفۡتُمۡ شِقَاقَ بَيۡنِهِمَا﴾ لا الموعظة أجدَتْ، ولا الهُجران نفع، ولا الضرب أفاد، والزوجان على مشارف الفِراق، وينبغي أن تُعالَج هذه الحالة في وقت مبكر، لم يتم الطلاق بعد، على مشارف الطلاق، ﴿وَإِنۡ خِفۡتُمۡ﴾ كما قال العلماء شقاقاً بينهما، والشقاق الابتعاد، شقّ عصا الطاعة أي ابتعد عن الطاعة ﴿وَإِنۡ خِفۡتُمۡ شِقَاقَ بَيۡنِهِمَا﴾ أُضيف الشقاق إلى الظرف ﴿شِقَاقَ بَيْنِهِمَا﴾ المعنى: إن خفتم شقاقاً بينهما، مرة ثانية أيها الإخوة ينبغي أن تُعالَج الأمور من بدايتها، كشأن الأمراض الجسمية، عدد كبير جداً من الأمراض إذا اكتُشِف في وقت مبكر، وعُولِج في وقت مبكر كان العلاج قريباً من النجاح، بل قد تصل نسبة النجاح إلى تسعين بالمئة أما إذا اكتُشِف في وقت متأخر، وعولِج في وقت متأخر ربما لا يجدي العلاج: ﴿وَإِنۡ خِفۡتُمۡ شِقَاقَ بَيۡنِهِمَا﴾ .
صفات الحَكَم:
الآن المرحلة السابقة مرحلة داخلية بين الزوج وزوجته، بدْءاً من موعظة إلى الهجران إلى الضرب، الآن لا بد من تدخل خارجي: ﴿وَإِنۡ خِفۡتُمۡ شِقَاقَ بَيۡنِهِمَا فَٱبۡعَثُواْ حَكَمًا مِّنۡ أَهۡلِهِۦ وَحَكَمًا مِّنۡ أَهۡلِهَآ﴾ من هو الحَكم؟ أولاً الحكم إنسان قاضٍ، الصفات الأولى الأساسية للقاضي أنه يعدل، والصفات الأساسية أيضاً أنه يدقق، يملك معلومات دقيقة، يسأل، يستقصي، يستجوب، يبحث، يحقق، لا بد من معلومات دقيقة يبني عليها القاضي حُكمه، هذه الصفة العقلية في القاضي، ولا بد من نفس نزيهة تتحرى العدل، من هو الحَكم؟ الذي يستقصي المعلومات بدقة بالغة، ثم يحكم بنزاهة بالغة، ليس أي إنسان يُكلَّف أن يصلح بين الزوجين يَصلُح أن يُصلِح بينهما: ﴿فَٱبۡعَثُواْ حَكَمًا﴾ حكماً أي عنده معلومات دقيقة يجمعها، يستنبطها، يحقق، يدقق، يكتشف ثم يعدل، الحَكم يجمع بين الحقائق وبين النزاهة، أما هنا أُضيف إلى الحكم أن يكون من أهله، هذا القريب العم مثلاً من خلال اللقاءات العابرة يستمع إلى بوادر مشكلة بين الزوجين، هو يعلم أن هناك مشكلة إما مالية، أو اجتماعية، أو نفسية، أو ثقافية بين الزوجين، هو مُطَّلع، أي معه المدى العميق: ﴿فَٱبۡعَثُواْ حَكَمًا مِّنۡ أَهۡلِهِۦ وَحَكَمًا مِّنۡ أَهۡلِهَآ﴾ .
لو طُبِّق نظام التحكيم لكان الطلاق قليلاً جداً:
هنا البطولة، رجل وَقور من وُجهاء أهله يتمتع بالدقة والنزاهة، ورجل وَقور من وُجهاء أهل الزوجة يتمتع بالدقة والنزاهة، من أهله لأنه يعرف بواطن الأمور، والثاني من أهلها يعرف بواطن الأمور ﴿فَٱبۡعَثُواْ حَكَمًا مِّنۡ أَهۡلِهِۦ وَحَكَمًا مِّنۡ أَهۡلِهَآ﴾ هذا المنهج لو طُبِّق لكان الطلاق قليلاً جداً، أنا أروي دائماً هذه القصة السريعة؛ أن إنساناً شكا زوجته إلى أخيها، قال له: طلِّقها، أريح لك، هذا الأخ أحمق، أنت بحاجة إلى رجل وجيه عنده خبرات، ديِّن، دقيق في جمع المعلومات، نزيه في إصدار الحكم، على صلة بها، مُطَّلع على أحوال الزوجين، وأنت بحاجة إلى رجل من طرف الزوج وقور، نزيه، دقيق، على اطلاع بأحوال الزوج، هذان الحكمان حُكمهما نافذ: ﴿فَٱبۡعَثُواْ حَكَمًا مِّنۡ أَهۡلِهِۦ وَحَكَمًا مِّنۡ أَهۡلِهَآ﴾ أنا الذي أراه أيها الإخوة أن هناك نظامَ التحكيم الخاص قديماً هكذا نسمع، في كل حي وجهاء، هؤلاء الوجهاء لهم هيبتهم، ولهم مكانتهم، وأمرهم نافذ بالحي، أيّ خلاف ينشب بين اثنين، خلاف اجتماعي، خلاف مالي، خلاف نفسي، هذا الوجيه حُكمه نافذ على الطرفين، ويتمتع بالنزاهة، يتمتع بالدقة، فمشكلات لا تعد ولا تحصى تُحَل بهذا الطريق، والآن حتى في التجارة أسلوب رائع، تحكيم تجاري، التحكيم في القانون أمره نافذ، المُحَكَّم تاجر أيضاً، والتاجر قريب من جو التجارة، وقد يكون الحَكم تاجراً في المصلحة نفسها، يعلم بواطِن الأمور، فحينما يرقى المؤمنون يحكِّمون وجهاءهم، هم بعيدون عن ما يجري في المحاكم من إطالة طويلة، فأعظم شيء بالحكم السرعة، قد تمتد القضية بالقضاء إلى عشرين سنة تقريباً، عشرون سنة من التعب النفسي، عشرون سنة من التوتر النفسي، بطريقة التحكيم المباشر قضية سريعة جداً.
الإنسان الموفق هو الذي يعطي كل ذي حقٍّ حقه وينجو من الخصومات والمحاكم:
لو أنه طبق في مجتمعاتنا حتى في الخصومات التجارية، والخصومات الصناعية، والخصومات الاجتماعية، والخصومات الأسرية، شيء رائع جداً، هناك أشخاص يتمتعون بمكانة وهَيمنة، وأمرهم نافذ، هم موضوعيون، هم دقيقون في تقصي الحقائق، هؤلاء تُحَلّ بهم مشكلات كثيرة، أما ما يجري في المحاكم بشكل تقليدي شيء لا يُحتمل، الطريق طويل، كم من قضية توارثَ معالجتها عشرون قاضياً، ينقل القاضي، يأتي الجديد ينبغي أن يستوعبها، شيء آخر، قاعدة عامة أنك إذا عرفت قيمة الحياة الدنيا، ورأس مالك في الحياة الدنيا صفاؤك فلا تدخل في مشكلة تنتهي بك إلى المحاكم، أنا لا أنسى أبداً قول سيدنا عمرو بن العاص، لما سأله سيدنا معاوية: يا عمرو ما بلغ من دهائك؟ قال: "والله يا أمير المؤمنين ما دخلت مُدخلاً إلا أحسنت الخروج منه" ، قال له: "لست بداهية، أما أنا والله ما دخلت مُدخلاً أحتاج أن أخرج منه" ، أنا لا أدخل أصلاً، من هو الإنسان المُوفّق في حياته؟ الذي يعطي كل ذي حقٍ حقه وينجو من قضايا الخصومات والمحاكم والقضاة، فقضايا الدخول في المحاكم قضية متلِفة للأعصاب، فحيثما استطعت ألا تدخل ينبغي ألا تدخل: ﴿فَٱبۡعَثُواْ حَكَمًا مِّنۡ أَهۡلِهِۦ وَحَكَمًا مِّنۡ أَهۡلِهَآ﴾ .
المعنى الأول للألف في كلمة (يريدا):
الآن التعليق الدقيق: ﴿إِن يُرِيدَآ إِصۡلَٰحًا﴾ بعضهم قال: الألف في (يريدا) هي ضمير متصل في محل رفع فاعل، يعني إن أرادا، من هما؟ علماء قالوا: الحكمان، وعلماء قالوا: الزوجان، إذا كان الزوج صادقاً يريد أن تسير المركبة وفق منهج الله، والزوجة أيضاً لا تحب أن تكون امرأة عاصيةً لله، لكن نشأ سوء تفاهم بينهما، إن أرادت الزوجة أن تكون زوجة كاملة، وإن أراد الزوج أن يكون زوجاً متقياً لله عز وجل: ﴿إِن يُرِيدَآ إِصۡلَٰحًا يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيۡنَهُمَآۗ﴾ ذلك أن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، أنت الذي تجد أن هذه الزوجة لا تنسجم، ولا تنصاع، تتأبّى الحق، لو أن الله سبحانه وتعالى أصلحَها لك لصلحت، والدليل قول الله عز وجل:
﴿ فَٱسْتَجَبْنَا لَهُۥ وَوَهَبْنَا لَهُۥ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُۥ زَوْجَهُۥٓ ۚ إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَٰرِعُونَ فِى ٱلْخَيْرَٰتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ وَكَانُواْ لَنَا خَٰشِعِينَ(90)﴾
هذا ما حدا ببعض العارفين بالله أن يقول: أعرف مقامي عند ربي من أخلاق زوجتي، إما أن تلين، وتخضع، وتُحسِن، وإما أن تتأبّى، وتستنكف، وتعصي، لو أن الزوج يعصي الله خارج البيت لوجد في الزوجة تأبِّياً واستنكافاً عن طاعته، لو كان متعمقاً في الأمر لعلم أن هذا عقاب له على تفلته من منهج الله، لذلك الكلمة التي قالها هذا الإمام العارف بالله: أعرف مقامي عند ربي من أخلاق زوجتي، كلمة صحيحة، إذا أراد الزوج أن يبني أسرته على طاعة الله، والزوجة أرادت أن تكون زوجة مؤمنة طائعة لله، فإن أراد الزوجان طاعة الله عز وجل الله يتولى الله بذاته تليين القلوب، وتأليف القلوب، وهذا شيء ثابت في الحياة الاجتماعية، شخص يكون معانداً فإذا به فجأةً يصبح لطيفاً مسايراً، ما الذي حصل؟ بدّله الله عز وجل.
الحكمة من أن الله سبحانه وتعالى جعل قلوب العباد بين إصبعيه يقلبها كيف يشاء:
لا بد من وقفة متأنية عند هذا المعنى، لماذا قلوب العباد بيد الله عز وجل؟ أو ما الحكمة من أن الله سبحانه وتعالى جعل قلوب العباد بين أصبعيه يقلبها كيف يشاء؟
1 ـ المعنى الأول أنك عندما تتخذ قراراً حكيماً يعينك على نفسك بشرح صدرك
هذه لصالحك ، لو أنك اتخذت قراراً حكيماً بطاعة الله، أو بالتوبة، أو بالإحسان إلى الخلق، أو بنشر الحق، هذا القرار الحكيم الله عز وجل يدعمك به، يملأ قلبك سعادةً، يملأ قلبك استبشاراً، يملأ قلبك تفاؤلاً، يملأ قلبك طمأنينةً، يملأ قلبك راحةً، لأن قلبك بين أصبعين من أصابعه، لما اتخذت قراراً حكيماً أعانك على نفسك بشرح صدرك، هذا المعنى مُستنبَط من قوله تعالى:
﴿ وَٱعْلَمُوٓاْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ ٱللَّهِ ۚ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍۢ مِّنَ ٱلْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلْإِيمَٰنَ وَزَيَّنَهُۥ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ وَٱلْفُسُوقَ وَٱلْعِصْيَانَ ۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلرَّٰشِدُونَ(7)﴾
والإنسان حينما يتخذ قراراً في معصية الله يشعر بالضيق، يصبح ردود فعله عنيفةً، سيئ الخلق، ينفر منه من حوله، يبغضه أقرب الناس إليه، يصبح في عزلة، وحينما جعل الله قلب الإنسان بين أصبعَيه كي يملأ القلب ضيقاً وسوداويةً حينما تعصي الله عز وجل، فكأن الله أعانك على طاعته، وأعانك على ألا تعصيه، هذا المعنى الأول.
2 ـالمعنى الثاني أن الإنسان حينما يوقن أن قلوب من حوله بيد الله لا يخاف منهم:
المعنى الثاني أن الإنسان حينما يوقن أن قلوب من حوله بيد الله لا يخاف منهم، وهذا شيء ثابت، شخص قوي، ومع قوته لئيم، ومع لؤمه قاسي، أحياناً يعامل مؤمناً بألطف معاملة دون أن يشعر، هذا المؤمن لا يستحق إلا كل لطف، لأن قلبه بيد الله، يقلّبه على طريقة يحسن معاملة المؤمن، الشخص نفسه قد يقع بين يديه إنسان ينكّل به أشد التنكيل، المخالفة نفسها، والإنسان واحد، فلماذا فعل هكذا مرةً، وهكذا مرةً؟ لأن قلبه بين أصبعين من أصابع الرحمن، وبالمناسبة أيضاً قلب الزوجة بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلّبه كيف يشاء، ويا أيتها الزوجة قلب زوجك بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء، أنتِ حينما تصطلحين مع الله عز وجل فلا بد أن تري أن معاملة زوجك تغيرت، وأنت حينما تصطلح مع الله فلا بد أن ترى أن معاملة زوجتك تحسنت، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿وَأَصْلَحْنَا لَهُۥ زَوْجَهُۥ ﴾ وهذا معنى قوله تعالى:
﴿ إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَٰلِحًا فَأُوْلَٰٓئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّـَٔاتِهِمْ حَسَنَٰتٍۢ ۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا(70)﴾
إذا تاب الإنسان إلى الله تُبدل سيئاته حسنات:
إذا تاب الإنسان إلى الله تُبدَّل سيئاته حسنات، بمعنى أنه كان عنيفاً فصار ليناً، كان بخيلاً فصار كريماً، كان جباناً فأصبح شجاعاً، كان قاسياً فأصبح رحيماً، وأنا استمعت إلى أخوات كثيرات على الهاتف أن زوجها بعد أن التزم، أي بعد أن تاب إلى الله، أي بعد أن اصطلح مع الله، أي بعد أن طلب مرضاة الله أصبح إنساناً آخر، فلذلك أية امرأة ترجو أن يكون زوجها صالحاً ينبغي أن تعينه على طاعة الله، ولا أبالغ أن في ذاكرتي عشرات، بل مئات من الإخوة الكرام كانت زوجاتهم سبب هدايتهم، بسبب أن هذه الزوجة أعانته على طاعة الله، فلما أطاع الله أكرمها، ولا أنسى الكلمة التي قالها لعله سيدنا الحسن، قال: "زوِّج ابنتك للمؤمن، إن أحبها أكرمها، وإن لم يحبها لم يظلمها" ، المؤمن مقيد، الإيمان قيَّده عن كثير من هوى نفسه، والكافر أنا لا أرى وصفاً أدق من هذا الوصف: دابة متفلِّتة، بلا قيد، ولا قاعدة، ولا خلُق، ولا ذوق، ولا عدل، ولا إنصاف أبداً.
أرأيت إلى الظلم، لذلك الذي أتمناه على الإخوة الكرام أن يدققوا في هذه الحقيقة، هانَ أمر الله على المسلمين فهانوا على الله، هل هناك أهون من إنسان مسلم يموت بلا ثمن! ثمنه رصاصة واحدة فقط، يقتلونه طفلاً، كبيراً، مذنباً، غير مذنب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(( أُعدُدْ ستًّا بين يدي الساعةِ: مَوتي؛ ثم فتحُ بيتِ المقدسِ، ثم مُوتانِ يأخذ فيكم كقُعاصِ الغنمِ، ثم استفاضةُ المالِ حتى يُعطَى الرجلُ مائةَ دينارٍ، فيظلُ ساخطًا، ثم فتنةٌ لا يبقى بيتٌ من العربِ إلا دخلَتْه، ثم هُدنةٌ تكون بينكم وبين بني الأصفرِ، فيغْدرون، فيأتونكم تحت ثمانينَ غايةً، تحت كلِّ غايةٍ اثنا عشرَ ألفًا. ))
(( والَّذي نَفسِي بيدِه، ليَأتِيَنَّ علَى النَّاسِ زمانٌ لا يَدرِي القاتِلُ في أيِّ شيءٍ قَتَلَ، ولا يدرِي المقتولُ في أيِّ شيءٍ قُتِل. ))
إذاً: هان أمر الله على الناس أو على المسلمين فهانوا على الله، وهنا تعليق لطيف، هل هم هيِّنون على الله؟ لا والله، لكن الله أراد أن يؤدبهم، يعني حينما يضرب الأب ابنه، هل ابنه هيِّنٌ عليه؟ لا والله، وبعض الآباء، والله فيما أعلم يضربون أبناءهم، ويتألمون أشد من الأبناء، لكن لا بد من هذا العلاج المر، الآن المسلمون يمرّون في معالجة شديدة جداً، فإن لم ننتبه، وإن لم نصحُ، وإن لم نتب، وإن لم نرجع إلى ديننا، وإن لم نرجع إلى قرآننا، وإن لم نرجع إلى سنة نبينا، فأمامنا امتحانات كثيرة.
المعنى الثاني للألف في كلمة (يريدا):
قال تعالى: ﴿وَإِنۡ خِفۡتُمۡ شِقَاقَ بَيۡنِهِمَا فَٱبۡعَثُواْ حَكَمًا مِّنۡ أَهۡلِهِۦ وَحَكَمًا مِّنۡ أَهۡلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصۡلَٰحًا﴾ المعنى الثاني: الألف في (يريدا) ضمير رفع متصل تعود على الحكَمين، فالحكم إن أراد الإصلاح يوفق، والله أيها الإخوة، والفضل لله عز وجل أن مئات الحالات من خِلاف مستعصٍ، من خلاف يوشك أن ينقلب إلى طلاقٍ، تدخّل الإخوة الكرام الطيبون بإخلاص شديد، فسارت المركبة بطريقة رائعة، والله عشرات بل مئات من الخلافات الزوجية التي كان من الممكن أن تنتهي إلى الطلاق بفضل إخوة كرام حكموا بين الزوجين بحكم الله عز وجل، وأرادوا إصلاح هذه الأسرة فوفق الله بينهما، قبل أيام التقيت بأخ كريم كان على خلاف شديد مع زوجته، وكان فيما يبدو للحُكام أنه لا بد من الطلاق، سألته وقد مضى على هذه الحالة عشر سنوات، قال لي: والله أنا أسعد زوج، أقسم بالله أنني أسعد زوج، هذا معنى: ﴿إِن يُرِيدَآ إِصۡلَٰحًا يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيۡنَهُمَآۗ﴾ أي لا تستخدم الطلاق كعلاج أولي، استخدم هذا الطلاق بحالات نادرة، أرأيتم إلى هذا الوعاء البخاري الذي يطبخ الناس به، لو دققت في غطائه لوجدت دائرة فيها قطعة بلاستيك، حينما ترتفع الحرارة إلى درجة أن هذا الوعاء قد ينفجر، ويقتل من حوله، هذه المادة البلاستكية تذوب، فإذا ذابت خرج البخار ووقَينا من حول هذا الوعاء الانفجار، أرأيت إلى هذا الصمام، يُسمَّى صمام الأمان، هذا هو الطلاق، حينما تغدو الحياة مستحيلةً، حينما قد تنتهي الحياة إلى جريمة عندئذٍ نُطلِّق، أما أول حل هو الطلاق! وأن هؤلاء الأزواج الحمقى لأتفه الأسباب يحلفون يمين طلاق، وإذا أحلّ لك شيخ يحرّمك عشرة، وهو في أشد الحاجة إليها، وعنده أولاد، والزوجة جيدة، لكن ساعة شيطان كما يقولون، ماذا يفعل بعد ذلك؟ الذي يفعله، وأنا أشدد على هذه الكلمة المزعجة يتسكّع على أبواب المشايخ، الذي أحل له أن تعود إليه يشكّ في وَرعه، والذي قال له: هي مُحرَّمة عليك ينقم عليه، أنت كنت في غنى أن تتسكع على أبواب المفتين، ما دامت هذه الزوجة بشكل إجمالي مقبولة ابتعد عن الطلاق، افعل ما تشاء عدا الطلاق، هي زوجتك، لكن تطلّق، وتطلّق، وتُطلق، وتقع في الشك، يقول: لعلي بالحرام أنا أعاشرها، حالة الشك لا تحتمل إطلاقاً أيها الإخوة، لا تعرف زنى أم زواج، هناك أيمان ثلاثة، كلها وقعت، واحد قال لك: أحدها لم تقع، شككت، لذلك قال ابن عباس: أيرتكب أحدكم أحموقته، ويقول: يا بن عباس، يا بن عباس!
الزواج نعمة كبيرة ينبغي على الزوجين تقديرها:
على كلٍ أيها الإخوة، الإنسان حينما لا يقدّر نعمة الزواج قد يحرمه الله من زوجته، والتي لا تقدّر نعمة الزوج قد يحرمها الله من زوجها، الزواج نعمة كبيرة، فينبغي للزوج أن يقدر أن الله قد حصّنه بهذه المرأة، ولبّى حاجته، وهي وديعة عنده، وهي هدية الله له، وينبغي أن تعتقد المرأة أيضاً أن الله حصّنها بهذا الزوج، هي في حلال، وهو نعمة كبيرة، رجل يدخل عليها، يحميها، ينفق عليها، يرعاها، لها منه أولاد، فأية امرأة تسيء العلاقة مع زوجها هي تكفر نعمة الزوج، وأي زوج يسيء العلاقة مع زوجته هو يكفر نعمة الزوجة، وقد يكون عقاب الله أليماً، قد يرتكب الإنسان حماقة يدفع ثمنها سنوات طويلة، فلذلك من أراد إنفاذ أمرٍ فليتدبّر عاقبته، فالآن إن أراد الزوجان إصلاحاً وفقهما الله عز وجل إلى ما فيه خير لهما، وإن أراد الحكمان الإصلاح وفق الله عملهما: ﴿إِن يُرِيدَآ إِصۡلَٰحًا يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيۡنَهُمَآۗ﴾ لكن العلماء اختلفوا، هل للحَكمان أن يطلِّقا؟ هل للحكمان أن يقترحا الطلاق أو المخالعة؟ الحقيقة هنا ملمح لطيف، متى أنتقل من العلاج الداخلي، وعظ، هجر، ضرب، هذا العلاج الداخلي على الترتيب، إلى العلاج الخارجي حَكم من أهله وحَكم من أهلها؟ متى أنتقل من هنا إلى هنا؟ قال بعض العلماء: حينما لا يُنصِف الزوج، ولا يسامح، ولا يصفح، ولا يطلّق، هذه حالة مُعلّقة، من أصعب الحالات، سميت حالة اللا سلم واللا حرب، نعيشها مع اليهود من خمسين سنة، بلا استقرار، أصعب حالة يعيشها المجتمع حالة لا هي سِلْم ولا هي حرب، في جهنم من أصعب الحالات:
﴿ ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ(13)﴾
لو مات استراح، لو أنه عاش حياة مريحة لاستراح، لكن: ﴿لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ﴾ الآن في الزواج لا يوجد صفْح، ولا وفاق، ولا ود، ولا طلاق، لا يطلق، ولا يصفح، ولا يعفو، ولا يكون زوجاً كاملاً، هي لو أنها طلبت الخُلع القضية انحلت، لا تطلب الخلع، ولا تكون زوجة جيدة، مشاكسة، ومقيمة معه بالبيت، فهذه الحالة المستعصية؛ نفور، مشاكسة، كيد، غيظ، عداوة، بغضاء، ملاسنة، تراشق تُهَم مستمر، هذه الحالة قد تنتهي إلى الطلاق ينبغي أن: ﴿فَٱبۡعَثُواْ حَكَمًا مِّنۡ أَهۡلِهِۦ وَحَكَمًا مِّنۡ أَهۡلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصۡلَٰحًا يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيۡنَهُمَآۗ﴾ .
الفرق بين الخلع والتفريق والطلاق:
طبعاً إن يريدا كما قال علماء التفسير: تعود على الزوجين أو على الحَكمين، أما: ﴿يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيۡنَهُمَآۗ﴾ فتعود على الزوجين حصراً، بعضهم قال: يجوز أن يتخذ الحكمان قراراً بالخُلْع، أن تطلب منه الخُلْع، أي هي متأذّية منه، لكن لا لذنب منه، لم تحبه، ما دامت لا تحبه هو لم يرتكب خطأ شرعياً معها، لكن لم تحبه، قد يتخذ الحكَمان قراراً بالخُلع، وقد يتخذ الحكمان قراراً بالطلاق، يشكو منها شكوى غير معقولة، والأمل ضعيف في الإصلاح، وقد يتخذ الحكمان قراراً بتحميل كلٍ من الزوجين مسؤولية يُقلِّل من حق الآخر.
نحن في القضاء عندنا مخالعة، وطلاق، وتفريق. المخالعة؛ بناء على طلب الزوجة، إن طلبت المخالعة فليس لها شيء، وعن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(( أنَّ امرأةَ ثابتِ بنِ قيسٍ أتتِ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، فقالَت: يا رسولَ اللَّهِ! ثابتُ بنُ قيسٍ، أما إنِّي ما أعيبُ عليهِ في خُلُقٍ ولا دينٍ، ولَكِنِّي أكْرَهُ الكُفرَ في الإسلامِ، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: أتردِّينَ عليهِ حديقتَهُ؟ قالَت: نعَم قالَ رسولُ اللَّهِ : اقبَلِ الحديقةَ وطلِّقها تَطليقةً. ))
الطلاق؛ بناء على طلب الزوج، هو أراد أن يبدل زوجته، إذاً يدفع لها كل حقوقها كاملةً، ولا يستردّ من هداياه شيئاً. التفريق؛ إذا كان ثمّة إساءة متبادلة تُقام دعوى تفريق، فيقدِّر القاضي حجم الإساءة من طرفها، وحجم هذه الإساءة من طرفه، قد يحكم لها بنصف المهر، أو بخُمس المهر، أو بعُشر المهر، أو بكل المهر. فالتفريق غير الخُلع وغير الطلاق، قال بعض العلماء: الحكَمان هنا من حقهما أن يُصدرا قراراً بالخُلع أو بالطلاق أو بالتفريق كما يفعل القاضي، وعلماء آخرون قالوا: لا، الآية لم تنص على الطلاق، على الإصلاح فقط: ﴿إِن يُرِيدَآ إِصۡلَٰحًا يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيۡنَهُمَآۗ﴾ أي لا يُقبَل من الحكام إلا التوفيق بين الزوجين، هذا اجتهاد آخر ﴿إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾ .
الملف مدقق