الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أمر الله تعالى بأشياء ونهى عن أشياء وسكت عن أشياء وذلك لحكمة بالغة:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس التاسع والعشرين من دروس سورة البقرة، ومع الآية السابعة والستين وهي قوله تعالى:
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)﴾
أولاً: كل شيء يقربنا إلى الله عزَّ وجل أمرنا الله به في كتابه أو من خلال سنة نبيه وكل شيء ينهانا عنه، وكل شيءٍ يبعدنا عنه نهانا عنه إن في كتابه أو في سنة رسوله، وهناك أشياء سكت عنها الشرع لا أمراً ولا نهياً، إذاً هي حيادية لا تُقَرِّب ولا تُبَعِّد، لذلك إن الله أمر بأشياء ونهى عن أشياء وسكت عن أشياء، فالذي أمر به يُقَرِّب، والذي نهى عنه يُبْعِد، والذي سكت عنه لا يُقَرِّب ولا يُبَعِّد.
حينما يسكت الشرع عن شيء ينبغي أن يحترم الإنسان سكوت الشرع عنه، لا أن يسأل عنه، سكت عن شيء، كما أن هناك حكمةً بالغة من الأمر وكما أن هناك حكمةً بالغة من النهي، هناك حكمةٌ بالغةٌ بالغة من الشيء الذي سكت الله عنه، لذلك ما أَضَلَّ الله قوماً بعد إذ هداهُم إلا أوتوا الجَدَل في المسكوت عنه، فالمسلمون أو بعض المسلمين مقصرون تقصيراً شديداً، ومع ذلك يحشرون أنوفهم في جُزْئِيَّات، وفي خلافيَّات، وفي قضايا لا تُقدم ولا تؤخر، ويجعلون من هذه الموضوعات الصغيرة موضوعات كبيرة، ويختصمون، ويختلفون، ويتناقشون، ويتباغضون، ويتعادون، ويتهم بعضهم بعضاً، والقضية صغيرة جداً هامشية لا تقدِّم ولا تؤخر.
لذلك أيها الإخوة؛ القرآن الكريم دقيق، مثلاً ذكر القرآن قصة، القرآن أغفل بعض التفاصيل، أغفل مكانها وزمانها، أغفل أسماء أشخاصها، أغفل بعض التفاصيل السابقة واللاحقة، حيثُما سكت القرآن عن شيءٍ فاسكت أنت عنه لأنه لا فائدة منه، لا جدوى منه، حينما تحاول أن تبحث عن هذه التفاصيل تُفسد على الله حكمته، لأن الله عزَّ وجل أراد نموذجاً متكرراً، لم يرد قصة وقعت ولن تقع مرة ثانية، هو أراد نموذجاً، أراد نموذجاً تقتدي به، فأنت حينما تبحث عن التفاصيل وعن الجزئيات أنت تفسد على الله حكمته، أراده الله نموذجاً متكرراً فجعلته قصةً وقعت ولن تقع بعد اليوم.
الله عزَّ وجل يعطينا درساً بليغاً في تعنت بني إسرائيل:
الأكمل بالمؤمن والأولى الذي أمره به يأتمر به، والذي نهاه عنه ينتهي عنه، والذي سكت عنه هو مباح، لا تُضَيِّق عليك الخناق، لا تُضيق عليك الوثاق، استفد من بحبوحة الله، فالله عزَّ وجل يعطينا درساً بليغاً، درساً بليغاً في التعُنُّت، تعنت بني إسرائيل، درساً بليغاً في انغماسهم بالجزئيات، بالتفاصيل التي سكت عنها الشرع، قال الله عزَّ وجل: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ بقرة نكرة، أية بقرة، أيَّة بقرةٍ صالحةٍ لتنفيذ هذا الأمر، ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ لماذا؟ أنت حينما تتلقى أمراً من مساوٍ لك تسأله لماذا؟ قال لك زميلك في الدائرة: افعل كذا، تقول له: لماذا؟ دائماً وأبداً حينما تتلقى أمراً من مساوٍ لك، من ندٍّ لك تسأله عن الحِكمة، وعن العِلَّة، وما السبب، ولماذا؟ أما حينما تتلقى أمراً ممن فوقك ممنوعٌ أن تسأله لماذا؟ أنت مريض لا تعلم في الطب شيئاً، دخلت إلى طبيب أعطاك أمراً، يجب أن تأتمر بهذا الأمر، أنت جندي في معركة حاسمة القائد العام أصدر أمراً عليك أن تأتمر، فكيف إذا كنت عبداً لله عزَّ وجل وخالق السماوات أعطى أمراً، الآن عندنا سؤال دقيق، قال علماء العقيدة: علَّةُ أي أمرٍ في الكتاب والسنة أنه أمر.
ذهب رجل من أهل العلم إلى أمريكا، والتقى بعالمٍ أسلم حديثاً، ودار الحديث حول لحم الخنزير، أفاض هذا العالم المَشْرِقِي في الحديث عن علة التحريم، وعن أضرار لحم الخنزير، وعن الدودة الشريطية، وعن الآثار النفسية التي يتركها هذا اللحم في نفس الآكل، وعن وعن، ومضى يتحدَّث لساعاتٍ طويلة عن حكمة تحريم لحم الخنزير، فما كان من هذا العالم الغَرْبِي المُسْلِم إلا أن قال: كان يكفيك أن تقول لي: إن الله حرمه.
ذات مرة في برنامج سألوا دكتورة في جامعة من جامعات البلاد العربية عن رأيها في التعَدُّد، فقالت: كيف يكون لي رأي في التعدد وقد أباحه الله عزَّ وجل؟!!
الأمر الإلهي مادام من خالق السماوات والأرض، الأمر يُقَيَّم بالآمر، من هو الآمر؟ هو الله، الحكمة المُطلقة، والعلم المطلق، والخبرة المطلقة، والرحمة المطلقة، والعدل المطلق، فحينما يقول الله:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)﴾
أي يا من آمنتم بي خالقاً، يا من آمنتم بي إلهاً، يا من آمنتم بي مربياً، يا من آمنتم بعلمي، يا من آمنتم بحكمتي، يا من آمنتم بقدرتي، يا من آمنتم بلُطفي، يا من آمنتم برحمتي، يا من آمنتم بعدلي، أنا آمركم بكذا وكذا، لذلك المؤمن الصادق لمجرَّد أن يتلقى أمراً من الله عزَّ وجل ينصاع إلى تنفيذه من دون أن يسأل عن الحكمة والعِلَّة، إذا سأل بعد التنفيذ ليُعلِّم الناس لا يوجد مانع، إذا سأل عن الحكمة والعلة ليكون داعيةً ليقنع الناس لا يوجد مانع، أما أن يُعلِّق تنفيذ الأمر على معرفة الحكمة، الكلمة الخطيرة الآن إنه عندئذٍ لا يعبد الله، يعبد نفسه.
إنسان مثلاً يصوم لينزل وزنه، يصوم ليصون أجهزته، هذا لم يصم عند الله، ولا يمكن أن يقبل صومه عند الله، هو يصوم لصحَّتِهِ، وأناسٌ كثيرون ملحدون يصومون لصحتهم، العبادة انصياع لله عزَّ وجل، أما أنا حينما أُصلي من أجل تليين عضلاتي، أصلي من أجل تليين مفاصلي، أنا أصلي من أجل أن أحافظ على رشاقتي، هذه ليست صلاة، اذهب إلى نادٍ رياضي وليِّن عضلاتك، لا تدخل أمراً بأمر، اجعل الدين خالصاً لله عزَّ وجل، الصلاة صلاة، الحج حج، الصيام صيام.
الذي ينفذ أمر الله طاعة له وامتثالاً لأمره يصل لأعلى درجة وهي العبودية لله:
لذلك أية آيةٍ في القرآن الكريم تفتتح بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ كأن الله عزَّ وجل يقول: يا عبادي الذين آمنتم بي، آمنتم بي خالقاً، آمنتم بي مربياً، آمنتم بي مسيراً، آمنتم بعلمي، بقدرتي، برحمتي، بعدلي، بقوتي، آمنتم بإنصافي، بعدلي افعلوا، فأنت لمجرد أن يأتيك أمرٌ من فوق يجب أن تنصاع له، أما إذا جاءك أمر من مساوٍ لك تسأله: لماذا؟ لك أن تسأله، لكن ليس لك أن تسأل الله عزَّ وجل لماذا قبل أن تنفذ الأمر، هناك نقطة دقيقة جداً، أنت حينما تنطلق لتنفيذ أمر الله عزَّ وجل طاعةً له، وعبوديةً له، وامتثالاً له حققت أعلى درجة يبلُغها الإنسان وهي درجة العبودية لله عزَّ وجل، الآن يكافئك الله عزَّ وجل بعد أن أقبلت على أمره ونفَّذته بحذافيره، طاعةً له وانصياعاً وتقرُّباً، يكشف لك عن حكمة هذا الأمر، فتجمع بين العِلم والعبادة معاً، يعطيك مرتبة العُبَّاد الصادقين، ويعطيك مرتبة العُلماء المتفهمين، لذلك المقولة الأولى: عِلَّةُ أية أمرٍ أنه أمرٌ من الله عزَّ وجل، هذا الكلام سُقْتُهُ من أجل فكرةً واحدة، وهي أن الله عزَّ وجل يقول: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ أين التعليل؟ لا يوجد تعليل، وليس هناك تعليل، ولا ينبغي أن تبحث عن التعليل، إله، أذكر إنساناً استعمل عقله حتى وصل إلى طبيب من أعلى مستوى علماً وفهماً وإخلاصاً وتديّناً وصلاحاً وقدرةً وسمعةً وخبرةً، هداك عقلك إلى هذا الطبيب، دخلت العيادة لا يمكن أن تسأله، انتهى دور العقل، جاء دور النقل، جاء دور التلَقِّي، عقلك حصان ركبته إلى باب السلطان، فلما وصلت إلى باب السلطان دخلت وحدك، لأنه إله، إله يأمر، أنت أمام طبيب يحمل شهادة عُليا من بلد متقدم جداً تخجل أن تسأله: لماذا؟ علم واختصاص وخبرة، فلا تسأل لماذا إلا ممن يساويك.
المؤمن الصادق أمام مرحلتين؛ مرحلة معرفة الله ومرحلة معرفة أمره ونهيه:
هذا الذي لا يُقبل على أمر الإله إلا إذا فهم حكمته هو لا يعبد الله أبداً بالتأكيد إنما يعبد نفسه، وأي إنسان حتى المُلحد لو اتضح له الخير في أمر ما يطبِّقه، هل يطبقه تعبداً؟ قرأت مرة مقالة عن أستاذ جامعي لا يؤمن بالله إطلاقاً، قال: هو ينام باكراً، ولا يشرب الخمر، ويربِّي أولاده على الصدق، هو يعبد الدنيا، يعبد مصالحه، يعبد ذاته، تقتضي عبادة ذاته أن يكون صادقاً فصدق، تقتضي عبادة ذاته أن يكون مثلاً أميناً فكان أميناً، هذه ليست عبادة، العبادة أن تُقْبِل على تنفيذ أمر الله عزَّ وجل، وربنا عزَّ وجل جعل أمثلة كثيرة جداً، مثلاً الله عزَّ وجل أعطى أمراً إلى نبي كريم إلى أبي الأنبياء إبراهيم، أعطاه أمراً لا يمكن أن يُقْبَل بالعقل، قال له: اذبح ابنك، وابنه نبي:
﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)﴾
هذه العبودية، أيعقل أن النبي الكريم وهو في الطائف يُتَّهم ويسخر منه ويكذَّب، ويناله أذى من أهل الطائف يقول:
(( اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وهواني على الناس، أرحم الراحمين أنت أرحم الراحمين إلى من تكلني إلى عدو يتجهمني أم إلى قريب ملكته أمري، إن لم تكن غضبان علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بوجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي غضبك أو يحل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ))
[ قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" : وفيه ابن إسحاق وهو مدلس ثقة، وبقية رجاله ثقات ]
معاني العبودية لله، والاستسلام لله، والانصياع لله، وتنفيذ أمر الله، وطاعة الله هذه المعاني تملأ القلب سعادةً، أنا عبد، لي أن أنفذ.
﴿ بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ(66)﴾
أما هذا الذي لا يُنَفِّذ كي يفهم، ولا يفهم إلا بعد التعنُّت، هذا لا يعبد الله عزَّ وجل إنما يعبد نفسه، المؤمن الصادق لمجرَّد أن يرى أمراً لله يعبده، تعرَّف إلى الله، فكِّر في الكون، حقق معرفةً عاليةً بالله، أما إذا عرفت الله المعرفة الكافية الآن مهمَّتك التلقِّي، المؤمن الصادق أمام مرحلتين؛ مرحلة معرفة الله عزَّ وجل، ومرحلة معرفة أمره ونهيه، المرحلة الأولى أن تتعرف إلى الله معرفةً تحملك على طاعة الله، والمعرفة الثانية أن تعرف أمره ونهيه من أجل التقرُّب منه، فالمؤمن الصادق الكامل لا يعنيه شيءٌ بعد معرفة الله إلا معرفة الأمر والنهي ليطبِّق.
إذا كان الآمر إلهاً والمأمور مخلوقاً ينبغي ألا تسأل بل تنفذ والله يكافئك على التنفيذ:
أيها الإخوة؛ طبعاً هذا تمهيد لقصةٍ جرت مع بني إسرائيل، ومرةً ثانيةً، وثالثةً، ورابعةً أقول: كل أمراض بني إسرائيل يمكن أن نقع بها نحن المسلمين، وفي الأعمِّ الأغلب وقعنا في معظمها، الآن يقول رجل في ندوة: إنه لا ينبغي أن نقطع يد السارق يجب أن نبحث عن ردعٍ آخر، إله عظيم ذكر قطع اليد في القرآن الكريم، ألا يعلم أن هناك ظروفاً تتأتى على البشرية يستنكر فيها قطع اليد؟ يعلم، فلماذا أمر؟ لو أن الله عزَّ وجل قال: فاردعوهما مثلاً، السارق والسارقة فاردعوهما، إذاً لك أن تبدِّل وأن تغير، أما قال:
﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)﴾
سُئل الإمام الشافعي من قبل أحد الشعراء قال له:
يدٌ بخمس مئينٍ عسجد وديت ما بالها قُطِعَت في ربع دينارِ؟
قال:
عزُّ الأمانة أغلاها وأرخصها ذلّ الخيانة فافهم حكمة الباري
لما كانت أمينةً كانت ثمينةً فلما خانت هانت.
هناك في الحقيقة مراحل، مرحلة الإيمان بالله، إذا أعقبها اعتراض على أمره أو البحث عن الحكمة كي أطبق معنى ذلك أن المرحلة الأولى غير صحيحة، أما إذا كانت المرحلة الأولى صحيحة تنصاع إلى تنفيذ الأمر مباشرةً، فلا يُسأل عن السبب والعلة إلا مساوٍ، ما دام الآمر يساويك في المقام والعلم والقدرة والمكانة والمرتبة تسأله، أما إذا كان الآمر إلهاً والمأمور مخلوقاً عبداً ضعيفاً محدوداً فينبغي ألا يُسأل، ينبغي أن تُبادر إلى التنفيذ، ولكن الله يكافئك على التنفيذ أن يكشف لك عن حكمة هذا الأمر فتجمع بين ميزة العُبَّاد وميزة العلماء.
كلام الأنبياء بالمثاقيل وما من كلمة قالها نبي إلا لحكمة بالغةٍ بالغة:
﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ السبب الذي جاء في آخر القصة هو أن رجلاً ثرياً من بني إسرائيل قتله ابن أخيه وحمل الجثة وألقاها في قريةٍ ثانية ليوهم أن أهل هذه القرية هم الذي قتلوا هذا الثري، والقصة طويلة جداً، نشبت اتهامات باطلة، ونشبت اختلافات، وحدثت صراعات، وكادت أن تقع فتنةٌ كبيرةٌ جداً، لأن هذه التهمة كُلَّما وجِّهت إلى جهةٍ تُرَدُّ إلى الجهة الثانية، فقالوا: أنقتتل وفينا نبي؟ فلما سئل سيدنا موسى عن هذا الأمر، جاء الأمر الإلهي: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ فقط، اذبحوها، وما أضلّ الله قوماً بعد إذ هداهم إلا أتاهم الجَدَل، قال: بقرة، تُجْزِئُكُم أية بقرة، أي بقرة على الإطلاق، مهما يكن سنها، أو لونها، أو عمرها، أو خصائصها، أو وزنها، أو حجمها، أو وظيفتها، بقرة: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً﴾ أي أيعقل من نبي يأتيه الوحي من الله، من نبي معه معجزات، من نبي يُعَدُّ رسولاً لله عزَّ وجل، أيعقل أن يستهزئ؟ أيعقل أن يلغو؟ كلام الأنبياء بالمثاقيل، ما من كلمةٍ قالها النبي عليه الصلاة والسلام إلا لحكمةٍ بالغةٍ بَالغةٍ بالغة، الله عزَّ وجل قال:
﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى(3)إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى(4)﴾
(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: قَالَ: كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيدُ حِفْظَهُ فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ وَقَالُوا: تَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا؟ فَأَمْسَكْتُ عَنِ الْكِتَابِ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَوْمَأَ بِإِصْبَعِهِ إِلَى فِيهِ وَقَالَ: اكْتُبْ فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا خَرَجَ مِنْهُ إِلا حَقٌّ. ))
"ثلاثةٌ أنا فيهن رجل وفيما سوى ذلك فأنا واحد من الناس؛ ما سمعت حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا علمت أنه حقّ من الله تعالى، ولا صلَّيت صلاةً فشُغِلت نفسي بغيرها حتى أقضيها، ولا سرت في جنازة فحدثت نفسي بغير ما تقول حتى أنصرف منها" .
مواقف تدل على عدل سيدنا محمد وحكمته:
﴿قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً﴾ قال أعرابي لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "اعدل يا محمد" ، فقال عليه الصلاة والسلام:
(( عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْسِمُ قَسْماً أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْدِلْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ قَدْ خِبْتُ وَخَسِرْتُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ. ))
تروي كتب السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى في أول معركة بدر توجيهاً لأصحابه، قال: لا تقتلوا عمي العباس، تأمل أحدهم هذا الكلام وقال: "أحدنا يقتل أباه وأخاه وينهانا عن قتل عمه؟!" صار في نفسه شيء من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، ثم اتّضح أن عمّ النبي عليه الصلاة والسلام كان مُسلماً، وكان العباس عينه في قريش، وكان يأتيه بكل أخبار قريش في الوقت المناسب، لو أن رسول الله عليه الصلاة والسلام صرَّح فقال: إن عمي مسلم، لأنهى مهمته، ولو أن العباس رفض أن يشارك في هذه الغزوة لكشف نفسه، ولو سكت النبي لقتلوه، فلا يوجد كلام أدق ولا أحكم من أن يقول النبي: لا تقتلوا عمي العباس، فقط من دون أي تعليل، لأن أي تعليل يُفسد الأمر، فهذا الذي قال: "أحدنا يقتل أباه وأخاه وينهانا عن قتل عمه؟!" ، فلما كُشِف له الأمر، قال: "والله بقيت أتصدق عشر سنين لعل الله يغفر لي سوء ظني برسول الله" ، نبي، هؤلاء الأنبياء قمم، قمم البشر، قممٌ في الإحسان، في الورع، في المعرفة، في الاستقامة.
أمراض بني إسرائيل نفسها وقع فيها المسلمون اليوم:
﴿قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً﴾ أي هل من المعقول أن يتحدث نبي كريم هازئاً؟ ﴿قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ لا يستهزئ إلا جاهل، الجاهل وحده يستهزئ.
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68)﴾
أية بقرةٍ يريد؟ الله عزَّ وجل أمره واضح، قال: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ ولا تستغرب أحياناً نجد أول رمضان النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(( صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ. ))
[ ِأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ]
انتهى الأمر، أنا في بلد إسلامي وهناك قاضٍ شرعي، وهناك ولي أمر المسلم، والولي وكَّل وزير أوقاف، والوزير سأل القاضي، وأعطى أمراً، صيامنا ليس صحيحاً، لا صحيح، لا ليس صحيحاً، لماذا عندما رَكَّبت هذا الصحن لم تسأل ولا شيخاً عنه؟ تمرر أكبر واحدة بدون سؤال، والآن توقف الأمر عند واحد رمضان، تجد أول يوم برمضان عندنا مليون سؤال كل يوم، سيدي هل صيامنا صحيح؟ هناك أناس لم يصوموا اليوم، وهناك أناس صاموا، هذه أمراض بني إسرائيل نفسها، النبي قال:
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: صَوْمُكُمْ يَوْمَ تَصُومُونَ. ))
انتهى الأمر:
(( عن أبي هريرة: وفِطرُكم يومَ تفطرونَ، وأَضحاكم يومَ تضحُّونَ، وَكلُّ عرفةَ موقفٌ، وَكلُّ منًى منحَرٌ، وَكلُّ فجاجِ مَكَّةَ منحرٌ، وَكلُّ جَمعٍ موقفٌ. ))
انتهى الأمر، أنت في بلد مسلم ويوجد قاضٍ شرعي وخبراء وعلماء، وبتّوا في الأمر، هذا اسمه حشر أنف، على كل أنت لا تُسْأَل عن ذلك، أنت عليك أن تصوم وانتهى الأمر.
الإنسان حينما يبتعد عن جوهر الدين يقع في الشكليَّات:
تجد الجهود الإسلامية كلها مستهلكة الآن في الخصومات، هناك خلاف كبير جداً في أميركا حول جهة القبلة، أنه يوجد طريقان للكعبة، طريق مباشر، طريق يدور الدورة الكاملة حول الأرض، أيهما أصح؟ هذه طاقات المسلمين هنا مبذولة في الخلافيات فقط، يقول لك: الكعبة هذا الجامع منحرف ثلاث درجات الصلاة لا تصح فيه، من قال لك ذلك؟ من قال لك: إن القبلة هي الكعبة؟ لا، القبلة جهة الكعبة، القبلة ما بين المشرق والمغرب جهة الجنوب، هذه القبلة، الكعبة قِبلة من في الحَرَم، والحرم قِبلة أهل مكة، ومكة قِبلة المسلمين، خط، ينسى كل مشكلات المسلمين ويتوقف عند خلاف حول ثلاث درجات في الجامع ويقول: الصلاة ليس مضبوطة، هذه تماماً كقصة البقرة، يوجد في الفاتحة أربع عشرة شدَّة إن لم تضبطهم صلاتك باطلة، أعوذ بالله، معنى ذلك ألغيت صلاة الناس كلها، ليس كل إنسان عنده قدرة ينطق بالحروف تماماً، ليس كل إنسان، أكمل ومطلوب، لو أسلم إنسان غير عربي عنده لكنة، تركنا الأشياء الكبيرة، تركنا معرفة الله، تركنا طاعته، تركنا الكسب الحلال، الإنفاق الحلال، تركنا تربية أولادنا، تركنا إتقان دنيانا، تركنا إعداد القوة لأعدائنا، تركنا أساسيات الحياة ولحقنا ثلاث درجات القبلة، وصيامنا صح أم لم يصح، وتدخل بمتاهات لا تنتهي، فالإنسان حينما يبتعد عن جوهر الدين يقع في هذه الشكليَّات.
الخطر المُداهم للإسلام لا من أعداء المسلمين بل من أدعيائه:
قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ أية بقرةٍ تصح، قال له: أين أمشي بالجنازة، أريد الرأي الدقيق، أمامها، أم خلفها، أم عن يمينها، أم عن شمالها، ماذا أفعل أخي أنا في حيرة؟ كيف أشيع الجنازة؟ قال له: لا تكن في النعش وسِر أينما شئت، حينما تستنفذ جهود المسلمين في قضايا ثانوية جداً جِداً لا تقدم ولا تؤخر هذا ما يرضي الشيطان، تركنا أن نُعِدَّ العدة لأعدائنا، تركنا أن نصلح أمورنا، تركنا أن نزوِّج شبابنا، تركنا أن نربِّي أولادنا، تركنا أن نتعرَّف إلى ربنا، تركنا أن نطبق منهجه، تركنا أن يكون بيتنا إسلامياً، قبِلنا أن نغذِّي شبابنا تغذيةً غربية، قبِلنا أن نغذي بناتنا تغذيةً غربية، أما المشكلة في زاوية القبلة فقط، هنا المشكلة.
وأمراض المسلمين في المشرق منقولةٌ إلى المغرب نفسها، أينما ذهبت في بلاد الغرب مشكلات المسلمين والخصومات بين الجماعات الإسلامية والفرق والطوائف هي هي، وهذا مما يرضي أعداءنا، وهذا لصالح أعداء المسلمين، والخطر المُداهم للإسلام لا من أعداء المسلمين بل من أدعيائه.
أيها الإخوة؛ قبل سنة أو سنتين تقريباً وقف خطيب في مسجد من مساجد بلدة من بلاد المسلمين، وقال: كل إنسان يصرف مئة ليرة صحيحة بأربع قطع نقدية ذات الخمسة والعشرين وقع في الربا، النبي قال:
(( عن عبادة بن الصامت: الذهبُ بالذَّهبِ، والفضةُ بالفضةِ، والبُرُّ بالبُرِّ، و الشعيرُ بالشعيرِ، والتمرُ بالتمرِ، والملحُ بالملحِ، مِثْلًا بمثلٍ سواءً بسواءٍ، يدًا بيدٍ ، فإذا اختلفَتْ هذِهِ الأصنافُ فبيعُوا كيفَ شِئْتُمْ؛ إذا كان يدًا بيدٍ. ))
هل من المعقول أن توقع الناس جميعاً لو صرف مئة ليرة بالربا؟ فاته أن خمسة وعشرين ضرب أربعة تساوي مئة، سواء بسواء، أربع قطع خمسة وعشرون يساوون قطعة واحدة مئة، عد هذه قضية، وهذه مشكلة، وهذه الطامة الكبرى، وهذه ممكن أن تدخل الناس كلهم في النار لأنه صرف مئة ليرة لأربعة من فئة الخمسة والعشرين، إذا وصلنا لهذا المستوى بالفهم معناها نحن يوجد أمامنا مراحل فسيحة جداً بيننا وبين أن نكون في المستوى الذي أراده الله عزَّ وجل، حينما تُبَدَّد جهود المسلمين في قضايا ثانوية جداً، هامشية جداً لا تقدم ولا تؤخر، ونسكت عن أخطر قضية في الدين؛ نسكت عن الدخل الحرام، نسكت عن الأعمال التي لا ترضي الله، عن علاقات حرام، عن دخل حرام، عن إنفاق حرام، عن بيت غير إسلامي، عن بيت يُغَذَّى بالثقافة الغربية، بالإباحية، ويدّعي صاحبه أنه مسلم، هذه أخطاء كبيرة جداً، فلذلك كل مرض ذكره الله عن بني إسرائيل نحن مُرَشَّحون أن نقع به، أنهم أهل كتاب، وفهموا الدين فهماً غير صحيح، وفهموا الدين فهماً فلكلورياً أحياناً، فهماً استعراضياً، فهماً أسطورياً، لم يفهموه فهماً عميقاً، لم يفهموه منهجاً لله عزَّ وجل.
صفات البقرة كما وردت في القرآن الكريم:
﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ﴾ ليست مسنة، ﴿وَلَا بِكْرٌ﴾ ولا صغيرةً، ﴿عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ﴾ أي عمرها معتدل، ﴿فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ﴾ أي اذبحوها وانتهوا:
﴿ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)﴾
نريد اللون، ﴿قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ﴾ وقال:
﴿ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70)﴾
نريد أن تعيِّنها لنا بالذات:
﴿ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)﴾
أي لا تحرث، الذلول هي البقرة التي عُوِّدت على الحراثة: ﴿لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ﴾ أي ليست للحراثة، ﴿وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ﴾ ليست لإخراج المياه، ﴿مُسَلَّمَةٌ﴾ خالية من كل عيب، ﴿لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ﴾ .
من يربي أولاده تربية صالحة ويترك أمرهم لله يتولَّى الله جلَّ جلاله تربيتهم:
هذه البقرة لرجل صالح جداً من بني إسرائيل، ترك هذه البقرة واستودعها عند الله أمانةً لابنه، وتركها طليقةً في البراري، فلما كبر ابنه جاءته طواعيةً، فلما انطبقت صفات هذا الأمر الإلهي عليها قيل: إنه طلب ملء جلدها ذهباً، هناك قصتان، قصة البقرة التي انطبقت عليها الصفات لرجل صالح تركها لابنه، وكل إنسان صالح، دخله حلال، وربَّى أولاده تربية عالية لا يقلق عليهم من بعده، الله جلَّ جلاله بعليائه يتولَّى تربيتهم، هذا درس بليغ، رجل صالح دخله حلال، ترك بقرة، استودعها عند الله لابنه، فلما كبِر ابنه جاءته البقرة، انطبقت عيها صفات الأمر الإلهي فطلب ثمنها ملء جلدها ذهباً، وكان هذا الأمر، قال: ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ* قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ﴾ فعلوا هذا متباطئين، متكاسلين.
قصة البقرة دليل على يوم البعث وأن الله عزَّ وجل يبعث من في القبور:
الآية الكريمة:
﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)﴾
وقال:
﴿ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)﴾
كل واحد اتّهم الآخر أنه قتل، وكادت تقع فتنة كبيرة:
﴿ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)﴾
خذوا قطعة من هذه البقرة المذبوحة، واضربوا بها الميت، يقف ويقول: قتلني فلان، هذه دليل على يوم البعث، أن الله عزَّ وجل يبعث من في القبور، جعلها الله آية من آياته، إنهم حينما أنكروا البعث، وأنكروا يوم القيامة، أراهم الله آيةً ناطقة: ﴿فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ أراد الله عزَّ وجل أن تكون آيةً صارخةً، جامعةً، مانعةً على يوم البعث ويوم القيامة.
الرحمة في القلب بحسب اتصالك بالله:
قال تعالى:
﴿ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)﴾
هذا قلب النفس يا إخوان، يمتلئ رحمةً، وحناناً، ووفاءً، وإخلاصاً، وإشراقاً، وتألُّقاً، وقد يمتلئ قسوةً وجفاءً، بقدر اتصالك بالله، الرحمة في القلب بقدر اتصالك بالله:
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)﴾
برحمةٍ اكتسبتها من الله عزَّ وجل كنت ليِّناً لهم يا محمد: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾ قصة رمزية، رمزية فقط، أن سيدنا موسى مرّ بامرأة تخبز على التنور، وقد وضعت ابنها على طرف التنور، وكلَّما وضعت رغيفاً تضم ابنها وتشمه وتقبّله، قال: يا رب ما هذه الرحمة؟ قال: هذه رحمتي وضعتُها في الأمهات، وسأنزعها، فلما نزع الله الرحمة من قلب الأم بكى الطفل فألقته في التنور، وانتهى الأمر، وفي حياة الحيوان هناك حالات؛ الهرة تعتني بأولادها فإذا جاعت أكلتهم، فالرحمة التي في الخلائق من عند الخالق.
كل إنسان بعيد عن الله له قلبٌ كالصخر:
﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ وكل إنسان بعيد عن الله له قلبٌ كالصخر، كالصخر وحش، هذا إنسان عمر ابنته ست أو سبع سنوات، أجمل سن للبنات، وردة، أخذها وجاء إلى بئر فدفعها في البئر وأهال عليها التراب، آخر كلمة قالتها: يا أبتاه يا أبتاه، عندما سمع النبي القصة بكى بكاءً شديداً، قال له: أعدها عليّ، هكذا كان العرب بالجاهلية:
﴿ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ(8)بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ(9)﴾
الذي يتحمل أن يضع بنتاً كالوردة في التراب، ويدفنها، هذا وحش، هؤلاء الذين يُدمِّرون الشعوب؛ شعب يموت من الجوع، كل سنة خمسمئة ألف طفل يموت جوعاً ولا ذنب له، هؤلاء قلوبهم من ماذا؟ وحوش، هذا الوضع الجديد الذي جد في العالم كشف الأقنعة، لم يعد هناك قناع، الدول الغربية البعيدة عن الله وحوش تبحث عن مصالحها فقط، ولو دمَّرَت عشرات الشعوب، ولو عاشت على أنقاض البشر، هذا شأن الكافر، كل إنسان بعيد عن الله وحش، وحش بكل ما في هذه الكلمة من معنى: ﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ*بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ .
أمثلة عن وحشية الإنسان البعيد عن الله تعالى:
تسمع عن المذابح بإفريقيا، خمسمئة ألف إنسان ذبحوا في يومين، كل يوم يوجد أخبار عن مذابح في العالم، البشر وحوش، ما يجري في البوسنة، كم مقبرة جماعية كشفوا؟ ما الذنب؟ لأنه مسلم فقط، يقول لك: تطهير عرقي، هذه الوحشية قائمة مستمرة، ما دام هناك كفر هناك وحشية، أبداً، هذا شأن الإنسان، عندما يتصل بالله يمتلئ قلبه رحمةً، قال له:
(( عن عائشة: إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا. ))
عندما فُتِحت القُدس في قبل الفرنجة، ذُبح سبعون ألف إنسان في ليلة واحدة، لما فتحها سيدنا صلاح الدين شكت له امرأةٌ أن ابنها قد فُقِد، وقف ولم يجلس حتى أعادوا لها طفلها، هذا الإسلام، الإسلام رحمة، الآية دقيقة جداً: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾ الرحمة بسبب اتصالك بالله، كل إنسان قريب من الله رحيم، البعيد قاسٍ ولو كان ملمَّعاً، مصافحته رقيقة، ابتسامته عريضة، هذه أشياء ظاهرية لا تُقدِّم ولا تؤخِّر، أما عند الحاجة فتجده وحشاً، فلذلك وصف الله عزَّ وجل هؤلاء قائلاً: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ .
الإسلام ليس قضية صلاة شكلية الإسلام اتصال بالله وانضباط:
﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ وقال:
﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)﴾
﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ .
أيها الإخوة؛ كفاك على عدوك نصراً أنه في معصية الله، البطولة أن تطيع الله، البطولة أن تتَّصل به، البطولة أن يمتلئ قلبك رحمةً تجاه الخلق عامةً، هذا المؤمن، قالوا: "ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب" ، رحمة ما بعدها رحمة، إنصاف ما بعده إنصاف، هكذا، مئتان وخمسون مليون مسلم بإندونيسيا أسلموا بالمعاملة فقط.
فيا أيها الإخوة؛ الإسلام ليس قضية صلاة شكلية، الإسلام اتصال بالله، الإسلام انضباط، الإسلام قلب رحيم، الإسلام تفوُّق، هذا الإسلام، تخلَّف المسلمون لأنهم فهموا الدين فهماً طقسياً، فهم عبـادات جوفاء، ما اتصلوا بالله الاتصال الصحيح لأنهم ما أطاعوه الطاعة التامة، ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ .
الملف مدقق