- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (004)سورة النساء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
مخاطبة الله تعالى عامة الناس بأصول الدين و المؤمنين بفروع الدين :
أيها الأخوة المؤمنون.. مع الدرس الأول من سورة النساء ومع الآية الكريمة:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾
الله جل جلاله يخاطب تارة عامة الناس، ويخاطب تارة أخرى المؤمنين، وفي الأصل أن الله يخاطب عامة الناس بأصول الدين:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ﴾
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ ﴾
ويخاطب المؤمنين بفروع الدين:
﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ﴾
إن آمن الإنسان بالله يهديه ويرفعه إلى مرتبة عالية :
هناك آيات كثيرة تأتي التفاصيل مع يا أيها الذين آمنوا، والمعنى أنه يا من آمنت بالله، يا من آمنت به خالقاً، آمنت به رباً، آمنت به مسيراً، يا من آمنت به موجوداً، واحداً كاملاً، يا من آمنت بأسمائه الحسنى، بصفاته الفضلى، يا من آمنت بقدرته بأنه المطلق في كل شيء، يقتضي إيمانك به أن تطيعه، إذاً افعل كذا وكذا، أما حينما يخاطب عامة الناس يخاطبون بأصول الدين، جبلة الإنسان أي فطرته وعقله يقتضيان أن لهذا الكون خالقاً، وهؤلاء الناس جميعاً عبيده، وأن الإنسان إذا تطاول على عبد فأخذ ماله، أو انتهب رزقه، أو قهره، أو ظلمه، فإنّ الذي خلق هذا الكون سيقتص منه، أنت لست وحدك في الحياة، أنت لست مطلقاً، أنت مقيد:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ ﴾
أي أنت في بلد، ولنضرب على هذا مثلاً قريباً، يوجد بلد فيه جيش وشرطة، وأمن، وقوانين، وأنظمة، ليس من السهل أن تتحرك كما تريد من دون ضوابط، يوجد سجن، وقتل إذا ارتكبت جريمة، وغرامة مالية إن ارتكبت مخالفة مدنية، مجتمع فيه نظام، فيه قوة، فيه سلطة، فيه محاكم، فيه واجبات، فإنسان يتحرك بلا ضابط، بلا نظام، بلا قيم، لا يبالي، فيدفع الثمن باهظاً، لذلك إن آمن الإنسان بالله، قال الله عز وجل:
﴿ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ﴾
الهدى رفعهم، رفعهم إلى مرتبة عالية، رفعهم وسما بهم عن الظلم، رفعهم وسما بهم عن أن يأخذوا ما ليس لهم، رفعهم وسما بهم عن السفاسف والأشياء الوضيعة، رفعهم وسما بهم إلى مكانة علية، حيث الحرية، والكرامة، حيث السعادة:
﴿ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ﴾
في الهدى رفعة وفي الضلال قيد وغمّ وهمّ :
أما الذين كفروا فــ:
﴿أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾
معنى (في): ضمن قيد، ضمن كآبة، ضمن سجن، ففي الهدى رفعة، وفي الضلال قيد، أو غم، أو هم، أو كآبة، أو انتحار، دور القمار ماذا تخرج؟ منتحرين أحياناً!! النازل في هذه الدار قد ينتهي به إلى الانتحار:
تشاد له المنازل شاهقات وفي تشييد ساحتها الدمار
نصيب النازلين بها سهاد وإفـلاس فيـأس فانتحار
* * *
أنت حينما تضل سواء السبيل فقد دخلت في قوقعة، دخلت في قهر، دخلت في العقاب، في كآبة، ولو نجوت من عقاب الدنيا دخلت في عقاب النفس، الكآبة عقاب، الشعور بالذنب عقاب، الشعور بالدناءة عقاب، قد تكون عند الناس عظيماً، لكنك أمام نفسك محتقر، هذا يسمى في علم النفس الانهيار الداخلي، لو عظمك الناس، لو أثنوا عليك، لو رفعوك، لو بجلوك، إن لم تكن أنت على حق تشعر أمام نفسك أنك دنيء، إذاً الهدى يرفعك:
﴿ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ﴾
أما الكافرون فــ:
﴿ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾
(في)، دخل في قوقعة، دخل في حبس، دخل في قهر، دخل في قلق، دخل في حزن، دخل في ندم، دخل في كآبة، دخل في سجن، دخل في قبر بالنهاية، فشتان بين أن ترتفع بالهدى وأن تسقط بالضلال.
من الغباء أن تعتقد أن هذا الكون المعجز بلا حساب :
مثل بسيط، في مجتمع متواضع فيه قوانين، وأنظمة، وفيه شرطة، وفيه جيش، فيه محاكم، فيه قضاء، فيه قوانين، فيه واجبات، ومسؤولية، ومحاسبة، وتحقيق، فإنسان متفلت عاقبة أمرِه إلى السجن، العصابات تتفلت، تسرق، تنهب، يصوروهم أذلاء في الجريدة، ثم إلى السجن، وإن ارتكبوا جريمة إلى الإعدام. الآن كبِّر الأمر، كون معجز بلا حساب؟!
﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾
هكذا تأكل مال أخيك ظلماً، وتستهزئ به، وتنجو من عقاب الله؟! تعتدي على عرضه دون أن يدري، وتنجو من عقاب الله؟! تكذب عليه، وهو يصدقك، كفى بها خيانة أن تحدث أخيك حديثاً هو لك به صادق وأنت له كاذب، تظلم امرأتك وتنجو؟! تحتال على شريكك وتنجو؟! تحتال على من حولك وتنجو؟! تبيع السلعة للمضطر بأضعاف مضاعفة وتنجو من عقاب الله؟! تنجو من مصادرة، من ضبط، من تلف بضاعة، من سجن أحياناً، من السذاجة والغباء والحمق أن تظن أنك إن تصرفت كما تشاء لن تحاسب كما يجب، هذه المعاني من قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ ﴾
قبل أن تعصي، قبل أن ترتكب الحرام، قبل أن تأخذ ما ليس لك، قبل أن تدلي بتصريح كاذب، أو أن تحتال على إنسان ضعيف، قبل أن تستغل ثقة الناس فيك، في مهن راقية جداً، لو فرضنا أنك تعمل في القضاء، والموكل واثق، تقول له: سوف أربح لك الدعوى، فإن كنت موقناً يقيناً قطعياً أن القوانين ليست معك، مع موكلك، بل هي مع خصمك، وأن هذه الدعوى خاسرة سلفاً، لكنك أردت أن تبتز ماله إلى حين، هل تنجو من عقاب الله؟! هذا في مستوى المحاماة، والطب، والهندسة، والتعليم، لو أوهمت أباً أن ابنه ضعيف، ويحتاج إلى دروس خاصة، وكسَّرت له في العلامات، كي يضطر إلى أن يأخذ درساً خصوصياً، هل تنجو من عقاب الله؟! قد يغش الإنسان في البيع والشراء، قد يقدم مواصفات عالية جداً لا يكشفها المشتري المحدود، هل تنجو من عقاب الله؟! قد تشتهي امرأة غيرك، وتملأ عينيك من محاسنها، وتظن أنك مستريح بهذا، وأنك تحدثها، هل تنجو من عقاب الله؟!
أدقُّ الخواطر يعلمها الله :
قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ ﴾
﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾
أي إذا خدعت المؤمنين وصليت معهم، خدعت المؤمنين وتحدثت بما يتحدثون، إذا خدعت المؤمنين فأظهرت الورع وأنت لست كذلك، فهل تنجو من عقاب الله؟! هل تنجو من فضيحة يفضحك الله بها؟!
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ ﴾
اتقِ هذا الإله العظيم، الذي يعلم السر وأخفى، يعلم ما خفي عنك، لا تخفى عليه خافية، أضرب مثلا بسيطاً، جاءت صديقة زوجتك، والوقت شتاء، وغرفة الضيوف باردة، وغرفة الجلوس دافئة، وقلت لزوجتك: تعاليْ مع هذه الصديقة إلى هذه الغرفة، لأنها أكثر دفئاً من تلك الغرفة، وأنت لا تريد هذا المعنى، بل تريد شيئاً آخر، الذي خلقك ألا يعلم ذلك؟! تريد أن تنظر إليها، وأن تراها، وأن تحدثها مثلاً، فأدقُّ الخواطر يعلمها الله.
﴿ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾
أنت كطبيب متاح لك أن ترى جسم المرأة، لكن لو أنها تشتكي من مكان ونظرت إلى مكان آخر لا تشتكي منه، لا يعلم هذا إلا الله، من الذي سيحاسبك؟ الله جل جلاله.
﴿ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾
الإيمان باليوم الآخر إيمان عقلي :
هذا الكون العظيم لا يعقل أن ينتهي هكذا، يوجد ظالم ومظلومين، ويوجد أقوياء ويوجد ضعفاء، وأناس قهروا وأناس مقهورون، هكذا تنتهي الحياة ببساطة؟! لذلك أحد كبار العلماء يرى أن الإيمان باليوم الآخر إيمان عقلي، وأن العقل لا يقبل أن يكون في الأرض قوي وضعيف، فشعوب في الأرض تقصف فتموت عن آخرها، والذين أمروا بقصف هذه الشعوب وقتلها وتدميرها، بمساكنها ومساجدها ومستشفياتها، وتقتيل أبنائها، وإذلالهم، كي يتغطرسوا، هل ينجون من عقاب الله؟ هذا يتناقض مع وجود الله.
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ*مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾
﴿ فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ﴾
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ ﴾
علينا أن نتقي الله في حركاتنا وسكناتنا لأنه رقيب علينا :
قبل أن تظلم، قبل أن تكذب، قبل أن تحتال، قبل أن تسيطر، قبل أن ترغم أنف الآخرين، قبل أن تذلهم، قبل أن تستعلي عليهم، قبل أن تقول كلاماً فوق طاقتك، اتق الله.
سيدنا عمر بن عبد العزيز رحمه الله عين رجلاً عالماً ليكون معه دائماً، اسمه عمر، قال له: يا عمر قم معي، إن رأيتني ضللت فأمسكني من تلابيبي، وهزني هزاً شديداً، وقل لي: اتق الله يا عمر، فإنك ستموت.
قد تكون قوياً، قد يكون الطرف الآخر ضعيف، قد تأتيك امرأة لا تعرف ما تقول، فتستغل جهلها، وتبيعها سلعة بعشرة أضعاف ثمنها، قد يأتيك طفل صغير، ليشتري لحماً من عندك، قد تبيعه لحماً سيئاً جداً، الطفل لا يدري ولا يفقه، ولا يستطيع أن يقول كلمة، فهل تنجو من عقاب الله؟ أبداً.
أيها الأخوة، أردت من هذه الآية أن يعلم الأخوة الكرام أن الله كان عليكم رقيباً، كما في آخر الآية:
﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾
إذا كنت تحت رقابة الله كيف الأمر؟ تحت رقابة خالق الأكوان، تحت رقابة مبدع الإنسان.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ﴾
ألا يعلم من خلق؟
﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾
علم ما كان، وعلم ما يكون، وعلم ما سيكون، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون، يعلم ما خفي عنك، الذي يعلمه عنك لا تعلمه أنت.
الله تعالى خلق البشر من طبيعة واحدة و خصائص واحدة ولدعوة واحدة :
قال تعالى:
﴿ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾
يوجد عدل، من طبيعة واحدة، من خصائص واحدة، لدعوة واحدة، المؤمنون مدعوون إلى الله، والكفار مدعوون إلى الله.
﴿ وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ﴾
لو أن الله سبحانه وتعالى خلق أناساً للجنة، وأناساً للنار لما عذب الكفار، بل إن الكفار مدعوون إلى الله عز وجل:
﴿ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى*فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾
علينا أن نطيع الله وحده لأنه الخبير بأسباب سعادتنا وأسباب شقائنا :
لماذا ينبغي أن نتقي الله؟ لأنه خالقنا، وأعلم بسعادتنا، قد تسأل إنسان: ماذا أفعل؟ يشير عليك ما هو صانعٌ لنفسه، فإن كان إنساناً غارقاً باللذات الحسية يقول لك: افعل ما أفعل، هو ليس خالقك حتى يعلم حقيقة سعادتك، يعطيك تجربته الشخصية، سألت غنياً: كيف أكون غنياً؟ قد يعطيك تجربته الشخصية، أما إذا سألت الله عز وجل أن يهديك إلى سواء السبيل، الله خالق الكون، هو الخبير، هو وحده يعلم ما يسعدك وما يشقيك، لذلك لماذا ينبغي أن نطيع الله؟ لأنه خالقنا، ولأنه الخبير بأسباب سعادتنا، ولأنه الخبير بأسباب شقائنا.
﴿ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾
أي أنك من الممكن أن تقتني جهازاً غالياً جداً، معقداً جداً، له نفع كبير، ولك جار طيب سموح، لكنه غير متعلم، هل تدفع له هذا الجهاز المعقد لإصلاحه؟ مع أنك تحبه، الحب شيء، والخبرة شيء آخر، لا تدفع بهذا الجهاز إلا للوكيل، للخبير، والله تعالى هو الخبير.
﴿ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾
أي أن البشر متساوون، أينما ذهب الإنسان فهو الإنسان، الفطرة هي الفطرة، الصبغة هي الصبغة، الخصائص هي الخصائص، القوانين التي تحكم النفس هي نفسها، أينما ذهبت، لو ذهبت إلى أطراف الدنيا، الإنسان يحب الإحسان، يحب العطاء، يحب النوال، يحب الكمال، يحب الجمال، يحب التفوق، يحب الراحة، يحب أن يكون أخلاقياً، لأن هذه فطرته، فلذلك الإنسان مخلوق من طبيعة واحدة، يوجد تفاوت بالقدرات، لكن لا يوجد تفاوت بالخصائص، الخصائص واحدة، القدرات متباينة، يوجد إنسان ذاكرته أقوى، ويوجد إنسان طليق اللسان أكثر، يوجد إنسان عنده قوة إقناع، ويوجد إنسان عنده قوة أن يظهر بحجم أكبر من حجمه، القدرات متفاوتة، قال الله سبحانه:
﴿ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ﴾
التفاوت عند الناس بالقدرات لا بالخصائص :
يوجد إنسان لديه مقياس الذكاء يزيد عن مئة وأربعين، يقاس الذكاء كالتالي: الوسط مئة، العباقرة مئة وأربعون، الأغبياء ثمانون. فالقدرات متفاوتة لحكمة يريدها الله ولصالح الإنسان، أما الخصائص فواحدة، مثلاً أحسنْ لأيّ إنسان في أي مكان من العالم يحببْك، أسئْ له يبغضك، أي إنسان يرتاح إن كان متفوقاً، ويتضايق إن كان متخلفاً، فمعنى قوله تعالى:
﴿ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾
نفوس المؤمنين واحدة، الكفر واحد، ملة الكفر واحدة، يوجد كفر مع وثنية، كفار الرومان ككفار اليونان، ككفار الشرقيين، الكفر ملته واحدة، كبر وقسوة، ظلم وعدوان، ودناءة وعبادة الشهوات، تتغير الأسماء فقط، تتغير الأساليب، أما الكفر فهو كفر، والإيمان إيمان، أينما ذهبت المؤمن مؤمن، فالإنسان له خصيصة واحدة، فأنا أرى بناءً على ما جاء في القرآن الكريم أن الناس على اختلاف اتجاهاتهم، ونزعاتهم، وانتماءاتهم، وأجناسهم، ومللهم، ومذاهبهم، ونحلهم، هم رجلان: رجل عرف الله، وانضبط بمنهجه، أحسن إلى خلقه فسعد في الدنيا والآخرة، ورجل غفل عن الله، وتفلت من منهجه، أساء إلى خلقه فشقي في الدنيا والآخرة.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾
المرأة مساوية للرجل من حيث التشريف و التكليف :
هذه الزوجة مِن نِعَم الله أنها إنسان، أنت إنسان، وهي من جنسِك، أنت إنسان لك، فكر وهي إنسان لها فكر، أنت إنسان تحب الحقيقة وهي إنسان تحب الحقيقة، أنت إنسان تسعى إلى الراحة النفسية، وهي كذلك، والله تعالى قال:
﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى ﴾
الخصائص الجسمية مختلفة، والعقلية مختلفة، من دون تفضيل لكن مختلفة، والجسمية مختلفة، والاجتماعية مختلفة، والنفسية مختلفة، ومع ذلك متساويان من حيث التكليف والتشريف والمسؤولية، شيء رائع، متساويان في الشرف، فالنبي الكريم حينما فتح مكة ركز راية النصر عند قبرها، ليشعر الناس أن هذا الفتح المبين لها منه نصيب، هي سنده من الداخل، الإنسان إن ترك عملاً عظيماً في الحياة، هذه المرأة التي معه، والتي تخدمه، والتي تصبر عليه، والتي تهيئ له الجو المناسب، تأليف مثلاً للإنجاز، والتي ترضى أن يغيب عنها طويلاً ليقوم بأعمال جليلة، هذه سند من الداخل، النبي ما نسي أن السيدة خديجة مع أنها ماتت هذا الفتح المبين لها منه نصيب، فالمرأة مساوية للرجل من حيث التشريف، ومن حيث التكليف، كلفها بالصلاة والصيام والحج والزكاة، وكلفها بأركان الإسلام، بأن تنطق الشهادتين، وأن تصلي وتصوم، وأن تحج، وكلفها بأركان الإيمان، أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره من الله تعالى، وجعلها مسؤولة عن أولادها وزوجها:
(( انصرفي أيتها المرأة، وأعلمي من وراءك من النساء أن حسن تبعل المرأة زوجها يعدل الجهاد في سبيل الله ))
إذاً:
﴿ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾
مرة كنت في مؤتمر فقام أحد المؤتمرين، وألقى كلمة عن هذه الآية، والله أعجبتني الفكرة، لأنها طريفة، قال: ليشكر الإنسانُ اللهَ، لأنه يستيقظ ليجد زوجته بقربه، وأن زوجته إنسان، وليست بضبع مثلاً، هكذا قال: إنسان! لو كانت من جنس آخر فهذا شيء مخيف، إنسان تكلمها وتكلمك، تلاطفها وتلاطفك، تبتسم لها فتبتسم لك.
﴿ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾
الزواج من آيات الله الدالة على عظمته :
هي إنسان، ولكن من طبيعة ثانية، أنت وإياها تتكاملان، هي تسكن إلى قوتك، وأنت تسكن إلى عاطفتها المتأججة، هي تسكن له لأنه يحميها، وهو يسكن لها، لأنها تلبي له حاجات هو بحاجة إليها.
﴿ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾
الزواج من آيات الله الدالة على عظمته، لأن الله إذا قال:
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ﴾
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾
إذاً:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾
نظام الأمومة والأبوة بحدّ ذاته دال على رحمة الله :
يوجد معنى دقيق أرجو أن يكون واضحاً لديكم، كيف يعرفنا الله عز وجل بذاته العلية؟ كيف يعرفنا برحمته؟ من قلب الأم تعرف رحمة الله، تجد امرأةً كل حياتها من أجل أولادها، يسعدها أن يأكلوا، وأن يشربوا، وأن يتفوقوا، وأن يناموا، كل سعادتها بسلامة أولادها، إذاً تمنحهم كل شيء دون أن تأخذ منهم شيئاً، فإذا كان قلب الأم هكذا فكيف الله عز وجل؟ والنبي استغل هذا المعنى حينما سأل أصحابه مرة، فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْيٌ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ قَدْ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِي إِذَا وَجَدَتْ صَبِيّاً فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟ قُلْنَا: لَا وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ، فَقَالَ: لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا ))
يمكنك أن تعرف رحمة الله من رحمة الأم، يمكنك أن تعرف رحمة الله من رحمة الأب، فنظام الأمومة والأبوة بحد ذاته دال على رحمة الله، لذلك قال تعالى:
﴿ لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ﴾
الأب لا همَّ له إلا أولاده مستعد أن يقدم كل شيء من أجلهم ـ الأب الطبيعي طبعاً، لكن يوجد آباء نادرون، وحوش ـ مستعد أن يقدم كل شيء من أجل أولاده، هذه هي الأبوة، لذلك حينما قال عز وجل:
﴿ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً ﴾
كل إنسان عمره أكثر من ستين، إن أحصيت ذريته، وجدتها أكثر من الخمسين، عنده ست بنات متزوجات، وكل واحدة منهن عندها أربعة أو خمسة أولاد، مع الأصهار، وأولاده الذكور، وأولاد الذكور، تجدهم في العام الخمسين، وهو حي يرزق، ومن أجل أن يجمعهم كلهم يريد مكاناً كبيراً.
الحكمة من جعل نسبة الرجال أكبر من نسبة النساء :
قال تعالى:
﴿ وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً ﴾
لكن يوجد في القرآن إشارات علمية، الشيء المحير أن نسب النساء إلى الرجال نسب دقيقة جداً، دائماً تجد بالمئة خمسة زيادة رجال، لأن الرجل معرض للحوادث والحروب أكثر من النساء، فلو فرضنا أن حرباً جرت بين بلدين، ومات مليون شهيد، لو أحصيت نسب الولادات شيء لا يصدق، أكثرها ذكور، إلى أن ترجع النسبة، مئة وخمسة إلى خمسة وتسعين، هكذا هو التصميم الإلهي، فالرجال أكثر، لأنهم معرضون للأخطار أكثر.
﴿ وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾
هذه الآية أيها الأخوة من أدق الآيات، لولا أن الله أودع في قلب الأب أو الأم محبة هذا الطفل فهل يستطيع الطفل أن يسأل أباه شيئاً؟ طفل في الطريق هل يجرؤ أن يسأل رجلاً: يا عم أعطني ألف ليرة؟! هذا مستحيل، أما من أبيه فيطلب وبإلحاح، وأحياناً يرفع صوته، لأنه موقن أن هناك رحمة، من أودع هذه الرحمة؟!
ثمة قصة رمزية، هكذا ترويها الكتب، لها دلالة كبيرة، سيدنا موسى يمشي في الطريق، رأى أمّاً تخبز على التنور، كلما وضعت رغيفاً قبَّلتْ ابنها، قال: يا رب ما هذه الرحمة؟ قال: يا موسى هذه رحمتي أودعتها في قلب أمه، وسأنزعها! فلما بكى ألقته في التنور!! هل هنالك من أم في الأرض إذا بكى ابنها ألقته في التنور؟ بل تقبِّله، وتضمه، وتخشى عليه من الهواء، لذلك اتق هذا الإله العظيم الذي يحبك، وعلامة حبه لك أنه أودع محبتك في قلب أمك وأبيك.
لك أن تسأل إنساناً لوجه الله لكن دون أن تشركه بالله عز وجل :
والله أيها الأخوة، ما محبة الأب والأم إلا من محبة الله، والذي يؤكد هذا المعنى قوله تعالى:
﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ﴾
أي لو كان لديك أب وأم، وتدللت عليهم، وطلبت منهم، وألححت، وغبت عن المنزل حتى يعطونك حصة، وطالبتهم بقسوة لثقتك أنهم يحبونك، فمن هذا الذي أودع حبك في قلوبهم؟
﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ ﴾
لولا أن أودع في قلب الأب والأم رحمة لما سألت أباك وأمك شيئاً، تلاحظ الابن يطلب من أبيه، وقد يطلب من أمه بإلحاح، لأنه واثق أنه سيجاب، لأن الله أودع في قلب الأم والأب محبة هذا الطفل، هذا معنى.
لكن هناك معنى آخر، لك أن تسأل الناس لوجه الله، تقول لشخص: أسألك لوجه الله أن تعطيني، ويوجد أحاديث متنوعة بعضها يؤكد أنه ملعون من سأل بغير الله، بالله، الجواب الدقيق هو أنك إن سألت إنساناً، وظننت أنه مستقل في إرادته عن الله، وأن علاقتك معك مباشرة فهذا شرك، أما إن سألت الله، واتبعت الوسيلة، بأن سألت من يحل هذه المشكلة، وأنت واثق من الله، تسأله أنت دون أن تشركه بالله عز وجل قال: هذا ينبغي، إذاً لك أن تسأل بالله عز وجل مع التوحيد، أما إذا سألت غير الله، ولو سألته بالله مع الشرك فأنت آثم، ولو قلت له: أسألك بالله أن تعطيني. وظنك أنه يعطيك، وأنه قوي، وتركن إلى قوته، وإلى غناه، هذا نوع من الشرك.
للأرحام قراءتان :
قال تعالى:
﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ﴾
الأرحام لها قراءتان:
﴿ وَالْأَرْحَامَ ﴾
1 ـ القراءة الأولى أي اتقوا الله أن تعصوه واتقوا الأرحام أن تقطعوها :
أي واتقوا الله أن تعصوه، واتقوا الأرحام أن تقطعوها، والشيء الدقيق أيها الأخوة أن الله جل جلاله جعل ما يسمى بالضمان الاجتماعي على أساس أسري، فأنت مكلف بزوجتك وأولادك، وأمك وأبيك، ويوجد عندنا نظام النفقة في الإسلام نظام دقيق جداً، أي لا بد من إنسان مكلف بالإنفاق على إنسان، إن وجد الأب أو الأم، الأب والأم، والزوج زوج، والابن ابن، والبنت بنت، أحياناً يكون العم، أحياناً يكون الخال، فالله جعل الضمان الاجتماعي أساسه الأسرة، لذلك: واتقوا الله أن تعصوه، واتقوا الأرحام أن تقطعوها، لذلك عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ ))
وهناك في الأحاديث الشريفة ما يزيد عن ثلاثين حديثاً صحيحاً كلها تعد قاطع الرحم بالنار، بل إن الرحم مشتقة من اسم الله الرحمن.
﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ ﴾
أن تعصوه، واتقوا:
﴿ وَالْأَرْحَامَ ﴾
أن تقطعوها، والذي يصل رحمه يزيد الله في عمره، بمعنى من معاني الزيادة، أي يجعل عمره غنياً بالأعمال الصالحة.
أيها الأخوة، صلة الرحم تعني أن تزور أرحامك، وبالتعريف الدقيق للأرحام: مطلق أقربائك، من دون تدقيق، أقرباء الأم والأب، مطلق أقربائك، أن تزورهم، وأن تتفقدهم، وأن تعينهم، وأن تأخذ بيدهم إلى الله، لأن الله عز وجل قال:
﴿ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾
إذاً أنت مكلف أن تزورهم، وأن تتفقد أحوالهم، وأن تمد لهم يد العون، وأن تأخذ بيدهم إلى الله، فاتقوا الأرحام أن تقطعوها.
2 ـ القراءة الثانية لك أن تسأل بالله وبالأرحام :
وهناك قراءة ثانية:
﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ ﴾
والأرحامِ: بالكسرة، لك أن تسأل بالله، ولك أن تسأل بحكم قرابتك من فلان، نحن أخوان من أم واحدة، أي لك أن تسأل بالله وبالأرحام، هذه قراءة، ولك أن تتقي الله أن تعصيه، والأرحام أن تقطعها.
﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾
أحاديث شريفة تؤكد أن صلة الرحم واجبة في الإسلام وجوباً عينياً :
أيها الأخوة، روى الشيخان البخاري ومسلم عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَقُولُ مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ ))
قد تجد إنساناً فقيراً له أقرباء أغنياء، ولفقره يقطعونه، تجده متألماً أشد الألم، لو أن هؤلاء الأقرباء الأغنياء أو الأقوياء أطلوا عليه من حين إلى آخر لملؤوا قلبه سعادة، والله حدثني أخ قال لي: لي أرحام لا أعرفهم أبداً، فأخذت بسنة النبي أن أزورهم، وزرتهم في العيد، وعرفتهم على نفسي، هم لا يعرفونه إطلاقاً، فهؤلاء من أهل الغنى ردوا له الزيارة، وأقسم بالله العظيم أنه ما قصد من زيارتهم إلا تطبيق السنة، هؤلاء محسنون، رأوا بيتاً مظلماً تحت الأرض لا يصلح للسكنى، قال له: اذهب وابحث عن بيت، له مواصفات جيدة، بعد حين وجد بيتاً بمبلغ يقارب المليونين والنصف مليون، وأعطوه الثمن، ونقلوه من هذا البيت الذي هو كالقبر تماماً إلى بيت، قال لي: والله ما قصدت إلا أن أطبق سنة النبي، أنت موكل بأقربائك بالدرجة الأولى، بمعونتهم وهدايتهم:
﴿ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾
((الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَقُولُ مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ))
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: إِنَّ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
((لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ))
أي قاطع رحم. وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ وَلَكِنِ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا))
لذلك فيما يروى عن رسول الله قوله صلى الله عليه وسلم مما ورد في الأثر:
(( أمرني ربي بتسع خشية الله في السر والعلانية ، كلمة العدل في الغضب والرضا ، القصد في الفقر والغنى ، وأن أصل من قطعني ، وأن أعفو عمن ظلمني ، وأن أعطي من حرمني ، وأن يكون صمتي فكراً ، ونطقي ذكراً ، ونظري عبرة ))
في حديث رابع عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
((..وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ...))
كل هذه الأحاديث تؤكد أن صلة الرحم واجبة في الإسلام وجوباً عينياً. لذلك:
﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ﴾
أن تقطعوها.
الإنسان تحت علم الله وسمعه وبصره في كل حركاته وسكناته :
قال تعالى:
﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾
والله الذي لا إله إلا هو لو لم يكن في كتاب الله إلا هذه الآية لكفتْنا:
﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾
لاحظ لو أنك أحسست أنك مراقب، ماذا تفعل؟ تحاسب نفسك على الكلمة، لو أنك مراقب عبر الهاتف لا تقول كلمة لها معنيان، تحتاط، لا تقول روشيش بل تقول: رشاش ماء، لأن الأولى تفهم بمعنى آخر، إذا كنت مراقباً تضبط كلامك وحركاتك وسكناتك، وتضبط سيرك، لا تمشي على رصيف في سفارة، إذا كنت مراقباً من إنسان فكيف من الواحد الديان؟
﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾
تحت علم الله وسمعه وبصره، اعملوا ما شئتم، هذه الآية منهج:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾
وفي درس آخر إن شاء الله نتابع الحديث عن آية ثانية.
***
س: هل تجبر الفتاة على تغطية الوجه؟
ج: طبعاً إن كانت الفتنة قائمة في الوجه، لأن أجمل ما في الفتاة وجهها.
س: هل تسقط صلة الأرحام عن المرأة المتزوجة إذا منعها زوجها؟
ج: إن كان الزوج مؤمناً، وفي هذا البيت تفلت وعري واختلاط، وإن بعث بزوجته إليهم فسيراها ابن خالتها، وابن عمتها، وسيضحكون معها ويمزحون، والبيت غير منضبط، والـزوج منضبط، فإنْ منَعَها فلا مانع، بل الأولى أن يمنعها، ودع خيراً عليه الشر يربو، ودرء المفاسد مقدم على جلب المنافع.