وضع داكن
26-12-2024
Logo
الدرس : 01 - سورة النساء - تفسير الأية 1 ، طاعة الله وصلة الرحم
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحَمدُ لِلَّه ربِّ العالمينَ، والصّلاة والسّلام على سيِّدنا محمد، الصّادقِ الوَعدِ الأمين، اللهُمَّ لا عِلمَ لنا إلا ما علّمْتَنا، إنّك أنت العليمُ الحكيمُ، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعُنا، وانفعْنَا بما علَّمْتَنا، وزِدْنا عِلْماً، وأرِنَا الحقَّ حقًّا وارْزقْنَا اتِّباعه، وأرِنَا الباطِلَ باطلاً وارزُقْنا اجتِنابَه، واجعَلْنا ممَّن يسْتَمِعونَ القَولَ فيَتَّبِعون أحسنَه، وأَدْخِلْنَا برَحمَتِك في عبادِك الصَّالِحين.

مخاطبة الله تعالى عامة الناس بأصول الدين و المؤمنين بفروع الدين:


 أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الأول من سورة النساء ومع الآية الكريمة:

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٍ وَٰحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَآءًۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبًا(1)﴾

[ سورة النساء ]

 الله جل جلاله يخاطب تارة عامة الناس، ويخاطب تارة أخرى المؤمنين، وفي الأصل أن الله يخاطب عامة الناس بأصول الدين:

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(21)﴾

[ سورة البقرة ]

﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ﴾ ويخاطب المؤمنين بفروع الدين:

﴿ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(56)﴾

[ سورة النور ]


إن آمن الإنسان بالله يهديه ويرفعه إلى مرتبة عالية:


 هناك آيات كثيرة تأتي التفاصيل مع 

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَوٰةِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ(153)﴾

[ سورة البقرة ]

 والمعنى أنه يا مَن آمنت بالله، يا مَن آمنت به خالقاً، آمنت به رباً، آمنت به مُسيِّراً، يا من آمنت به موجوداً، واحداً، كاملاً، يا من آمنت بأسمائه الحسنى، بصفاته الفضلى، يا من آمنت بقدرته بأنه المُطلَق في كل شيء، يقتضي إيمانك به أن تطيعه، إذاً افعل كذا وكذا، أما حينما يُخاطَب عامة الناس يخاطَبون بأصول الدين، جِبِلَّة الإنسان أي فطرته وعقله يقتضيان أن لهذا الكون خالقاً، وهؤلاء الناس جميعاً عبيده، وأن الإنسان إذا تطاول على عبد فأخذ ماله، أو انتهب رزقه، أو قهره، أو ظلمه، فإنّ الذي خلق هذا الكون سيقتص منه، أنت لست وحدك في الحياة، أنت لست مُطلقاً، أنت مُقيّد: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ﴾ أي أنت في بلد، ولنضرب على هذا مثلاً قريباً، يوجد بلد فيه جيش وشرطة، وأجهزة أمن، وقوانين، وأنظمة، ليس من السهل أن تتحرك كما تريد من دون ضوابط، يوجد سجن، وقتل إذا ارتكبت جريمة، وغرامة مالية إن ارتكبت مخالفة مدنية، مجتمع فيه نظام، فيه قوة، فيه سلطة، فيه محاكم، فيه حقوق، فيه واجبات، فإنسان يتحرك بلا ضابط، بلا نظام، بلا قيم، بلا مبدأ، لا يبالي، سيدفع الثمن باهظاً، لذلك إن آمن الإنسان بالله، قال الله عز وجل:

﴿ أُوْلَٰٓئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ(5)﴾

[  سورة البقرة ]

 الهدى رفعهم، رفعهم إلى مرتبة عالية، رفعهم وسما بهم عن الظلم، رفعهم وسما بهم عن أن يأخذوا ما ليس لهم، رفعهم وسما بهم عن السفاسف والأشياء الوضيعة، رفعهم وسما بهم إلى مكانة عليّة، حيث الحرية، والكرامة، حيث السعادة: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ﴾ .

في الهدى رفعة وفي الضلال قيد وغمّ وهمّ :


 أما الذين كفروا فــ:

﴿ أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُۥ لِلْإِسْلَٰمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍۢ مِّن رَّبِّهِۦ ۚ فَوَيْلٌ لِّلْقَٰسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ ٱللَّهِ ۚ أُوْلَٰٓئِكَ فِى ضَلَٰلٍۢ مُّبِينٍ (22)﴾

[  سورة الزمر ]

 معنى (في) : ضمن قيد، ضمن كآبة، ضمن سجن، ففي الهدى رفعة، وفي الضلال قيد، أو غم، أو هم، أو كآبة، أو سجن، أو انتحار، دُور القمار ماذا تُخرِّج؟ منتحرين أحياناً!! النازل في هذه الدار قد ينتهي به إلى الانتحار: 

تُشادُ له المنازلُ شاهقاتٍ   وفي تشييدِ ساحتها الدمارُ

نصيبُ النازلين بها سُهادٌ   وإفـلاسٌ فيـأسٌ فانتحـــارُ

[ نجيب الحداد ]

 أنت حينما تضل سواء السبيل فقد دخلت في قوقعة، دخلت في قهر، دخلت في عقاب، في كآبة، ولو نجوت من عقاب الدنيا دخلت في عقاب النفس، الكآبة عقاب، الشعور بالذنب عقاب، الشعور بالدناءة عقاب، قد تكون عند الناس عظيماً، لكنك أمام نفسك مُحتقَر، هذا يسمى في علم النفس الانهيار الداخلي، لو عظّمك الناس، لو أثنوا عليك، لو رفعوك، لو بجّلوك، لو عظّموك، إن لم تكن أنت على حق تشعر أمام نفسك أنك دنيء، إذاً الهدى يرفعك: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ﴾ .
 أما الكافرون فــ: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ فِى ضَلَٰلٍۢ مُّبِينٍ﴾ (في) ، دخل في قوقعة، دخل في حبس، دخل في قهر، دخل في قلق، دخل في حزن، دخل في ندم، دخل في كآبة، دخل في سجن، دخل في قبر بالنهاية، فشتان بين أن ترتفع بالهدى وأن تسقط بالضلال. 

من الغباء أن تعتقد أن هذا الكون المعجز بلا حساب:


 مثل بسيط، مجتمع متواضع فيه قوانين، وأنظمة، وفيه شرطة، وفيه جيش، فيه محاكم، فيه قضاء، فيه قوانين، فيه واجبات، ومسؤولية، ومحاسبة، وتحقيق، فإنسان متفلِّت عاقبة أمرِه إلى السجن، العصابات تتفلّت، تسرق، تقتل، تنهب، يصورونهم أذلاء في الجريدة، ثم إلى السجن، وإن ارتكبوا جريمة إلى الإعدام. الآن كبِّر الأمر، كون معجز بلا حساب!

﴿  أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ(2)﴾

[  سورة العنكبوت ]

 هكذا تأكل مال أخيك ظلماً، وتستهزئ به، وتنجو من عقاب الله؟ تعتدي على عِرضه دون أن يدري، وتنجو من عقاب الله؟ تكذب عليه، وهو يصدقك، كفى بها خيانة أن تحدث أخاك حديثاً هو لك به صادق وأنت له به كاذب، وتنجو؟ تظلم امرأتك وتنجو؟ تحتال على شريكك وتنجو؟ تحتال على من حولك وتنجو؟ تبيع السلعة للمضطر بأضعاف مضاعفة وتنجو من عقاب الله؟ تنجو من مصادرة، من ضبط، من تلف بضاعة، من سجن أحياناً؟ من السذاجة والغباء والحُمق أن تظن أنك إن فعلت ما تشاء لن تُحاسَب كما يشاء، هذه المعاني من قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ﴾ قبل أن تعصي، قبل أن ترتكب الحرام، قبل أن تأخذ ما ليس لك، قبل أن تُدلي بتصريح كاذب، أو أن تحتال على إنسان ضعيف، قبل أن تستغل ثقة الناس فيك، هناك مِهَن راقية جداً، لو فرضنا أنك تعمل في القضاء، والموكِّل واثق فيك، تقول له: سوف أربح لك الدعوى، فإن كنت موقناً يقيناً قطعياً أن القوانين ليست معك، مع موكلك، بل هي مع خصمك، وأن هذه الدعوى خاسرة سلفاً، لكنك أردت أن تبتزّ ماله إلى حين، هل تنجو من عقاب الله؟ هذا في مستوى المحاماة، والطب، والهندسة، والتعليم، لو أوهمت أباً أن ابنه ضعيف، ويحتاج إلى دروس خاصة، وكسَّرت له في العلامات، كي يُضطَّر إلى أن يأخذ درساً خصوصياً، هل تنجو من عقاب الله؟ قد يغش الإنسان في البيع والشراء، قد يقدم مواصفات عالية جداً لا يكشفها المشتري المحدود، هل تنجو من عقاب الله؟ قد تشتهي امرأة غيرك، وتملأ عينيك من محاسنها، وتظن أنك مستريح بهذا، وأنك تحدثها، هل تنجو من عقاب الله؟ 

أدقُّ الخواطر يعلمها الله:


 قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ﴾ ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾ أي إذا خدعت المؤمنين فصليت معهم، خدعت المؤمنين فتحدثت بما يتحدثون، إذا خدعت المؤمنين فأظهرت الورَع وأنت لست كذلك، فهل تنجو من عقاب الله؟ هل تنجو من فضيحة يفضحك الله بها؟
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ﴾ اتّقِ هذا الإله العظيم، الذي يعلم السر وأخفى، يعلم ما خفي عنك، لا تخفى عليه خافية، أضرب مثلاً بسيطاً، جاءت صديقة زوجتك، والوقت شتاء، وغرفة الضيوف باردة، وغرفة الجلوس دافئة، لو قلت لزوجتك: ائتِي بصديقتك إلى هذه الغرفة، لأنها أكثر دفئاً من تلك الغرفة، وأنت لا تريد هذا المعنى، بل تريد شيئاً آخر، الذي خلقك ألا يعلم ذلك؟ تريد أن تنظر إليها، وأن تراها، وأن تحدثها مثلاً، فأدَقُّ الخواطر يعلمها الله.

﴿ يَعْلَمُ خَآئِنَةَ ٱلْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِى ٱلصُّدُورُ(19)﴾

[  سورة غافر ]

 أنت كطبيب متاحٌ لك أن ترى جسم المرأة، لكن لو أنها تشتكي من مكان ونظرت إلى مكان آخر لا تشتكي منه، لا يعلم هذا إلا الله، من الذي سيحاسبك؟ الله جل جلاله ﴿يَعْلَمُ خَآئِنَةَ ٱلْأَعْيُنِ﴾ .

الإيمان باليوم الآخر إيمان عقلي:


 هذا الكون العظيم لا يعقل أن ينتهي هكذا، يوجد ظُلّام ومظلومين، ويوجد أقوياء ويوجد ضعفاء، وأناس قهروا وأناس مقهورون، هكذا تنتهي الحياة ببساطة؟ لذلك أحد كبار العلماء يرى أن الإيمان باليوم الآخر إيمان عقلي، أي أن العقل لا يقبل أن يكون في الأرض قوي وضعيف، فشعوب في الأرض تُقصَف فتموت عن آخرها، والذين أمروا بقصف هذه الشعوب وقتلها وتدميرها، وهدم مساكنها ومساجدها ومستشفياتها، وتقتيل أبنائها، وإذلالهم، كي يتغطرسوا، هل ينجون من عقاب الله؟ هذا يتناقض مع وجود الله.

﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)﴾

[ سورة الحجر ]

﴿  وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ(42)﴾

[  سورة إبراهيم ]

﴿ لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ(1196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ(197)﴾

[  سورة آل عمران ]

﴿  فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ(47)﴾

[  سورة إبراهيم ]


علينا أن نتقي الله في حركاتنا وسكناتنا لأنه رقيب علينا:


 ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ﴾ قبل أن تظلم، قبل أن تكذب، قبل أن تحتال، قبل أن تسيطر، قبل أن تُرغِم أنف الآخرين، قبل أن تُذِلَّهم، قبل أن تستعلي عليهم، قبل أن تقول كلاماً فوق طاقتك، اتق الله.
 سيدنا عمر بن عبد العزيز رحمه الله عيّن رجلاً عالماً ليكون معه دائماً، اسمه عمر، قال له: يا عمر كن معي، إن رأيتني ضللت فأمسكني من تَلابيبي، وهزَّني هزاً شديداً، وقل لي: اتق الله يا عمر، فإنك ستموت.
قد تكون قوياً، والطرف الآخر ضعيف، قد تأتيك امرأة لا تعرف ما تقول، فتستغل جهلها، وتبيعها سلعة بعشرة أضعاف ثمنها، قد يأتيك طفل صغير، ليشتري لحماً من عندك، قد تبيعه لحماً سيئاً جداً، الطفل لا يدري ولا يفقه، ولا يستطيع أن يقول كلمة، فهل تنجو من عقاب الله؟ أبداً.
 أيها الإخوة، أردت من هذه الآية أن يعلم الإخوة الكرام أن الله كان عليكم رقيباً، كما في آخر الآية: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبًا﴾ إذا كنت تحت رقابة الله كيف الأمر؟ تحت رقابة خالق الأكوان، تحت رقابة مبدع الإنسان.
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم﴾ ألا يعلم من خلق؟ ﴿يَعْلَمُ خَآئِنَةَ ٱلْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِى ٱلصُّدُورُ﴾ علم ما كان، وعلم ما يكون، وعلم ما سيكون، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون، يعلم ما خفي عنك، الذي يعلمه عنك لا تعلمه أنت. 

الله تعالى خلق البشر من طبيعة واحدة و خصائص واحدة ولدعوة واحدة:


 قال تعالى: ﴿ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٍ وَٰحِدَةٍ﴾ يوجد عدل، من طبيعة واحدة، من خصائص واحدة، لدعوة واحدة، المؤمنون مدعوُّون إلى الله، والكفار مدعوون إلى الله.

﴿ وَلَوْلَآ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَٰحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِٱلرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍۢ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ(33)﴾

[ سورة الزخرف ]

 لو أن الله سبحانه وتعالى خلق أناساً للجنة، وأناساً للنار لمَا عذّب الكفار، بل إن الكفار مدعوُّون إلى الله عز وجل:

﴿  اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى(43) فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى(44)﴾

[ سورة طه ]


علينا أن نطيع الله وحده لأنه الخبير بأسباب سعادتنا وأسباب شقائنا:


 لماذا ينبغي أن نتقي الله؟ لأنه خالقنا، وأعلم بسعادتنا، قد تسأل إنساناً: ماذا أفعل؟ يشير عليك ما هو صانعٌ لنفسه، فإن كان إنساناً غارقاً باللذات الحسية يقول لك: افعل ما أفعل، هو ليس خالقك حتى يعلم حقيقة سعادتك، يعطيك تجربته الشخصية، إن سألت غنياً: كيف أكون غنياً؟ قد يعطيك تجربته الشخصية، أما إذا سألت الله عز وجل أن يهديك إلى سواء السبيل، الله خالق الكون، هو الخبير، هو وحده يعلم ما يسعدك، لذلك لماذا ينبغي أن نطيع الله؟ لأنه خالقنا، ولأنه الخبير بأسباب سعادتنا، ولأنه الخبير بأسباب شقائنا.

﴿ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ٱسْتَجَابُواْ لَكُمْ ۖ وَيَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ۚ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍۢ (19)﴾

[  سورة فاطر ]

 أي أنك من الممكن أن تقتني جهازاً غالياً جداً، معقداً جداً، له نفع كبير، ولك جار طيب سموح، لكنه غير متعلم، هل تدفع له هذا الجهاز المعقد لإصلاحه؟ مع أنك تحبه، الحب شيء، والخبرة شيء آخر، لا تدفع بهذا الجهاز إلا للوكيل، للخبير، والله تعالى هو الخبير.
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٍ وَٰحِدَةٍ﴾ أي أن البشر متساوون، أينما ذهبت فالإنسان هو الإنسان، الفطرة هي الفطرة، الصِّبغة هي الصِّبغة، الخصائص هي الخصائص، القوانين التي تحكم النفس هي نفسها، أينما ذهبت، لو ذهبت إلى أطراف الدنيا، الإنسان يحب الإحسان، يحب العطاء، يحب النوال، يحب الكمال، يحب الجمال، يحب التفوق، يحب الراحة، يحب أن يكون أخلاقياً، لأن هذه فطرته، فلذلك الإنسان مخلوق من طبيعة واحدة، يوجد تفاوت بالقدرات، لكن لا يوجد تفاوت بالخصائص، الخصائص واحدة، أما القدرات متباينة، يوجد إنسان ذاكرته أقوى، ويوجد إنسان طليق اللسان أكثر، يوجد إنسان عنده قوة إقناع، ويوجد إنسان عنده قوة أن يظهر بحجم أكبر من حجمه، القدرات متفاوتة، قال الله سبحانه:

﴿ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ جَاعِلِ ٱلْمَلَٰٓئِكَةِ رُسُلًا أُوْلِىٓ أَجْنِحَةٍۢ مَّثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ ۚ يَزِيدُ فِى ٱلْخَلْقِ مَا يَشَآءُ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ(1)﴾

[ سورة فاطر ]


التفاوت عند الناس بالقدرات لا بالخصائص:


 يوجد إنسان لديه مقياس الذكاء يزيد عن مئة وأربعين، يقاس الذكاء كالتالي: الوسط مئة، العباقرة مئة وأربعون، الأغبياء ثمانون، فالقدرات متفاوتة لحكمة يريدها الله ولصالح الإنسان، أما الخصائص فواحدة، مثلاً أحسِنْ لأيّ إنسان في أي مكان من العالم يحبّك، أسِئْ له يُبغضك، أي إنسان يرتاح إن كان متفوقاً، ويتضايق إن كان متخلفاً، فمعنى قوله تعالى: ﴿ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٍ وَٰحِدَةٍ﴾ نفوس المؤمنين واحدة، الكفر واحد، ملة الكفر واحدة، يوجد كفر مع وثنية، كفار الرومان ككفار اليونان، ككفار الإغريق، ككفار الشرقيين، الكفر ملته واحدة، كبر وقسوة، ظلم وعدوان، ودناءة وعبادة الشهوات، تتغير الأسماء فقط، تتغير الأساليب، أما الكفر هو كفر، والإيمان إيمان، أينما ذهبت المؤمن مؤمن، فالإنسان له خصيصة واحدة، فأنا أرى بناءً على ما في القرآن الكريم أن الناس على اختلاف اتجاهاتهم، ونزعاتهم، وانتماءاتهم، وأجناسهم، ومِلَلهم، ومذاهبهم، ونِحَلهم، هم رجلان: رجل عرف الله، وانضبط بمنهجه، أحسن إلى خلقه فسعِد في الدنيا والآخرة، ورجل غفل عن الله، وتفلّت من منهجه، أساء إلى خلقه فشقي في الدنيا والآخرة.

المرأة مساوية للرجل من حيث التشريف و التكليف:


 ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٍ وَٰحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا﴾ هذه الزوجة مِن نِعَم الله أنها إنسان، أنت إنسان، وهي من جنسِك، أنت إنسان لك فكر وهي إنسان لها فكر، أنت إنسان تحب الحقيقة وهي إنسان تحب الحقيقة، أنت إنسان تسعى إلى الراحة النفسية، وهي كذلك، والله تعالى قال:

﴿ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّى وَضَعْتُهَآ أُنثَىٰ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلْأُنثَىٰ ۖ وَإِنِّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّىٓ أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ ٱلرَّجِيمِ(36)﴾

[  سورة آل عمران ]

 الخصائص الجسمية مختلفة، والعقلية مختلفة، من دون تفضيل لكن مختلفة، والجسمية مختلفة، والاجتماعية مختلفة، والنفسية مختلفة، ومع ذلك المرأة والرجل متساويان من حيث التكليف والتشريف والمسؤولية، شيء رائع، متساويان في الشرف، الإنسان إن ترك عملاً عظيماً في الحياة، هذه المرأة التي معه، والتي تخدمه، والتي تصبر عليه، والتي تهيِّئ له الجو المناسب للتأليف مثلاً، للإنجاز، والتي ترضى أن يغيب عنها طويلاً ليقوم بأعمال جليلة، هذه سند من الداخل، النبي ما نسي أن السيدة خديجة مع أنها ماتت هذا الفتح المبين لها منه نصيب، فالمرأة مساوية للرجل من حيث التشريف، ومن حيث التكليف؛ كلّفها بالصلاة والصيام والحج والزكاة، وكلّفها بأركان الإسلام، بأن تنطق الشهادتين، وأن تصلي وتصوم، وأن تحج، وكلفها بأركان الإيمان، أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره من الله تعالى، وجعلها مسؤولة عن أولادها وزوجها:

(( انصرِفي أيَّتُها المرأةُ وأعلِمي من وراءكِ من النِّساءِ أن حُسنَ تَبعُّلِ إحداكنَّ لزوجِها وطلبها مَرضاتَهُ واتِّباعَها موافقتهُ يعدِلُ ذلِكَ كلَّهِ. ))

[ الألباني بسند ضعيف  ]

 إذاً: ﴿وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا﴾ مرة كنت في مؤتمر فقام أحد المؤتمرين، وألقى كلمة عن هذه الآية، والله أعجبتني الفكرة، لأنها طريفة، قال: ليشكر الإنسانُ اللهَ، لأنه يستيقظ فيجد زوجته بقربه، وزوجته إنسان، وليست بضبع مثلاً، هكذا قال: إنسان! لو كانت من جنس آخر فهذا شيء مخيف، إنسان تكلمها وتكلمك، تلاطفها وتلاطفك، تبتسم لها فتبتسم لك.

الزواج من آيات الله الدالة على عظمته:


﴿وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا﴾ هي إنسان، ولكن من طبيعة ثانية، أنت وإياها تتكاملان، هي تسكن إلى قوتك، وأنت تسكن إلى عاطفتها المتأججة، هي تسكن لك لأنك تحميها، وأنت تسكن لها، لأنها تلبي لك حاجات أنت بحاجة إليها.
﴿وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا﴾ الزواج من آيات الله الدالة على عظمته، لأن الله إذا قال:

﴿ وَمِنْ ءَايَٰتِهِ ٱلَّيْلُ وَٱلنَّهَارُ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ ۚ لَا تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَٱسْجُدُواْ لِلَّهِ ٱلَّذِى خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ(37)﴾

[  سورة فصلت ]

﴿ وَمِنْ ءَايَٰتِهِۦ خَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَٱخْتِلَٰفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَٰنِكُمْ ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَآيَٰتٍۢ لِّلْعَٰلِمِينَ(29)﴾

[  سورة الشورى ]

﴿ وَمِنْ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُوٓاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَآيَٰتٍۢ لِّقَوْمٍۢ يَتَفَكَّرُونَ(21)﴾

[  سورة الروم ]


نظام الأمومة والأبوة بحدّ ذاته دال على رحمة الله:


  إذاً: ﴿ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٍ وَٰحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا﴾ يوجد معنى دقيق أرجو أن يكون واضحاً لديكم، كيف يعرفنا الله عز وجل بذاته العلية؟ كيف يعرِّفنا برحمته؟ من قلب الأم تعرف رحمة الله، تجد امرأةً كل حياتها من أجل أولادها، يسعدها أن يأكلوا، وأن يشربوا، وأن يتفوقوا، وأن يناموا، وأن يسلَموا، كل سعادتها بسلامة أولادها، إذاً تمنحهم كل شيء دون أن تأخذ منهم شيئاً، فإذا كان قلب الأم هكذا فكيف الله عز وجل؟ والنبي استغل هذا المعنى حينما سأل أصحابه مرة،

(( فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْيٌ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ قَدْ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِي إِذَا وَجَدَتْ صَبِيّاً فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟ قُلْنَا: لَا وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ، فَقَالَ: لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا. ))

[ البخاري عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ ]

 يمكنك أن تعرف رحمة الله من رحمة الأم، يمكنك أن تعرف رحمة الله من رحمة الأب، فنظام الأبوة والأمومة بحد ذاته دال على رحمة الله، لذلك قال تعالى:

﴿  لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ(1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ(2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ(3)﴾

[ سورة البلد ]

 الأب لا همَّ له إلا أولاده، مستعد أن يقدم كل شيء من أجلهم، الأب الطبيعي طبعاً، لكن يوجد آباء نادرون، وحوش، مستعد أن يقدم كل شيء من أجل أولاده، هذه هي الأبوة، لذلك حينما قال الله عز وجل: ﴿ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٍ وَٰحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَآءًۚ﴾ كل إنسان عمره أكثر من ستين، إن أحصيت ذريته، وجدتها أكثر من الخمسين، عنده ست بنات متزوجات، وكل واحدة منهن عندها أربعة أو خمسة أولاد، مع الأصهار، وأولاده الذكور، وأولاد الذكور، وأولاد الإناث تجدهم أكثر من خمسين، وهو حي يرزق، ومن أجل أن يجمعهم كلهم يريد مكاناً كبيراً. 

الحكمة من جعل نسبة الرجال أكبر من نسبة النساء:


 قال تعالى: ﴿وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَآءًۚ﴾ لكن يوجد في القرآن إشارات علمية، الشيء المُحيّر أن نِسَب النساء إلى الرجال نسِب دقيقة جداً، دائماً تجد بالمئة خمسة زيادة رجال، لأن الرجل معرض للحوادث والحروب أكثر من النساء، فلو فرضنا أن حرباً جرت بين بلدين، ومات مليون شهيد، لو أحصيت نِسَب الولادات شيء لا يُصدق، أكثرها ذكور، إلى أن ترجع النسبة، مئة وخمسة إلى خمسة وتسعين، هكذا هو التصميم الإلهي، فالرجال أكثر، لأنهم معرضون للأخطار أكثر.
﴿وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَآءًۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبًا﴾ هذه الآية أيها الإخوة من أدق الآيات، لولا أنّ الله أودعَ في قلب الأب والأم محبة هذا الطفل فهل يستطيع الطفل أن يسأل أباه شيئاً؟ طفل في الطريق هل يجرؤ أن يسأل رجلاً: يا عم أعطني ألف ليرة؟ هذا مستحيل، أما من أبيه فيطلب وبإلحاح، وأحياناً يرفع صوته، لأنه موقن أن هناك رحمة، من أودع هذه الرحمة؟
 ثمة قصة رمزية، هكذا ترويها الكتب، لها دلالة كبيرة، سيدنا موسى يمشي في الطريق، رأى أمّاً تخبز على التنور، كلما وضعت رغيفاً قبَّلتْ ابنها، قال: يا رب ما هذه الرحمة؟ قال: يا موسى هذه رحمتي أودعتها في قلب أمه، وسأنزعها! فلما بكى ألقته في التنور! هل هنالك من أم في الأرض إذا بكى ابنها ألقته في التنور؟ بل تقبِّله، وتضمه، وتخشى عليه من الهواء، لذلك اتقِ هذا الإله العظيم الذي يحبك، وعلامة حبه لك أنه أودع محبتك في قلب أمك وأبيك. 
لك أن تسأل إنساناً لوجه الله لكن دون أن تشركه بالله عز وجل :
 والله أيها الأخوة، ما محبة الأب والأم إلا من محبة الله، والذي يؤكد هذا المعنى قوله تعالى:

﴿ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ ۚ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي (39)﴾

[  سورة طه ]

 أي لو كان لديك أب وأم، وتدللت عليهم، وطلبت منهم، وألححت، وغبت عن المنزل حتى يعطوك حصة، وطالبتهم بقسوة لثقتك أنهم يحبونك، فمن هذا الذي أودع حبك في قلوبهم؟
﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ﴾ لولا أن أودع في قلب الأب والأم رحمة لمَا سألتَ أباك وأمك شيئاً، تلاحظ الابن يطلب من أبيه، وقد يطلب من أمه بإلحاح، لأنه واثق أنه سيُجاب، لأن الله أودع في قلب الأم والأب محبة هذا الطفل، هذا معنى.
لكن هناك معنى آخر، لك أن تسأل الناس لوجه الله، تقول لشخص: أسألك بالله أن تعطيني، ويوجد أحاديث متنوعة، الجواب الدقيق هو أنك إن سألت إنساناً، وظننت أنه مستقِل في إرادته عن الله، وأن علاقتك معه مباشرة فهذا شرك، أما إن سألت الله، واتبعت الوسيلة، بأن سألت مَن يحل هذه المشكلة، وأنت واثق من الله، تسأله أنت دون أن تُشركه بالله عز وجل قال: هذا ينبغي، إذاً لك أن تسأل بالله عز وجل مع التوحيد، أما إذا سألت غير الله، ولو سألته بالله مع الشرك فأنت آثم، ولو قلت له: أسألك بالله أن تعطيني، وظنُّك أنه يعطيك، وأنه قوي، وتركن إلى قوته، وإلى غناه، هذا نوع من الشرك. 

للأرحام قراءتان:


 قال تعالى: ﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ﴾ الأرحام لها قراءتان: ﴿وَالْأَرْحَامَ﴾

1 ـ القراءة الأولى أي اتقوا الله أن تعصوه واتقوا الأرحام أن تقطعوها:

 أي واتقوا الله أن تعصوه، واتقوا الأرحام أن تقطعوها، والشيء الدقيق أيها الإخوة أن الله جل جلاله جعل ما يُسمَّى بالضمان الاجتماعي على أساس أسري، فأنت مُكلَّف بزوجتك وأولادك، وأمك وأبيك، ويوجد عندنا نظام النفقة في الإسلام نظام دقيق جداً، أي لا بد من إنسان مُكلَّف بالإنفاق على إنسان، إن وجد الأب أو الأم، الأب والأم، والزوج زوج، والابن ابن، والبنت بنت، أحياناً يكون العم، أحياناً يكون الخال، فالله جعل الضمان الاجتماعي أساسه الأسرة، لذلك: واتقوا الله أن تعصوه، واتقوا الأرحام أن تقطعوها، لذلك

(( عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ ))

[ مسلم عَنِ الزُّهْرِيِّ ]

 وهناك في الأحاديث الشريفة ما يزيد على ثلاثين حديثاً صحيحاً كلها تعِد قاطع الرحم بالنار، بل إن الرحِم مشتقة من اسم الله الرحمن.
﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ﴾ أن تعصوه، واتقوا ﴿الْأَرْحَامَ﴾ أن تقطعوها، والذي يصل رحمه يزيد الله في عمره، بمعنى من معاني الزيادة، أي يجعل عمره غنياً بالأعمال الصالحة.
 أيها الإخوة، صلة الرحم تعني أن تزور أرحامك، والتعريف الدقيق للأرحام: مطلق أقربائك، من دون تدقيق، أن تزورهم، وأن تتفقدهم، وأن تعينهم، وأن تأخذ بيدهم إلى الله، لأن الله عز وجل قال:

﴿  وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ(213)﴾

[  سورة الشعراء ]

 إذاً أنت مُكلَّف أن تزورهم، وأن تتفقد أحوالهم، وأن تُمِد لهم يد العون، وأن تأخذ بيدهم إلى الله، فاتقوا الأرحام أن تقطعوها. 

2 ـ القراءة الثانية لك أن تسأل بالله وبالأرحام:

 وهناك قراءة ثانية: ﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ﴾ والأرحامِ: بالكسرة، لك أن تسأل بالله، ولك أن تسأل بحكم قرابتك من فلان، نحن أخوان من أم واحدة، أي لك أن تسأل بالله وبالأرحام، هذه قراءة، ولك أن تتقي الله أن تعصيه، والأرحام أن تقطعها.

أحاديث شريفة تؤكد أن صلة الرحم واجبة في الإسلام وجوباً عينياً:


 ﴿إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبًا﴾ أيها الإخوة، روى الشيخان البخاري ومسلم عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَقُولُ مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ.  ))

[ مسلم عَنْ عَائِشَةَ ]

 قد تجد إنساناً فقيراً له أقرباء أغنياء، ولفقره يقطعونه، تجده متألماً أشد الألم، لو أن هؤلاء الأقرباء الأغنياء أو الأقوياء أطلّوا عليه من حين إلى آخر لملؤوا قلبه سعادة، والله حدثني أخ قال لي: لي أرحام لا أعرفهم أبداً، فأخذت بسنة النبي أن أزورهم، وزرتهم في العيد، وعرّفتهم على نفسي، هم لا يعرفونه إطلاقاً، فهؤلاء مِن أهل الغنى ردّوا له الزيارة، وأقسم بالله العظيم أنه ما قصد من زيارتهم إلا تطبيق السنة، هؤلاء محسنون، رأوا بيتاً مظلماً تحت الأرض لا يصلح للسكن، قالوا له: اذهب وابحث عن بيت، له مواصفات جيدة، بعد حين وجد بيتاً بمبلغ يقارب المليونين والنصف مليون، وأعطوه الثمن، ونقلوه من هذا البيت الذي هو كالقبر تماماً إلى بيت، قال لي: والله ما قصدت إلا أن أطبق سنة النبي، أنت موكل بأقربائك بالدرجة الأولى، بمعونتهم وهدايتهم ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ (الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَقُولُ مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ)

((  وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: إِنَّ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ. ))

[ البخاري عن جبير بْنِ مُطْعِمٍ  ]

 أي قاطع رحم. وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((  لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ وَلَكِنِ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا ))

[ البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ]

 في حديث رابع عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(( وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ. ))

[ البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ ]

 كل هذه الأحاديث تؤكد أن صلة الرحم واجبة في الإسلام وجوباً عينياً. لذلك: ﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ﴾ أن تقطعوها. 

الإنسان تحت علم الله وسمعه وبصره في كل حركاته وسكناته:


 قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبًا﴾ والله الذي لا إله إلا هو لو لم يكن في كتاب الله إلا هذه الآية لكفتْنا ﴿إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبًا﴾ لاحِظ لو أحسست أنك مراقب، ماذا تفعل؟ تحاسب نفسك على الكلمة، لو أنك مُراقب عبر الهاتف لا تقول كلمة لها معنيان، تحتاط، لا تقول روشيش بل تقول: رشاش ماء، لأن الأولى تُفهَم بمعنى آخر، إذا كنت مراقباً تضبط كلامك وحركاتك وسكناتك، وتضبط سيرك، لا تمشي على رصيف فيه سفارة، تخاف، إذا كنت مراقباً من إنسان فكيف من الواحد الديان؟
﴿إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبًا﴾ تحت عِلم الله وسمعه وبصره، اعملوا ما شئتم، هذه الآية منهج: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٍ وَٰحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَآءًۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبًا﴾ وفي درس آخر إن شاء الله نتابع الحديث عن آية ثانية.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور